mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 12.doc

الفصل الرابع: الإمام علي(عليه السلام) حاكماً ومربيا

البيعة للإمام

توالت الأحداث في نهاية عهد الخليفة عثمان الى تلك الصورة المفجعة التي ذكرها التأريخ، حيث اقتحم الثوار دار الخليفة وقتلوه وهو بين أهله وعياله ثم انطلقوا لاختيار البديل. لكن من الذي يجرؤ ويتقدم ويتقبل هذه المسؤولية بعد الذي حدث وجرى.

بقيت المدينة بعد مقتل الخليفة عثمان خمسة أيام وأميرها الغافقي بن حرب، وهم يلتمسون من يجيبهم الى القيام بالأمر فلا يجدون، يأتي المصريون علياً فيختبىء منهم ويلوذ بحيطان المدينة، فاذا لقوه باعدهم وتبرأ منهم ومن مقالتهم مرة بعد مرة ، ويطلب الكوفيون الزبير فلا يجدونه، فأرسلوا اليه حيث هو، فباعدهم وتبرأ من مقالتهم ويطلب البصريون طلحة فاذا لقيهم باعدهم وتبرأ من مقالتهم مرة بعد مرة وكانوا مجتمعين على قتل عثمان مختلفين فيمن يهوون فلما لم يجدوا ممالئا ولامجيباً جمعهم الشر على أول من اجابهم وقالوا لانولي أحداً من هؤلاء الثلاثة فبعثوا الى سعد بن ابي وقاص وقالوا انك من أهل الشورى فرأينا فيك مجتمع فاقدم نبايعك فبعث اليهم اني وابن عمر خرجنا منها فلا حاجة لي فيها على حال.

ثم انهم أتوا ابن عمر عبدالله فقالوا: انت ابن عمر، فقم بهذا الأمر فقال:

إن لهذا الأمر انتقاماً والله لا أتعرض له، فالتمسوا غيري فبقوا حيارى لايدرون مايصنعون والأمر أمرهم(1)

وتعود هذه الممانعة الى الأسباب التالية:

ا- الظروف السياسية الصعبة التي نشأت بعد مقتل الخليفة، فقد زاد هذا الحادث الأمور تعقيداً ولم يعد هنالك أمل بحل المشكلة طالما ان الفئات السياسية التي اشتركت في قتل الخليفة لازالت مصرة على البقاء في العاصمة وهي وإن اشتركت في قتل الخليفة لكنها مختلفة في الأهواء والنوايا، فأهل الكوفة كانوا مع الزبير، وهوى أهل البصرة مع طلحة، أما أهل مصر فكانوا مع علي(2).

فكان المطلوب من الخليفة الجديد مواجهة كل هذه التيارات التي كانت متوحدة حتى مقتل الخليفة، لكنها من الآن أصبحت متفردة في أهدافها ساعية من أجل تمكين رموزها في السلطة.

2- لم يكن من المعقول أن يتقدم أحد من الصحابة على علي بن ابي طالب (عليه السلام)، فهو الأحق بها حتى لو أبدى عدم رغبة. فوجود الامام علي (عليه السلام) كان يحبط أية رغبة لدى الصحابة في استخلاف عثمان بن عفان.

3- من أصعب ماكان يواجهه الخليفة الجديد هو السيطرة على الثوار الذين كانوا متوترين الى أعلى درجات التوتر وهم يملأون المدينة المنورة ويفرضون عليها أحكاماً عرفية. فما كان ليقنع هؤلاء الثوار بالتوقف والعودة الى أوطانهم إلا اطمئنانهم بالخليفة الجديد الذي سيتولى مسؤولية ادارة البلاد الاسلامية واطمئنانهم انه سوف لايسلك الطريق الذي سلكه الخليفة عثمان وانه على استعداد تام لإصلاح الأوضاع السابقة سياسية كانت أو اقتصادية.

