mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 22.doc

خرج أمير المؤمنين(عليه السلام) على أصحابه وهو راكب فمشوا خلفه فالتفت اليهم فقال: الكم حاجة؟ فقالوا: لا يا أمير المؤمنين، ولكنا نحب أن نمشي معك، فقال لهم: انصرفوا فإن مشي الماشي مع الراكب مفسدة للراكب ومذلة للماشي(1).

وعلي لا يصطنع هذا السلوك، فالتواضع هو طبعه، فمن كان هذا طعامه وهذه حياته لا يمكن أن يكون الا متواضعاً.

التواضع شيء جميل. لكن الأجمل هو أن يكون هذا التواضع من حاكم يحكم امبراطورية واسعة الأطراف.

يقول زيد بن علي عن أمير المؤمنين إنه كان يمشي في خمسة حافياً ويعلق نعليه بيده اليسرى يوم الفطر والنحر والجمعة وعند العبادة وتشييع الجنازة: ويقول إنها مواضع الله، وأحب أن أكون فيها حافياً(2).

ورد على أمير المؤمنين (عليه السلام) اخوان له مؤمنان أب وابن فقام اليها وأكرمهما وأجلسهما في صدر مجلسه وجلس بين أيديهما ثم أمر بطعام فأحضر فأكلا منه، ثم جاء قنبربطشت وإبريق خشب ومنديل ليلبس وجاء ليصب على يد الرجل، فوثب أمير المؤمنين (عليه السلام) وأخذ الابريق ليصب على يد الرجل، فتمرغ الرجل في التراب وقال: يا أمير المؤمنين، الله يراني وأنت تصب على يدي؟ قال: أقعد وأغسل فإن الله عزوجل يراك وأخوك الذي لا يتميز منك ولا ينفصل عنك يخدمك(3).

وكان علي (عليه السلام) يتفقد الرعية لاقامة العدل حتى في أبسط القضايا، رجع يوماً الى داره في وقت القيظ فاذا امرأة قائمة تقول: إن زوجي ظلمني وأخافني، وتعدى علي وحلف ليضربني فقال: يا أمة الله أصبري حتى يبرد النهار ثم أذهب معك إن شاء الله فقالت يشتد غضبه وحرده في، فطأطأ رأسه ثم رفعه وهو يقول: لا والله أو يؤخذ للمظلوم حقه غير متعتع، أين منزلك؟(4).

وتتجلى عدالته الصميمية في تلك العبارة الرائعة التي أدهشت البلغاء وأوقفت الأدباء، وهي بحق من روائع نهج البلاغة.

والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهداً، أو أجر في الأغلال مصفداً أحب الي من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد(5) ليست كلمات شاعر، ولا تخيلات أديب أو مثاليات صوفي. بل هي كلمات حاكم كان يقود أمة.

حاكم أهون عليه النوم على الأشواك والجر بالقيود من أن يظلم انساناً واحداً مجرد انسان ولا يهم إن كان مسلما أو غير مسلم.

قال الشعبي: وجد علي درعاً له عند نصراني فأقبل به الى شريح وجلس الى جانبه وقال: لو كان خصمي مسلما لساويته، وقال هذه درعي، فقال النصراني: ما هي الا درعي ولم يكذب أمير المؤمنين؟ فقال شريح لعلي: ألك بينة؟ قال: لا وهو يضحك، فأخذ النصراني الدرع ومشى يسيرا ثم عاد وقال: أشهد أن هذه أحكام الأنبياء. أمير المؤمنين قدمني الى قاضيه، وقاضيه يقضي عليه، ثم أسلم واعترف ان الدرع سقطت من علي عند مسيره الى صفين ففرح علي باسلامه. ووهب له الدرع وفرساً وشهد معه قتال الخوراج(6).

عفوك يا أمير المؤمنين إن تطاولت عليك ولو لمرة واحدة.

إذا كنت حريصاً هكذا على حق نصراني، وأنت تعلم ان الدرع لك، فكيف رضيت بأن يأخذوا من زوجتك البتول ارضها التي وهبها لها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)؟؟ كيف سكت عن ظلم صريح موجه لأقرب الناس اليك؟ ولم تسكت عن صفعة يوجهها زوج لزوجته؟.

كيف رضيت لأبنائك الحسن والحسين عليهما السلام وهما صغيران أن يأكلا الخبز والخل وأنت الحاكم الذي تجبى اليك المليارات؟.

