mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 39.doc

الثاني عشر: الصدق مع النفس.

فالثوار أناس أسوياء لا يجد النفاق طريقاً إلى نفوسهم لأنهم صادقون معها، صريحون مع أنفسهم ومع ربهم، هكذا كان أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام)، فإنّ صفاء نفوسهم جعل من شخصياتهم شخصيات سوية قوية، والشخصية السوية تمتلك القرار في اللحظة الحاسمة، لأنها تمتلك الإرادة.

ومن أبرز صور الصدق مع النفس ما نقله المؤرخون عن الحر بن يزيد الرياحي الذي جعجع بالإمام الحسين في الطريق معتقداً أنّ غاية ابن زياد هو منع الإمام عن دخول الكوفة والضغط عليه لكي يستسلم، لكن تغيرت الصورة عندما وصل كربلاء فجاء إلى ابن سعد قائلاً:

أمقاتل أنت هذا الرجل؟

فأجابه ابن سعد ظاناً أنه سيزداد اندفاعاً عندما يسمع تصميمه على القتال: أي والله قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الأيدي، فقال له الحر: أفما لكم في واحدة من الخصال التي عرضها عليكم رضاً؟

فأجابه: لو كان الأمر لي لفعلت ولكن أميرك أبى ذلك.

ولما تيقّن أنهم عازمون على القتال غيّر قراره سريعاً وأخذ طريقه إلى الإمام الحسين (عليه السلام) فارتاب المهاجر بن أوس من حالته فقال مستنكراً ما شاهده: والله إنّ أمرك لمريب، والله ما رأيت منك في موقف قط مثل ما أراه الآن، ولو قيل لي: من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك؟

فكشف عن قراره قائلاً له:

أني والله أخيّر نفسي بين الجنة والنار، ولا أختار على الجنة شيئاً ولو قطعت وأحرقت(1).

فصفاء القلب جعل من حر صادقاً مع نفسه، ومن كان صادقاً مع نفسه تمكن أن يتخذ القرار الصعب في اللحظة المطلوبة، لأنه صاحب إرادة نابعة عن عقيدة ثابتة، هكذا كان أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) ذوو شخصيات قوية لأن أوصال شخصياتهم مترابطة، اتخذوا قرار الحرب في لحظة تختبر فيها الإرادة.

أمّا في معسكر ابن زياد فنجد النفاق في أوضح صوره، كانت النفوس كما قال عنها الفرزدق يوم وصفها للإمام الحسين (عليه السلام): "قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أمية، وقد أشار الإمام الحسين إلى هذه النفسية الضعيفة للذين جاءوا إلى قتاله" تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين سللتمُ علينا سيفاً في إيمانكم وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدونا وعدوكم فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم بغير عدلٍ أفشوه، ولا أمل أصبح لكم فيهم، فهلا لكم الويلات تركتمونا والسيف مشيم والجأش طامن والرأي لما يستصحف ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدبا وتداعيتم عليها كتهافت الفراش ثم نفضتموها(2).

والنموذج الصارخ للنفسية المنافقة المتلونة، شخصية عمر بن سعد حيث وقف قبال الإمام الحسين (عليه السلام) يبحث عن مبررات واهية تعفيه عن جريمته النكراء. قال له الإمام: يا ابن سعد أتقاتلني؟ أما تتقي الله الذي إليه معادك، فإني ابن من قد علمت، ألا تكون معي وتدع هؤلاء فإنه أقرب إلى الله تعالى، فأجابه عمر مبرراً عمله: أخاف أن تهدم داري.

فقطع (عليه السلام) تبريره: أنا أبنيها.

لكنه عاد مجدداً إلى التبرير: أخاف أن تؤخذ ضيعتي.

فأجابه الإمام: أنا أخلف عليك خيراً منها في الحجاز، إلاّ أنّ سلسلة التبريرات لا تدع فرصةً لعمر بن سعد لأن يتخذ قراراً صائباً: أنّ لي بالكوفة عيالاً وأخاف عليهم من ابن زياد القتل.