4- القضية التي كانت تواجه الخليفة هي القصاص من قتلة الخليفة، ولأن الحادثة قد وقعت بصورة مضطربة، فقد كان من الصعب تحديد الجناة ثم إن هناك جدلاً كان يدور حول شرعية تلك الثورة، وهل كان من حق الثوار اقتحام دار الخلافة ثم قتل الخليفة أم لا؟ لأن الذين ثاروا على الخليفة واقتحموا داره كانوا يعتقدون انهم على حق وانهم يقومون بماهو صواب وحق، فمن الذي يستطيع في ذلك الجو المشحون أن يقول لهم انكم على باطل بقتلكم الخليفة، وعلى فرض وضوح المسألة من الوجهة الشرعية وحتى الوجهة الواقعية، أي أن القاتل قد شُخّص للسلطات، وتشخص أيضاً انه ارتكب قتلاً عن عمدٍ حينذاك من يستطيع أن يمسك بزمامه ومن يستطيع أن يقيم عليه الحد في تلك الظروف المشحونة بالثورة والهيجان الشعبي.

بالطبع لم يكن أحد من الصحابة على استعداد لتوريط نفسه في هذه المشكلة العويصة باستلامه زمام الخلافة الا رجل واحد. وهو رجل المهمات الصعبة الذي كان يقتحم الصعاب في زمن الرسول، ذلك هو علي بن ابي طالب (عليه السلام) الذي كان دائما يؤثر المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.

فقد جاؤوا اليه وكرروا المجيء لكنه كان يردهم لأنه لايرى أي مكسب في خلافة تأتيه في تلك الظروف الغامضة ولايرى أية مصلحة في ركوبه هذا المركب الصعب الذي لارغبة لأي أحد فيه. فقد كان يقول لهم لاحاجة لي في أمركم ولم يقلها عن غضب كان يقولها ويزيد الصحابة اطمئنانأ بأن موقفه سيكون ايجابيا كما كان دائما مع الخلفاء الثلاث.

فكان شعاره هو: انا معكم فمن اخترتم فقد رضيت به.

رضيت به دون أن يعرف من هو وما سيكون موقفه، إنه موقف الإنسان الواعي والمدرك لمخاطر هذا المنصب. وموقف الزاهد عن تلك الخلافة التي جاءته في وقت رغب عنها أبسط الناس.

لكن عندما وجد المسلمين وقد مضى عليهم أياماً وهم بلا خليفة، تغيرموقفه وقرر أن يستجيب لرغبة المسلمين..

وكم هي كارثة أن تظل أزمة الخلافة لأمد أطول، فالأعداء يحيطون بالدولة الاسلامية من كل مكان.

وهؤلاء الثوار الذين قدموا من كل مكان لابد لهم أن يعودوا الى أوطانهم لينشغلوا بالانتاج وبالدفاع. فأية مصيبة كان يمكن أن تحدث للمسلمين لو استمر الأمر على هذا المنوال.

هكذا وجد الامام ان من مسؤوليته الشرعية أن يقبل بالخلافة ايثاراً منه للمصلحة العامة. ومرة أخرى يدوس الامام على رغبته الشخصية ويقبل شيئأ لم يتمناه وهو الخلافة في تلك الظروف الصعبة.

وكان متيقظاً بأن أحداً لن يتمكن من تهدأة الأوضاع والسيطرة على الثوار غيره، فصمم على تحمل المسؤولية، لكن على شرط.. والشرط الذي وضعه الامام يكشف عن عمق ادراكه لأسباب المشاكل التي اجتاحت المسلمين.

قال لهم: انكم قد اختلفتم الي وأتيتم وإني قائل لكم قولاً إن قبلتموه قبلت أمركم والا فلاحاجة لي.

قالوا: ماقلت من شيء قبلناه إن شاء الله.

فجاء فصعد المنبرفاجتمع الناس اليه فقال: اني قد كنت كارهاً لأمركم فأبيتم الا أن أكون عليكم، ألا وإنه ليس لي أمر دونكم الا أن مفاتيح مالكم معي ألا وأنه ليس لي أن آخذ منه درهماً دونكم رضيتم قالوا: نعم.

قال اللهم اشهد عليهم- ثم بايعهم على ذلك(3).

لقد وضع الإمام يده على الجرح.

فالمال وتقسيم المال بدون ضوابط هو السبب الرئيسي وراء كل تلك الظواهر السلبية التي اتسم بها الحكم.

فكان لابد من وضع نهاية لهذه الحالة المرضية. وذلك بوضع سياسة مالية في التوزيع قائمة على العدالة والمساواة.

