mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 27.doc

نشأت الدولة الأموية على مراحل، فقد بدأت بولاية يزيد بن أبي سفيان على الشام وولاية معاوية بن أبي سفيان على الأردن، ثم ضُمت إليه الشام بعد وفاة يزيد وتوسعت سلطة معاوية في عهد عثمان وأصبحت تشمل حمص وفلسطين أيضاً.

وقد ساهم كل من عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان في تكوين هذه الدولة فعمر هو الذي أعطى ولاية أهم موقعين إسلاميين لأخوين من بني أمية، ثم جعل من سلطة معاوية سلطة شبه مطلقة عندما نصبه والياً على الأردن والشام ثم تحولت هذه السلطة من شبه مطلقة إلى مطلقة في عهد عثمان بن عفان بقول طه حسين: "وليس مِن شك في أنّ عثمان هو الذي مهّد لمعاوية ما أتيح له من نقل الخلافة ذات يوم إلى آل أبي سفيان وتثبيتها في بني أمية، فعثمان هو الذي وسع على معاوية في الولاية، فضمّ إليه فلسطين وحمص، وأنشأ له وحدة شامية بعيدة الأرجاء، وجمع له قيادة الأجناء الأربعة، فكانت جيوشه أقوى جيوش المسلمين، ثم مدّ له في الولاية أثناء خلافته كلها كما فعل عمر، وأطلق يده في أمور الشام أكثر مما أطلقها عمر، فلما كانت الفتنة نظر معاوية فإذا هو أبعد الأمراء بالولاية عهداً وأقواهم جنداً وأملكهم لقلب رعيته(1).

ويؤكد جرجي زيدان على ذلك: "اختار الصحابة عثمان بن عفان وهو من بني أمية، ولا يخلو فوزهم بهذا الانتخاب مِن دسيسة أموية، وكان عثمان ضعيفاً يؤثر ذوي قرابته في مصالح الدولة، فاغتنم الأمويون ضعفه وتولّوا الأعمال واستأثروا بالأموال(2).

واستطاع معاوية خلال فترة حُكمه أن يفرض سيطرته الكاملة على الشام وأن يُرسي دعائم الدولة الأموية فأسس جيشاً منضبطاً، وأوجد اقتصاداً يعتمد على الغنائم التي كثرت في عهده نتيجة للتوسع في الغزوات.

ولم يمض وقتٌ طويل حتى ظهرت الدولة الأموية للوجود وهي تحمل لوناً آخر لم يعهد المسلمون في فترات الحكم السابقة، فقد اصطبغت الدولة الأموية بصبغة خاصة وهذه الصبغة هي الأساس الذي أُقيمت عليه الدولة، وقد ورث يزيد بن معاوية هذه الدولة وهي في قمة عنفوانها الأموي وشدة بطرها وغطرستها، وعندما استلم الإمام الحسين(عليه السلام) زمام المسؤولية المتمثلة بالإمامة وجد نفسه أمام دولة مُدعمة بالمال والقوة العسكرية وبكتيبة مِن المزورين والمحرفين. وجد نفسه أمام دولة تُريد أن تُعيد عجلات التاريخ إلى الوراء كما يرى جُرجي زيدان أيضاً فيقول: "إن المحور الذي كانت تدور عليه سياسة بني أمية، والغرض الذي كانوا يرمون إليه إنما هو إحراز الخلافة والرجوع إلى السيادة التي كانت لهم في الجاهلية(3). فماذا كان عليه أن يعمل سوى القيام بتلك الثورة الجبارة التي استمدت شكلها وطبيعتها مِن بنية الدولة الأموية وطبيعة تكوينها انطلاقاً مِن القاعدة المعروفة لكل فعلٍ رد فعل يساويه في المقدار ويُعاكسه في الاتجاه، وإذا أردنا أن ندرس الثورة الحسينية بصورة دقيقة لا بد لنا أن ندرس طبيعة الدولة الأموية أيديولوجيتها والقواعد التي قامت عليها، فهذهِ الدراسة ستعطينا المزيد مِن التبصّر والوعي بالثورة الحسينية.