تبرير بعد تبرير، وهذا هو دأب ضعاف النفوس الذين يفقدون إرادتهم نتيجة الطمع فتصبح عندهم نزعتان نزعة قلبية، ونزعة سلوكية منافقة لها تماماً، وقد ترجم عمر بن سعد صراع هاتين النزعتين بأبيات شعرية معروفة جاء فيها:

أأترك ملك الري والـــــــري منيتي*****أم أرجــــع مــــأثوماً بقتل حســـــين

حسينٌ ابن عمي والحوادث جمة*****ولــــــي فــــي الــــري قـــــرّة عيـــــني

وفي قتله النار التي ليّــــــــس دونها*****حــــــجابُ ومـــلك الري قرّة عيني

والمنافقون يخشون  المواجهة المنطقية لأنهم عاجزون عن الحوار العقلي، لأنهم لا ينطلقون من أساس منطقي سليم، فلنصغِ إلى هذه المحاورة التي تمت بين الإمام الحسين (عليه السلام) وأولئك الذين كتبوا إليه الرسائل: يا شبث بن ربعي، ويا حجار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد بن الحرث، ألم تكتبوا إليّ أن قد أينعت الثمار وأخضّر الجناب وإنما تقدم على جّندٍ لك مجندة.

فلم يطيقوا جواباً فاضطروا للكذب قائلين: لم نفعل؟

وهذا هو منتهى السقوط في الحضيض، وهو حصيلة تلك التبريرات الواهية التي اعتاد عليها ضعاف النفوس، لم يستغرب الإمام من كلامهم لأنه يعرف أنهم لا يملكون الجواب، لكن أراد بجوابه: سبحان الله! بلى والله فعلتم أن يؤنب ضمائرهم الميتة.

وهنا يوجّه الإمام (عليه السلام) الأنظار إلى ضحالة تلك النفوس الضعيفة التي لم تطق جواباً لأنها ملئت بطمع الدنيا.

هذه هي صورة أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام)، وإلى جانبها الصورة المعاكسة صورة يزيد وجيشه وأمرائه، وهما صورتان متعاكستان، وإذا لم تكونا متعاكستين فإنّ الثورة التغييرية ستفقد مبرر وجودها، لأن التغيير أول ما يطرأ في سلوك وأخلاق وقيم أصحاب التغيير، فإذا لم تتغير صفاتهم، وإذا لم يتحولوا إلى صورة معاكسة للمجتمع الذين يريدون تغييره فقد           فقدوا مبرر وجودهم، لأن الجماعة المنحرفة لا تستطيع معالجة الانحراف، فالفاقد للشيء لا يُعطيه.

 

المبحث الثالث: الأمة.

الأمة بالنسبة إلى أية ثورة هي الأرض التي تقوم عليها، وثورة بلا أمة كشجرة بلا أرض، فالطليعة وحدها لا تفي بالغرض ولا يمكن للثورة أن تنتصر كمجموعة محدودة، لذا كان اهتمام الثوار بالجماهير، ومن هنا جاء اهتمام الإمام الحسين (عليه السلام) بالأمة نابعاً من رؤية عميقة.

 

الأمة ومكانتها عند الإمام الحسين (عليه السلام):

في الرسالة التي بعث بها الإمام الحسين (عليه السلام) إلى أهل الكوفة وهو يخبرهم بقدومه إليهم جاء فيها: من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين المسلمين سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو أمّا بعدُ: فإنّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني بحسن رأيكم واجتماع ملئكم على نصرنا، والطلب بحقنا فنسأل الله أن يحسن لنا الصنيع، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر(3).

فعبارة "حسن رأيكم واجتماع ملئكم" تُوضّح لنا اهتمام الإمام الحسين (عليه السلام) بموقف الأمة من ثورته، فقد انتظر طويلاً قبل قدومه إلى العراق حتى يُبايع أهل الكوفة، وما أن وصل إليه خبر بيعتهم حتى قرّر السفر إلى العراق، وفي هذا الموقف دلالة واضحة على اعتبار الإمام الحسين (عليه السلام) للأمة كعنصر مهم من عناصر ثورته، ويرتبط هذا العنصر من جهة بالمشروعية السياسية للثورة، تلك التي تعرضها لنا صفته البيعة، ولا بيعة إلاّ بوجود الأمة.