كيف سمحت لنفسك أن تصمت أمام ديون أخيك عقيل وهو في ضائقة وأنت تعلم أنه سيذهب الى معاوية تحت ثقل الديون؟.

كيف رضيت أن تمنع ابنك الحسن من ارتداء الكسوة التي أعطيتها فيما بعد لفتى من همدان؟.

كيف رضيت أن ترى زوجتك في البيت وهي تئن من التعب من عمل البيت ولم تفكر أن تأتي اليها بجارية؟.

كيف؟ وكيف؟ وكيف؟.

والحديث عن مناقب علي كالحديث عن قطرات البحر.

علي هذا الذي اعتقد البعض انه الخالق (والعياذ بالله) من فرط ما وجدوا فيه من خلق لا يأتي به انسان عادي.

علي الذي عاقب بالنار من وقف أمامه ليقول له أنت الخالق. هو نفسه الذي عاقب ابنا عبد الله عندما نالا من عائشة، ولقد واجه حملة السباب والشتائم التي قامت عليها سياسة معاوية ليقول لأصحابه.

اني أكره ان تكونوا سبابين(7).

تصوروا هذا الانسان الذي يحمل كل هذه المواصفات يصبح حاكما. فكيف سيكون حكمه؟؟ وكم هي حسرة كبرى لعلي (عليه السلام) أن ينشغل بالحروب طيلة فترة حكمه، فلا يجد الفرصة المناسبة لترجمة كل مبادئه وفنونه في الحكم وكم هي حقاً خسارة للبشرية أن يصب علي(عليه السلام) كل وقته وطاقته في صراع شغل منه كل حياته، ويالسوء حظ المسلمين إذ أبتلوا بأشخاص كمعاوية وعمرو بن العاص لا هم لهم سوى الكرسي والحكم. انهم فهموا خطأ ان الحياة هي الدنيا فقط.

بينما فهم علي(عليه السلام) الحياة دنيا وآخرة. وان الصراع جهاد من أجل بقاء المبادىء وليس بقاء الأنفس. علي يعرف مسؤوليته.. ويفهم ماذا يصنع؟.

كان يريد أن يصبح قدوة في كل خطوة يخطوها في حياته سواء في البيت أو المجتمع أو الدولة.

أنه القدوة للأب والزوج والحاكم والرعية، فقد قام بكل الأدوار وكان يرسم في كل حركة قانوناً لمن يريد أن يكون انساناً متكاملاً في الحياة.

ولم تكن خطواته سرية بل كان يخطو كل خطوة في العلن ليشاهده الجميع.. فعلي يعرفه الجميع حتى اعداءه.

ذكر ابن قتيبة ان رجلاً من همذان يقال له برد قدم على معاوية فسمع عمراً يقع في علي: فقال له ياعمرو إن أشياخنا سمعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه فحق ذلك أم باطل؟.

فقال عمرو: حق، وانا أزيدك انه ليس أحد من صحابة رسول الله له مناقب مثل مناقب علي ففزع الفتى(8).

أما معاوية فقد تقدم رأيه في علي. فحتى أعداؤه لا يستطيعون انكار فضله.

وكيف يستطيعون نكرانه؟ وهو الذي أفاض بفضائله الدنيا؟.

فكل جندي في جيش معاوية يتذكر مقالة علي بعد أن احتل الفرات وهو يخاطب أصحابه.

خذوا من الماء حاجتكم وخلوا عنهم. فإن الله نصركم ببغيهم، وظلمهم ويتذكر عمرو بن العاص يوم بارز علياً وهو يقول والله لأبارزن علياً ولو مت ألف موتة في أول لقائه فبارزه عمرو فطعنه علي فصرعه، فاتقاه بعورته فانصرف عنه علي وولى بوجهه دونه.

ويتذكر الملأ الذين كانوا في صفين خساسة عمرو يوم كشف عن عورته لينجو بنفسه من موت محقق وشهامة علي يوم ابتعد عن عمرو، ولم يلوث سيفه بدم عمرو وأضاع فرصة كان يتمناها كل قائد عسكري.

