mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 28.doc

ثالثاً: الحق الإلهي.

انتقلت نظرية الحق الإلهي إلى المسلمين عبر الفُرس بعد اختلاطهم بهم في أعقاب الفتح الإسلامي، "فقد كان الفُرس ينظرون إلى ملوكهم كأنهم كائنات إلهية اصطفاهم الله للحُكم بين الناس، وخصَّهم بالسيادة وأيدهم بروحٍ من عنده، فهم ظلّ الله في أرضه أقامهم على مصالح عباده، وليس للناس قبلهم حقوق، وللمك على الناس السمع والطاعة وهو معنى شبيه ما عُرف في أوروبا بنظرية الحق الإلهي Divineright التي سادت في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وقد كان الأكاسرة يزعمون أنّ لهم الحق وحدهم أن يلبسوا تاج الملك بما يجري في عروقهم من دمٍ إلهي"(1).

وقد انتقلت هذه النظرية إلى المسلمين بعد اختلاط الثقافتين الإسلامية بالفارسية، وكان أول نصٍ في الفكر السياسي الإسلامي مستمدٌ من نظرية الحق الإلهي هو ما كتبه عثمان بن عفان إلى معاوية بن أبي سفيان وهو واليه على الشام، جاء في هذه الرسالة: أما بعدُ، فإني في قومٍ طال فيهم مقامي واستعجلوا القدر فيّ، وقد خيروني بني أن يحملوني على شارف مِن الإبل الدحيل، وبين أنزع لهم رداء الله الذي كساني، وبين أن أقيدهم ممن قتلت"(2).

وكانت تلك الفترة عابرة، لكنها انتقلت إلى معاوية ثم تحولت إلى نظرية على أيدي أركان الحكم الأموي عندما أرادوا تنصيب يزيد وإزاحة الإمام الحسن عن هذا المنصب وكان أول من أشار إلى هذه النظرية في العهد الأموي هو الضحاك بن قيس الفهري أحد أهم أركان النظام الأموي، وهو من كبار مستشاري معاوية ومن أبرز قادته العسكريين، ولد قبل وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بسبع سنين، وكان على شرطة معاوية وله في الحروب معه بلاءٌ عظيم، استعمله معاوية على الكوفة بعد زياد، ولما مات معاوية صلى عليه وضبط البلد حتى قدم يزيد وغلب مروان بن الحكم على بعض الشام فقاتله بمرج راهط عند دمشق فقُتل الضحاك بالمرج"(3).

وجاءت إشارة الضحاك في المناقشات التي دارت حول مبايعة يزيد خلفاً لمعاوية قال الضحاك: ما للحسن وذوي الحسن في سلطان الله الذي استخلف معاوية في أرضه؟ هيهات لا تورث الخلافة عن كلالة ويحجب غير الذكر العصبة"(4).

وجاء قوله هذا في معرض رده على أصحاب نظرية الإمامة القائلين بالنص والذين يعتقدون بإمامة أمير المؤمنين ومنه انتقلت إلى الإمام الحسن، لقد حاول الضحاك أن يأتي بنظرية أقوى من نظرية النص، فإذا كان الإمام يُعينه الإمام الذي قبله، فإنّ معاوية وعلى حدّ قول الضحاك هو معينٌ من قبل الله مباشرة وليس عبر الأشخاص، وهذا يرد على القائلين بأن نظرية النص جاءت كرد فعلٍ لنظرية الحق الإلهي الذي اعتقد بها بنو أمية(5) فعكس ذلك هو الصحيح حيث أتى بنو أمية بنظريتهم للقول بأنهم أحق بالخلافة من الحسن وأولاد الحسن كرد فعل لنظرية النص.