من هنا جاء اهتمام الإمام الحسين (عليه السلام) بالأمة باعتبارها الهدف والوسيلة فمن ناحية نستطيع أن نعتبر رفع الظلم والحيف عن الأمة كأهداف لثورة الإمام الحسين (عليه السلام) ولتحقيق هذا الهدف لا بدّ من وسيلة والأمة هي الوسيلة لتحقيق هذا الهدف’ والتحرك الذي قام به الإمام الحسين (عليه السلام) نحو الأمة كان ضمن الفقرة  الثانية فالأمة هي معين للطليعة التي بدونها لا يمكن القيام بأية ثورة.

فقد توجّه الإمام الحسين (عليه السلام) إلى الأمة لتحقيق هدفين في آنٍ واحد: الهدف الأول: توعيتها وتقوية شخصيتها لكي تتمكن من مواجهة الأعداء، والهدف الثاني: هو كسب عناصر جديدة لجهاز الثورة وتكميل نواقص العنصر الثاني وهو الأصحاب.

 

طبيعة الأمة في زمن الإمام الحسين (عليه السلام):

لا شك أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان على علم بطبيعة المجتمع العراقي وحتى قبل قيامه وإعلانه للثورة، وقد نوهّنا إلى هذه النقطة في موضوعات سابقة، فقد كان هذا المجتمع على طبيعة خاصة ذكرها الفرزدق للإمام الحسين (عليه السلام) قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أمية. وهذا القول يختصر لنا طبيعة المجتمع العراقي في زمن الإمام الحسين (عليه السلام)، ومعرفتنا بهذه الطبيعة ستساعدنا كثيراً على فهم أبعاد الخطوات التي قام بها الإمام في تحركه نحو الأمة، ولو وضعنا هذا المجتمع تحت عدسة الخبير الاقتصادي لبدت معالمه كالآتي:

 

أولاً: الازدواجية.

وهذه الظاهرة نجدها في كل حركة وسكنة، فكان المجتمع العراقي يؤمن بشيء ويعمل على عكسه، يقول شيئاً ويفعل ضده، فهم الذين كتبوا إلى الإمام بالقدوم إليهم، ثم هم أنفسهم خذلوه، بل وبعضهم اشترك في قتله، ومثل هذه الظاهرة تؤدي حتماً إلى الندم فهم قتلوا الإمام وأخذوا يبكون عليه بعد ذلك حتى قيل عنهم: إنّ هؤلاء يبكون وينوحون من أجلنا، فيمن قتلنا، ويذكر الطبري عن زينب العقيلة عندما قالت له: أيُقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه، قال: فكأني أنظر إلى دموع عمر وهي تسيل على خديه ولحيته(4).

 

ثانياً: التمرد.

بالإضافة إلى ظاهرة الازدواجية اتصف المجتمع العراقي بالتمرّد، فهم يحبون التنوع والتغيير السريع في أحوالهم، يتبرمون من البقاء الطويل على شكل واحد ، ومنه تبرمهم من ولاتهم وتمردهم عليهم وإقصائهم لهم بين الحين والآخر، حتى أصبح العراقيون معروفين لدى المؤرخين بهذه الصفة.

قيل أنّ الخليفة عمر كان حانقاً على أهل العراق لأنهم تمردوا على الولاة الذين كان يبعث بهم، وكان يقول لهم: "من عُذيري من أهل الكوفة إن استعملت عليهم القوي فجروه وإن وليّت عليهم الضعيف حقّروه(5).

 

ثالثاً: الانهزامية.

وهي صفة كل من لا يحمل عقيدة راسخة، ولا يتحلى بالاستقامة، فقد كان أهل العراق يندفعون مع كل صيحة تغيير، وينذرون أنفسهم لكل من يحمل راية الإصلاح فينخرطون معه، لكن بمجرد أن يحين الحين ويجدّ الجد تراهم ينهزمون كهزيمة الغزال، تركوا مسلماً ليواجه مصيره الصعب مع ابن زياد بعد أن أخذ الواحد والاثنان ينهزمون من ساحة المواجهة.

