mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 29.doc

ثانياً: التحالفات العسكرية.

ربط معاوية بن أبي سفيان نفسه بمجموعة من التحالفات مع القبائل العربية، فكان يدرك منذُ الوهلة الأولى أنّ بقاء سلطانه بحاجة إلى سندٍ قوي لأنه لم يُقم نظام حكمه على مبدأ الشورى، ولم يستمد وجوده من قاعدة إسلامية عريضة، فشرعيته عُرضة للتساؤل والاستنكار لذا اختار الطريق الذي يلتجئ إليه من لا يملك قاعدة شعبية وهو التحالف مع العشائر، فقد تحالف مع ثلاث قبائل عربية مشهورة هي: كلب، فهر، وجذام. وكانت تكوّن هذه القبائل معظم التشكيلات العسكرية في الجيش الأموي، وبعد مرحلة متقدمة من تكوّن الدولة الأموية أخذ معاوية يعتمد على تحالفات أخرى، فتحالف مع قبيلة ثقيف، ولو أردنا أن ندرس خلفية هذه التحالفات لوجدنا أنها قامت على أسس تاريخية وجغرافية.

فجذام هي إحدى القبائل المتحالفة مع قريش في الجاهلية، وهي تقطن منطقة شرق البحر المتوسط حتى تبوك، فمنطقتها تحد الشام من الجنوب فتُشكل حاجزاً بشرياً ضد أي زحف مصدره الحجاز، وبرز من جذام شخصيات سياسية، فكان لها دورٌ في مساندة معاوية في حربه مع الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

ومن هذه الشخصيات (يزيد بن عمر).

أما كلب فهي من العشائر اليمنية التي قطنت الشام وكانت مسيحية حالها حال بقية القبائل العربية التي سكنت الشام، وكان معاوية يتقرب كثيراً من هذه القبيلة فتزوج منها مرتين، تزوج ميسون بنت بُحدْل بن أُنيف الكلبية أم يزيد، وتزوج أيضاً نائلة بنت عُمارة لكنه طلقها بإثارة من ميسون زوجته الأولى، وكانت هذه القبيلة معزولة عن الدولة الإسلامية فلم تتثقف بالثقافة الإسلامية بل ظلت على عاداتها المسيحية بالرغم من إعلانها الإسلام، وهي تقطن بجوار جُذام فتُشكِل هي وجذام طوقاً يحتضن الدولة الأموية، وبرز من شخصيات هذه القبيلة ممن وقف إلى جانب معاوية وآزره عمارِ بن الأحوص.

وأما فهر: وهي من كنانة التي تلتقي هي وقريش عند مالك وهو أب فهر، فقد عمل معاوية على تمتين العلاقة بينه وبين الفهريين فاستطاع أن يُقرِّب كبار الفهريين إلى البلاط الأموي واستخدم رجالها في المهمات الصعبة، وكان الضحاك بن قيس مِن زعماء الفهريين الذين ساهموا مُساهمة كبيرة في توطيد دعائم الدولة الأموية، فالضحاك هو مستشار معاوية والمقرب إليه وقائد الرجالة في معركة صفين، وكان المخطط والمشارك لمعاوية في جميع مؤامراته لتثبيت الحكُم كما وأنه كان وصياً مِن بعده فعندما مات خرج الضحاك بن قيس حتى صعد المنبر وأكفان معاوية بين يديه(1) حيث لم يكن يزيد موجوداً في دمشق فهو الذي مهّد السبيل لتولية يزيد الحُكم من بعد أبيه.

أما الشخصية الثانية الفهرية التي ناصرت الدولة الأموية فهي حبيب بن مسلمة وكان على ميسرة معاوية في صفين أميراً على بعض البلدان، أما الشخصية الثالثة فهي بُسر بن أرطأة الذي بعث به معاوية إلى اليمن لاقتطاعها مِن الدولة الإسلامية في عهد الإمام علي (عليه السلام)، وإلحاقها بالدولة الأموية، وكان واليه على البصرة أيضاً.