صحيح أنه اضاع فرصة ذهبية لكنه سطر اسمه بحروف من ذهب ورسم بهذه السيرة العطرة صورة للبطولة ستبقى خالدة مدى الأجيال كم فرصة ضيعها علي بحسب مقاييس السياسة الميكيافلية. فقد كان باستطاعته أن يحتجز طلحة والزبير عندما ارادا مغادرة المدينة وكان على يقين بانهما سيتآمران عليه. وكان باستطاعته أيضاً أن يعتقل مصقلة قبل أن يذهب الى معاوية وكانت علامات الخيانة بادية عليه.

فرص كثيرة تركها علي(عليه السلام) تذهب ادراج الرياح غير مأسوف عليها لأنه لايريد أن يؤسس حكما ميكيافلياً. وهو قادر على ذلك حيث يقول..

والله ما معاوية بأدهى مني. ولكنه يغدر ويفجر لولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس.. بينما أعداءه الميكافيليون كانوا ينتهزون كل فرصة بمجرد أن أحسوا ان هناك خلافاً بين علي وأحد ولاته سارعوا الى استغلاله. لقد أستغلوا عدالة علي في تقسيم بيت المال. واستغلوا حلم علي، واستغلوا عفوه وتواضعه.

إن مشكلتهم وليست مشكلته انهم استغلوا عظمته واعترفوا بها.

فهذا معاوية يقول عن علي.

كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فضلاً ويحكم عدلاً، يفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه يستوحش من الدنيا وزهرتها ويستأنس بالليل ووحشته(9).

وهو بهذه الخصال الحميدة لا يحب أحداً يمتدحه، ويتثاقل من ساع أحد أصحابه وهو يشدو في مدحه، فلا يتمالك الا ليمنعه بأدب بليغ يقول: فلا تكلموني بما تكلم الجبابرة. ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي ولا التماس إعظام لنفسي فانه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه. فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل فاني لست في نفسي بفوق أن أخطىء ولا آمن ذاك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني فانما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لارب غيره يملك منا مالا نملك من أنفسنا(10).

 

العلاج التربوي للصراع السياسي

شخص الإمام علي(عليه السلام) قضية صفين في فرد طامع في السلطة، هو معاوية ابن أبي سفيان، فقد تمكن بدهائه أن يلف حوله جمعاً من المنتفعين وأرباب المصالح ويأتي بهم الى قتال الامام علي (عليه السلام).

فكيف كان الامام سيتعامل مع أشخاص على نمط معاوية؟

ا- النصحية.

2- ا لتحاور.

3- حصر التضحيات بأقل قدر ممكن.

ففي مجال النصيحة بالغ الإمام علي في نصح معاوية فقد بعث اليه أكثر من خمسة عشر رسالة ابدى فيها كل قدر من النصيحة وعبد فيها الطريق الى الاثابة وا لمغفرة.

وفيما يلي نورد بعض عبارات النصح في رسائل مختلفة.

ولعمري يامعاوية لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان ولتعلمن أني كنت في عزلة عنه الا أن تتجنى فتجنّ مابدالك والسلام.

وكيف أنت صانع إذا تكشفت عنك جلابيب ما أنت فيه من دنيا قد تبهجت بزينتها وخدعت بلذتها دعتك فأجبتها، وقادتك فاتبعتها وأمرتك فأطعتها. وخذ أهبة الحساب وشمر لما قد نزل بك.

ومتى كنتم يامعاوية ساسة الرعية وولاة أمر الأمة بغير قدم سابق ولا شرف باسق.

وقد دعوت الى الحرب فدع الناس جانباً وأخرج الي، وأعف الفريقين من القتال لتعلم أينا المرين على قلبه.

وزعمت أنك جئت ثائراً بدم عثمان. ولقد علمت حيث وقع دم عثمان فاطلبه من هناك إن كنت طالباً.

واتق الله فيما لديك وانظر في حقه عليك، وارجع الى معرفة لا تعذر بجهالته.

أما بعد فإن الدنيا مشغلة عن غيرها ولم يصب صاحبها منها شيئاً الا فتحت له حرصاً عليها ولهجاً بها، ولن يستغني صاحبها بما نال فيها عما لم يبلغة منها.

وأما بعد فإن الله سبحانه قد جعل الدنيا لما بعدها وابتلى فيها أهلها ليعلم أيهم أحسن عملا.

ولسنا للدنيا خلقنا ولا بالسعي فيها أمرنا. وإنما وضعنا فيها لنبتلي بها.

