mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 30.doc

ثم يختم ابن أبي الحديد الكلام بقول شيخه: فالأحاديث الواردة في فضله لو لم تكُن في الشهرة والاستفاضة وكثرة النقل إلى غاية بعيدة، لانقطع نقلها للخوف والتقية من بني مروان مع طول المدة، وشدة العدوان؛ ولولا أنّ لله تعالى في هذا الرجل سراً يعلمه مَنْ يعلمه لم يُرْوَ في فضله حديث، ولا عُرِفَتْ له منقبة؛ ألا ترى أنّ رئيس قرية لو سخِطَ على واحدٍ من أهلها، ومنع الناسَ أن يذكروه بخير وصلاح لحمل ذكره، ونسي اسمه، وصار وهو موجود معدوماً، وهو حيٌّ ميتاً. هذه خلاصة ما ذكره شيخنا أبو جعفر رحمه الله تعالى(1).

وعندما ولي معاوية المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة إحدى وأربعين قال له: "قد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة أنا تاركها اعتماداً على بصرك، ولست تاركاً إيصاءك بخصلة: لا تترك شتم عليّ وذمّه، والترحم على عثمان والاستغفار له والعيب لأصحاب عليَ والإقصاء لهم، والإطراء لشيعة عثمان والإدناء لهم، فقال له المغيرة: قد جرّبت وجُرِّبت، وعلمت قبلك لغيرك فلم يذممني وستبلو فتحمد أو تذمّ، فقال له: بل نحمدُ إن شاء الله(2).

أضف إلى ذلك كَتَبَ معاوية إلى ولاته جميعاً: "أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته، وكان أشدّ البلاء حينئذ أهل الكوفة، وكَتَبَ إليهم؛ أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومُحبيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم، وقربوهم، وأكرموهم واكتبوا لي بكلِّ ما يُروي كل رجلٍ منهم، واسمه واسم أبيه وعشيرته ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه لما كان يبعث إليهم معاوية من الصلاة والكساء والحباء والقطائع ويفيضه في العرب منهم والموالي فكثير ذلك وتنافسوا في المنازل والدُنيا فليس يجيء أحد مردود مِن الناس عاملاً مِن عمّال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلاّ كتب اسمه وقرّبه وشفعّه فلبثوا بذلك حيناً(3) ثم كتب إلى عماله بعد أن زادت الأحاديث في فضل عثمان حتى أنّ الأمر بات مفضوحاً: إنّ الحديث في عثمان قد كَثُرَ وفشا في كُلّ مصر، وفي كل وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فأدعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين ولا تتركوا خبراً يرويه أحد مِن المسلمين في أبي تراب إلاّ وأتوني بمناقض له في الصحابة مفتعلة فإنّ هذا أحبّ إليّ، وأقر لعيني، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته، وأشدّ عليهم من مناقب عثمان وفضله فقُرئت كتبه على الناس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجّد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، وألقي إلى معلمي الكتاتيب فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه وتعلّموه كما يتعلمون القرآن وحتى علموهم بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم فلبثوا بذلك ما شاء الله.

ويذكر ابن أبي الحديد في الأخبار الموضوعة: إنه افتُعِل في أيام معاوية خاصة حديث كثير على هذا الوجه، ولم يسكت المحدثون الراسخون في علم الحديث عن هذا، بل ذكروا كثيراًَ مِن هذه الأحاديث الموضوعة وبينّووا وضعها، وأنّ رواتها غير موثوقٍ بهم، إلاّ أنّ المحدثين إنما يطعنون فيها دون طبقة الصحابة، ولا يتجاسرون في الطعن على أحدٍ مِن الصحابة لأنّ عليه لفظ (الصحبة)؛ على أنهم قد طعنوا في قومٍ لهم صُحبة كبسر بن أرطأة وغيره(4).

وبات وضع الأحاديث في فضل الصحابة من قبل معاوية أمراً مشهوراً أقرّ به القريب والبعيد(5).

ومن صور التصوير الصارخة نقل النقطة مِن مكان لآخر في بعض الأحاديث، مثل حديث: (إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقتلوه) (6) فحوّلت أيادي التزوير عبارة فاقتلوه إلى فأقبلوه بتغيير مكان النقطة(7).

ولم تكتمل محاولات التزوير إلاّ بعد قيام عدد مِن الرواة بوضع الأحاديث في مدح معاوية وذلك مقابل أموال طائلة، مِن هذه الأحاديث الموضوعة.