وبالإضافة إلى تحالفاته مع القبائل حالف بعض الأشخاص، كالمغيرة بن شعبة وزياد بن أبيه وعمرو بن العاص.

المغيرة بن شعبة: وهو أحد الدهاة الأربعة في العرب، قال قُبيصة بن جابر صحبتُ المغيرة فلو أنّ المدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج مِن باب منها إلاّ بالمكر لخرج المُغيرة مِن أبوابها كلها(2).

وكان في الكوفة في زمن أمير المؤمنين (عليه السلام) ثم جاء الطائف، وكان معاوية ابن أبي سفيان يرغب في إضافته إلى السلطة الأموية لسببين:

الأول: كسب عشيرته والقادة المشهورين في عشيرة ثقيف.

الثاني: لدهائه، فهو كما قال الطبري: كان لا يقع في أمرٍ إلاّ وجد له مخرجاً، وكان معاوية بحاجة إلى مثل هذه النماذج للاستفادة منها في تقوية حكمه الذي كان يعيش أزمة الشرعية في وسط التيارات السياسية القوية، واستطاع المغيرة أن يجد لنفسه موقفاً سياسياً بطريقة الدهاء، فعندما استعمل معاوية بن سفيان عبد الله بن عمرو بن العاص على الكوفة أتاه المغيرة بن شعبة، فقال له: استعملت عبد الله على الكوفة وأباه على مصر فتكون أميراً بين نابي الأسد فعزله عنها، واستعمل المغيرة على الكوفة(3) ومِن ذلك اليوم أصبح اليد اليمنى لمعاوية ومشاوره الذي لا يبخل عليه بالمشورة وهو الذي دبّر له قصة إلحاق زياد بعائلة أبي سفيان ليحقق مكسباً سياسياً آخر لعشيرته.

زياد بن أبيه: وكان معاوية غاضباً على زياد لمواقفه المعادية له أيام أمير المؤمنين (عليه السلام)، فأشار المغيرة على معاوية أن يمدّ جسوره إلى زياد باعتباره: داهية العرب معه أموال فارس يدبِّر الحيل(4) فوافق معاوية على هذا المقترح فأتاه المغيرة وقال له مِن جملة ما قال: "أرني أن تصل حبلك بحبله وتشخص إليه ويقضي الله، وذكر المسعودي أنه قال له: إرمِ بالغرض الأقْصى، ودَعْ عنك الفُضُولَ، فإن هذا الأمر لا يمد إليه أحد يداً إلاّ الحسن بن علي، وقد بايع لمعاوية، فخُذ لنفسك قبل التوطين، فقال زياد: فأشِرْ علي، قال: أرى أن تنقل أصلك إلى أصله، وتَصِلَ حبلك بحبله، وأن تعير الناس منك أُذُناً صَمَّاء، فقال زياد: يا ابن شعبة، أأغرس عوداً في غير منبته ولا مَدَرةَ فتحييه، ولا عِرْقَ فيسقيه؟ ثم إن زياداً عزم على قبول الدعوة وأخذ برأي ابن شعبة(5).

ويحكي لنا ابن الأثير الأسلوب الذي اتبعه معاوية في التقرّب إلى زياد، ورأى معاوية أن يستميل زياداً واستصفى مودته باستلحاقه، وأحَضر الناس وحضر مَن يشهد لزياد، وكان فيمن حضر أبو مريم السلولي، فقال له معاوية: بِمَ تشهد يا أبا مريم؟ فقال: أنا أشهد أنّ أبا سفيان حضر عندي وطلب مني بغياً، فقلتُ له: ليس عندي إلاّ سمية، فقال: إيتني بها على قذرها ووضرها، فأتيته بها، فخلا معها ثم خرجت من عنده وإنّ اسكتيها لتقطران منياً(6).

وقد أعطى لزياد صلاحيات واسعة، فكان واليه على البصرة والكوفة معاً، وظلّ هو وابنه عبيد الله وفيَّين لدولة بني أمية يفعلان كل ما يُطلب منهما.