أخذ معاوية بهذه النظرية، وأخذ يُروِّج لها في الأوساط السياسية ويحتج بها أمام الآخرين، فعندما جاء سعيد بن عثمان بن عفان معترضاً على مبايعة يزيد، جاء إلى معاوية قائلاً: علامَ تُبايع ليزيد وتتركني؟ فو الله لتعلم أنّ أبي خيرٌ من أبيه وأمي خيرٌ من أمه، وأنا خيرٌ منه وإنك إنما نلت ما أنت فيه بأبي، فضحك معاوية وقال: يابن أخي أما قولك: إنّ أباك خيرٌ من أبيه، فيوم من عثمان خيرٌ من معاوية، وأما قولك: إن أمك خيرٌ من أمه، ففضل قرشيه على كلبية فضلٌ بيّن، وأما أن أكون نلت ما أنا فيه بأبيك، فإنما هو المُلك يؤتيه الله من يشاء"(6).

وقال لوفدٍ جاءه من العراق: الأرض لله وأنا خليفة الله فما أخذت فلي وما تركته للناس فيا لفضل مني ... إنه لملك أتانا الله إياه"(7).

وأخذ يزيد يتحدّث بهذه النظرية أيضاً فقد خطب بعد وفاة معاوية: إن معاوية بن أبي سفيان كان عبداً من عبيد الله أكرمه الله واستخلفه وخوّله ومكّن له وقد قلدنا الله عز وجل ما كان إليه"(8) ثم إنه كتب إلى خالد بن الحكم واليه على المدينة: أما بعد فإنّ معاوية بن أبي سفيان كان عبداً استخلصه الله على العباد، ومكّن له في البلاد، وكان من حادث قضاء الله جلّ ثناؤه وتقدست أسماؤه فيه ما سبق في الأولين والآخرين لم يدفع عنه ملك مقرب ولا نبي مُرسل فعاش حميداً ومات سعيداً وقد قلدنا الله عز وجل ما كان إليه، فيالها من مصيبة ما أجلها"(9) ثم أخذ رجال الحكم يروجون لولاية يزيد بن معاوية من خلال هذا المفهوم، قال رباع بن زنباع الجذامي لأهل المدينة حين أبطأوا عن بيعة يزيد: إنّا لا ندعوكم إلى لخم وجذام وكلب، ولكن ندعوكم إلى قريش، ومن جعل الله له هذا الأمر واختصه به وهو يزيد بن معاوية"(10).

وقد مُورست هذه النظرية بصورة استبدادية ضد المعارضة، فاعتبروا كلُّ مخالفٍ هو خارج على الشريعة الإسلامية، ففي كتاب مسلم بن عقبة إلى يزيد بعد المذبحة التي ارتكبها في المدينة المنورة في واقعة الحرّة جاء فيها: "وأرجو من الله عز وجل أن يلهم خليفته وعبده عرفان ما أولى من الصنع وأسدى من الفضل، وكان أكرم الله أمير المؤمنين من محمود مقام مروان بن الحكم، وجميل مشهده وسديد بأسه وعظيم نكايته لعدو أمير المؤمنين، مالا أخال ذلك ضائعاً عند إمام المسلمين، وخليفة رب العالمين إن شاء الله، وسلم الله رجال أمير المؤمنين"(11).

والذين بقوا أحياء أُجبروا على البيعة ليزيد سيما رؤساء المدينة فذكر المؤرخون أنه جيء بيزيد بن عبد الله بن زمعة إلى مسلم بن عقبة فلما تقدم يزيد قال له مسلم: تُبايع لعبد الله يزيد بن أمير المؤمنين على أنكم خولٌ له، فما أفاء الله عليه بأسياف المسلمين، إن شاء وهب، وإن شاء أعتق، وإن شاء استرق"(12).

