mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 36.doc

مكونات كل ثورة هي؛ القائد وجماعته المنظمة والأمة والعلاقة بينهم، فبدون قائد لا يمكن لأية ثورة أن تنطلق حتى لو توفرت لها الظروف الموضوعية، وبدون الجماعة المنظمة لا يمكن لأي قائد أن يعلن ثورته حتى لو توفرت لها الأسباب المادية الأخرى، وبدون الأمة لا يمكن للثورة أن تستمر، فبدونها لا يعلن القائد ثورته لأنها ستتحول إلى انفجار في قلب الصحراء، فكل ثورة بحاجة إلى جماهير تمدّها بالدم الجديد، وتوّفر لها أسباب الديمومة والمواصلة.

وثورة الإمام الحسين (عليه السلام) كانت ثورة متكاملة التركيب فقد  توفرّت فيها العناصر الثلاث الرئيسية التي تكّون كل ثورة وكانت العلاقة بين هذه العناصر أفضل ما تكون العلاقات، وفيما يأتي سنتناول هذه المكونات بشيء من التفصيل .

 

المبحث الأول: القائد

الكثير من الثورات أصيبت بالفشل لأنها لم تحظَ بالقائد المناسب الذي يستطيع أن يقودها إلى النصر، وإذا ما تمعنا في الثورات التي وقعت في التاريخ لوجدنا أنّ الثورات الناجحة هي التي يمتلك زمامها قادة أقوياء يمتازون بالقدرة الكافية على إدارة زمام الأمور.

والإمام الحسين (عليه السلام) هو النموذج الرائع للقائد الناجح الذي استطاع أن يقود تلك الثورة العظيمة ويوصلها إلى أهدافها المرسومة، وقد تحولت هذه القيادة المثالية إلى قدوة حيّة، اقتدى بها كل القادة الإسلاميين الذين ثاروا على الوضع الفاسد سواء أيام الدولة الأموية أو العباسية.

لقد خطّ الإمام الحسين يد السلام بسلوكه وطريقته في التعامل مع أصحابه ومع أبناء الأمة، ومع الأحداث قواعد مهمة في إعداد القيادة الصالحة، والتي بدونها لا يمكن لأية ثورة أو نهضة أن تلاحق مسيرتها.

 

المطلب الأول: صفات القائد.

يستطيع كل متتبع لشخصية الإمام الحسين (عليه السلام) أن يحدد من خلال الروايات التاريخية معالم شخصية القائد الفذ الذي ترتقبه الأمة. ومن المناقب التي نجدها في شخصية الإمام الحسين يد السلام:

 

1- التواضع:

القائد الناجح هو الشخص المتواضع الذي ينزل لمستوى عامة الناس، يجلس معهم ويأكل بينهم ويتسامر معهم، ولا يستعلي على الفقراء والمساكين ، وهذه فضيلة حثّ الإسلام على الامتثال بها، وقد تشرّب بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام)، والحسين هو غصن من شجرة رسول الله فقد كان متواضعاً على أشد التواضع.

عن مسعدة قال: مرّ الحسين بن علي (عليه السلام) بمساكين قد بسطوا كساءهم والقوا عليه كسراً (مقداراً من الخبز) فقالوا: هلّم يا ابن رسول الله فثنى وركه فأكل معهم ثم تلا [إِنَّه لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ] (النحل /22) ثم قال: قد أجبتكم فأجيبوني، قالوا: نعم يا ابن رسول الله، فقاموا معه حتى أتوا منزله، فقال للجارية: أخرجي ما كنت تدخرين(1).

وذُكر أنه مرّ بمساكين وهم يأكلون كسراً لهم على كساء فسلّم عليهم، فدعوه إلى طعامهم فجلس معهم، وقال: لولا أنه صدقة لأكلت معكم، ثم قال: قوموا إلى منزلي، فأطعمهم وكساهم وأمر لهم بدراهم(2).

وكان البعض يظن أنّ الإمام متكبر نتيجة لمواقفه الصارمة من الحكام الطغاة، فقال له: إنّ فيك كبراً فقال: كلُ الكبر لله وحده ولا يكون في غيره، قال الله تعالى: [ فلله العزّة ولرسوله وللمؤمنين ] (الجمعة/8).