المبحث الأول: أيديولوجية الدولة الأموية

 

أيديولوجية الحكم الأموي هي المنطلق للفكر السياسي لهذه الدولة، فلو تمعنا في أحاديث وخطب الحكام الأمويين وأجرينا مقارنة بينها وبين ممارساتهم على الأرض لاستطعنا أن نركب مِن شتات تلك الكلمات المنظومة الفكرية التي تقوم عليها الأيديولوجية الأموية، وتتشكّل هذه المنظومة مِن ثلاث مفردات هي: الجبر، الأرجاء والتفويض الإلهي.

 

أولاً: الجبر.

الجبر: هو نفي الفعل حقيقةً عن العبد وإضافته إلى الرب تعالى (4). وقد اعتقد الكثير ممن كتب في المذاهب الإسلامية أنّ أول من وضع الجبرية هو  "جهم بن صفوان" وهو من أهل خراسان من الموالي وأقام بالكوفة وكان فصيحاً خطيباً يدعو الناس فيجذبهم إلى قوله(5) وكان يقول: إنّ الإنسان مجبور لا اختيار له ولا قدرة، وإنه لا يستطيع أن يعمل غير ما عُمِل، وأنّ الله قدّر عليه أعمالاً لا بُدّ أن تصدر منه، وإن الله يخلقُ فيه الأفعال كما يخلق في الجماد، فكما يجري الماء ويتحرك الهواء ويسقط الحجر، فكذلك تصدر الأفعال عن الإنسان يُصدرها الله فيه وتُنسب إلى الإنسان مجازاً كما تنسب إلى الجمادات(6)، وقد غَفِل أكثر مِن كتب في هذا الباب، أنّ معاوية ويزيد وبقية حكام بني أمية هم أول من تكلم بالجبر، وأنهم أول مَن روّج لهذه الفكرة في الإسلام مستمدين هذه الأفكار مِن مصادر غير إسلامية.

يقول ابن أبي الحديد: "ومعاوية مطعونٌ في دينه عند شيوخنا رحمهم الله، يُرمى بالزندقة، وقد ذكرنا في نقض "السفيانية" على شيخنا أبي عثمان الجاحظ ما رواه أصحابنا في كتبهم الكلامية عنه من الإلحاد والتعرض لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وما تظاهر به مِن الجبر والإرجاء(7).

وقد أشار السبحاني إلى هذه الحقيقة دون أن يبحثها بصورة مفصلة قائلاً: وكان العصر الأموي يسوده القول بالجبر الذي يصوّر الإنسان والمجتمع أنهما مسيران لا مخيران وأنّ كل ما يجري في الكون مِن صلاح وفساد وسعة وضيق وجوع وكظّه وصلح وقتال بين الناس أمرٌ حتمي قُضي به عليهم وليس للبشر فيه أي صنع وتصرف(8).

أما الأدلة على أن بني أمية هم أول من روّج لهذا المذهب فهي:

1- عند لقاء معاوية مع عبد الله بن عمر لغرض إقناعه بخلافة يزيد قال له، وإن أمر يزيد قد كان قضاءً مِن القضاء، وليس للعباد خيرة مِن أمرهم(9)، وكرر العبارة نفسها مع عائشة عند لقائه بها(10).

2- جاء في الحوار الذي تم بين معاوية وقيس بن سعد ما يشم منه رائحة الجبر، قال قيس لمعاوية: إن كنت لأكره مثل هذا اليوم، يا معاوية، فقال له: مه، رحمك الله! فقال: لقد حرصت أن أفرّق بين روحك وجسدك قبل ذلك فأبى الله، يا ابن أبي سفيان إلاّ ما أحب.

قال: فلا يُردّ أمر الله(11).

فالتمعن في العبارتين، أمر يزيد قد كان قضاءً وليس للعباد خيرة مِن أمرهم وعبارة: فلا يُردّ أمر الله هي الأساس الذي قامت عليه نظرية الجبر فالناس مجبرون على رأي معاوية وليس لهم سوى الامتثال والتسليم.