وامتدت يد يزيد بن معاوية على حياة الإمام الحسين (عليه السلام) تحت ذريعة هذا الحق المزيف الذي أعطاه لنفسه، فقد ذكر الطبري قولاً ليزيد بن معاوية عند الإتيان برأس الإمام الحسين (عليه السلام) وهو في جمع من أصحابه قال: أتدرون من أين أتى هذا {يعني شهادته وما وصل إليه أمر الإمام الحسين (عليه السلام)} قال {يعني الإمام الحسين (عليه السلام)}: أبي خيرٌ من أبيه، وأمي فاطمة خيرٌ من أمه، وجدي رسول الله خيرٌ من جده، وأنا خيرٌ منه وأحق بهذا الأمر منه، فأما قوله أبوه خيرٌ من أبي: فقد حاجَ أبي أباه وعلم الناس أيهما حُكم له، وأمّا قوله أمي خيرٌ من أمه فلعمري فاطمةٌ ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيرٌ من أمي، وأما قوله جديّ خيرٌ من جده، فلعمري ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر يرى لرسول الله فينا عدلاً ولا نداً، ولكنهُ إنما أتى من قبل فقهه ولم يقرأ [قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (13) ، وهو يقصد بذلك أنّ السلطة حقٌ من الله وصلت إليه ولم تصل إلى الحسين (عليه السلام)، وقال لابن الحنفية عند مجيئه إلى الشام: ولم يكن يجب على أخيك أن ينازعنا في أمر خصنا الله به دون غيرنا(14) وبهذه المقولة المقتضبة يُلخصّ يزيد نظريته في الجبر والحق الإلهي، فهو يُريد أن يقول أنّ كل ما حدث كان مكتوباً ولا خيار لأحد في نقضه، وأن ما وصل إليه من خلافة وزعامه هو حقٌ جاءه من الله.

وقد واجه الأئمة(عليهم السلام) هذه التيارات مواجهة حاسمة لا هوادة فيها، خصوصاً تيار المرجئة لأنه يسوّغ ممارسة أي عمل مخالفٍ للشرع وترك الأمر إلى الله سبحانه وتعالى، ولأنّ لهذا التيار انتشارٌ واسع في الوسط الإسلامي.

ومما ذُكر في مواجهة الأئمة لهذا التيار قول الإمام الصادق (عليه السلام) ومطالبته الآباء عدم السماح لتسرب هذه الأفكار إلى أبنائهم موصيّاً إياهم: "بادروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة"(15) ويبدو أنّ تيار المرجئة كان موضة العصر في ذلك الوقت وقد جنّد الشباب لأنه يعطيهم الحرية الكافية في فعل ما يشاؤون دون خوفٍ من عقاب ودون رادع بدعوى أن الله سيغفر لهم عملهم في نهاية الأمر.

المبحث الثاني: قواعد الدولة الأموية

قامت الدولة الأموية على قواعد تعودُ في جذورها إلى بنية الكيان القرشي، وهذه القواعد هي:

1- العصبية القبلية.

2- القوة العسكرية.

3- التحالفات العسكرية.

4- الأخذ بالنظم البيزنطية في الإدارة.

وفيما يلي نستعرض هذه القواعد:

أولاً: العصبية.

استطاع معاوية وحزبه الأموي أن يستبدَّل الروابط الدينية بالعصبية القرشية وللعرب وللبيت السفياني وذلك لشدِّ أزر المجموعة الحاكمة، فلم تكن الروح العصبية مجرد اندفاع عاطفي وحسب، بل هي نهج وسياسة مارسها الحكم الأموي لإيجاد آصرة عاطفية تستطيع أن تكوّن عصبة متماسكة قابضة على السلطة بيد حديدية.

وقد أفصح رموز الحكم الأموي عن هذه النزعة في كل مناسبة تتطلب إثارة الحماس أو تقوية روح الانتماء إلى إحدى الأُطر الثلاثة وهي: إطار البيت الأموي، وإطار قبيلة قُريش وإطار العرب. أو عند الاستهانة بالآخرين، ففي لقاءٍ ساخن جرى بين معاوية والمجموعة المعارضة لحكم عثمان التي تم نفيها إلى الشام، كان معاوية قد أنزلهم كنيسة مريم فقال لهم يوماً: "إنكم قومٌ من العرب لكم أسنان وألسنة، وقد أدركتم بالإسلام شرفاً وغُلبتم الأمم وحويتم مواريثهم، وقد بلغني أنكّم نقمتم قُريشاً، ولو لم تكن قريش منكم أذلّة، إنّ أئمتكم لكن جُنة فلا تفترقوا عن جُنّتكم، وإن أئمتكم يصبرون لكم على الجور، ويحتملون منكم المؤونة، والله لتنتهُنّ أو ليبتلينكم الله من يسومكم السوء، ولا يحمدكم على الصبر ثمّ تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرعية في حياتكم، وبعد وفاتكم.