وقد ضرب الإمام مثلأ عن نفسه عندما قال وإنه ليس لي أن آخذ منه درهماً دونكم ليفهم الجميع فحوى هذه السياسة التي يتساوى فيها الحاكم والرعية دون تفضيل لأحد. ولم يكن الإمام ليتحمل تلك المسؤولية الا بعد قبول الجميع شرط المساواة في العطاء، وبهذا القرار الذي حدده الإمام كشرط للبيعة دشن المسلمون حلة جديدة من التأريخ الاسلامي في ظل نظام عادل أقامه الامام علي (عليه السلام) بتحديه الكبير للظروف السياسية والاجتماعية، فكان لابد من وقفة طويلة وواعية مع ذلك النظام الذي أصبح امثولة في التأريخ ونموذجاً يضرب به المثل.

 

الحكم والسلطة

الحكم والسلطة عند الإمام علي (عليه السلام)..

السلطة، هي وظيفة شرعية عند الإمام علي (عليه السلام) وليست كرسياً يتصارع من اجله، وهذه هي حجر الأساس في كل مايتعلق بحكومة الإمام علي في النظرية والتطبيق.

ولايمكن فهم فترة حكم علي(عليه السلام)، الا اذا تشبعنا بتلك الرؤية الإلهية التي يرى من خلالها الإمام السلطة.. وكل تقييم لحكم الإمام لاينطلق من هذا المفهوم فهو تقييم خاطىء...

فكثيرون لم يعرفوا مرامي الامام وأهدافه فتخبطوا خبط عشواء، ولانلومهم على ذلك فقد كان هناك عدد من المسلمين في زمن الامام لم يفهموا تلك المرامي حتى بادرهم الامام قائلاً: وليس أمري وأمركم واحداً- إني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم(4).

من هنا فالإمام.. قولاً وفعلاً هو شخص واحد فكانت سيرته وسياسته منطلقة من مقولاته، وأول مقولة له.. العامل بطاعة الله والحاكم بحكم الله لاوحشة عليه.. أجل فقد كان في النظرية والتطبيق شيئاً واحداً قلما يحدث في تأريخ الحكومات.. من هنا كان الحكم عند الامام على مستوين.

ا- مستوى النظرية، ومستوى الميدان والممارسة والتطبيق، فكان لابد من الإلمام بالجانبين معأ.

فللإمام نظرات معلنة عن الحكم الاسلامي السليم صرح بها في فترة الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه وله وصايا لولاته وخطب قالها في المناسبات وتعليقات على الأحداث التي جرت في فترة حكم الاسلام ابتداءً من تكوين الدولة الاسلامية وحتى فترة حكمه وكل هذه النظرات والتصورات تشكل بمجموعها نظرية متكاملة كان لابد من كشف معالمها وتبيان بنودها وقد جمعت في نهج البلاغة.

وقبل الخوض في تفصيلات ومرتكزات الحكم عند الإمام كان لابد من إثارة موضوع ناقشه العلماء حول هوية صاحب النهج.

فقد جرى جدل واسع بين العلماء حول مصداقية نهج البلاغة وهل هي خطب جمعها الشريف الرضي أم انها من صنعه وأنها تنسب للإمام علي (عليه السلام)، وقد ناقش ابن ابي الحديد هذا الموضوع بالتفصيل في شرحه على الصفحة 8-9 الجزءالأول(5) وكان أول من شكك بنهج البلاغة قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان إذ ذكر في صفحة 313 الجزء3 من وفيات الأعيان.

وقد اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام الامام علي بن ابي طالب رضي الله عنه هل هو جمعه أم جمع أخيه الرضي؟ وقد قيل إنه ليس من كلام علي وإنما الذي جمعه ونسبه اليه هو الذي وضعه والله أعلم... انتهى كلام خلكان.

ومن جاء من بعد ابن خلكان أخذ بهذا الرأي.

ولاقيمة لرأي ابن خلكان للأسباب التالية:

 

1- لم ينفرد الشريف الرضي المتوفى سنة 406 للهجرة في ذكر خطب نهج البلاغة، فقد جاء على ذكرها صاحب كتاب تحف العقول المتوفى سنة 332 وقبل أن يولد الشريف الرضي حيث كانت ولادته سنة 359 للهجرة.