عمرو بن العاص: ذكر اليعقوبي جانباً من العلاقة الأولى بين عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان، يقول اليعقوبي: "وبعث معاوية مِن ليلته إلى عمرو بن العاص أن يأتيه وكتب إليه، أما بعد، فإنه قد كان مِن أمر عليّ وطلحة والزبير وعائشة ما قد بلغك، فقد سقط إلينا مروان في رافضة أهل البصرة، وقدم عليّ جرير بن عبد الله في بيعة عليّ، وحبستُ نفسي عليك حتى تأتيني، فأقدم على بركة الله تعالى، فلما انتهى الكتاب إليه دعا ابنيه عبد الله ومحمداً، فاستشارهما، فقال له عبد الله: أيها الشيخ إن رسول الله قُبض وهو عنك راضٍ، ومات أبو بكر وعمر وهما منك راضيان، فإنك إن تفسد دينك بدنيا يسيرة تصيّبها مع معاوية، فتضجعان غداً في النار، ثم قال لمحمّد: ما ترى؟ قال: بادر هذا الأمر، فكُن فيه رأساً قبل أن تكون ذنباً وأنشد شعراً فيه حث للإسراع باللحوق بركب معاوية، فلما سمع عبد الله شعره قال: بال الشيخ على عقبيه، وباع دينُه بدنياه فلما أصبح دعا وردان مولاه فقال له: ارحل يا وردان، ثم قال: حطّ يا وردان، فحطّ ورحل ثلاث مرات، فقال وردان: لقد خلطت أبا عبد الله، فإن شئت أخبرك بما في نفسك قال: هات، قال: اعترضت الدُنيا والآخرة على قلبك، فقُلت: عليّ معه آخرة بلا دنيا، ومعاوية معُه دنيا بلا آخرة، وليس في الدُنيا عِوَض مِن الآخرة، فلست تدري أيهما تختار قال: لله درك ما أخطأت مما في نفسي شيئاً، في الرأي يا وردان! قال: الرأي أن تَقُم في منزلك، فإن ظهر أهل الدين عشت في عفو دينهم، وإن ظهر أهل الدُنيا لم يستعن عنك، قال عمرو: الآن، وقد شهرتني العرب بمسيري إلى معاوية، ارحل يا وردان! ثم أنشأ يقول:

يا قاتل الله وَرْدان وفِطنتهُ*****أبدى لَعَمْرُك ما في الصدرِ وَرْدانُ

فقدم على معاوية فذاكره أمره، فقال له: أما عليّ فوالله لا تساوي العرب بينك وبينه في شيء مِن الأشياء، وإنّ له في الحرب لخطأ ما هو لأحد من قُريش إلاّ أن تظلمه. قال: صدقت، ولكنّا نقاتله على ما في أيدينا، ونلزمُه قتل عثمان، قال عمرو: واسوءتاه! إن أحقّ الناس ألاّ يذكر عثمان لا أنا ولا أنت قال: ولِمَ ويحك؟ قال: أما أنت فخذلته ومعك أهل الشام حتى استعان بيزيد بن أسد البجلي فسار إليه، وأما أنا فتركته عياناً وهربت إلى فلسطين، فقال معاوية: دعني مِن هذا مد يدك فبايعني! قال: لا، لعمر الله، لا أعطيك ديني حتى آخذ من دُنياك، قال له معاوية: لك مصر طعمة، ثم قال له: بت عندنا الليلة، وكره أن يُفسد عليه الناس، فبات عمرو وهو يقول:

معاوي لا أعطيك ديني، وَلم أنــلْ*****به منك دُنيا، فانظُرنْ كيف تصــنعُ

فإن تعطي مِصراً فأرْبح بصفقــــــهٍ*****أخَذْتَ بهــــا شيخــــاً يضُرُّ وينــفعُ

وما الدين والدُنيا ســـــواءٌ وإننــــي*****لآخُذُ ما أُعطي ورأســي مُقــــــــَنَعُ