فقال رجل منهم، وهو صعصعة: أمّأ ما ذكرت من قُريش فإنها لم تكُن أكثر العرب ولا أمنعها في الجاهلية فتخوّفنا، وأمّا ما ذكرت من الجُنة فإنّ الجُنة إذا اختُرقت خُلص إلينا.

فقال معاوية: عرفتكم الآن وعلمتُ أنّ الذي أغراكم على هذا قلّة العقول، وأنت خطيبهم ولا أرى لك عقلاً، أُعظِّم عليك أمر الإسلام، وتذكرِّني بالجاهلية! أخزى الله قوماً عظمَّوا أمركم! أعني افقهوا، ولا أظنكم تفقهون، إن قريشاً لم تعزّ في جاهلية ولا إسلام إلا بالله تعالى ما لم تكن بأكثر العرب ولا أشدّهم، ولكنهم كانوا أكرمهم أحساباً، وأمحضهم أنساباً، وأكملهم مروءة، ولم يمتنعوا في الجاهلية، والناس يأكل بعضهم بعضاً، إلاّ بالله، فبوّأهم حرماً آمناً يُتخطف الناسُ من حولهم هل تعرفون عربياً أو عجمياً أو أسود أو أحمر إلاّ وقد أصابه الدهرُ في بدله وحرمته إلا ما كان من قريش فإنهم لم يردهم أحدٌ من الناس بكيد إلا جعل الله خدّه الأسفل، حتى أراد الله أن يستنقذ من أكرم واتبع دينه من هوان الدنيا وسوء مردّ الآخرة، فارتضى لذلك خير خلقه ثم ارتضى له أصحاباً فكان خيارهم قريشاً، ثم بنى هذا الملك عليهم وجعل هذه الخلافة فيهم فلا يصلح ذلك إلاّ عليهم، فكان الله يحوطهم في الجاهلية وهم على كفرهم، أفتراه لا يحوطهم وهم على دينه؟ أفّ لك ولأصحابك!

أمّا أنت يا صعصعة فإن قريتك شرّ القرى! أنتنها بيتاً، وأعمقها وادياً، وأعرفها بالشرّ، وألأمها جيراناً! لم يسكنها شريفٌ قط ولا وضيعٌ إلاّ سُبّ بها، ثم كانوا أَلْئَم العرب ألقاباً وأصهاراً، نزّاع الأمم، وأنتم جيران الخط، وفَعَلة فارس، حتى أصابتكم دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لم تسكن البحرين فتشركهم في دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنت شرّ قومك، إذا أبرزك الإسلام وخلطك بالناس أقبلت تبغي دين الله عِوَجاً، وتنزع إلى الذّلة، ولا يضرّ ذلك قُريشاً، ولا يضعهم ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم، إنّ الشيطان عنكم غير غافل، قد عرفكم بالشر فأغرى بكم الناس، وهو صار معكم، ولا تدركون بالشر أمراً أبداً إلاّ بفتح الله عليكم شراً منه أخزى"(16).

نجد في هذا الحوار (أموية) تقطرُّ بالتعصب، وهي أموية بغيضة لأنها تحتقر غير العرب وغير قريش وغير البيت الأموي. فكُل الفضائل لقريش، وأنّ الإسلام لم يزد عليها شرفاً، حباها الله بالعزة والشرف، وهذا ما جاء في كلام معاوية، فلا مكان للإسلام في كلامه، فكلُّ الكلام عن قُريش، لا يضرّ ذلك قريشاً الملك لقُريش، وحتى  الله هو لقريش!!؟ وهذا بالضبط ما تقوله اليهودية عن أنفسهم بأنهم شعب الله المختار.