ولم يكن معاوية وحدهُ الذي بشّر بهذه الفكرة فقد واصل ابنه يزيد العزف على فكرة الجبرية، إذ بعث برسالة إلى أهل المدينة بعد موت معاوية جاء فيها، أمّا بعد فإنّ معاوية بن أبي سفيان كان عبداً استخلفه الله على العباد، ومكّن له في البلاد، وكان في حادث قضاء الله جل ثناؤه(12).

وأيضاً نراه يخاطب الإمام زين العابدين بعد واقعة الطف وعندما جاؤوا به أسيراً مِن العراق إلى الشام قال: يا عليّ الحمد لله الذي قتل أباك، فردّ عليه الإمام: قتل أبي الناس(13) ففي كلام يزيد خلاصة لأهداف الحكم الأموي في الترويج لفكرة الجبرية، وهي أنّ كل شيء يحدث هو مِن قبل الله، وأنّ لا مردّ له، لأنه في قضاء الله.

ولم تكن هذه النظرية حصراً على معاوية ويزيد بل أصبح يعزف عليها كل عضو في السلطة الأموية.

خطب ابن زياد في أسرى أهل البيت الذين جيء بهم إلى الكوفة قائلاً: الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم ... ثم وجّه حديثه إلى العقيلة زينب(عليها السلام) قائلاً لها باستهجان: كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟

فردّت عليه: ما رأيتُ إلاّ جميلاً، هؤلاء قومٌ كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاج وتُخاصم(14).

ثم إنه التفت إلى علي بن الحسين فقال: مَن هذا؟ فقيل: علي بن الحسين فقال: أليس قد قتل الله عليَّ بن الحسين؟ فقال عليّ: قد كان لي أخٌ يُسمى علي بن الحسين قتلهُ الناس، فقال: بل الله قتلهُ، فقال عليٌّ: [اللهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا] (الزمر/42) فقال ابن زياد: ولك جرأة على جوابي(15).

نلاحظ في هذه النصوص كيف يُفسر الحكام الأمويون وأذنابهم الأحداث على ضوء نظرية الجبر، ونلاحظ أيضاً كيف يرد الإمام زين العابدين ومِن قبله العقيلة زينب على هذه النظرية مستدلين بالآيات الحكيمة.

وهنا يبدو لنا الهدف واضحاً مِن ترويج هذه الفكرة، فالأمويون يريدون تبرير جرائمهم والتنصل من مسؤولية كل ذنب اقترفته أياديهم الملوثة وإيكال الأمر كله إلى قضاء الله وإرادته.

يقول السبحاني تأكيداً لهذه الحقيقة: "وقد اتخذت الطغمة الأموية هذه الفكرة غطاءً لأفعالهم الشنيعة حتى يسدوا بذلك باب الاعتراض على أفعالهم بحجة أنّ الاعتراض عليهم اعتراض على صنعه وقضائه وقدره سبحانه، وأن الله تعالى فرض على الإنسان حكم ابن آكلة الأكباد وابنه المنحرف، وأبناء البيت الأموي المتحلل يعيشون عيشة رغد ورخاء وترف، ويعيش الآخرون على بطون غرثى وأكبادٍ حرى، وقد كانت هذه الفكرة تروّج عبر الخطباء، ووعاظ السلاطين مرتزقة البلاد الأموي (16).

وقد انطلقت هذه الخدعة الماكرة على بعض الناس، وقدّم لنا التاريخ نموذجاً عن تأثير هذه الفكرة على عامة الناس خصوصاً أهل الشام. فإن التاريخ يروي لنا أنَّ شيخاً دنا من نساء الحسين(عليه السلام) وعياله وهم على درج باب المسجد الأموي فقال: الحمد لله الذي قتلكم، وأهلككم وأراح البلاد من رجالكم، وأمكن أمير المؤمنين منكم فقال له علي بن الحسين: يا شيخ هل قرأت القرآن؟ قال: نعم. فأخذ يُبين له حقيقتهم وحقيقة ما جرى وحدث، فانكشف الأمر للشيخ وعرف حقيقة يزيد فندم على كلامه وتاب إلى الله.

