mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 37.doc

المبحث الثاني: الأصحاب

وهم الثوار الذين ثاروا مع الإمام الحسين (عليه السلام)، وهم على قسمين بني هاشم وعامة الناس.

أولاً: بنو هاشم.

يبدو أن الغالبية العظمى من بني هاشم شاركوا الإمام الحسين (عليه السلام) في الثورة ولم يتخلف منهم إلاّ ا لقليل، واختلف الرواة في عددهم بين من عدهم (30) ومن  عدّهم أقل من ذلك ، وهم موزعون كالآتي:

1- عشرة من أولاد أمير المؤمنين (عليه السلام).

2- أربعة من أولاد الإمام الحسن (عليه السلام).

3- ثلاثة من أولاد عقيل بن أبي طالب.

4- خمسة من أولاد مسلم بن عقيل.

ولم يكن مع الإمام أحد من أولاد العباس بن عبد المطلب، والسبب هو موقف عبد الله بن عباس الذي حاول أن يحول بين الإمام والذهاب إلى العراق.

 

ثانياً: الأصحاب من غير بني هاشم.

ينتمي الأصحاب إلى قبائل عربية متنوعة، وقد اختلف  المؤرخون في عددهم، وسبب هذا الاختلاف أنّ البعض اختلف في عدد من الأصحاب حول مشاركتهم في الثورة والبعض الآخر اختلف في شهادته، هل استشهد في المعركة أم أُخذ جريحاً إلى عشيرته، وهم موزعون على هذا الشكل.

أ-  أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

وهم: 1- أنس بن الحارث الكاهلي. 2- حبيب بن مظاهر. 3- مسلم بن عوسجة. 4- عمرو بن قُرظة. 5- عبد الرحمن بن عبد ربه الأنصاري.

 

ب- أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام):

وهم: 1- جُندب بن حجير الخولاني. 2- الحجاج بن مسرق. 3- عمرو ابن قُرظة. 4- مسلم بن كثير. 5- عبد الرحمن بن عروة. 6- الحلاس بن عمرو الراسبي. 7- حبيب بن مظاهر. 8- عمرو بن كعب. 9- عمارة بن صلحب. 10- عمارة بن سلامة. 11- نافع بن هلال. 12- نعيم بن عجلان. 13- نصر بن عجلان. 14- نعمان بن عجلان. 15- كردوس التغلبي.               16- قاسط بن زهير.17- مسقط بن زهير. 18- يزيد بن مغفل الجعفي.

 

ج- الأصحاب الذين التقى بهم في الطريق:

وهم: 1- جُندب بن حجير. 2- عباد بن المهاجر الجهني التحق به من المدينة. 3- عقبة بن الصلت الجهني من المدينة.4- مجمع الجهني من المدينة. 5- عمرو بن خالد الصيداوي. 6- زهير بن القين. 7- سلمان بن مضارب. 8- زاهر بن عمرو. 9- عبد الله بن عُمير.

 

د- أصحابه من الموالين:

وهم: 1- أسلم غلام تركي. 2- جون مولى أبي ذر. 3- الحرث بن نبهان غلام حمزة. 4- زاهر بن عمرو الكندي غلام عمرو بن الحمق. 5- سعد غلام أمير المؤمنين. 6- سعد غلام عمرو بن خالد. 7- سليمان بن زرين غلام الحسين. 8- ثبيت غلام حرث الجابري. 9- سالم غلام عامر العبدي. 10- سالم غلام بني الكلبي. 11- منجح بن سهم غلام الإمام الحسن       المجتبى (عليه السلام). 12- نصر بن نيزر غلام أمير المؤمنين (عليه السلام). 13- واضح غلام الحرب المدحجي وهو من التُرك. 14- رافع فلاح مسلم الأزدي. 15- قارب مولى الحسين (عليه السلام).

 

هـ- أصحابه من رؤساء العشائر وأشراف الكوفة:

وهم: 1- جُندب بن حجير الخولاني أمير قبيلة كندة، 2- حر بن يزيد الرياحي رئيس قبيلة بني تميم، 3- حبيب بن مظاهر. 4- بُرير بن خضير. 5- زهير بن القين. 6- مسعود بن حجاج التميمي. 9- يزيد بن زياد (أبو الشعثاء) وهؤلاء الخمسة هم من أشراف أهل الكوفة ورؤسائها.