رواية أبي هريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّ الله ائتمن على وصيه ثلاثاً: أنا، وجبرائيل، ومعاوية. وروى أبو هريرة أيضاً: أن النبي ناول معاوية سهماً فقال له: خذ هذا حتى تلقاني في الجنة، ومِن الروايات الموضوعة أيضاً: أنا مدينة العلم وعليُّ بابها ومعاوية حلقتها(8).

ونختم هذا الموضوع بقول الإمام أحمد بن حنبل كما أوردُه السيوطي  عندما سأل أباه عن عليّ ومعاوية فقال: إعلم أنّ علياً كان كثير الأعداء ففتشوا له أعداؤه عيباً فلم يجدوا، فجاؤا إلى رجلٍ قد حاربه وقاتله فأطروه كياداً منهم له(9).

 

ثالثاً: تحريف التاريخ.

التاريخ خير قاضٍ وحاكم على أعمال الطغاة والصالحين، فالتاريخ هو ذاكرة الأمة، فكلما أراد الحكام الطغاة محو ذاكرة الأمة لإخصائها قامت بتحريف التاريخ لإضاعة الحقيقة، وقد اهتم الأمويون أكبر اهتمام بهذا الجانب فجندوا عدداً كبيراً مِن المؤرخين لتحريف أحداث التاريخ ومن هؤلاء الذين جُندوا لهذه الغاية:

1- الشعبي: وهو عامر بن شراحيل بن عبد، وهو كوفي وأمه من سبي جلولاء، ولد لست سنين خلت من خلافة عمر بن الخطاب، وتوفي سنة ثلاثٍ ومائة.

وكان مِن خواص بني أمية، استخدمُه عبد الملك بن مروان ممثلاً عنه إلى ملك الروم(10).

وكان مُقرباً أيضاً لدى الحجاج بن يوسف الثقفي، فهو الذي دخل عليه وبارك له انتصاره في يوم الجماجم قائلاً له: لقد نصرك الله علينا، وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا وما جرت إليه أيدينا(11).

ويقول الشيخ المفيد عن الشعبي: كان مشهوراً بالنصب لعلي (عليه السلام) ولشيعته وذريته، وكان معروفاً بالكذب سكيراً خميراً مقامراً عياراً، وكان معلم وله عبد الملك بن مروان وسحيراً للحجاج، وعن أبي حنيفة قال: أتيت الشعبي أسأله عن مسألة، فإذا بين يديه شطرنج ونبيذ، وهو متوشح بملحفة مصبوغة بعصفر فسألته عن مسألة فقال: ما تقول فبها بنو استها، قال: فقلتُ: هذا أيضاً مع هذا. ويعلق الشيخ المفيد على أكاذيب الشعبي: وقد أجمع أهل السير أنه شهد البصرة مع علي (عليه السلام) ثمانمائة مِن الأنصار وتسعمائة من أهل بيعة الرضوان وسبعون مِن أهل بدر، وهو الذي روى أنّ علياً كان أحمر الرأس واللحية خلافاً على الأمة(12).

وكان الشعبي قد نقل: "إن علياً دخل اللحد وما حفظ القرآن" وبلغ به كذبُه أنه قال: "لم يشهد الجمل مِن الصحابة إلاّ أربعة، فإن جاؤوا بها بخامس فإنه كذاب: علي وعمار وطلحة والزبير(13).

2- عوانة بن الحكم: وهو عوانة بن الحكم بن عياض بن وَزَر مِن بني كلب القبيلة المتحالفة مع بني أمية، يقول عنه ياقوت الحموي: "كان عثمانياً ويضع أخبار لبني أمية(14).

وعامة أخبار المدائني أخذه عنه، توفى سنة 147 للهجرة، له كتابٌ في معاوية عنوانه (سيرة معاوية)، وهو مِن شيوخ الطبري، نقل عنه أغلب أخبار الصراع بين بني هاشم وبني أمية.

ووصفه عبد العزيز الدوري: "ويقدم عوانة على الأكثر الرواية الأموية للحوادث مقابل الرواية العراقية، وهذا يُوضِّح ما يبدو مِن نبرة أموية في بعض رواياته حتى إنّ تأكيد الأمويين على فكرة الجبر في تفسير الحوادث ينعكس في رواياته(15).