وقد تركت هذه الفكرة آثاراً وخيمة على المجتمع الإسلامي حيث أنها عطلت حركة الإنسان وشلت قدماه نحو التقدم والمثابرة للقيام بأعمال الخير وأوجدت اضطرابات في تقييمهم للرجال وللأعمال، مما أدّى ذلك إلى أن يصبح معاوية وعلي أمير المؤمنين(عليه السلام) بمنزلة واحدة عند هؤلاء، وبهذا تمكن الأمويون ولو لمدة زمنية محدودة أن يرفعوا مسؤولية الأخطاء عن عاتق معاوية ويزيد بالتركيز على فكرة الجبرية والقول أنهم مجبرون على أعمالهم.

وقد خلق أصحاب هذه الفكرة تياراً فكرياً معاكساً جاء كرد فعل للجبرية هو القدرية، نشأ هذا التيار الفكري في البصرة والمدينة، وعلى عكس ما ذهب إليه المجبرة قال القدرية بأن الإنسان له قدرة على أعماله، وأنه حرّ الإرادة، وأول من قال بالقدرية هو معبد الجُهني (80 للهجرة) وغيلان الدمشقي (105 هـ)، وكان صعباً على الأمويين مشاهدة أصحاب هذه الفكرة أحياء فأقدم الحجاج الثقفي على قتل معبد الجهني متهماً إياه بالزندقة، أما غيلان الدمشقي فقد انتشر خبره في عهد هشام بن عبد الملك فأمر بقطع يديه ورجليه وقتله وصلبه، وهكذا ذهبا ضحية أفكارهما وآرائهما التي لم تتفق وأفكار السلطات الحاكمة.

 

ثانياً: الإرجاء.

يقول الشهرستاني في الإرجاء: "الإرجاء على معنيين: أحدهما بمعنى التأخير، في قوله تعالى: [قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ] أي: أمهله وأخرّه، والثاني: إعطاء الرجاء إما إطلاق اسم المرجئة على الجماعة بالمعنى الأول فصحيح؛ لأنهم كانوا يؤخرون العلم عن النية والعقدة، وأما بالمعنى الثاني فظاهر؛ فإنهم كانوا يقولون: لا تضرُّ مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وقيل: الإرجاء: تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يقضي عليه بحكم ما في الدنيا من كونه من أهل الجنة، أو مِن أهل النار(17).

وأول ما ظهر الإرجاء على لسان بني أمية قبل أن يتحوّل إلى تيار سياسي مناصر للحكم الأموي مُدافع عن أعمالهم، مُبرر لجرائمهم الشنيعة، يقول حسن إبراهيم حسن عن ظهور هذا التيار في دمشق: "بتأثير بعض العوامل المسيحية خلال النصف الثاني من القرن الأول الهجري(18).

وقد زعم أحد زعماء هذا التيار "أنّ الإيمان عقدٌ بالقلب وأن أُعلن الكفر بلسانه بلا تقية، وعبد الأوثان أو لزم اليهودية أو النصرانية في دار الإسلام وعبد الصليب وأعلن التثليث في دار الإسلام ومات على ذلك، فهو مؤمنٌ كامل الإيمان عند الله عز وجل ولي الله عز وجل مِن أهل الجنة(19). وهذا أثر بارز للنفوذ المسيحي في الدولة الأموية، فهؤلاء المسيحيون على رأي هذه الطائفة سيموتون مؤمنين بحجة أنهم عاشوا في دار الإسلام وماتوا فيها، ثم يفصح حسن إبراهيم أكثر عن هذه الطائفة: "وهؤلاء هم في الحقيقة كتلة المسلمين التي رضيت حكم بني أمية ... وكانت آراؤهم تتفق تماماً مع رجال البلاط الأموي ومن يلوذ به بحيث لا يستطيع أحد مِن الشيعيين أو الخوارج أن يعيش بينهم، في الوقت الذي تمكن فيه المسيحيون وغيرهم من غير المسلمين أن ينالوا الحظوة لديهم أو يشغلوا المناصب العالية(20).