ولكنني أعطــــــيك هذا، وإنــــــني*****لأخدْعُ نفسي، والمُخــادِعُ يُخـــدع

أأعطيك أمْراً منه لـــــلمُلْك قـــــوةٌ*****وأبقى لَهُ، إنْ زلّـــتٍ النعل أُخدعُ

وإنّ تــــــرى القنوعِ يومـــــاً لمُـولَعُ*****وتمنعني مِصــراً، وليستْ برغبـــــةٍ

فكتب له بمصر شرطاً، وأشهد له شهوداً، وختم الشرط وبايعه عمرو وتعاهدا على الوفاء(7).

وحاول أن يجرّب مع غير عمرو بن العاص، ففشل مع البعض ونجح مع البعض الآخر، ومِن الذين انهزم أمام صموده قيس بن سعد الذي ظلّ وفياً لأمير المؤمنين حتى آخر لحظة من حياته.

وكان لهذه التحالفات أثراً كبيراً على قيام الدولة الأموية واستمرارها حتى عهد يزيد بن معاوية، الذي استفاد كثيراً مِن تلك التحالفات وواصل الطريق الذي بدأهُ معاوية في إيجاد أقوى الروابط الدبلوماسية مع القبائل العربية، ومع الشخصيات المعروفة مقابل الإغراءات المالية الواسعة.

 

ثالثاً: منطق القوة.

تمكن معاوية وخلال الفترة الطويلة من ولايته على الشام أن يؤسس قوة عسكرية منظمة وتحت إمرة قادة عسكريين متمرسين مستفيداً من الظروف الجغرافية والاقتصادية فإنعزال الشام عن مناطق التوتر والفتن في العالم الإسلامي، والثروات الهائلة التي كانت في خزينة الشام، وإلحاق مناطق وسيعة وجعلها تحت إمرته، كلها من العوامل المؤثرة في القوة العسكرية التي أنشأها معاوية، وبإضافة جند فلسطين وحمص والأردن إلى جند الشام أصبحت لديه قوة عسكرية كبيرة قادرة على خوض أية معركة وتحقيق الانتصار العسكري فيها، وهذا ما أضاف لمعاوية غروراً على غروره، وجعله يتحين الفُرص لإثبات مقدرته العسكرية وانتهاز الفرص لافتعال الأزمات التي كانت تؤدي إلى المواجهة العسكرية.

فشوقُهُ إلى الحرب هو الذي جعله يفتعل أزمة مع الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام) دافعاً بقواته إلى المواجهة السافرة مع جند العراق.

فما أن سَمع بأن المسلمين بايعوا أمير المؤمنين (عليه السلام) حتى بدأ يخطط للحرب، فأول خطوة قام بها هي تعبئة أهل الشام للحرب "فقد جمع الناس وصعد المنبر ونشر عليهم القميص، وذكر ما صنعوا بعثمان، فبكى الناس وشهقوا حتى كادت نفوسهم أن تزهق، ثم دعاهم إلى الطلب بدمه(8).

وفي الخطوة الثانية أخذ يبعث بالرسائل إلى المُدن والأمصار إلى عامة الناس، وإلى الشخصيات يطالبهم بمساعدته وتأييده في إعلان الحرب ضد أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأخذت مؤشرات التصعيد تتلاحق مِن قبل معاوية فعندما بعث إليه أمير المؤمنين يطالبه فيها البيعة، كما بايعُه الناس، أرسل إليه جواباً مكتفياً بعبارة: بسم الله الرحمن الرحيم(9). فعرف الإمام أنه يُريد الحرب، وكان معاوية قد بعث بهذه الرسالة مع رسولٍ مستفزِّ متشنج أثار الأوضاع وساهم بدوره في بث بذور الحرب، جاء هذا الرسول ووقف بين أهل الكوفة قائلاً: إني أحلف بالله لقد خلفتُ بالشام خمسين ألف شيخ، خاضبين لحاهم مِن دموع أعينهم تحت قميص عثمان، رافعيه على الرماح مخضوباً بدمائه، وقد أعطوا الله عهداً أن لا يغمدوا سيوفهم ولا يغمضوا جفونهم حتى يقتلوا قتلة عثمان، يوصي به الميت الحيّ، ويرثه الحي مِن الميت، وأحلف بالله ليأتينكم مِن خضر الخيل اثنا عشر ألفاً، فانظروا كم الشهب وغيرها، فقال عليّ: ما يريدون بذلك؟ قال: يريدون بذلك خبط رقبتك(10).