 

رابعاً: المصلحية.

كان أهل العراق في عهد الإمام الحسين (عليه السلام) أهل دنيا، يحبون المال حباً جماً، وأنهم على استعداد للتضحية بمبادئهم من أجل حفنة من الأموال، وقد تمكن ابن زياد من السيطرة على الوضع في الكوفة من خلال بذله الأموال الطائلة.

 

خامساً: النكوص.

وقد شخّصهم أمير المؤمنين (عليه السلام) في إحدى خطبه: "أنهم أناس مجتمعة أبدانهم، مختلفة أهواؤهم وأنّ من فاز بهم فاز بالسهم الأخيب وأنه أصبح لا يطمع في نصرتهم ولا يصدق قولهم(6).

فالنكوص صفة عامة في تاريخهم وفي علاقاتهم، نكصوا عن طاعة أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما طلب منهم الخروج لقتال معاوية، ونكثوا بيعتهم لمسلم بن  عقيل وتركوه لوحده وهكذا فعلوا بالإمام الحسين (عليه السلام) وتعود هذه الظواهر إلى أسباب هي:

 

1- حب الدنيا:

فقد كان المجتمع الكوفي مقسماً إلى طبقتين، طبقة غنية تتلاعب بالأموال وطبقة فقيرة تُشكل الأكثرية من أبناء المجتمع، ولهذا السبب لعب المال دوراً أساسياً في مصير هذا المجتمع، فالذين كتبوا إلى الإمام الحسين (عليه السلام) كانوا من الأثرياء واستطاع ابن زياد أن يبذل مالاً طائلاً على هؤلاء حتى يتركوا مسلماً، ونجح في استخدام سلاح المال في تفتيت جماهير الثورة حتى الفقراء منهم، ومن قبل ذلك فعل معاوية بن أبي سفيان بقادة الجيش في زمن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وفي زمن الحسن (عليه السلام). وقد وصف الإمام الحسين (عليه السلام) هذه الظاهرة: "الناس عبيد الدنيا والدين لعقٌ على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معائشهم فإذا محصّوا بالبلاء، قلّ الديانون".

 

2- الارتباط بالدولة:

أغلب أهل الكوفة، وربما كلهم كانوا موظفين لدى الحكومة، إذ كانت الكوفة في الأساس معسكراً كبيراً، وأهلها كانوا يشكلون قوات تحت الخدمة يستخدمونهم في أية لحظة.

فكان ارتباطهم بالدولة ارتباطاً اقتصادياً، فما تعطيهم الدولة هو مصدر معيشتهم، ولهذا كانت مواقفهم تتأثر كثيراً بسبب هذا العامل.

 

3- العصبية:

كان المجتمع الكوفي موزعاً على طوائف وقبائل متنافسة، فقد كانت تعيش في الكوفة قبائل من اليمن هي (قضاعة، غسان، بجيلة، خثعم، كندة، أزد، مذحج، حمير، همدان، النخع، وكانت تعيش فيها قبائل عدنانية كتيم، وأيضاً قبائل بني بكر وهي بنو أسد، غطفان، محارب وغيرها) بالإضافة إلى العرب كان هناك الفرس وقد تحالفوا مع تميم وكانوا يسمون بالحمراء، وأخذ أعداد الفرس يزدادون حتى أنهم أصبحوا يشكلون الأغلبية الكاسحة في بعض العهود.

وبالإضافة إلى المسلمين كانت أعداد كبيرة من ألأنباط والسريانيين والنصارى واليهود يقطنون الكوفة، والملاحظ؛ أنّ هذه الأقوام والقبائل لم تكن متداخلة، بل كانت تعيش بصورة مستقلة في أماكن خاصة لها، وكان لكل قبيلة أميرٌ ومكان لاجتماع القبيلة، وقد أجج هذا التوزيع الجغرافي للقبائل الروح العصبية لدى أهل الكوفة، وأدى ذلك بالطبع إلى انعدام وحدة الكلمة والموقف.