ويتفق السبحاني مع هذا الرأي فيقول: "والظاهر أن فكرة الإرجاء نشأت في أحضان الدعايات الأموية، والفضائل المفتعلة لجملة من أصحاب النبي فغشيت وجه الحقيقة وعاقت البعض على الخوض في الأبحاث الخطيرة أو اقتحام المعارك المدلهمة (21).

وكما كان معاوية أول من روّج لفكرة الجبر، كذلك يعد نفسه أوّل من روّج لفكرة الإرجاء ولذلك عندما دخل على عائشة بعد قتله حجراً، قالت له عائشة مستنكرة فعله: "قتلت حجراً وأصحابه العابدين المجتهدين"، فقال معاوية: دعي هذا، كيف أنا في الذي بيني وبينك في حوائجك؟ قالت: صالح، قال: فدعينا وإياهم حتى نلقى ربنا، ثم خرج (22).

"فدعينا وإياهم حتى نلقى ربنا" بهذه العبارة الصغيرة، وضع معاوية من حيث يدري الأساس الأيديولوجي لتيار سياسي لعب دوراً خطيراً في التاريخ الإسلامي من بين رجالاته المشهورين؛ أبو حنيفة النعمان، وتلميذه أبو يوسف(23).

كان أبو حنيفة يقول: "ولا نكفِّر أحداً بذنبٍ ولا ننفي أحداً عن الإيمان(24). وحقيقة أن معاوية أول من قال بالإرجاء تتناقض مع ما ذهب إليه الشهرستاني حيث قال: "إن أول من قال بالإرجاء: الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب وكان يكتب فيه الكُتب إلى الأمصار(25).

ولما كان الحسن بن محمد بن الحنفية قد توفي في سنة 95 للهجرة فإن معاوية سبقه في القول بالإرجاء هذا أولاً، أما ثانياً فإنه ندم على قوله بالإرجاء كما ذكر ابن كثير عنه: "وكان عالماً فقيهاً عارفاً بالاختلاف والفقه، وقال أيوب السختياني وغيره: كان أول من تكلم في الإرجاء وكتب في ذلك رسالة ثم ندم عليها(26). أما ثالثاً: فهو كان يُواجه تطرف الخوارج الذين كفّروا الجميع بما فيهم جده أمير المؤمنين، فلمواجهة هذا التيار الذي اتسع مداه في عهده كان أن يرجأ عليّ وعثمان وطلحة والزبير فلا يتولى ولا يتبرأ منهم(27) فلما بلغ أباه محمد بن الحنفية "ضربه فشجّه وقال: ويحك ألاّ تتولى أباك علياً"(28) فهو يقول بالإرجاء بغية نفي الكُفر عن جده أمير المؤمنين من قبال الخوارج.

كان هذا التيار يؤمن بإرجاء الحكم إلى العصاة من المسلمين إلى يوم البعث وقالوا بعدم تكفير أيّ إنسان أياً كان مهما ارتكب مِن المعاصي ما دام قد اعتنق الإسلام ونطق بالشهادتين تاركين الفصل في أمره لله وحده، ولم يتحرك بنو أمية وسيلة إلاّ واستخدموها للترويج لهذا المذهب فقد دفعوا بشاعرهم ثابت قُطنة وكان مِن أصحاب يزيد بن المهلب أثناء توليته لأعمال الثغور، ونظم قصيدة بشَّر فيها لمذهب المرجئة.