أما بعد فان كنا نحن وأنتم على ما ذكرت من الألفة والجماعة، ففرق بيننا وبينكم أمس أنا آمنا وكفرتم.

أما بعد فقد آن لك أن تنتفع باللمح الباصر من عيان الأمور، فقد سلكت مدارج أسلافك بادعائك الأباطيل واقتحامك غرور المين والأكاذيب وبانتحالك ما قد علا عنك وابتزازك لما قد اخترن دونك فراراً من الحق، وجحودأ لما هو ألزم لك من لحمك ودمك. مما قد وعاه سمعك وملىء به صدرك فماذا بعد الحق الا الضلال المبين، وبعد البيان الا اللبس، فاحذر.

الشبهة واشتمالها على لبستها. فإن الفتنة طالما أغدقت جلابيبها وأغشت الأبصار ظلمتها.

ولم يكتف الإمام بالنصح بل أخذ يحاور معاوية في رسائل متبادلة بصورة مباشرة وعبر وسائط. وفي بعض الرسائل المتبادلة أدحض الامام حجج معاوية وسفه آرائه بحججه البليغة.

ومعاوية وكأي طاغية لامنطق له ولاحجة، لأن وجوده وكيانه قائم على باطل وخطأ. وجواباً على سلسلة من الرسائل التي بعثها الإمام رد معاوية برسالة بيضاء لم يكتب فيها الا بسم الله الرحمن الرحيم. وأرسل الرسالة مع رجل من عبس، فأدرك الإمام انه يريد الحرب.

وإذا كان معاوية يريد الحرب، فلابدّ أن يدفع ثمنه هو وليس غيره، فكانت سياسة الإمام تقضي بحصر المعركة في دائرة صغيرة هي شخص معاوية.

فخطب في أصحابه قائلاً لهم.

لاتقاتلوهم حتى يقاتلوكم فأنتم بحمد الله على حجة، وترككم قتالهم حجة أخرى، فاذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبراً ولا تجهزوا على جريح ولا تكشفوا عورة ولا تمثلوا بقتيل(11) وحاول الإمام أن يستدرج معاوية الى القتال. فنادى بأعلى صوته: يامعاوية فأجابه فقال ما تشاء يا أبا الحسن، قال علي :علام يقتتل الناس ويذهبون على ملك ان نلته انا كان لي دونهم؟! ابرز الي ودع الناس فيكون الأمر لمن غلب(12).

وعندما رفض معاوية المبارزة المباشرة اضطر الإمام الى تعديل الخطة فأخذ يأمر الرجل ذا الشرف فيخرج ومعه جماعة من أصحابه ويخرج اليه آخر من أصحاب معاوية ومعه جماعة فيقتتلان في خيلهما ثم ينصرفان، وكرهوا أن يلقوا جمع أهل العراق بجمع أهل الشام. لما خافوا أن يكون فيه من الاستئصال والهلاك(13) فقد عمل الإمام من اجل أن لا تكون هناك معركة شاملة لأن ضحاياها ستكون كبيرة جداً. فكانت استراتيجيته هي اطالة الفترة الزمنية لعلهم يثوبون الى رشدهم ويتركوا غيهم، ويعودوا الى الشرعية، لكن دون جدوى فقد تحطمت خطط الإمام امام اصرار معاوية على الحرب ظناً منه بانه في احسن الأحوال. وإن علياً(عليه السلام) في اتعس الظروف بعد الذي جرى في معركة الجمل.

 

الخوارج.. والانحراف الفكري

برزت حركة الخوارج كظاهرة ناجمة عن تراكمات معركتين ألقت بثقلها على كاهل المسلمين وهما من أشد المعارك ضراوة وتعقداً لأنها كانت بين المسلمين أنفسهم. أو انها بين الشرعية الاسلامية والثائرين عليها. فبروز حركة الخوارج مسألة قد تكون طبيعية في أجواء من الصراع العنيف. رافقتها الشكوك الكثيرة والتيارات المتطاحنة. أما مسؤولية الامام أمير المؤمنين فكانت في توجيه دفة الأمور الى ساحل الاسلام فإن الحروب والمشاكل لم تمهل الإمام ليباشر توجيه الأمة فكرياً وروحياً وسياسياً كي تعود الى سابق عهدها. وتقفز على مشاكلها ونواقصها فقد بقيت ثمة نواقص كثيرة لم يكن باستطاعة أحد معالجتها في ظروف الحرب والصراع، ومنها قضية الربط بين القرآن والواقع.