وكانت خطبة هذا الرسول القيسي حلقة من حلقات التصعيد التي قام بها معاوية فكانت بمثابة إعلان الحرب مِن قبل معاوية ضد أمير المؤمنين، وظلّ معاوية يغتر بسطوته مستخدماً أسلوب التهديد باستخدام القوة كلما دعت الحاجة إلى ذلك، فقد كتب إلى عبد الله بن عباس عندما رفض بيعة يزيد: "أما بعد فقد بلغني إبطاؤك عن البيعة ليزيد ابن أمير المؤمنين، وإني لو قتلتك بعثمان لكان ذلك إليّ لأنك ممن ألبّ عليه وأجلب عليه(11).

وكتب إلى عبد الله بن جعفر: "وقد أتاني عنك ما أكره، فإن بايعت تُشكر، وأن تأت تُجبر والسلام(12).

وكتب إلى ابن الزبير شعراً:

وإني لأخشى أن أنالك بالذي أردت فيجري إليه مَن كان أظلمه(13).

وقد غلب منطق القوة على منطق الاحتجاج والدليل، فكان عاجزاً عن الرد إلاّ بلسانٍ يمتلئ بالتهديد.

دخل عليه صعصعة بن صوحان، فقال له معاوية يهددهُ: ما أحوجَك إلى أن أذيقك وبال أمرك، قال: ليس ذلك بيدك، ذلك بيد الذي لا يؤخر نفساً إذا جاء أجلها، قال: ومن يحول بيني وبينك؟ قال: الذي يحول بين المرء وقلبه، قال معاوية: أتسع بطنك للكلام كما أتسع بطن البعير للشعير، قال: اتسع بطن مَنْ لا يشبع، ودعا عليه من لا يجمع(14).

وقد أقرّ ابن الكّواء أمامه بجبروته وطغيانه وذلك عندما سأله هو وجمع من قريش أيّ الخلفاء رأيتموني؟ فقال ابن الكّواء: "لولا أنك عزمت علينا ما قلنا لأنك جبار عنيد، لا تراقب الله في قتل الأخيار(15).

واصطبغ الحكم الأموي بهذه الصبغة فنقل هذا المنطق إلى ولاته وكبار موظفيه، فعندما أراد معاوية مبايعة الناس ليزيد اختلفوا حوله، فقام أحد المتزلفين وهو أبو خنيف فقال لمعاوية: يا أمير المؤمنين إنا لا نطيق ألسنة مضر، وخطبها أنت يا أمير المؤمنين، فإن هلكت فيزيد بعدك، فمن أبى فهذا، وسلّ سيفه، فقال معاوية: أنت أخطب القوم وأكرمهم(16).

فالتهديد باستخدام القوة هو منهج عند معاوية، ففي لقائه مع زعماء أهل المدينة في أيام عثمان وفيهم أمير المؤمنين (عليه السلام) والكثير من الصحابة قال معاوية في خطبته: أوصيكم بشيخي هذا خيراً، فوالله لئن قتل بين أظهركم لأملأها عليكم خيلاً ورجالاً(17).

وقد وجدت الدولة الأموية نفسها مضطرة إلى الأخذ بهذا المنطق لأنها تفتقر إلى المنطق السليم وإلى الدليل الواضح، وهذه عادة الدول التي تفتقر إلى المنطق فتلتجئ إلى أسلوب القوة والتهديد، بل وتستخدم هذا الأسلوب كلما دعت الحاجة إلى ذلك لإثبات شرعيتها، وشرعيتها هي شرعة الغاب، وليس ما أنزله الله على رسوله.