وإذا ما تعقبنا أسباب معارضة هؤلاء النفر لعرفنا أن نعرتهم للعصبية، ورفضهم الانصياع لهذه النعرة هو السبب في كل ما حدث، فقد كانوا جالسين عند سعيد بن العاص (الأموي) يتسامرون معهم إذ قال لهم سعيد: "إنما هو السواد بُستان قُريش، ويقصد بالسواد أرض العراق، فقال له الأشتر: أتزعم أن السواد الذي أفاءه الله علينا بأسيافنا بُستان لك ولقومك"(17).

وكانت هذه المُشادة هي الشرارة الأولى في حركة المعارضة ضد عثمان، والتي انتهت إلى تلك الثورة العارمة التي أدّت في النهاية إلى مقتل عثمان ابن عفان.

أما تعصّب معاوية لأبيه أبي سفيان وافتخاره به فهو جزءٌ من تلك الروح العصبية التي تغلي في نفس معاوية، وقد قال لذلك النفر من المعارضين القرشيين: "وقد عرفت قريش بأن أبا سفيان كان أكرمها وابن أكرمها"(18) ومن فرط تعصبه سمح لنفسه لأن تقول في النهاية: وإني لأظن أن أبا سفيان لو ولد الناس لم يلد إلاّ حازماً"(19).

فقريش هي القبيلة المفضلة على بقية القبائل فهي إذن تستحق أن تكون فيها الخلافة والملوكية، هذا هو منطق معاوية، قد انسحب هذا المنطق حتى إلى النساء، فقد قال يوماً لسعيد بن عثمان بن عفان: "وأما فضل أمك على أمه {يزيد} فلعمري امرأة من قريش خيرٌ من امرأة من كلب"(20).

وهذه هي العصبية التي أحياها معاوية بعد أن أقبرها الإسلام، فكان من أكثر المتحمسين لفكرة العروبة، فقد أحيا هذه النعرة بعد عدة عقود من إقبارها فقد ذكر الضحاك بعد موت معاوية: "إنّ معاوية كان عَود العرب وحدّ العرب وجدّ العرب"(21).

والتفت ابن خلدون إلى هذه العصبية التي قامت عليها الدعوة الأموية فذكر في كتابه (المقدمة) أنّ تحويل السلطة من الخلافة إلى الملوكية كانت بحاجة إلى العصبية، ولولا هذه العصبية لما تمكن معاوية من تحقيق هذا التحول في السُلطة.

يقول ابن خلدون: فقد رأيت كيف صار الأمرُ إلى المُلك وبقيت معاني الخلافة من تحريّ الدين ومذاهبه، والجَرْي على منهاج الحق ولم يظهر التغيُّر، إلاّ في الوازع الذي كان دَيناً ثم انقلَبَ عصبية وسيفاً وهكذا كان الأمر لعهد مُعاوية ومروان"(22)، وانعكست هذه العصبية في النظرة الدونية نحو طبقة الموالي باعتبارهم ليسوا عرباً، فهم دون العرب في المنزلة والدرجة.

يقول جرجي زيدان: "وكان الأمويون في أيام معاوية يعدون الموالي أتباعاً وأرقاء"(23).

وعلى أساس هذه النظرية الدونية كان نصيب الموالي من الخراج أقل من العرب، يقول حسن إبراهيم حسن: ومن ثم تعصب الأمويون للعرب والعربية، وأخذوا ينظرون إلى الموالي نظرة الاحتقار والازدراء بما أيقظ الفتنة بين المسلمين وبعث روح الشعوبية في الإسلام، وكان منشأ تلك الحركة اعتقاد العرب أنهم أفضل الأمم وأن لغتهم أرقى اللغات"(24).

وظلت الدولة الأموية تأخذ بهذه القاعدة حتى بعد موت معاوية بن أبي سفيان، بل ازدادت ظاهرة العصبية في عهد يزيد بن معاوية الذي وظّف جزءً من جهده لإثارة العصبيات ودعا شاعره المسيحي (الأخطل) أن يُساهم هو الآخر في إثارة العصبيات والتمجيد بقريش:

ذهبت قريش بالمكارم والعُلى*****واللؤم تحت عمائم الأنصار(25)

وحياة يزيد بن معاوية هي حياة المتعصب الذي أعمى عيونه التعصب إلى الجاهلية.