2- ذكر المسعودي المتوفى عام 346 في مروج الذهب ومعادن الجوهر في الجزء 2 صفحة 431.. والذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة خطبة ونيف وثمانون خطبة يوردها على البديهة وتداول الناس ذلك عنه قولاً وعملاً(6)

وهذا مايؤكد إن هذه الخطب كانت محفوظة في صدور الناس حتى جاء الشريف الرضي وكل ماجمعه هو (485) خطبة وهو نفس ذلك العدد الذي ذكره المسعودي.

3- إن حال ابن خلكان لايبعث على الإطمئنان، فقد ذكر في ترجمته في مقدمة موسوعته وفيات الأعيان في صفحة 95 إنه كان متهما بالكذب في النسب وأكل الحشيش وحب الغلمان فلم ينكرها بل أكد عليها. وكان يعمل في خدمة السلاطين، عمل تأريخياً للملك الظاهر ووصل نسبه بجنكيزخان، فلما وقف عليه، قال هذا يصلح أن يكون وزيراً أطلبوه وربما كان لوجود خطب أميرالمؤمنين بين أيدي الناس في ذلك الزمن ما يثير المسلمين على الظالمين ويدفع بهم الى أخذ حقوقهم من السلاطين والولاة مما دفع بهذا المؤرخ الى انكار نسبتهما الى الامام اميرالمؤمنين ليقلّل من شأن تلك الخطب السياسية ومما قيل في حقه عندما عين قاضياً في دمشق:

بدمشق آية قد ظهرت للناس عاماً*****كلما ازدادوا شموساً زادت الدنيا ظلاماً

 إذ كان في دمشق ثلاثة قضاة يحملون اسم شمس الدين فيهم ا بن خلكان وهذين البيتين يكشفان عن سيرة ابن خلكان في القضاء بالإضافة الى ماتقدم من سيرته مع الملوك والسلاطين(7)

 

نظرية الدولة

يقسم أركان الدولة حسب النظرية الحديثة الى ا- الشعب 2- الإقليم 3-السلطة السياسية.

وباختلاف واضح بين طبيعة الدولة في الفكر السياسي الحديث والفكر الاسلامي ينتج تغير في مفهوم الشعب وفي مفهوم الإقليم.

فالشعب أناس يرتبطون فيما بينهم برابطة الأرض، بينما الأمة يرتبط أفرادها برابطة العقيدة الواحدة. فهناك حدود الأرض هي التي تحد مواطني الدولة. بينما هنا حدود العقيدة هي التي تحد هؤلاء المواطنين.

من هنا فالإقليم في الدولة الاسلامية ممتد بامتداد العقيدة الاسلامية وهو ليس بثابت لأنه يتسع ليشمل الأرض كلها.

من هنا قامت نظرية الإمام علي (عليه السلام).

 

أولاً: الرعية والأمة

درج المسلمون على اطلاق مصطلح الرعية على الشعب وهي مأخوذة من الرعاية ومستلهمة من الحديث الشريف كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، وقد ظل المسلمون يستخدمون هذا المصطلح حتى حل الاستعمار الغربي في بلادنا الاسلامية، فأخذوا يطلقون لفظة الرعية على رعايا الدول المستعمرة، فكف المسلمون عن استخدام هذا المصطلح وأستبدلوه بمصطلح الأمة حيث عم استعماله منذ عهد جمال الدين الأفغاني وحتى الآن. والرعية عند الامام علي (عليه السلام) جزء مكمل للراعي، فلم نجد استعمالاً للكلمة منسلخة عن الراعي، إذ لارعية بلا راع، كما وان لا قدرة للراعي أن يعمل شيئاً بدون الرعية، فهناك تفاعل مشترك بين الراعي والرعية، وهناك حقوق متبادلة بينهما، وتشكل هذه الحقوق نظام العلاقة المتينة بين القاعدة والقمة. يقول الامام (عليه السلام):

وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي.

فريضة فرضها الله سبحانه لكل على كل فجعلها نظاماً لألفتهم وعزاً لدينهم، فليست تصلح الرعية الا بصلاح الولاة ولاتصلح الولاة الا باستقامة الرعية، وقيام كل طرف بما عليه من مسؤولية سيؤدي الى سلامة المسيرة.