 

4- البساطة والتأثر بالدعايات:

هناك نمط من البساطة يمكن مشاهدته على المجتمع الكوفي، قد أدّت به إلى التأثر  السريع بالدعايات الأموية، إذ كان من السهل جداً تحريك هذا المجتمع وإثارته ببث الدعاية في صفوفه، وقد ضاعف زياد في استخدام هذه الوسيلة لتفريق الناس عن مسلم بن عقيل عندما طلب من رجاله أن يبثوا دعاية مجيء الجيش من الشام لسحق الثورة.

وقد لاحظنا كيف أثرت هذه الدعاية في أهل الكوفة، وكيف كانت الأم تأتي إلى ابنها فتأخذه وتعيده إلى البيت.

 

5- ضعف الوعي الديني:

يقول علي حسني الخربوطلي: "نحنُ لا يمكننا أن نُفسر دعوة شيعة الكوفة الحسين ثم خذلانهم له إلاّ بضعف العقيدة في نفوسهم في ذلك الوقت، فهذه العقيدة لم تكن قد اختمرت في نفوسهم، ولا تملكت قلوبهم(7)، فلوا كانوا أصحاب عقيدة قوية وثابتة لما تراجعوا وانهزموا بهذه السرعة، ويمكننا أن نرصد الكثير من المواقف والأحداث التي تنم عن ضعف العقيدة في            أهل الكوفة.

 

شيعة أهل الكوفة:

لم يكن أهل الكوفة كلهم من الشيعة، بل كان فيها أعداء للشيعة، مثلاً بنو بكر كانوا على قسمين منهم الشيعة ومنهم أعداء الشيعة، فأعداء الشيعة هم  الذين كانوا يقطنون الكوفة بينما القسم الشيعي من هذه القبيلة كانوا يعيشون في البصرة(8).

وكان يقطن الكوفة بطون من تميم مثل بني دارم وبني عمرو وهي سنية، يقول ماسنيون: "أسد كانوا ضد التشيع ولكن بني غاضرة الذين كانوا يملكون أراضي كربلاء كانوا من الشيعة(9).

أمّا بجيلة وكانت أول أمرها مخاصمة للشيعة مخالفة لأهل البيت، أمّا شيعة الكوفة فكانوا يشكلون الأكثرية وهم؛

1- خزاعة: وهم من شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) وبرز منهم عمر بن الحمق وسليمان بن صُرد

2- عبد القيس: وكانوا يتشيعون قبل سنة 30هـ، منهم بنو الذيل رهط أبناء صوحان وقد ثبتوا في تشيعهم(10).

3- مذحج: وكانت بطونها كلها شيعية (من النخع: الأشتر وكميل) وبطون جعفي وأود ومراد (عدا الأشعريين حيث كانوا محايدين والبلحارثيين الذين أمسوا خوارج سنة 41هـ ).

4- كندة: كانوا جميعهم شيعة وعلى رأسهم كان حجر بن عدي.

5- همدان: كانت بطونها شيعية على الإطلاق شديدة التشيع، وكانوا قد اشتركوا في جميع الثورات الشيعية، وهناك بطن واحد من بطونها (بنو ناعط) صاروا عثمانية.

 

التحرك نحو الأمة:

نقسم تحرك الإمام الحسين (عليه السلام) نحو الأمة إلى قسمين:

الأول: الاتصال المباشر.

الثاني: الاتصال غير المباشر.

الأول: الاتصال المباشر.

وهو الاتصال الذي تم خلال لقاءات الإمام المباشرة مع الأمة من لحظة خروجه من المدينة المنورة وحتى وصوله إلى كربلاء.

وفي هذا الاتصال كان هدف الإمام هو كسب الأنصار وتهيأة الأمة للقيام بدورها التاريخي.