فالقرآن الكريم ليس مجرد كلمات بل هو مواقف ومعايشة وانه تجسد في البشر. تجسد في الخيرين وتجسد في الأشرار.

فعندما يكون حديث القرآن عن آيات الخير، فهناك من جسد تلك الآيات وعندما يكون الحديث عن آيات الشر فهناك من جسد الشر.

لقد أدرك المسلمون الأوائل هذا الربط بين القرآن والبشر، فكان من الواضح لديهم انهم يجسدون وبقيادة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) العنصر الطيب من القرآن. كما وان طغاة قريش هم التجسيد المنطقي للعنصر الشرير في القرآن..

وبسبب الصراع الذي لم يفهم البعض مغزاه ولا أسبابه ولا ظروفه، وبسبب من فقدان الثقة. انقطع هذا الربط أو تزعزع الى حد ان البعض أخذ ينادي أن لا حكم الا لله دون أن يدرك مقصوده، وابعاد شعاره.. وفي التحليل تعود ظاهرة الخوارج الى عاملين:

أولأ: الإحباط النفسي

وتعود ولادة حركة الخوراج الى ما بعد قبول الإمام علي(عليه السلام) بالتحكيم.

وكان لابدّ من وقفه على الظروف النفسية التى أعقبت هذا الاتفاق.

فقد كان معاوية على وشك الهزيمة المنكرة إذ لم يبقى من جيش الشام سوى الفلول القليلة. وكان عليه أن يستخدم ما يمتلك من دهاء ومكر، فاخترع فكرة رفع المصاحف والتحكيم. وتلقى الإمام هذه الخطوة بشيء من اللامبالاة لأنه كان يعلم انها مجرد خدعة لتطويق النصر إلا ان تسرب الفكرة الى أفراد آخرين من قواته جعله يقف بوجه التحكيم وكأنه يواجه مؤمراة كبرى. لكن دون فائدة، فقد أخذ البعض من القادة العسكريين يوجه ضغوطاً مباشرة الى الإمام للموافقة على التحكيم إما لهوى في أنفسهم او لانهم كانوا يشكلون طابوراً خامسا يعمل لصالح معاوية في جيش الإمام علي أو أنهم تعبوا من الحرب فقرروا التخلص منها بهذه الطريقة، وقد يكون البعض مخلصاً صادقاً معتقداً ان التحكيم فعلاً الوسيلة المتاحة للوقوف بوجه الأزمة.

واضطر الإمام الى القبول بالتحكيم وهو على بينة تامة من نتائجه. وتوقفت الحرب التي كانت في لحظاتها الاخيرة وهي تؤشر بأن النصر سيكون حليف الإمام.

واستعاد جيش الشام المهزوم عافيته، وعاد كقوة عسكرية ضاربة، واستعاد معاوية وعمرو بن العاص مكانتهما في الجيش الأموي بعد الذي نالاه أيام الحرب الطاحنة من مهانة وذلة.

وكان أمراً بديهياً أن يصاب البعض في جيش علي(عليه السلام) بالاحباط النفسي، ولربما أدى هذا الاحباط الى حالة من تزعزع الثقة بالنفس وبالقيادة، عند أولئك الذين لم يفهموا جيداً العلاقة العضوية بين اشخاص يطبقون القرآن والقرآن نفسه وهم جمع من الحرفيين الذين يفهمون القرآن حروفاً وكلمات وحسب، فقد كان صعباً على هؤلاء أن يشاهدوا ما آلت اليه الحرب من تحكيم، وكان هؤلاء بحاجة الى شيء من التحليل ليدركوا الأمور على واقعها، لكنهم حرفيون غير قادرين على التحليل..

 

ثانياً: إستغلال الحرية

وشجع على ظهور حركة الخوارج أجواء الحرية التي كانت تسود معسكر الإمام علي (عليه السلام) وعندما نأخذ هذه الناحية بعين الاعتبار لأصبحنا نتعامل مع حركة الخوارج، كحركة طبيعية تنشأ في أجواء الحرية حيث يسمح للفرد أن يفكر بحرية وأن يتكلم بحرية، بخلاف أجواء الدكتاتورية التي كان يفرضها بنو أمية، حيث لم يتركوا الناس ليفكروا الا بما يفكر به معاوية ولا يتكلموا الا بما يريده معاوية. فمما ساعد على بروز الحركة تجرأ رؤساؤها على أمير المؤمنين والوقوف قباله والتكلم معه بكل حرية وكأنه واحد منهم.