فإذا أدت الرعية الى الوالي حقه وأدى الوالي اليها حقها عز الحق بينهم وقامت مناهج الدين واعتدلت معالم العدل وجرت على اذلالها السنن فصلح بذلك الزمان وطمع في بقاء الدولة ويئست مطامع الأعداء (8)

وتنطلق هذه الرؤية من انسان مسؤول وليس من فيلسوف أخذه الترف الفكري وهو يرتقي بمستوى الرعية ليضع أمامها مسؤوولية كبرى.. ففي خطبة له في أول خلافته:

اتقوا الله في عباده وبلاده فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم(9)

 فمسؤولية كل فرد في الأمة هي مسؤولية شاملة للعباد والبلاد.

فالمسؤولية على العباد قضية لاتقبل الشك والشبهة.

أما المسؤولية على البلاد فهي تمتد لتشمل كل البقاع وكل ما يرتع فوقها من

البهائم.

وهنا يلتقي بمفهوم الرعية بمفهوم الإقليم فأينما وجد إنسان مسلم فالأرض التي يقف عليها أرضه والعلاقة التي بينهما هي علاقة المسؤولية.

وعندما يكتب الامام علي (عليه السلام) ولاية العهد لمالك الأشتر.. يصف له الرعية وصفاً دقيقاً يتصاغر أمامه كبار الأدباء والعلماء.

واعلم أن الرعية طبقات لايصلح بعضها الا ببعض ولاغنى ببعضها عن بعض يا جنود الله ومنها كتاب العامة والخاصة ومنها قضاة العدل ومنها اعمال الإنصاف والرفق ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس ومنها التجار وأهل الصناعات ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة.

وكل قد سمى الله له سهمه ووضعه على حده فريضة في كتابه أو سنة نبيه(صلى الله عليه وآله وسلم) عهداً منه عندنا محفوظاً.

فقد تضمنت تلك القطعة الخالدة تحليلاً اقتصادياً وسياسياً للمجتمع الاسلامي، تناول فيه الامام الأدوار الاجتماعية لأفراد المجتمع وتصنيفاتهم على أساس وضعهم الاقتصادي والسياسي والأدوار التي يقومون بها في المجتمع، فالرعية على قسمين من حيث الموقع الاجتماعي والسياسي.. الخاصة والعامة.

فالخاصة هم الطبقة الارستقراطية التي تتكون على بعد شبر من السلطة.

والعامة وهم طبقة الأكثرية وهم الطبقة الفعالة في المجتمع التي تتحمل جميع أعباء العمل في الدولة.

فأين سيكون موقع الخاصة من السلطة؟

وأين هو موقع العامة؟

فالخاصة هم أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء وأقل معونة له في البلاء. وأكره للإنصاف.

وأسأل بالالحاف.

وأقل شكراً عند الاعطاء.

وأبطأ عذراً عند المنع.

وأضعف صبراً عند ملمات الدهر.

أما العامة. فهم عماد الدين.

وجماع المسلمين.

والعدة للأعداء والعامة من الأمة.

وعماد الدين بمعنى اقامته وتطبيقه وهو ليس فقط الصوم والصلاة بل السياسة والاقتصاد والحكم والعدل أيضاً. وهم يشكلون اجماعاً في الأمة، فكان لابد للوالي من اعتمادهم والأخذ برأيهم، فرأيه هو الرأي العام.. كما وإنهم يمثلون القوة المستعدة دائما لمقارعة الأعداء.. وهم الى جانب ذلك يمثلون الأكثرية في الأمة.

والإمام يضع قاعدة هامة وهي الأخذ برأي الاكثرية وهو لايضع هذه القاعدة جزافاً.. فالأكثرية لا لانهم الأكثر عدداً في المجتمع، بل لأنهم يقومون بأدوار بناءة هامة. فهم عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء.

وأخيراً هم العامة من الأمه أي الأكثرية.

أما الأقلية التي تحاول دائما التقرب الى السلطة والهيمنة على الوالي فهي أبعد ماتكون عن تحمل المسؤوليات لأنها طبقة همها الأول والأخير هو الإستئثار بالسلطة والإستفادة من امكانات الدولة فهي تندفع لتأمين مصالحها الشخصية وليس لها اهتمام بمصالح الدولة.