هذا التواضع الذي وجدناه عند الحسين (عليه السلام) لا يمكننا أن نلاحظه عند دخوله على الوليد وإلى يزيد على المدينة، ولا نجده عندما يقف في قبال مروان بن الحكم، فالتواضع عندما يكون لله يحمل في جانبه الآخر عدم التواضع، والتكبر في قبال أعداء الله والظالمين هو عين التواضع لله سبحانه.

 

2- قضاء حاجات الناس، خصوصاً المستضعفين منهم.

فالقائد لا يصبح قائداً بالقول، بل بالعمل المتواصل في خدمة الآخرين، وفي قضاء حوائج الناس، فبدون خدمة الناس لا يصبح القائد إلاّ مجرد ألفاظ ودعاية فارغة عن المحتوى، وقد كان الإمام الحسين (عليه السلام) يقضي حوائج الناس خصوصاً المستضعفين منهم.

عن عمرو بن دينار قال: "دخل الحسين (عليه السلام) على إسامة بن زيد، وهو مريض، وهو يقول: واغمّاه، فقال له  الحسين (عليه السلام): وما غمّك يا أخي؟ قال: ديني وهو ستون ألف درهم، فقال الحسين: هو عليّ قال: إني أخشى أن أموت، فقال الحسين: لن تموت حتى أقضيها عنك، قال: فقضاها قبل موته(3). نلاحظ في هذه الرواية كيف مدّ الإمام الحسين يد  المساعدة لإسامة بن زيد مع أنه لم يكن من أصحابه ولا حتى من المؤمنين له.

\فالقائد الناجح هو الذي يمتاز بقلب كبير يسع جميع الناس، وهو لا يحصر مساعدته لأصحابه فقط بل يمدّ يده حتى لغير أصحابه.

وعن شُعيب بن عبد الرحمن الخزاعي قال: وُجد على ظهر الحسين بن عليّ يوم الطف أثر فسألوا زين العابدين (عليه السلام) عن ذلك فقال: هذا ممّا كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين(4).

فالقائد هو الذي ينذر نفسه لخدمة الناس بالأخص المستضعفين منهم، وهو لا يرى غضاضة في حمل الطعام بنفسه إلى بيوت المساكين والأرامل حتى يمنح أولئك المساكين غذاءً روحياً بالإضافة إلى غذاء الجسد وحتى يتحسسوا تفقّد الإمام بنفسه لهم وكان بإمكانه أن يطلب من خادمه القيام بهذا الأمر، لكن القائد الفذ هو الذي يقدم خدماته للناس وهي ممزوجة بالكرامة والعزّة حتى لا يشعر من يعمل معه بالمهانة.

 

3- الجرأة:

القائد هو رجل مقدام وشجاع، وهو بمواقفه الشجاعة يملأ نفوس أصحابه بالشجاعة، فلا طريق للخوف إلى نفوس القادة، لأنّ الخوف أكبر مانع للثورة، وإذا كان القائد مرعوباً فإنّ الثورة ستنطفئ في نفوس أصحابه، والتاريخ يذكر لنا أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) كان كأبيه في الشجاعة والجرأة والإقدام.

يذكر ابن شهر آشوب. كان بين الحسين (عليه السلام) وبين الوليد عقبة منازعة في ضيعة فتناول الحسين (عليه السلام) عمامة الوليد عن رأسه وشدّها في عنقه، وهو يومئذ والٍ على المدينة، فقال مروان: بالله ما رأيت كاليوم جرأة رجلٍ على أمير، فقال الوليد: والله ما قلت هذا غضباً لي ولكنك حسدتني على حلمي عنه، وإنما كانت الضيعة له فقال الحسين. الضيعة لك يا وليد وقام.

وقيل للإمام يوم الطف. أنزل على حكم بني عمك، قال: لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد، ثم نادى يا ثار الله إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب.