وعوانة بن الحكم، هذا هو أحد مصادر الخبر عند الطبري، وقد حاول في أخباره أن يُضيف مساحيق التجميل على الوجه الأموي البغيض، وكان لهوائه دورٌ في إظهار يزيد بن معاوية بمظهر الحمل الوديع أثناء استقباله للأسرى، فقد روى عنه الطبر ي: "ثم أدخل (الأسرى) على يزيد فقالت فاطمة بنت الحسين، وكانت أكبر من سكينة: أبنات رسول الله سبايا يا يزيد؟ فقال يزيد: يا ابنة أخي، أنا لهذا كنتُ أكره، قالت: والله ما ترك لنا خُرص، قال: يا ابنة أخي، ما آتى إليك أعظم مما أُخذ منك، ثم أخرجي فادخلي دار يزيد بن معاوية فلم تبق امرأة مِن آل يزيد إلاّ أتتهُنّ وأقمن المآتم وأرسل يزيد إلى كل امرأة ماذا أُخذ لك، وليس منهنّ امرأة تدّعي شيئاً بالغاً ما بلغ إلاّ قد أضعفه لها فكانت سكينة تقول: ما رأيتُ رجلاً كافراً بالله خيراً مِن يزيد بن معاوية(16).

نجد في هذه الرواية انحيازاً كاملاً من عوانة إلى جانب يزيد بن معاوية، فقد حاول عوانة أن يعكس صوراً حسنة ليزيد بن معاوية مِن خلال هذا الخبر منها:

أ- عدم تحميل يزيد بن معاوية مسؤولية قتل الإمام الحسين (عليه السلام).

ب- إظهار يزيد بن معاوية على أنه رجل رحيم وعطوف.

ج- إبراز رضى أهل البيت مِن يزيد بن معاوية على ما ارتكبه مِن جرائم بحق الحسين وأهل بيته.

3- مجالد بن سعيد: وهو كوفي روى عنه الثوري وشعبه وحمادة بن زيد وسفيان بن عيينة.

وكان يروي عن الشعبي حليف بن بني أمية، وقد ضعّفه أكثر المختصين بعلم الرجال قال عنه ابن النديم: كان ضعيفاً عند المحدثين(17).

قال عنه ابن عدي في الضعفاء، وقال عنه ليس بثقة كان يكذب وذكره ابن قتيبة: كان الهيثم بن عدي يروي ويكثر، ويروي مجالد عن الشعبي، وعن مسروق وكان نساباً والأغلب عليه رواية الأخبار، وكان يُضعِّف حديثه(18).

توفى مجالد بن سعيد عام 144هـ، وقد اعتمد الطبري أخباره، وروى عنه الكثير مِن شيوخ الطبري منهم هيثم بن عدي وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وشعبة وحمادة بن زيد.

ونذكر هنا نموذج عن الأخبار التي حاول بها تشويه صورة الثورة الحسينية، فقد نقل الطبري عنه أن الإمام الحسين (عليه السلام) طلب مِن عمر بن سعد ثلاث خصال؛ إما الرجوع إلى قلة أو التسليم ليزيد بن معاوية أو الذهاب إلى إحدى الثغور محاولاً بذلك إظهار الإمام الحسين (عليه السلام) في موقفٍ ضعيف والرواية هي: "اختاروا مني خصالاً ثلاثاً إما أن أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه وإما أن أضع يدي في يد يزيد بن معاوية فيرى فيما بيني وبينه رأيه وإما أن تسيّروني إلى أي ثغرٍ مِن ثغور المسلمين شئتم فأكون رجلاً مِن أهله لي مالهم وعليّ ما عليهم(19).

بينما ذكر الطبري عكس ذلك إذ أورد رواية عقبة بن سمعان التي تُكذِّب هذا الخبر وتأتي بصورة معاكسة عن رواية مجالد بن سعيد(20).

ثم نقل الطبري أيضاً رواية مجالد بن سعيد حول ما كتبه عمر بن سعد إلى عبيد الله بن زياد حول تلك المطالب التي طلبها الإمام الحسين (عليه السلام) وجاء في الرسالة: هذا حسينٌ قد أعطاني أن يرجع إلى المكان الذي منه أتى أو أن نسيّره إلى أي ثغر مِن ثغور المسلمين شئنا فيكون رجلاً مِن المسلمين له مالهم وعليه ما عليهم، أو أن يأتي يزيد أمير المؤمنين فيضع يده في يده فيرى فيما بينه وبينه رأيه(21).