 

رابعاً: الإبقاء على النُظم البيزنطية.

أقام معاوية الدولة الأموية على أرض الشام التي كانت خاضعة لنفوذ الروم البيزنطيين الذين كانوا يتصفون بقدرٍ كبير من التنظيم في إدارة شؤون البلاد، وقد حاول معاوية أن يُبقي الوضع الإداري على حاله دون تغيير خصوصاً الإدارة المالية، فقد أوكلت إلى القائمين بها أيام الدولة البيزنطية وعلى رأسهم سرجون بن منصور ثم ابنه منصور بن سرجون، ووكّل إدارة الكتابة إلى عبد الله بن أوس الغساني مِن وجوه الغساسنة أصحاب الحلف القديم في الشام(18).

ويؤكد اليعقوبي على هذه الحقيقة قائلاً: واستكتب النصارى(19).

وظلّ معاوية على علاقة طيبة مع ملك البيزنطة، يبعث إليه بالهدايا ويستقبل منه الهدايا، واستطاع وعبر هذه الهدايا بأن يفرض على ملك الروم اتخاذ سياسة الحياد، "ذكروا أن معاوية قال لعمرو بن العاص: يا أبا عبد الله، طرقتني في ليلتي هذه ثلاثة أخبار، ليس لي فيها ورد ولا صدر، منها أن ابن أبي حذيفة كسر سجن مصر، ومنها أن قيصر زحف بجماعة الروم ليغلب على الشام، ومنها أنّ علياً قد تهيأ للجيش إلينا، فما عندك؟ قال عمرو: كل هذا عظيم؛ أما ابن حذيفة فخرج في أشباهه مِن الناس، فإن تبعث إليه رجلاً يقتلهُ، وإن يُقتل فلا يضرك؛ وأما قيصر فأهد له فوالله إنّ له في الحرب لحظاً ما هو لأحدٍ من الناس(20). وقد اعتبر المستشرقون الذين كتبوا عن الدولة الأموية علاقته مع الدولة البيزنطية نمطاً من الإصلاح والتقدم، يقول هنري مارسيه: "وكان أول إصلاحٍ هام جداً قام به معاوية هو أنه نقل عاصمته من المدينة إلى دمشق، حيث كان في مدة ولايته الطويلة على احتكاك بالإدارة البيزنطية وقد استبقى منها تجربة السلطة(21).

فموقف معاوية من الروم هو موقف المسالم الذي لا يرى مبرراً للحرب معه، يذكر اليعقوبي: "ورجع معاوية إلى الشام سنة 41هـ، وبلغهُ أن طاغية الروم قد زحف في جموع كثيرة وخلق عظيم، فخاف أن يشغله عما يحتاج إلى تدبيره وأحكامه، فوجّه إليه مصالحه على مائة ألف دينار، وكان معاوية أول من صالح الروم(22).

يقول يوليوس فلهوزن: "ويتكلم ثيوفانيس عن رعاية معاوية للنصارى وقد برهن عليها معاوية بأن بنى لأهل الرما كنيستهم التي هدّمها الزلازل، وكان سرجون بن منصور من أكبر مستشاريه نفوذاً، وقد أورثه ابنه يزيد، وكان سرجون نصرانياً(23).

وكان الإبقاء على النُظم الإدارية والمالية التي كانت على عهد الروم البيزنطيين عاملاً مهماً في استقرار الدولة الأموية حيث لم يحدث التحوّل في الهياكل الإدارية عندما استلم المسلمون هذه البلاد.