 

و- أمّا توزيع الأصحاب على أساس القبائل وبطون العشائر:

1- أزد: تسعة، 2- طي: ثلاثة، 3- الخزرج: إثنان، 4- كندة: خمسة، 5- بنو سعد: واحد، 6- همدان: تسعة، 7- بني تغلب: ثلاثة، 8- بنو أسد: ثلاثة، 9- تميم: سبعة، 10- بنو صائد: أربعة، 11- مذحج: أربعة، 12- بنو كلب:ثلاثة، 13- غفّار: ثلاثة، 14- خثعم: ثلاثة، 15- أنمار: واحد، 16- بنو عُليم: واحد.

 

ص- أصحابه ممن التحق به من أهل البصرة:

وهم: 1- أدهم بن أمية العبدي. 2- أمية بن سعد الطائي. 3- حجاج ابن بدر السعدي. 4- سالم غلام عامر العبدي. 5- سيف بن مالك العبدي. 6- عامر بن مسلم العبدي. 7- عبد قيس العبدي. 8- عبد الله بن يزيد العبدي. 9- عبيد الله بن يزيد العبدي. 10- يزيد بن ثبيط العبدي. 11- قنعب النمري.

ح- أصحابه ممن كانوا في جيش عمرو بن سعد فتابوا ثم التحقوا بركب الإمام:

منهم: 1- أبو الحتوف الأنصاري. 2- أخوه سعد الأنصاري. 3- بكر ابن حي التيمي. 4- جابر بن الحجاج التيمي. 5- جون بن مالك التميمي. 6- حرث بن القيس الكندي. 7- حر بن يزيد الرياحي. 8- حلاس بن عمرو الراسبي. 9- نعمان بن عمر الأزدي الراسبي. 1- زهير بن سليم الأزدي. 11- ضرغام بن مالك التغلبي. 12- عبد الرحمن بن مسعود التميمي. 13- عمر بن ضيعة الضبيعي. وغيرهم. وقد ذكر ابن عبد ربه عددهم ثلاثين(1).

ويمكننا أن نستنتج من هذا التقسيم الجغرافي والقبلي المتقدم النقاط التالية:

1- بنو هاشم كانوا يشكلون ثقلاً رئيسياً في صحابة الإمام الحسين (عليه السلام)، وهذا يؤكد لنا أنّ بني هاشم كانوا ينظرون إلى الإمام باعتباره زعيم بني هاشم، وأنه إمامهم وسيدهم، فآزروه حتى آخر قطرة من دمائهم الطاهرة.

2- هناك عدد من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكرهم المؤرخون وعددهم خمسة فحضورهم في معسكر الإمام الحسين وقتالهم إلى جانبه واستشهادهم يمنح بعض المشككين الدليل القاطع على سلامة هذه الثورة ومشروعيتها عند من يعتبر عمل الصحابة حجة.

3- هناك من التقى بالإمام في الطريق، ثم التحق بركب الثورة، وهذا دليل على فاعلية حركة الإمام أثناء الطريق، وكثافة اتصالاته مع الذين كان يلتقي بهم في الطريق.

4- الذين جاءوا معه من المدينة من غير الهاشميين والذين التحقوا به من مكة أو التحقوا به في الطريق ظلوا معه حتى ذبّوا عن أنفسهم وضحوا بدمائهم الزكية في طريق إعلاء كلمة الله على كلمة أعدائه.

5- أكثر أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) جاءوا من الكوفة، وهذا يدل على أنّ الكوفة لم تكن كلها معادية للإمام أو أنّ كل أبناءها أداروا ظهرهم للإمام.

6- هناك عدد لا بأس به من أصحاب الحسين الذين انتصروا على أهوائهم يوم عاشوراء وسارعوا للتوبة واللحاق بركب الإمام متأثرين بمواعظه وما شاهدوه من معاجز في ذلك اليوم العصيب.