وهذه رسالة مشكوك فيها أيضاً، لأنها تُناقض أولاً: رواية عقبة بن سمعان الذي كان مع الإمام الحسين طيلة رحلته مِن المدينة إلى العراق مروراً بالكويت، فلم يُسمع مِن الإمام كلمة يُشم فيها رائحة التراجع هذا أولاً وثانياً: لو كان الإمام قد طلب أن يضع يده في يد يزيد فهذا ما يريدونه حقاً.

لقد صورت رواية مجالد موقف الإمام ضعيفاً يتوسل النجاة بأية وسيلة حتى لو كان الاستسلام ليزيد، وقد حاول الكثير من أرباب التعصب الأعمى التركيز على هذه النقطة بالذات، وقلدهم بعض مَن أراد أن يُبّرء ساحة الإمام الحسين (عليه السلام) ويظهر جانباً من مظلوميته وأنه لم يكن يريد الحكم، بل كانت حركته حركة مسالمة(22).

 

رابعاً: سياسة الإرعاب.

لا قيمة لإرادة الأمة في قرارات الأنظمة التي لم تقُم على قاعدة شعبية، فهذه الأنظمة تضطر إلى انتهاج سياسة الإرعاب للسيطرة على الناس، لأن التخويف والإرعاب هما السلاح الفتاك في الإجهاز على حقوق الناس بكتم أفواههم وإسكاتهم كما يرى ذلك المستبدون من الحكام.

وتقوم سياسة الإرعاب على هذا النهج.

 

1- قتل الأطفال:

فقتل الطفولة البريئة هي أفضح صور الإرهاب، وهي أكثر الأساليب إيلاماً وإثارة للمجتمع.

ولمّا لم يترك بنو أمية أسلوباً مِن الأساليب إلاّ وانتهجوها فقد اتخذوا مِن قتل الأطفال سبيلاً للتخويف والإرعاب لكبح جماح الثوار الخارجين على سلطانهم، لكن على عكس ما كان يتوقعه بنو أمية كان قتلهم للأطفال يُزيد مِن وهج الانتفاضة والثورة.

فقد قتل بسر بن أرطأة ابني عُبيد بن عباس وكانا عند رجلٍ مِن كنانة بالبادية، فلما أراد قتلهما قال أهل الكناني: لِمَ تقتل هذين ولا ذنب لهما، فإن كنت قاتلهما فاقتلني معهما! فقتله وقتلهما بعده، وقيل إنّ الكناني أخذ سيفه وقاتل عن الغلامين وهو يقول:

الليثُ مَنْ يمنع حافات الدار ولا يزال مصلتاً دون الجار

وقاتل حتى قُتل، وأخذ الغلامين فدفنهما، فخرج النسوة مِن بني كنانة فقالت امرأة منهنّ: يا هذا! قتلتَ الرجال فعلام تقتل هذين؟ والله ما كانوا يُقتلون في الجاهلية والإسلام! والله يا ابن أبي أرطأة إن سلطاناً لا يقوم إلاّ بقتل الصبيّ الصغير والشيخ الكبير ونزع الحرمة وعقوق الأرحام لسلطان سوء(23) فبدل أن يُثير هذا العمل الشنيع مخاوف الناس نجد أنه أثار حتى النساء فأوجد فيهنّ الشجاعة الكافية لأن تقول إحداهنَّ تلك المقولة، والذي يؤكد أن قتل الأطفال كان سياسة لبني أمية هو قتلهم لأطفالٍ صغار كانوا في كربلاء، وقتلهم حتى الطفل الرضيع وقتل ابن زياد لطفلي مسلم بن عقيل حتى بعد انتهاء الواقعة بمدة من الزمن.

 

2- هدم الدور:

وهي سياسة ثابتة لدى بني أمية فهم يستخدمون هدم البيوت إمعاناً في الإرهاب فعندما وصل بُسر بن أرطأة وكان مأموراً مِن قبل معاوية بأخذ البيعة مِن الناس هدم بيوتاً بالمدينة(24) ثم مضى إلى مكة فبايعهُ أهل مكة ثم مضى إلى اليمن.

 

3- أخذ البريء بجريرة المُذنب:

يحاول الحكام المستبدون ممارسة الضغط على أقارب مَن يريدون قتله أو اعتقاله بُغية دفعه إلى الاستسلام والخضوع، وهذه هي سياسة ثابتة لدى بني أمية مارسها الحكام الأمويون بأبشع صورة.