وقال (عليه السلام): موت في عزٍ خير من حياة في ذل، وأنشأ (عليه السلام) يوم قُتل

الموت خير من ركوب العار*****والعار أولى من دخول النار

                           والله ما هذا وهــــذا جاري

وهو الذي وقف في قبال الجيش المدجج بالسلاح ليقول: إني لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما وأنشأ متمثلاً:

سأمضي فما بالموت عار على الفتى*****إذا مــا نـــــوى خيراً وجاهد مسلما

وواسى الرجال الصالحـــين بنـــــفسه*****وفــارق مذمومــــاً وخالف مجــــرما

أقــــــدّم نفــــــسي لا أريـــــد بقــــاءها*****لنلــقي خميساً في الهياج عرمومـــا

فإن عشت لم أذمم،وإن متُ لم ألم*****كفــى بك ذُلاً أن تعيش فتُرغما(5)

وذكرنا موقفه أمام معاوية عندما جاء إلى المدينة لأخذ البيعة ليزيد واتهامه ليزيد بالفسق والفجور في الاجتماع الذي عقده معاوية لهذه الغاية، وذكرنا أيضاً موقف الإمام الحسين (عليه السلام) في مجلس الوليد عندما طلب منه البيعة ليزيد بن معاوية.

4- العبادة:

العبادة المتواصلة تمنح القائد الطاقة المستمرة وتمكنه من مواجهة الصعاب وخوض غمار الصراع بروح عالية وتصميم قوي، والقائد الذي يستغني عن العبادة يتحول إلى إنسان هش سرعان ما يتكسر أمام أقل عاصفة، وكان الإمام يتصف بهذه الصفة وقد أخذت منه العبادة كل مأخذ فقد وصف لنا الإمام زين العابدين عبادته مجيباً ذلك الذي سأله ما أقل ولد أبيك؟ فقال: العجب كيف ولدت كان يصلي في الليل والليلة ألف ركعة.

وفي مساء يوم التاسع من محرّم عندما زحف جيش عمر بن سعد وأراد الهجوم على المخيم قال الإمام لأخيه العباس: اركب أنت يا أخي حتى تلقاهم وتقول لهم: مالكم؟ وما بدالكم؟ وتسألهم عمّا جاء بهم فأتاهم العباس، قالوا للعباس: قد جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزكم، فرجع العباس إلى الإمام وأخبره بما قال القوم، فقال: ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخرهم إلى غد، وتدفعهم عنّا العشية لعلّنا نُصلي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم إني كنت أحب الصلاة له وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء والاستغفار.

سُئل الإمام مرة: ما أعظم خوفك من ربك؟ قال: لا يأمن يوم القيامة إلاّ من خاف الله في الدنيا(6)، وهكذا كان حقاً، ومن فرط تعلقه بالله سبحانه وتعالى حجّ إلى بيت الله الحرام خمسة وعشرين حجة ماشياً وإن النجائب لتقاد معه.

وكان للإمام (عليه السلام) ساعات في الليل يناجي فيها ربه.

يُذكر أنه ساير أنس بن مالك فأتى قبر خديجة فبكى ثم قال اذهب عني قال: أنس فاستخفيت عنه فلما طال وقوفه في الصلاة سمعته قائلاً:

يـــــــا ربّ أنـــــت مــــــــولاه*****فارحم عبيداً إليك مـــلجأه

يا ذا المعالي عليك معتمدي*****طوبى لمن كنت أنت مـولاه

طوبى لمن كان خادماً أرقــاً*****يشكو إلى ذي الجلال بلواه

ومـــا بــــه عــــلّة ولا سقــــم*****أكــــثر مـــــن حــــبه لمـــــولاه

إذا اشتــــكى بــــثه وغصــته*****أجـــــابـــــه الله ثـــــم لـــــبّـاه

إذا ابتلا بالـــــظلام مبتـــهلاً*****أكـــــرمــــه الله ثـــــمّ أدنـــاه

وله أيضاً هذا البيت:

يا أهل لذّة دنيا لا بقاء لها*****إنّ اغتراراً بظلّ زائل حمق(7)

 

5- كظم الغيظ:

الغضب نقطة ضعف في الإنسان فهو يخرجه عن طوره ويجعله عاجزاً عن اتخاذ القرار المناسب، وتزداد أهمية هذه النقطة بالنسبة إلى القائد الذي يتولى مسؤوليات كبيرة فأية لحظة غضب ستجعله عاجزاً عن الإمساك بالأمور، وقليل من الناس الذين يقدرون على كظم غيظهم في لحظات الإثارة والاستفزاز.