 

المبحث الثالث: السياسيات العامة وأساليب الحُكم

كان هدف الحكم الأموي هو استلام السلطة وتحويل الخلافة الإسلامية إلى ملوكية، يقول جُرجي زيدان: "إن المحور الذي كانت تدور عليه سياسة بني أمية، والغرض الذي كانوا يرمون إليه، إنما هو إحراز الخلافة والرجوع إلى السيادة التي كانت لهم في الجاهلية(24). لذا وجدناهم لم يتبعوا الأساليب المنطقية التي جاء بها الإسلام في إدارة الحُكم، بل شذّ بنو أمية عمن سبقوهم في إدارة البلاد الإسلامية بإتباع أساليب غير إسلامية، والأصح بأساليب الحكومات التي كانت قائمة في ذلك العهد كالحكومة البيزنطية والحكومة الفارسية، ويعود السبب في هذا التحوّل إلى أنّ الحْكم أصبح هو الهدف بعد أن كان وسيلة، لقد جعل بنو أمية الإسلام في خدمة الحُكم بعد أن كان الحكم في خدمة الإسلام، وهذا هو الفارق الكبير بين حكومة أمير المؤمنين (عليه السلام) والحكم الأموي(25).

فلقد كان المنهج الذي اختاره معاوية ومَن جاء مِن بعده قائماً على قاعدة الغاية تبرر الوسيلة ويبدو هذا الأمر جلياً في كلامه عندما خطب في أهل الكوفة قائلاً لهم: "أترونني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج؟ وقد علمتُ أنكم تصلون وتزكّون وتحجون، ولكني قاتلتكم لا تأمّر عليكم واليَّ رقابكم" وعلى هذا فلا بُدّ من وقفة مع هذه الأساليب التي نُفذت في عهد معاوية ويزيد نستعرض خلالها بعض المطالب:

 

أولاً: سياسة التهجير والتغيير البيوغرافي.

فمن أساليب السلطات الجائرة التي تُريد الإمساك بزمام الأمور، هو إحداث تغيير سكاني في مجتمع المدينة، ولإزالة النسق الاجتماعي الذي تعيشه المجتمعات المتداخلة والمترابطة بالمصالح والوشائج المتنوعة.

إنّ وجود مجتمع متوحد منظّم مترابط الأجزاء يُشكِّل خطراً دائماً على الحكومات المستبدة لذا تسعى هذه الحكومات إلى تحطيم وحدة المجتمع وتمزيق نسيجه المنظّم مِن خلال سياسة التهجير، وقد مارس معاوية هذه السياسة خلال الفترة الطويلة من حكمه "فنقل إلى الشام طوائف الزط والسيابجة مِن البصرة، ونقل إلى الأردن وصور طوائف من الفُرس والموالي، ونقل إلى إنطاكية أساورة الموانئ بالعراق وخلط العرب بالعجم وهؤلاء بسلالة الشاميين(26).

وقام زياد بتهجير أعداد كبيرة من شيعة الكوفة إلى خراسان وكان عددهم 50 ألفاً(27).

 

ثانياً: تزوير الأحاديث والأخبار.

برع معاوية في صناعة الأحاديث، فقد ندب عدداً من رواة الأحاديث للقيام بهذه المهمة ومنحهم عطايا كثيرة، يقول ابن أبي الحديد: "إن معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في عليّ (عليه السلام)، تقتضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل لهم على ذلك جُعلاً يُرغَبُ في مثله؛ فاختلقوا ما أرضاه، منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عروة بن الزبير.

ثم ذكر حديثاً لكل واحد من هؤلاء.

روى الزهري: إنّ عروة بن الزبير حدثه، قال: حدثتني عائشة، قالت: كنتُ عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ أقبل العباس وعليّ، فقال: يا عائشة، إنّ هذين يموتان على غير ملتي أو قال: ديني! وأما عمرو بن العاص، فروى عنه الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما مسنداً متصلاً بعمرو بن العاص، قال: سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إنّ آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء، إنما وليِّ الله وصالح المؤمنين.