7- مشاركة عدد من الموالين في ثورة الإمام الحسين يُشكل ظاهرة مهمة في التاريخ الإسلامي، إذ تعتبر هذه المشاركة أول حدث بارز كان للموالي فيه دور المشارك والمساهم، وكان لهذه المشاركة آثارها الإيجابية في مضاعفة دور الموالي في الحياة السياسية والاجتماعية، وقد تجلى ذلك في الثورات التي قامت بعد ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) كثورة المختار والتي كان للموالي فيها الدور الأكبر في التحضير والمشاركة.

8- ويلاحظ بالإضافة إلى التنوع الجغرافي، التنوع القبلي، وكان لهذا العامل آثار إيجابية كبيرة على نتائج الثورة.

يقول عبد العزيز غنيم في معرض حديثه عن هذه الظاهرة: "أنصار الحسين لم يكونوا من بلدٍ واحدةٍ ولا من قبيلةٍ بعينها، وإنما كانوا من بلاد شتّى وقبائل متفرقة، فكان الحزن عليهم في كل مكان، وكانت  الرزية بهم في كل عشيرة(2).

وكان معه عدد يعتّد به من الأشراف والزعماء وقرّاء القرآن، وهم يمثلون طبقة أهل الحل والعقد في مدينة الكوفة.

9- هناك عدد لا بأس به ممن كان يريد المشاركة في الثورة لكن كانت هناك موانع حالت دون ذلك، منهم عدد من بني أسد لم يستطيعوا الوصول إلى كربلاء للحصار العسكري الذي فرضه جيش عمر بن سعد وعدد آخر كان في السجن كالمختار بن يوسف  الثقفي وسليمان بن صُرد وعدد سمعوا بخروج الإمام وحاولوا اللحاق به لكنهم في الطريق سمعوا بشهادة الإمام فقفلوا راجعين، وقد وجد هؤلاء في ثورة التوابين وحركة المختار ما يعوّض عن عدم مشاركتهم في ثورة الإمام الحسين (عليه السلام).

 

النموذج الصالح للمجتمع الرسالي:

تُعاني معظم الثورات وحركات التغيير من أزمة أخلاقية نتيجة عدم تطابق الأهداف والقيم الكبرى مع سلوك وأخلاق الجماعة التي تتحمل مسؤولية الثورة.

فالثورة تفقد مبرر وجودها إذا كانت منفصلة في قيمها عن حياة الثوار.

ولما كانت ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) حركة تغييرية في المجتمع فقد جاءت متكاملة في أجزائها وجاءت قيمها مطابقة لسلوك أفرادها، وفي هذا الأمر يكمن سرّ نجاح هذه الثورة وتألقها في سماء التاريخ حتى يومنا هذا. فقد تشرب أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) أهداف ثورتهم وامتزجت مع دمائهم فضربوا بذلك أروع مثلٍ في الجماعة المؤمنة المصممة على التغيير والآخذة بأسلوب التغيير الشامل وليّس التغيير الجزئي.

من هنا، فلا بدّ من دراسة واقع هذه الجماعة التي شكلت قاعدة الثورة الحسينية من خلال مقايسة دقيقة بينها وبين الجماعة المعاكسة لها والتي تقف على الضفة الأخرى من الضريح إلى جانب يزيد وعمر بن سعد لنعرف مدى التزام حركة الإمام الحسين (عليه السلام) بقوانين التغيير الاجتماعي الشامل، فهذا التغيير لا يحدث إلاّ إذا جاء المغيرون على صورة متناقضة للواقع الذي يريدون تغييره وإلاّ فإن جهود الثوار ستذهب أدراج الرياح.

 

صفات الجماعة المغيّرة للمجتمع:

هناك مجموعة من الصفات لا بدّ أن تتحلى بها الحركة التي تريد تغيير المجتمع. فكان علينا رصدها في حركة الإمام الحسين (عليه السلام)، ثم البحث فيها في الجهة المقابلة، ثم لنتسأل عن وجودها في الطرف المعاكس.

 

أولاً: الاستهانة بالموت.

لمّا كان الموت هو الحاضر الذي يفصل بين الإنسان وبين الكثير من الصفات الحميدة، فإذا ما وطّن نفسه على الموت من أجل مبدأ خالدٍ فستصب في شخصيته مجموعة كبيرة من الصفات الحميدة كالشجاعة والجرأة والإقدام، أمّا إذا كان يخشى الموت فإنه سيتردد في كل موقف تتطلب منه الشجاعة والجرأة والإقدام.

وأصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) ضربوا لنا أروع الأمثلة في الاستهانة بالموت وهناك الكثير من المواقف التي كشفت عن هذه الفضيلة وبقصد الإيضاح نورد بعض النماذج.

بعد أن فرغ زهير بن القين من خطابه، رفع شمر صوته وقال لزهيرٍ: "أُسكُتْ، أسكت الله نامتك، أبرمتنا بكثرة كلامك، فأجابه زهير: "ما إياك أخاطب إنما أنت بهيمة، والله ما أظنك تحكم من كتاب الله آيتين، فأبشر بالخزي يوم القيامة، والعذاب الأليم" فغضب اللعين، وقال للإمام: "إنّ الله قاتلك وصاحبك عن ساعة" فأجاب الإمام: "أبالموت تخوفني، فوالله للموت معه أحب إليّ من الخلود معكم(3).

وقد اعترف أحد قادة الجيش الأموي بهذه الحقيقة عندما شاهد كثرة القتلى من أصحابهم فقال مستثيراً هممهم: "يا حمقى أتدرون من تقاتلون؟ تقاتلون فرسان المصر وقوماً مستميتين(4).

فهناك موقفان، موقف الاستماتة وموقف الخوف والهلع، يُقدّم لنا الطبري هاتين الصورتين المتعاكستين: "حدثني نمير بن وعلة عن رجل من بني عبد من همدان يُقال له ربيع بن تميم شهد ذلك اليوم قال: لما رأيته مُقبلاً عرفته وقد شاهدته في المغازي وكان أشجع الناس فقلت أيها الناس هذا أسد الأسود هذا ابن أبي شبيب لا يخرجن إليه أحد منكم، فأخذ ينادي ألاّ رجل لرجل. (وعندما لم يجد عمر بن سعد من يخرج إليه لينازله اضطر لأن يطلب منهم) ارضخوه بالحجارة، قال فرُمي بالحجارة من كل جانب فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفرة ثم شد على الناس، فوالله لرأيته يكُرد أكثر من مائتين من الناس(5).

صورتان متعاكستان صورة الاستماتة وعدم الرهبة، وصورة الخوف والوجل والهلع الصورة الأولى هي صورة أصحاب الحسين (عليه السلام)، أمّا الصورة الثانية فهي صورة أصحاب عمر بن سعد.

 

ثانياً: القتال عن عقيدة.

فإذا لم تكن النفوس ذائبة في العقيدة، سيكون المقاتلون مجرد مرتزقة يبحثون عن مصالح دنيوية فالعقيدة هي التي تعطي معناً للحياة ولوناً براقاً للمواجهة بين الحق والباطل، فإذا خلت نفوس المغيرين من العقيدة، أضحت المواجهة مجرد عملية انتحار فاشلة.

وكان أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) قد تشرّبوا العقيدة الإسلامية حتى أضحوا على بصيرة من أمرهم يعرفون لماذا يقاتلون ومن الذي يقاتلونه، فهذا أنس بن الحرث الكاهلي يسمع من لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ابني هذا يعني الحسين يقتل بأرضٍ يقال لها كربلاء، فمن شهده منكم فلينصره(6).

لم ينسَ أنس هذه الكلمات من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وظلّ يرتقب ذلك اليوم الذي يقف فيه لينصر ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى كبر سنه وشيخوخته فقد جاهد بين يدي الحسين (عليه السلام)، خرج إلى المعركة بعد أن شدّ وسطه بعمامته نظراً لتقوّس ظهره، رفع حاجبيه بالعصابة عصبها ليستطيع رؤية ما حوله فلما نظر إليه الإمام أرخى عينيه بالبكاء وقال له: شكراً لك يا شيخ فكان قتاله عن عقيدة راسخة، وليس نتيجة فورة عاطفية.