والإمام الحسين (عليه السلام) من أولئك القلائل الذين عُرفوا بكظم الغيظ حتى في أشد أنواع الإثارة.

جنى غلام له جناية تُوجب العقاب عليه فأمر به أن يضرب، فقال: يا مولاي [وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ] قال: خلوا عنه، فقال: يا مولاي [وَالعَافِينَ عَنْ الْنَاس] قال: قد عفوت عنك، قال: يا مولاي [وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] قال: أنت حرٌّ لوجه الله، ولك ضعف ما كنت أعطيك.

وفي يوم عاشوراء عندما اضطرمت النار في الحطب والقصب الذي أُلقيّ في الخندق نادى شمر بن ذي الجوشن بأعلى صوته: يا حسين اتعجلت بالنار قبل يوم القيامة؟ فقال الحسين (عليه السلام): من هذا كأنه شمر بن ذي الجوشن؟ فقالوا نعم، فقال له: يا بن راعية المعزى أنت أولى بها صلياً، ورام مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم فمنعه الحسين (عليه السلام) من ذلك، فقال له: دعني حتى أرميه فإنّ الفاسق من أعداء الله وعظماء الجبارين، وقد أمكن الله منه فقال له الحسين (عليه السلام): لا ترمهٍ فإني أكره أن أبدأهم بقتال(8).

 

6- التأني وعدم التسرع في الأمور:

التسرع في الأمور يؤدي إلى اتخاذ قرارات غير ناضجة، وقد تؤدي هذه القرارات إلى التراجع خصوصاً عندما تكون قرارات مصيرية، وقد عُرف الإمام بالتأني وعدم التسرع في اتخاذ القرار بل كان يأخذ فرصة كاملة ليفكر ويدرس نتائج العمل الذي يريد القيام به.

فقد تأنى كثيراً عندما جاءته هذه الرسائل حتى أن ستمائة رسالة وردته في يوم واحد، وأخذت هذه الرسائل تترى عليه حتى اجتمع عنده في مدة محدودة إثنا عشر ألف رسالة، ولم يكتفِ أهل الكوفة ببعث الرسائل بل أخذوا يبعثون الرُسل فبعد عبد الله بن مسمع الهمذاني وعبد الله بن وال اللذان كانا في الوفد الأول، بعث أيضاً هانيء بن هانيء السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي في الوفد الثاني، وقد ورد في بعض الرسائل عبارة العجل العجل العجل ثم العجل العجل، لكن الإمام لم يستعجل ولم يتخذ موقفاً عاطفياً بل قرأ الكتب وسأل الرسل عن الناس (كما يقول المؤرخون). ثم بعد ذلك كتب إلى أهل الكوفة كتاباً يذكر فيه: وأنا باعث إليكم أخي وأبن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، فإن كتب إليّ بأنه قد اجتمع رأي ملائكم، وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدّمت به رسلكم وقرأت في كتبكم فإني أقدم إليكم وشيكاً إنشاء الله.

وهذا يدل على موقف واعٍ يزن الأمور كما هي، فلم يستعجل بالذهاب إلى الكوفة إلاّ بعد أن قرأ الرسائل وسأل الرسل وبعث مسلم وانتظر كتاباً يخبره بوضع الناس، وهذه من أهم صفات القائد الذي يريد أن يقود الثورة، فعلى هذا القائد أن يتحلى بهدوء الأعصاب وعدم الانفعال السريع والتأني في الإقدام واتخاذ القرارات بعد دراسة مستفيضة ودقيقة. ومن قبيل ذلك عدم إعلان الثورة في عهد معاوية لأن الظرف لم يكن ملائماً.