فعندما أدخلوا رأس الإمام الحسين (عليه السلام) أخذ يُنشد أبيات عبد الله بن الزّبعري التي قالها يوم أحد تشفياً من انكسار المسلمين في الحرب.

ليـــت أشياخي ببــــدرٍ شهـــدوا*****جزع الخزرج عن وقـــــع الأسل

قد قتلنا القِرْنَ من ساداتـــــــهم*****وَعَـــــدَلنـــاه بـــــبدرٍِ فــاعتـــــدل

وأخذ ينشد هذه الأبيات من شعره:

لستُ مِــن خندِف إن لم أنتقم*****من بني أحمد ما كـــــان فَعــَلْ

لَعِبتْ هـــــاشِمُ بالمــــلكِ فـــلا*****خــــبرٌ جاءَ ولا وحــــيٌ نَــــــزَلْ

قد أخذنا مــــــن عليّ ثــــارنا*****وقتلنا الفارسَ الليث البطل(26)

وهذه هي الروح التي تربى عليها يزيد على أيدي أبيه معاوية، وبإضافة نزعات الفسوق والظمأ للخمور إلى تلك الروح التي استلهمها من أبيه تغدو لنا شخصية يزيد متفوقة بدرجات كبيرة عن شخصية معاوية في الإجراء والانحدار نحو الرذيلة، والعصبية العمياء نحو الجاهلية القرشية، وقد حوّل بنو أمية هذه العصبية الجاهلية من نزعة نفسية إلى نظرية سياسية عندما أخذ يروِّج للشرعية القرشية قائلاً: "بنى هذا الملك عليهم، وجعل هذه الخلافة فيهم ولا يصلح ذلك إلاّ عليهم"، وأخذ الشعراء ينظمون القصائد الكثيرة في هذا الباب منهم الشاعر الأخطل:

بـــــــني أميـــــَّة! نعمــــاكم مجلـــّلـــةٌ*****تمت، فـــلا مِنّةٌ فيــــها ولا كَـــدَرُ

بنـــي أميَّة! قد ناصــــــلتُ دونــــكم*****أبناء قومٍ، هُم آووا وهم نصــروا

أفحمتُ عنكم بني النجّار قد علمت*****عُليا معـــــد، وكانوا طالما هَدَروا

حتى استكانوا وهم مني على مضضٍ*****والقولُ ينفـــــدُ ما لا تنفذُ الإبرُ(27)

 

الهوامش:

1- فجر الإسلام: ص111.

2- الإمامة والسياسة: 1/36.

3- أسد الغابة: 3/37.

4- الإمامة والسياسة: 1/169.

5- راجع كتاب تطور الفكر السياسي في الشورى إلى ولاية الفقيه لأحمد الكاتب في صفحة 39-42.

6- الإمامة والسياسة: 1/161.

7- أنساب الأشراف: 4/117.

8- الإمامة والسياسة: 1/204.

9- الإمامة والسياسة: 1/204.

10- الجاحظ: البيان والتبيين، 1/300.

11- الإمامة والسياسة: 1/217.

12- المصدر نفسه: 2/10.

13- الطبري: 2/355.

14- المجلسي: بحار الأنوار، 45/326.

15- أصول الكافي: 4/47.

16- الكامل في التاريخ: 3/139-141.

17- المصدر نفسه: 3/138-139.

18- المصدر نفسه: 3/142.

19- المصدر نفسه: 3/142.

20- المصدر نفسه: 3/512.

21- ابن خلدون: المُقدمة، ص208.

22- ابن خلدون: المُقدمة، ص208.

23- تاريخ التمدن الإسلامي: 4/242.

24- تاريخ الإسلام السياسي: 1/342.

25- أحمد الشايب: تاريخ الشعر السياسي، ص309.

26- مقتل الخوارزمي: 2/59.

27- المجاني الحديثة: 2/82