وهذا زهير بن القين يجيب عزرة بن القيس عندما شكك في ولائه قائلاً له: كنت عندنا عثماناً فما بالك؟ فقال زهير: والله ما كتبت إلى الحسين، ولا أرسلت إليه رسولاً، ولكن الطريق جمعني وإياه، فلما رأيته ذكرت به رسول الله وعرفت ما تقدمون من غدركم، ونكثكم وسبيلكم إلى الدنيا فرأيت أن أنصره وأكون في حزبه حفظاً لما ضيعتم من حق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (7)، فكان انتماؤه عن عقيدة ثابتة وليّس عن عاطفة مؤقتة، بينما كان جيش عبيد الله بن زياد يقاتل بلا هدف، أو بتعبير أصح من أجل هدف دنيوي فقد جاء سنان ابن أنس بعد أن قتل الإمام الحسين ووقف أمام عمر بن سعد مخاطباً:

أوقر ركابي فضة وذهــــبا*****أنـــــا قتلت الملك المحـجبا

قتلت خير الناس أماً وأباً*****وخيرهم إذ ينسبون نـسبا

فقال عمر بن سعد أشهد أنك لمجنون ما صحوت قط، أدخلوه عليّ فلما أدخل عنفه بالقضيب ثم قال: يا مجنون أتتكلم بهذا الكلام، أما والله لو سمعك ابن زياد لضرب عنقك(8).

وهذا نموذج للجيش الأموي، عدم إيمان بالعمل الذي يقومون به، تزعزع ثقتهم بأهدافهم، أنهم كانوا يقاتلون بلا عقيدة ولا مبدأ، وكان يكفي لهذا الجيش حادثة واحدة من قبيل احتراق ابن حوزة بالنار بسبب تطاوله على الإمام  عندما وقف إمام الحسين فقال: أبشر بالنار ولما عرف الإمام أنه ابن حوزة قال: رب حزّه إلى النار، يقول الطبري: فاضطرب به فرسه في جدول فوقع فيه وتعلقت رجله بالركاب ووقع رأسه في الأرض ونفر الفرس فأخذه يمّر به فيضرب رأسه كل حجرٍ وكل شجرٍ حتى مات(9).

وكان هذا الحادث يكفي لزعزعة عقائدهم ومواقفهم حتى اضطر عمرو بن الحجاج أن يخاطب أهل الكوفة ويقول لهم: ألزموا طاعتكم وجماعتكم ولا ترتابوا(10).

ويذكر عن مسروق لما رأى هذه الحادثة قال: فرجع مسروق وترك الخيل من ورائه قال: فسألته فقال لقد رأيت من أهل هذا البيت شيئاً لا أقاتلهم أبداً(11).

 

ثالثاً: الوفاء للقيادة.

تلعب القيادة في الثورات دوراً هاماً وأساسياً في وضع خطط الثورة وفي رسم الأهداف وتهيأة الأفراد وحثهم وتشجيعهم على الصمود والمواجهة، وفي قبال القيادة هناك مسؤوليات للأفراد تتلخص في الوفاء القائم على أبعاد شتى من العلاقة الروحية بين القائد وجنوده، وليس هناك أمرٌ أصعب على القائد من خيانة جنوده وتركهم له في ساحة الميدان ليلاقي مصيره الصعب وفي التاريخ صور كثيرة عن القيادات الناجحة التي امتلكت رصيداً من الأفراد الأوفياء ونجد الصور المعكوسة أيضاً، لكن ليّس في التاريخ كله صورة للوفاء أروع من تلك الصورة التي قدّمها أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام).

عندما سقط مسلم بن عوسجة صريعاً جاءه حبيب بن مظاهر ومعه الإمام الحسين (عليه السلام) فطلب منه أن يوصيه بما أهمه فقال له بصوت خافت حزين:

"أوصيك بهذا (وأشار إلى الإمام) أن تموت دونه"

حروف مملوءة بالوفاء لا زالت ترددها الأجيال وهي تحمل في نبراتها صدق الولاء والوفاء قلّ نظيره في التاريخ، وهو وفاء لا يعرف الحدود بل هو يزداد مع تزايد المصائب. عندما وصل خبر مقتل مسلم بن عقيل أراد أن يختبر آل عقيل أخوة مسلم وبنيه فقال لهم: ما ترون فقد قُتل مسلم؟

فماذا سيكون جوابهم؟ هل سيلومونه، ويرمونهُ بمسؤولية قتل مسلم؟ ماذا سيكون موقفهم وهم يسمعون خبر أول شهيد يسقط في ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)؟.