 

7- استثمار الفُرص:

الحياة فرص وعدم استثمار الفرصة الواحدة سيضيع على الثوّار فرص جديدة، وعندما ندرس ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) دراسة واعية نجد أنها كانت محكمة من كل الجوانب فقد جاءت هذه الثورة بصورة انسيابية مع أحداث التاريخ، فانطلاقتها كانت في فترة زمنية مناسبة بعد موت معاوية واعتلاء يزيد أمور الخلافة، ومجيء الإمام إلى مكة في موسم الحج ولقاءه المتواصل مع الحجاج ثم مغادرته مكة قبل إتمام الحج، كل تلك الأحداث تُبين لنا انسيابية الثورة فلا نشعر بوجود أي شذوذ لا في الوقت ولا في المكان ذلك لأنه كان وراء هذه الثورة رجلٌ يعرف كيف يستثمر الوقت والمكان والحدث.

وقد حرص الإمام (عليه السلام) أن يستثمر أيّة فرصة متاحة له فقد جاءهُ إعرابي فقال: يا ابن رسول الله قد ضمنت ديّة كاملة وعجزت عن أدائه، فقلت في نفسي: أسال أكرم الناس، وما رأيت أكرم من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فقال الحسين (عليه السلام): يا أخا العرب أسألك عن ثلاث مسائل، فإن أجبت عن واحدة أعطيتك ثلث المال، وإن أجبت عن اثنتين أعطيتك ثلثي المال، وإن أجبت عن الكلّ أعطيتك الكلّ. فقال الأعرابي: يا ابن رسول الله: أمثلك يسأل عن مثلي، وأنت من أهل العلم والشرف، فقال الحسين (عليه السلام): بلى سمعتُ جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: المعروف بقدر المعرفة، فقال الأعرابي: سل عمّا بدا لك، فإن أجبت وإلاّ تعلمت منك، ولا قوة إلاّ بالله.

فقال الحسين (عليه السلام): أيُّ الأعمال أفضل؟ فقال الأعرابي: الإيمان بالله، فقال الحسين: فما النجاة من المهكلة؟ فقال الأعرابي: الثقة بالله، فقال الحسين (عليه السلام): فما يزين الرجل؟ فقال الأعرابيّ: علم معه حلم، فقال: فإن أخطأه ذلك؟ فقال: مال معه مروءة، فقال: فإن أخطأه ذلك؟ فقال: فقرٌ معه صبر، فقال الحسين (عليه السلام): فإن أخطأه ذلك؟ فقال الأعرابيّ: فصاعقة تنزل من السماء وتحرقه فإنه أهل لذلك.

فضحك الحسين (عليه السلام) ورمى بصره إليه فيها ألف دينار وأعطاه خاتمه وفيه فصٌ قيمته مائتا درهم، وقال: يا أعرابيّ أعطِ الذهب إلى غرمائك، واصرف الخاتم في نفقتك، فأخذ الأعرابيّ وقال [اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ] (الأنعام/124).

نلاحظ كيف استثمر الإمام الحسين حاجة الرجل في تعليمه بعض الفضائل، فهذا هو دأب القادة الذين يعيشون أهدافهم والذين يتحملون مسؤولية كبرى في هداية الناس وتعليمهم وإصلاح المجتمع والذين ما أن وجدوا فرصة للهداية أو التعليم  أو التربية إلاّ واستثمروها في إصلاح الفرد والمجتمع.

 

8- التشجيع.

التشجيع هو وسيلة التقدم، والقادة الناجحون الذين يريدون التقدم لمجتمعهم هم الذين يشجعون هذا المجتمع على القيام بأعمال الخير، لأن التشجيع هو أفضل وسيلة لإشاعة العمل الصالح في المجتمع.

وكان دأب الإمام الحسين (عليه السلام) تشجيع أبناء الأمة الإسلامية صغاراً وكباراً للقيام بأعمال الخير.