وفي نطاق هذا التحرك اختار الإمام (عليه السلام) أسلوباً هادفاً لتحقيق هذه الغاية، فهو:

أولاً: سلك الطريق الأعظم مخاطراً بنفسه وبأهله، ولم يوافق على اقتراح البعض بأن يسلك الطرق المخفية كما فعل ابن الزبير، وذلك لأنه الطريق الذي يستطيع من خلاله الاتصال ومتابعة الأخبار، وكان يعظ الناس في كل موقف من مواقف  الطريق مذكراً إياهم بجهاد الأنبياء وما لحق يحيى بن زكريا، يقول علي بن الحسين خرجنا مع الحسين (عليه السلام) فما نزل منزلاً ولا ارتحل منه إلاّ ذكر يحيى بن زكريا ومقتله وقال يوماً:"ومن هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريا أُهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل(11).

 ولكي نتعرف على طبيعة التحرك الذي قام به الإمام الحسين (عليه السلام) في الإعداد للثورة علينا أن نتابع بدقة طريق سيره من المدينة حتى العراق، والأحداث التي وقعت في الطريق.

"أنظر مسار حركة الإمام من مكة إلى كربلاء على الخارطة:

 

أولاً: التنعيم.

وهو أول منزل نزله الإمام بعد خروجه من مكة على بعد فرسخين، لقي فيه جمالاً قد أقبلت من اليمن، وقد اختلف المؤرخون في كيفية تعامل الإمام مع هذه الجمال، فبينما ذهب الطبري للقول: "إنّ الحسين أقبل حتى مرّ بالتنعيم فلقي بها بعيراً قد أقبل من اليمن بعث بها بحير بن ريسان الحميري إلى يزيد بن معاوية، وكان عامله على اليمن وعلى البعير الورس والحلل ينطلق بها إلى يزيد فأخذها الحسين(12).

بينما أورد المفيد شكلاً آخر للرواية فذكر أنّ الإمام استأجر الجمال قائلاً: "فاستأجر من أهلها جمالاً لرحله وأصحابه(13).

وهذا الرأي أرجح للأسباب التالية:

1- قامت سياسة الإمام على قاعدة السلم كما سنذكر ذلك إنشاء الله في الفصل القادم، فلم يقدم الإمام على أمر من شأنه أن يستفز السلطة، ومثل ذلك العمل الذي رواه الطبري يعطي بأيدي السلطة الذريعة الكافية لقتل الإمام وقتل أصحابه بتهمة البغي والسرقة.

2- يذكر الطبري أنّ مواجهة وقعت بين الإمام وشرطة عمرو بن سعد عند خروجه من مكة، وكان هدف عمرو بن سعد بن العاص والي مكة هو إعادة الإمام  إلى مكة ولم يذكر شيئاً عن موضوع البعير، فلو كان حقاً قد استولى الإمام على البعير لكانت المواجهة حتمية بين عمرو بن سعيد والإمام ولأشار المؤرخون إلى ذلك.

3- لو كان الإمام قد فعل ذلك لكان يزيد قد استغّل هذه الحادثة ونوّه عنها في معرض تبريره لقتل الإمام الحسين (عليه السلام)، إذ لو كانت الحادثة صحيحة الوقوع، لكانت خير سلاحٍ إعلامي لضرب الإمام وإخماد ثورته، لكننا لا نجد ذكراً لهذه الحادثة في رسائل يزيد أو عبيد الله بن زياد ولا في خطبهم.

إذن كل الذي حدث في التنعيم هو عين ما ذكره الشيخ المفيد "استأجر الإمام جمالاً" ولم تكن الحادثة فيها سطو أو غصب، وحتى الطبري لم يؤكد هذا المعنى في روايته.

 

ثانياً: ذات عرق.