وأما أبو هريرة، فروى عنه الحديث الذي معناه أن علياً (عليه السلام) خطب ابنة أبي جهل في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأسخطه، فخطب على المنبر، وقال: لا والله! لا تجتمع ابنة وليّ الله وابنة عدو الله أبي جهل، إنّ فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها؛ فإن كان عليّ يُريد ابنة أبي جهل فليفارق ابنتي وليفعل ما يُريد، أو كلاماً هذا معناه. والحديث مشهور من رواية الكراييسي، ولشياع هذا الخبر وانتشاره ذكره مروان بن أبي حفصة في قصيدة يمدحُ بها الرشيد، ويذكر فيها ولد فاطمة (عليهم السلام) ويُنحي عليهم، ويذمّهم، وقد بالغ حين ذمّ علياً (عليه السلام) جاء فيها:

عليٌ أبوكــمْ كان أفضل منكـــــمُ*****أباه ذوو الشـورى وكانوا ذوي الفضـلِ

وساء رسول الله إذ ساء بنتـــــــه*****بخــطبتــه بنت الـــــلعين أبـــــي جهــــلِ

فذمَّ رسول الله صــهر أبيكـــــــمُ*****على منبــــــرٍ بالمــــنطق الصادع الفصْلِ

وذكر عن أبي هريرة أيضاً، لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة ما جاء إلى مسجد الكوفة، فلما رأى كثرة من استقبله مِنَ الناس جثا على ركبتيه، ثم ضرب صلعته مراراً، وقال: يا أهل العراق، أتزعمون أني أكذب على الله وعلى رسوله، وأحرق نفسي بالنار! والله لقد سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: "إني لكل نبيٍ حَرَماً، وإنّ حَرَمي بالمدينة، ما بين عَيْر إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" وأشهدُ بالله أن علياً أحدث فيها؛ فلما بلغ معاوية قوله أجازه وأكرمه وولاه إمارة المدينة.

ثم يذكر أن معاوية بَذَل لسمرة بن جُندب مائة ألف درهم حتى يروي أنّ هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ô وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ] (سورة البقرة/204-250).

وإن الآية الثانية نزلت في ابن ملجم وهي قوله تعالى: [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاةِ اللهِ] (سورة البقرة/207) فلم يقبل، فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبله، فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل، فبذل له أربعمائة ألف فقبل، وروى ذلك وذكر: وقد صحّ أن بني أمية منعوا مِن إظهار فضائل علي (عليه السلام) وعاقبوا ذلك الراوي له، حتى إنّ الرجل إذا روى عنه حديثاً لا يتعلق بفضلهِ بل بشرائع الدين لا يتجاسر على ذكر اسمه؛ فيقول: عن أبي زينب.

 

 

الهوامش:

1- الكامل في التاريخ: 4/8.

2- الإصابة في تمييز الصحابة: 62/132.

3- الكامل في التاريخ: 3/413.

4- المصدر نفسه: 3/422.

5- مروج الذهب: 3/16.

6- الكامل في التاريخ: 3/444.

7- تاريخ اليعقوبي: 2/186.

8- الإمامة والسياسة: ص80.

9- المصدر نفسه: ص83.

10- الإمامة والسياسة: ص84.

11- المصدر نفسه: ص78.

12-13- المصدر نفسه: ص179.

14- المسعودي: مروج الذهب، 3/52.

15- المصدر نفسه: 3/50.

16- الإمامة والسياسة: 1/171.

17- المصدر نفسه: 1/28.

18- العقاد: معاوية في الميزان، ص122.

19- اليعقوبي: 2/232.

20- الإمامة والسياسة: 1/98.

21- الإسلام: ص67.

22- اليعقوبي: 1/217.

23- تاريخ الدولة العربية ليوليوس فلهوزن: ص128، القاهرة، 1958م.

24- تاريخ التمدن الإسلامي: 4/336.

25- راجع دولة الإمام علي للمؤلف ففيه مقارنة بين حكومة أمير المؤمنين (عليه السلام) وحكومة بني أمية.

26- العقاد: معاوية في الميزان، ص127.

27- بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية، 1/128.