قال أنس: كنت عند الحسين (عليه السلام) فدخلت عليه جاريته فحيّتهُ بطاقة ريحان، فقال لها: أنت حرّة لوجه الله، فقلت: تجيئك بطاقة ريحان لا خطر لها فتعتقها؟ قال: كذا أدبنا الله، قال الله [وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا] (النساء/86)، وكان أحسن منها عتقها(9).

فالعطاء الكبير الذي قدّمه الإمام الحسين (عليه السلام) لا يتناسب مع ما قُدّم له، لكن الإمام يريد من خلال هذا العطاء الكبير أن يُشجع الآخرين على العطاء حتى لو كان صغيراً.

ومثل ذلك قيل: إنّ عبد الرحمن السّلمى علّم ولد الحسين (عليه السلام) (الحمد) فما قرأها على أبيه أعطاه ألف دينار، وألف حلّة وحشا فاه درّاً،  فقيل له في ذلك فقال: وأين يقع هذا من عطائه يعني تعليمه وأنشد الحسين (عليه السلام) :

إذا جــــــاءت الدنيا فجُــد بــــها*****على الناس طرّاً قبل أن تتفلت

فلا الجود يُفنيها إذا هي أقبلت*****ولا البُخل يُبقيها إذا ما تـــوّلت

فعطاء الحسين (عليه السلام) لا يوازي في حجمه الكبير عطاء المعلم مهما كان عظيماً، لكن الإمام الحسين الذي يريد أن ينشر الفضيلة ويشيع الإيجابيات في المجتمع لا يرى في عطائه شيئاً كبيراً إذا كان مردوده تشجيع الآخرين على عمل الخير.

 

9- المشاركة في السرّاء والضرّاء.

القائد الواقعي هو الذي يشارك أمته في السرّاء والضرّاء فهو يتألم في اليوم الذي يتألم فيه شعبه، ويفرح في اليوم الذي يفرح فيه شعبه.

فالمشاركة الحقيقة هي التي تجعل الجماهير في قلب الأحداث متفاعلة مع أهداف القائد، والإمام الحسين (عليه السلام) ضرب أروع الأمثلة في المشاركة فقد تحمل الصعاب على قدم المساواة مع تحمل الأمة هذه الصعاب، فكتب إلى أهل الكوفة بكتاب جاء فيه: "وقد أتتني كتبكم وقدمت عليَّ رسلكم ببيعتكم، أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن وفيتم لي ببيعتكم فقد أصبتم حظكم ورشدكم، ونفسي مع أنفسكم وأهلي وولدي مع أهلكم وأولادكم، فلكم بي أسوة.

 

10- النظرة المساوية إلى جميع أبناء الأمة.

القائد إنسان لا يعيش لذاته بل يعيش لأمته، فالذي يقدّم دمه قرباناً لأمته لا يدع لنفسه أن تنقاد إلى هواها فيؤثر جماعة على جماعة، فكل أبناء المجتمع وكل فرد ينتمي إليه هم على حدٍ سواء لا تفضيل لأحدٍ على أحد ولا تقديم لأحدٍ على حساب أحد. وهكذا كان أبو عبد الله الحسين (عليه السلام) في تعامله مع أبناء الأمة، كان يساوي بين أولاده وأبناء الأمة العاديين. فهذا غلام تركي كان يخدم الحسين (عليه السلام) خرج إلى المعركة فسقط صريعاً فجاءه الحسين (عليه السلام) فبكى ووضع خدّه على خدّه، ولما فتح عينه ورأى الحسين (عليه السلام) تبسّم لأنه شاهد سيده وإمامه قد وضع خدّه على خدّه، ومرةً أخرى وضع خدّه على خدّ ولده علي الأكبر (عليه السلام) عندما صُرع في المعركة، وسقط منادياً أبيه فجاءه والده الحسين (عليه السلام) ففعل به مثل ما فعل بالغلام التركي.

 

11- الإيجابية والتسامي.

ويصغر في عين العظيم الأعاظم، كان المتنبي يتحدث عن القادة، أنهم ذوي شخصيات قوية لا تتهاوى في الأحداث ولا تثير حفيظتهم الصغائر ولا يعيرونها اهتماماً فهم يتجاوزون الأمور الطفيفة التي لا تشكل شيئاً، وهكذا كان الإمام الحسين (عليه السلام) في أخلاقه الرفيعة وفي سمو ذاته كان متجاوزاً عن الصغائر، إيجابياً في كل موقف.