فمرةً كان ابن زياد يُريد اعتقال أحد شعراء طيء وهو عبد الله بن خليفة فوثب على عديّ بن حاتم وهو في المسجد، فقال: ائتني بعبد الله بن خليفة، قال: وما له فأخبره، قال: فهذا شيء كان في الحي لا علم لي به، قال: والله لتأتيني به قال: لا والله لا آتيك به أبداً، أجيئك بابن عمي تقتله والله لو كان تحت قدمي ما رفعتها عنه قال: فأمر به إلى السجن(25)، وقد تعلّم هذا النهج مِن رئيسه معاوية الذي لم يتوانَ لحظةً في انتهاج هذا السبيل.

ومِن أساليب الضغط الدنيئة التي مارسها معاوية، إلقاء القبض على زوجة مَن يُراد اعتقاله، فأسر المرأة أمرٌ عظيم لم يجرأ عليه حتى أبشع الحكومات الظالمة لكن معاوية بن أبي زياد الذي آل على نفسه تصفية المعارضة وضع في نهجه استخدام أية وسيلة ممكنة ومنها اعتقال النساء عوضاً عن الرجال.

يقول اليعقوبي: "وقد كان معاوية حبس امرأة (عمرو بن الحمق) بدمشق، فلما أتى رأسه بعثه به، فوُضع في حجرها، فقالت للرسول: أبلغ معاوية ما أقول: طالبه الله بدمه، وعجّل له الويل مِن نقمه، فلقد أتى أمراً فرياً، وقتل براً تقياً، وكان أول من حبس النساء بجرائر الرجال(26).

هذا مبلغ ما وصلت إليه أساليب الإرهاب مِن تطّور في عهد معاوية حيث كان التهديد يُوجّه إلى عائلة المتهم بالأخص إلى زوجته.

وقد أعطت هذه السياسة نتائجها ويستفاد ذلك من قول ابن أبي الحديد عن وضع العراقيين في عهد معاوية: "حتى أن الرجل مِن شيعة علي (عليه السلام) ليأتيه مَن يثق به، فيدخُل بيته، فيلقي إليه سره، ويخاف مِن خادمه ومملوكه، ولا يحدثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمنّ عليه .. فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي (عليه السلام)، فازداد البلاء والفتنة، فلم يبق أحدٌ من هذا القبيل إلاّ وهو خائف على دمه أو طريد في الأرض(27).

 

خامساً: سياسة التجويع.

والجوع أحد عوامل الخنوع، لأن الجائع يضطر إلى الاستسلام حفاظاً على حياته وحياة أبنائه، وقد يتحوّل الجوع إلى سلاح ذو حدين فيحمل أهدافاً معاكسة ضد من يستعمله، وهذا الذي حدث في الدولة الأموية فقد استخدم الحُكم الأموي هذا السلاح ضد تيار المعارضة، فقد منع معاوية عطاء الذين عُرفوا بمعارضتهم للحكم الأموي مِن حجر وأشباهه، فكتب إلى عماله نسخة واحدة في جميع البلدان جاء فيها: انظروا من قامت عليه البينة أنه يحبُّ علياً وأهل بيته فأمحوه مِن الديوان وأسقطوا عطاءه وزرقه(28).