قالوا للإمام (عليه السلام): لا والله لا نرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق مسلم (12)، وكرر الإمام لهم الطلب بأن يتركوه لوحده لأن القوم لا يريدون غيره قائلاً لهم: يا بني عقيل حسبكم عن القتل بمسلم اذهبوا قد أذنت لكم قالوا: فما يقول الناس، يقولون إنّا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ولم نرم معهم بسهم ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف ولا ندري ما صنعوا، لا والله لا نفعل ولكن تفديك أنفسنا وأموالنا وأهلنا ونقاتل معك حتى نرد موردك فقبّح الله العيش بعدك(13).

وفي ليلة عاشوراء سجل التاريخ كلمات أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) وهي تنسج أروع لوحة في الوفاء لا تستطيع البشرية أن تأتي على مثلها في الجمال والبهاء، خطبهم الإمام الحسين (عليه السلام) قائلاً لهم: هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ثم تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله، فإن القوم إنما يطلبوني ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري.

فوقف الأصحاب واحداً بعد آخر وعبّروا عن رأيهم.

قام مسلم بن عوسجة الأسدي: فقال أنحن نخلي منك ولما نعذر إلى الله في أداء حقك أما والله حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولا أفارقك ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك وقام سعد بن عبد الله الحنفي فقال: والله لا نخليك حتى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيك والله لو علمت أني أقُتل ثم أُحيا ثم أُحرق حياً ثم أذّر يُفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك حتى ألقى جمامي دونك فكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً.

ثم قام زهير بن القين قال: والله لوددت أني قُتلت ثم نُشرت ثم قُتلت حتى أقتل كذا ألف قتلة وإنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك عن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك.

ويقول الطبري: "وتكلم جماعة من أصحابه بكلامٍ يشبه بعضه بعضاً في وجه واحدٍ فقالوا: والله لا نفارقك ولكن أنفسنا لك الفداء نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا فإذا نحن قُتلنا كُنا وفينا وقضينا ما علينا(14).

ولمح الإمام (عليه السلام) اثنين من صحابته وهما يبكيان فقال لهما: ما يبكيكما إني لأرجو أن تكونا بعد ساعة قريري العين؟ فأسرعا قائلين: جعلنا الله فداك ما على أنفسنا نبكي ولكن نبكي عليك، نراك قد أُحيط بك، ولا نقدر أن ننفعك(15).

نكتفي بهذا القدر من صور الوفاء التي حفرها أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) في أرض التاريخ، وهي تكشف لنا عمّا بلغه أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) من فضائل وحب وتفاني لقائدهم.

ونلاحظ العكس تماماً في الصف المعاكس يُلاحظ الهزيمة النفسية، ويلاحظ النكوص المستمر، ويلاحظ التراجع والهروب من ساحة المعركة، ونلاحظ أيضاً التجاء عدد من أفراد الجيش الأموي  إلى جبهة الإمام الحسين (عليه السلام)، حتى بلغ عددهم ثلاثين فرداً(16)،اصطفوا في صف الحسين بعد أن اكتشفوا الحق وعرفوا أنّ يزيد على باطل.

 

الهواامش:

1- ابن عبد ربه: العقد الفريد، 5/128.

2- الحسين بن علي إمام محكمة التاريخ: ص204.

3- الطبري: 4/243.

4- المصدر نفسه: 4/331.

5- المصدر نفسه: 4/338-339.

6- تاريخ ابن عساكر: 13/77، وأسد الغابة: 1/349.

7- أنساب الأشراف: 3/184.

8- الطبري: 4/347.

9- الطبري: 4/328.

10- المصدر نفسه: 4/330.

11- المصدر نفسه: 4/328.

12- المفيد: الإرشاد، ص247.

13- الطبري: 4/318.

14- المصدر نفسه: 4/318.

15- ابن الأثير: 3/292.

16- تهذيب التهذيب: 1/152.