حدّث الصولي عن الصادق (عليه السلام) هذا الخبر، جرى بين الإمام الحسين (عليه السلام) وبين محمد بن الحنفية كلام فكتب ابن الحنفية إلى الحسين (عليه السلام): أمّا بعد يا أخي فإنّ أبي وأباك عليٌّ: لا تفضلني منه ولا أفضلك، وأمك فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولو كان ملء الأرض ذهباً ملك أمي ما وفت بأمك، فإذا قرأت كتابي هذا فصر إليّ حتى تترضاني فإنك أحق بالفضل مني والسلام عليك ورحمة الله وبركاته، ففعل الحسين (عليه السلام) ذلك فلم يجرِ بعد ذلك بينهما شيء(10).

وهذا نموذج واحد وإلاّ فإننا نجد في سجل حياة الإمام الحسين (عليه السلام) مجموعة كبيرة من هذه الصور الرائعة الناطقة بالإيجابية الصادقة.

 

12- تهدأة الخواطر.

القائد هو الذي يستطيع أن يتغلب على عواطفه ويملك نفسه في الساعات الحرجة، فيقوم بتهدأة الآخرين، ومنحهم جرعات من الصبر والصمود أمام الأحداث الجسام فإذا لم يكن هو قادراً على امتلاك نفسه فلا يستطيع تهدأة  الآخرين ودعوتهم للتصبّر والصمود.

وكان الحسين (عليه السلام) أمثولة رائعة في تهدأة خواطر أصحابه وكيف لا وهو القائد الذي انتظرته أحداث جسام فكان عليه أن يصبّر أصحابه كلما جاءه خبر من الأخبار المزعجة. عندما بلغه مقتل مسلم بن عقيل جاء إلى عائلة الشهيد فهدّأ من روع ابنته حميدة، وصبّرها ثم سأل أبناء مسلم وأخواته عن قرارهم بعد أن سمعوا بهذا الخبر فوجدهم صابرين عازمين على التضحية.

وكان للحسين (عليه السلام) دور مهم في تهدأة خواطر النساء، نقل لنا المؤرخون صوراً عن كلمات التصبّر الرقيقة التي تحدث بها الإمام مع أخته زينب وابنته سُكينة. فعندما سمعته زينب وهو يُنشد:

يا دهر أفٍ لك مِــن خلـــيلي*****كم لك بالإشراق والأصيل

من طالب وصاحبٍ قتــــــيل*****والـــــدهر لا يقنع بـــــالبديل

فعلمت العقيلة زينب ما أراد بهذه الأبيات، فخنقتها العبرة وجاءت إلى الإمام قائلةً: واثكلاه ليت الموت اعدمني الحياة، اليوم ماتت أمي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن يا خليفة الماضي وثمال الباقي، فنظر إليها الحسين (عليه السلام) وقال لها كلاماً كله رقة: يا أُختاه اتقي الله وتعزّي بعزاء الله واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون، وأنّ كل شيء هالك إلاّ وجه الله تعالى، الذي خلق الخلق بقدرته، ويبعث الخلق ويعودون وهو فرد وحده، وأبي خيرٌ مني وأمي خيرٌ مني وأخي خيرٌ مني ولي لكل مسلم برسول الله أسوة فعزّاها بهذا ونحوه(11).

 

الهوامش:

1- تفسير العياشي: 2/257.

2- ابن نهر آشوب: مناقب آل أبي طالب، 4/66.

3- مناقب آل أبي طالب: 4/65.

4- المصدر نفسه: 4/66.

5- المناقب: 4/68.

6- المناقب: 4/68.

7- المصدر نفسه: 4/69.

8- المفيد: الإرشاد، ص217.

9- كشف الغمة: 2/206.

10- مناقب آل أبي طالب: 4/66.

11- المفيد في الإرشاد،215.