وقد ظنّ الحكم الأموي أنّ هذه الأساليب ستدفع بالأحرار إلى الاستسلام لكن النتيجة تأتي معاكسة تماماً، فقد وقف حجر يُطالب بحقه من والي العراق المغيرة بن شعبة، وقف في المسجد أمام الملأ ليقول وسط الجموع تلك العبارات النارية، أورد الطبري قصة الحادثة قائلاً: "قام المغيرة فقال في عليّ وعثمان كما كان يقول، وكانت مقالته: اللهم ارحم عثمان بن عفان، وتجاوز عنه وأجزه بأحسن عمله فإنه عمل بكتابك واتبع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم. وجمع كلمتنا وحقن دماءنا وقُتل مظلوماً اللهم فارحم أنصاره وأولياءه ومحبيه والطالبين بدمه ويدعو على قتلته، فقام حجر بن عدي فنعر نعرة بالمغيرة سمعها كلّ من كان في المسجد وخارجاً منه، وقال: إنك لا تدري بمن تَوَلُّعُ مِن هرمك أيها الإنسان مُر لنا بأرزاقنا وأعطياتنا فإنك قد حبستها عنا وليس ذلك لك ولم يكُن يطمع في ذلك مَن كان قبلك وقد أصبحت مولعاً بذمِّ أمير المؤمنين وتقريظ المجرمين، قال: فقام معهُ أكثر مِن ثلثي الناس يقولون صدق والله حجر وبَرَّ مُرْ لنا بأرزاقنا وأعطياتنا فإنا لا ننتفع بقولك هذا ولا يجدي علينا شيئاً وأكثروا في مثل هذا القول ونحوه(29). ولم يكن نصيب المناطق الأخرى بأفضل مِن نصيب الكوفة، فهذه المدينة وقفت في قبال واليها عثمان بن محمد الذي جمع أموالاً كانت لمعاوية في المدينة، فقد جاءه نفرٌ من قريش والأنصار فكلمّوه فيها، فقالوا: قد علمت أن هذه الأموال كلها لنا، وأنّ معاوية آثر علينا في عطائنا، ولم يعطنا قط درهماً فما فوقه، حتى مضّنا الزمان، ونالتنا المجاعة، واشتراها منا بجزء من مئة من ثمنها(30).

ومِن أساليب التجويع رفع أسعار المواد الغذائية الرئيسية، إذ عملت السلطة الأموية على رفع سعر الحنطة في المدينة المنورة حتى لا يستطيع شراءها إلاّ القلة مِن الناس هم المترفون إما؛ أهداف هذه السياسة، فإننا وبتأمل قليل في حديث يزيد مع عبد الله بن جعفر نتبين أهداف سياسة التجويع هذه.

يقول عبد الله بن جعفر: "جاء كتاب عثمان بن محمد بعد هدأة مِنَ الليل، قد كنت انصرفت مِن عند يزيد، فلم ألبث أن جاءني رسوله، فدخلتُ عليه والشمعة بين يديه، وهو مغضب قد حسر عن ذراعيه، والكتاب بين يديه فقال: دونك يا أبا جعفر هذا الكتاب، فأقرأه، فرأيت كتاباً قبيحاً، فيه تعريض لأهل المدينة وتحريش، ثم قال: والله لأطأتهم وطأة آتي منها على أنفسهم، قال ابن جعفر: فقلتُ له: إن الله لم يزل يعرف أباك في الرفق خيراً فإن رأيت أن ترفق بهم وتتجاوز عنهم فعلت، فإنما هم أهلك وعشيرتك، وإنما تقتل بهم نفسك إذا قتلتهم، قال: أقتل وأشفي نفسي، فلم أزل ألحّ عليه فيهم، وأرفقه عليهم، وكان في سامعاً ومطيعاً، فقال لي: إنّ أبن الزبير حيث علمت من مكة، وهو زعم أنه قد نصب الحرب، فأنا أبعث إليه الجيوش، وآمر صاحب أولّ جيش أبعثه أن يتخذ المدينة طريقاً، وأن لا يقاتل، فإن أمروا بالطاعة، ونزعوا من غيهم وضلالهم، فلهم عليَّ عهد الله وميثاقه، أن لهم عطاء من كل عام، ما لا أفعله بأحد من الناس طول حياتي، عطاء في الشتاء وعطاء في الصيف، ولهم عليّ عهد أن أجعل الحنطة عندهم كسعر الحنطة عندنا، والحنطة عندهم سبعة آصع بدرهم، والعطاء الذي يذكرون أنه احتبس عنهم في زمان معاوية، فهو عليّ أن أخرجه لهم وافراً كاملاً(31).

مساومة على المبدأ، عطاءان، عطاءٌ في الشتاء، وعطاءٌ في الصيف مقابل الطاعة.

وأيضاً أسعار الحنطة في المدينة تصبح بأسعار الحنطة في الشام أي يُخفَِّ سعرها ليصبح بمقدور الأهالي شراؤها، وهذا النصّ هو أوضح ما ذكر في سياسة التجويع التي مارسها الحكم الأموي.

 

سادساً: شراء الذمة والمواقف بالمال.

عندما منعت السلطات المال عن البعض، بذلت أموالاً طائلة على البعض الآخر لقاء شراء مواقفهم، فالمال الذي مُنع مِن الصرف في حقه صُرف في غير حقه.