يقول الطبري:

لما أراد علي أن يبعث أبا موسى للحكومة أتاه رجلان من الخوراج. زرعة بن البرج الطائي وحرقوص بن زهير السعدي، فقال: لا حكم إلا لله، فقال علي: لا حكم الا لله: وقال حرقوص بن زهير: تب من خطيئتك وارجع عن قضيتك واخرج بنا الى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربنا: فقال علي: قد أردتكم على ذلك فعصيتموني وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتاباً وشرطنا شروطاً وأعطينا عليها عهوداً. وقد قال الله تعالى (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم) فقال حرقوص: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب عنه، فقال علي: ما هوذنب ولكنه عجز عن الرأي وقد نهيتكم فقال زرعة: ياعلي لئن لم تدع تحكيم الرجال لأقاتلنك، أطلب وجه الله تعالى: فقال علي: بؤساً لك ما أشقاك كأني بك قتيلاً تسفي عليك الرياح قال: وودت لو كان ذلك، فخرجا من عنده يحكمان(14).

وأخذت الحركة تنتشر في صفوف المقاتلين وأخذوا يثيرون الفوضى في المسجد أثناء خطابات الإمام إذ كانوا يرفعون أصواتهم لا خكم الا الله، وكان الامام يقابلهم بنداء الله أكبركلمة حق أريد بها باطل(15) وذلك لامتصاص شعاراتهم، لكن مع الزمن تفاقم الأمر وازداد الخوارج تجرءا على الإمام.

وفي إحدى خطبه وثب يزيد بن عاصم المحازي فقال:

الحمد لله غيرمودع ربنا ولا مستغني عنه، اللهم انا نعوذ بك من اعطاء الدنية في ديننا فإن اعطاء الدنية في الدين إدهان في أمر الله وذل راجع بأهله الى سخط الله، ياعلي أبالقتل تخوفنا؟ أما والله إني لأرجو أن نضربكم بها عما قليل غير مصفحات، ثم لتعلم أينا أولى بها صلياً(16).

وقد اتينا الى خطبة يزيد لندلل من خلالها على أجواء الحرية التي وفرها الإمام لأصحابه والى أي مستوى بلغه قادة الخوارج من تمادي في استغلال هذه الأجواء في الجهر بدعوتهم.

وأخذت حركتهم في الاتساع وتحولت من حالة فردية الى حالة جماعية، فاجتمعوا في بيت أحدهم. وانتخبوا لهم قيادة واختاروا لهم مقراً. وأخذوا يراسلون من يؤيدهم في السر حتى أصبحوا قوة في حروراء بالقرب من الكوفة(17).

 

 

 

الهوامش:

1- المجلسي بحار الأنوار 41/55.

2- مناقب آل أبي طالب 1/ 310.

3- المجلسي بحار الأنوار 41/56.

4- المجلسي بحار الأنوار 41/57.

5- الدليل 495 (السعدان: نبت له شوك يقال له حسك السعدان، والمسهد الممنوع من النوم، وصفده يصفده: شدّه وأوثقه).

6- ابن الأثير الكامل في التاريخ 3/ 401 وذكر في رواية أخرى بصيغة يهودي فلعله حادثتان أو خطأ من المؤرخين.

7- الدليل 564.

8- ابن قتيبة الإمامة والسياسة ص 109.

9- المجلسي بحار الأنوار 41/ 120.

10- محمد عبده نهج البلاغة 1/ 459.

11- ابن الأثير الكامل في التاريخ 3/ 293.

12- ابن قتيبة الإمامة والسياسة ص 106.

13- ابن الأثير الكامل في التاريخ 3/ 286.

14- الطبري 5/ 72 الكامل في التاريخ 3/ 334.

15- ابن الأثير الكامل في التاريخ 3/ 334.

16- ابن الأثير الكامل في التاريخ 3/ 335.

17- حروراء قرية من قرى الكوفة بينها وبين الكوفة نصف فرصخ (الروض المعطاء في خبر الأقطار ص190).