وبعد هذا التوضيح المقتضب لمفهوم الرعية وتقسيماته الإجتماعية، كان لابد من وقفة تأمل مع مفهوم الأمة.

فالأمة هي الرعية لكن ليس في زمن محدد بل في كل زمان، فالأمة الاسلامية الأفراد الذين دخلوا الاسلام منذ عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وحتى يومنا هذا وبهذا المعنى استعمل الامام علي (عليه السلام) مصطلح الأمة.

فالأمة لفظ عام بينما الرعية لفظ خاص يستعمل لزمن معين، يقول الامام علي(عليه السلام) لن تقدس امة لايؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غيرمتتعتع(10).

ويقول عن الأكثرية المتفاعلة مع الوالي بأنها العامة من الأمة فالأمة أشمل من الرعية، والأمة هنا كل الذين يجمعهم جامع الدين ووظيفة العمل من أجل الدين. أما الأمة هنا فهم الأفراد الذين آمنوا بالإسلام وعملوا به والذين ينظمون اتهم وسلوكهم على أساس الدين.

على هذه الرؤية يطلب الإمام من واليه

ولاتنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة وهم المسلمون الأوائل الذين عكسوا الدين على سلوكهم وتفكيرهم فكانوا مثلاً لغيرهم، وأصبحت سيرتهم قانوناً يسيرعليه بقية المسلمين.

فالأمة إذن هي التي اصطبغت بصبغة الاسلام والتي تمتاز بعقيدتها في التوحيد وفي اخلاقها الاسلامية.

هنا يبدو لفظ الأمة أخص من لفظ الرعية لأن الرعية تشمل حتى غير المسلمين.

فاذا بين اللفظين خصوص وعموم.

فالأمة هم المؤمنون بالاسلام على مدى الزمن.

بينما الرعية هم رعايا الدولة الاسلامية في زمن معين فهم المسلمون وغيرالمسلمين. الأمة هي ظاهرة اجتماعية تتلخص في وجود جماعة من البشر يسود بينهم روح الترابط والاتحاد وتجمعهم الرغبة في العيش المشترك فوق اقليم معين نتيجة لتظافر عدد من العوامل التي حولتهم الى قوم يتميزون عن غيرهم من الجماعات البشرية.

وينتج عن تلك الفوارق بين الامة والرعية وجود شخصية قانونية للرعية. فالرعية تتشكل من وجود رابطة سياسية قانونية بينما الأمة الرابطة الاساسية فيها هي العقيدة والتعبير المرادف تماماً لتعبير الرعية هو الشعب.. إذ الرابطة التي تربط أفراد شعب الدولة هي أيضاً رابطة سياسية قانونية تفرض عليهم الولاء للدولة والخضوع لقانونها وتفرض على الدولة في المقابل حماية أرواحهم وأموالهم وكافة حقوقهم التي يقرها لهم القانون(11)

أما مسؤولية الأمة فيحددها الإمام علي بمايلي:

وأما حقي عليكم:

ا- فالوفاء بالبيعة

2- النصيحة في المشهد والمغيب.

3- والإجابة حين ادعوكم

4- والطاعةحين أمركم.

يستعرض الامام هذه الواجبات في اطار نظام الحقوق المتبادلة بين الراعي

وا لرعية.

 

 

الهوامش:

1- الطبري 4-432.

2- طه حسين اسلاميات/ 840.

3- الطبري4/ 428.

4- أنصاريان/ دليل نهج البلاغة 432.

5- أبن ابي الحديد شرح نهج البلاغة ج 1 8 – 9 تحقيق محمدأبو الفضل ابراهيم.

6- المسعودي مروج الذهب 2/ 431 تحقيق محمد أبوالفضل ابراهيم.

7- ابن خلكان وفيات الأعيان 1/ 6-9.

8- أنصاريان الدليل ص 693.

9- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد خطبة 48 ا ج9/288

10- البسيوني النظم السياسية أسس التنظيم السياسي ص 36.

11- صادق أبوهيف القانون الدولي العام ط 7 ص 122-123.