وهي تقع بين التنعيم وغمرة، وفيها استقصى الإمام الحقائق التي يحتاجها بها كل قائد عن أوضاع الأمة، ففيها لقي بشر بن غالب واردأ مِن العراق فسأله عن أهلها فقال: خلّفت  القلوب معك والسيوف مع بني أمية، فقال: صدق أخو بني أسد إنّ الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وذكر الطبري الخبر بشكل آخر أو لعله خبرٌ آخر، فعلى رواية الطبري الذي التقى به الإمام هو همّام بن غالب الفرزدق، ومكان الالتقاء هو الصفاح على مدخل مكة، وقد أخرج الرواية عن أبي جناب عن عدي عن حرملة عن عبد الله بن سليم والمذري قال: أقبلنا حتى انتهينا إلى الصفاح فلقينا الفرزدق بن غالب الشاعر فواقف حسيناً، فقال له: أعطاك الله سؤلك وأملك فيما تحب فقال له الحسين: بيّن لنا نبأ الناس خلفك فقال له الفرزدق: من الخبير سألت: قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أمية والقضاء ينزل من السماء والله يفعل ما يشاء فقال له الحسين: صدقت لله الأمر والله يفعل ما يشاء ولك يوم ربنا في شأن إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء  الشكر وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يعد من كان الحقُ نيتهُ والتقوى سريرته(14).

 

ثالثاً: الحاجز.

وهي تقع بين النفرة وسميراء، وفيها بعث الإمام الحسين (عليه السلام) برسالة إلى أهل الكوفة مع قيس بن مسهر الصيداوي يخبرهم فيها بأنه قادم إلى الكوفة، وقد حمل الصيداوي كتاب الإمام الحسين إلى أهل الكوفة، وقد كشف أمره إلاّ أنه تمكن من إبلاغ رسالة الإمام إلى أهل الكوفة.

وقبل أن يصل إلى الحاجز مرّ على غمره عن بعد 26ميل عن ذات عرق، ومن غمرة إلى مُسلح 17ميل، ومنها إلى أفيعية وهي منهل لسُليم   المدينة وعلى مسافة 26ميل وصل الإمام إلى معدن بني سُليم ومنها إلى عُمق على بعد 18ميل من عُمق وفيها مقبرة ومسجد وبركة ماء والماء لبني ترثن من بني أسد". ثم تحرك الإمام إلى مغيثه وفيها آبار، ثم تحرك إلى النقرة وفيها بركة ماء وثلاث آبار.

وبعد أن تحرك من الحاجز التقى بعبد الله بن مطيع العدوي وهو عند ماء من مياه العرب كان نازلاً ههنا، فلما رأى الحسين قام إليه فقال: بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله، ما أقدمك واحتمله فأنزله فقال له الحسين: كان من موت معاوية ما قد بلغك فكتب إليّ أهل العراق يدعونني إلى أنفسهم، فقال له عبد الله بن مطيع: أذكرّك الله يا ابن رسول الله ورحمة الإسلام أن تنتهك أنشدك الله في حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنشدك الله في حرمة العرب، فوالله لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحداً أبداً، والله إنها لحرمة الإسلام تنتهك وحرمة قريش وحرمة العرب فلا تفعل ولا تأتِ الكوفة ولا تعرّض لبني أمية، قال: فأبى إلاّ أن يمضي(15).

وبعد الحاجز وصل سميراء وفيها قصر ومسجد على مسافة (20ميلاً) وصل إلى تواز، وهي منتصف الطريق بين مكة والكوفة وفيها بركتان لبني أسد، وعلى مسافة 31ميل وصل إلى فيد، ومنها إلى الأجفر على بعد 36 فرسخاً، وفيها ماء لبني يربوع انتزعته منهم بنو خديجة، ثم وصل إلى الخزيمية أقام فيها يوماً وليلة، اجتمع خلالها بأخته  العقيلة زينب(عليها السلام).

 

الهوامش:

1- الطبري: 4/325.

2- تاريخ ابن عساكر: 13/74-75.

3- البداية والنهاية: 8/168.

4- ابن الفقيه: البلدان، ص184.

5- الطبري: 4/345.

6- الإمامة والسياسة: 1/238.

7- تاريخ العراق في ظل الحكم الأموي: ص123.

8- ماسينيون: خطط الكوفة، ص30.

9-10-  المصدر نفسه، ص35.

11- الإرشاد: ص236.

12- الطبري: 4/290.

13- الإرشاد: ص201.

14- الطبري: 4/290.

15- المصدر نفسه: 4/298.