يا هندُ إني أظن العيش قد غـــــــــدا*****ولا أرى الأمر إلاّ مُـــــدبراً نكـــــــــِدا

إنــــــــي رهينة يـــــوم لستُ سابــــقه*****إلاّ يكـــون يومُــــــنا هذا فــــقد أفِـــدا

بايعتُ ربّي بيــــــعاً إن وفـــــيتُ بــهِ*****جاورتُ قتلّى كراماً جاوروا أُحُـــدا

يا هندُ فاستمعــــــي لي إنّ ســــيرتنا*****أن نَعْـــــبُدَ الله لــــــــم نُشرك به أحداً

نُــــرجي الأمـورَ إذا كانـت مشبهّـــة*****ونصدُق القول فيمن جارا أو عـــندا

المسلمون على الإســلام كلـــــــــهم*****والمشركون أشـــــتُّوا دينـــــهم قِــــددا

ولا أرى أن ذنــــباً بــــــالغٌ أحــــــدا*****م الناس شركاً إذا ما وحّدوا الصمدا

لا نسفِكَ الدم إلاّ أن يُــــــراد بـــــنا*****سَفْكُ الدماء طريقاً واحـداً جَــــــدَدا

مَـــــن يتــــــّق الله في الدُنيا فــإنّ لــه*****أجـــــرَ التقيّ إذا وَفَّى الحســـاب غدا

وما قضى اللهُ من أمرٍ فلـــيس لــــه*****رَدٌّ، وما يقضي مِن شيء يكُن رَشدا

كــــل الخوارج مخـــــطٍ في مقـــــالته*****ولـــــو تعــــــبَّد فيمـــــا قــــالَ واجتهدا

أمــــــا عـــــليٌّ وعثـــــمانٌ فإنهمـــــا*****عَبْدان لــــم يُشِركا بــــالله مـــــذ عَبَدا

وكـــــان بينهما شَغْب وقد شــهِدا*****شقَّ العصا، وبعـــــــــيْن الله ما شَهدا

يُجزَى عليٌ وعثـــــمانٌ بسعيهـــما*****وكلُّ عبدٍ سيـــــــــلقى الله مــــنفردا(29)

وقد تضمنت أبياته آراء المرجئة، أما ذكر أمير المؤمنين(عليه السلام) والخليفة عثمان فهو يعكس جانباً من الصراع الذي كانت تخوضُه الدولة الأموية مع الخوارج الذين يكفرون بعليٍّ وعثمان، فهم مِن أجل تبرءة عثمان أضطروا أن يبرؤوا علياً أيضاً لأنّ صراعهم في هذه المرحلة كان متمحوراً ضد الخوارج وقد أفل نجم المرجئة مع زوال الدولة الأموية(30).

 

الهوامش:

1- طه حسين: إسلاميات، ص752.

2- جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي، 3/332.

3- جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي، 4/336.

4- الشهرستاني: الملل والنحل، 1/79.

5- المصدر نفسه: 1/79، وفجر الإسلام، ص286.

6- فجر الإسلام: ص286.

7- ابن أبي الحديد: 1/34.

8- السبحاني: بحوث في الملل والنحل، 3/114.

9- الإمامة والسياسة: 1/187.

10- المصدر نفسه: 1/183.

11- تاريخ اليعقوبي: 2/216.

12- الإمامة والسياسة: 2/204.

13- الطبرسي: الاحتجاج، ص159.

14- السيد ابن طاووس: اللهوف في قتلى الطفوف، ص142.

15- المصدر نفسه: ص144.

16- بحوث في الملل والنحل: 3/114.

17- الشهرستاني: الملل والنحل، 1/125.

18- تاريخ الإسلام السياسي: 1/416.

19- الفصل في الملل والنحل لابن حزم: 4/204.

20- تاريخ الإسلام السياسي: 1/417-418.

21- السبحاني: الملل والنحل، 3/80.

22- الإمامة والسياسة: 1/183.

23- الملل والنحل: 1/130، أيضاً مقالات الإسلاميين للأشعري: ص32.

24- ضحى الإسلام: 3/321.

25- الشهرستاني: الملل والنحل، 1/128.

26- ابن كثير: البداية والنهاية، 9/140.

27- ابن عساكر: تاريخ دمشق، 40/246.

28- ابن كثير: البداية والنهاية، 9/140.

29- الأغاني: 14/27.

30- تاريخ الإسلام السياسي: 1/418.