وكان معاوية يصرف الأموال الطائلة على شراء الذمم، أو شراء صمت الناس أو لتمشية سياسته الشوفينية.

لما قَتَلَ معاوية حجراً اغتاظ مالك بن هبيرة السكوني وقد اجتمع إليه قومه من كندة والسكون وناس من اليمن كثير وكاد يعلنها ثورة فأبلغ معاوية، فقال لمن حوله: فإنما هي حرارة يجدها في نفسه، وكأنها قد طفئت، ورجع مالك حتى نزل في منزله ولم يأتِ معاوية فأرسل إليه فأبى أن يأتيه، فلما كان الليل بعث إليه بمائة ألف درهم، وقال له: إن أمير المؤمنين لم يمنعهُ أن يشفعك في ابن عمك إلاّ شفقة عليك وعلى أصحابك أن يُعيدوا لكم حرباً أخرى وإن حجر بن عدي لو قد بقي خشيت أن يكلفك وأصحابك الشخوص إليه وأن يكون ذلك مِن البلاء على المسلمين، هو أعظم من قتل حجر فقبلها وطابت نفسه وأقبل إليه من عنده في جموع قومِه حتى دخل عليه ورضي عنه(32).

وكان معاوية إذا أراد أن يستميل أحد البطارقة مِن دولة الروم فاستعصى عليه كتب له رسالة مودة وثناء وأنفذها مع رسولٍ يحمل إليه الهدايا والرشى(33).

وقد برع معاوية في شراء المواقف والأشخاص، فقد اشترى عمرو بن العاص عندما سلّمه ولاية مصر وهذا أمرٌ مشهورٌ ومعروف، وعندما جاءه سعيد بن عثمان بن عفان مستنكراً عليه طلب البيعة ليزيد، وأخذ يناقشه في صلاحية يزيد، لغرض إسكاته وشراء موقفه قال له معاوية بصورة صريحة، ولكن دعني مِن هذا القول، وسلني أعطك، فقال سعيد بن عثمان: يا أمير المؤمنين، لا يعزم يزيد مُزكياً ما دمت له، وما كنتُ لأرضى ببعض حقي دون بعض، فإذا أبيت فأعطني مما أعطاك الله. فقال معاوية: لك خراسان، فقال سعيد: وما خراسان؟ قال: إنها لك طعمة وصلة رحم، فخرج راضياً، وهو يقول أبياتاً شعرية.

وكان معاوية يصرف الأموال الطائلة على شراء المواقف السياسية، فعندما سمع برغبة ملك الروم في الهجوم على بلاد الإسلام فبدلاً مِن أن يستعدّ للجهاد ويقف قبال أطماعه صالحة بمائة ألف دينار(34) وذلك لكي يتفرغ لتصفية المعارضة الداخلية بدلاً من الجهاد.

 

الهوامش:

1- شرح نهج البلاغة: 4/65-73.

2- الطبري: 4/188.

3- أحمد أمين: فجر الإسلام، ص275.

4- ابن أبي الحديد: شروح نهج البلاغة، 21/42.

5- فجر الإسلام: ص275.

6- نصر بن مُزاحم: وقعة صفين، ص26.

7- تاريخ بغداد: 1/259.

8- راجع ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) للشيخ شمس الدين: ص110-112.

9- السيوطي: تاريخ الخلفاء، ص238.

10- تاريخ بغداد: 12/229.

11- الطبري: 9/375.

12- الفصول المختارة: ص216.

13- فصول المرتضى عن الشيخ المفيد أورده التستري في قاموس الرجال مادة (الشعبي).

14- معجم الأدباء: 16/132.

15- الدوري: بحثٌ في نشأة علم التاريخ عند العرب، ص56.

16- الطبري: 4/355.

17- ابن النديم: الفهرست، ص119.

18- ابن قتيبة: المعارف، ص298.

19-20-21- الطبري: 4/313.

22- منهم طه حسين في كتاب علي وبنوه: ص240.

23- الكامل: 3/284.

24- الطبري: 4/107.

25- الطبري: 4/210.

26- اليعقوبي: ص2/232.

27- شرح نهج البلاغة: 11/44.

28- الحسين: الانتفاضات الشيعية، ص246.

29- الطبري: 4/189.

30- الإمامة والسياسة: ص201.

31- الإمامة والسياسة: 1/207.

32- الطبري: 4/208.

33- معاوية في الميزان: ص40.

34- اليعقوبي: 2/217.