mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 06.doc

الشخصية ونموها

في لقاءات سابقة حدثناكم عن التربية وصلة ذلك بكلٍّ من التركيبة البشرية وما يترتب من معرفتنا بطبيعة التركيبة البشرية من بُعد تربوي كما حدثناكم في محاضرات سابقة عن عنصري الوراثة والبيئة ومدى إسهامهما في العملية التربوية وانتهينا إلى أن التصور الإسلامي للعملية التربوية المرتبطة بعنصري الوراثة والبيئة، إن هذا التصور ركّز على أن لكل من البيئة والوراثة الأثر الكبير في تعديل السلوك ولاحظنا كذلك أن التصورات الأرضية كانت متفاوتة في وجهات نظرها حيال عنصري الوراثة والبيئة وانعكاسهما على البعد التربوي، وقلنا أيضاً أن غالبية الاتجاهات التربوية لحسن الحظ قد تساوقت مع التصور الإسلامي لهذا الجانب.

أما الآن وقد انتهينا من الحديث عن عنصر الوراثة والبيئة وانعكاسهما التربوي يجدر بنا الآن أن نتابع حديثنا عن هذين العنصرين نفسهما ولكن من خلال محور مهم جداً ألا وهو محور نمو الشخصية.

 

الشخصية ونموها

 

إننا نعرف جميعاً أن الشخصية تمر بمراحل من النمو متنوّعة تبدأ أولاً من عملية الانتقاء الزوجي، أي تبدأ أولاً من الاتحاد بين كائنين هما الرجل والمرأة من خلال عملية الزواج، حيث أن عملية الزواج ذاتها تنطوي على بُعدٍ تربوي من خلال عملية الانتقاء لكلّ منهما للآخر على نحو ما نتحدث عنه لاحقاً بالتفصيل إنشاء الله، وكذلك المرحلة التي تليها وهي مرحلة انعقاد النطفة حيث أن للظروف المصاحبة لانعقاد النطفة أيضاً أثرها في البعد التربوي كما سنرى، ثم نواجه مرحلة ثالثة هي مرحلة الحمل حيث أن الحمل بما تصاحبه من تغيرات متنوّعة تعكس آثارها بدورها على العملية التربوية، وهناك أيضاً مرحلة رابعة هي مرحلة الولادة أو النفاس، وحتى هذه المرحلة البالغة عشرة أيام سنجد أن المشرّع الإسلامي يمنحها أهمية كبيرة ويقدّم توصيات تربوية في هذا الميدان. ثم نواجه بعد ذلك المرحلة المتمثلة في الرضاعة، والرضاعة تمتد شهوراً متنوعة، هذه المرحلة بدورها تخضع لتوصيات تربوية متنوعة تتصل بالغذاء الذي يتناوله الطفل وانعكاس هذا الغذاء على مستقبل الشخصية في مطلق سماتها العقلية والجسمية والنفسية وو.. الخ.

كل هذه المراحل كما تلاحظون تقترن بأهمية تربوية من حيث الظروف التي ينبغي أن نلاحظها نحن المعنيين بشأن البعد التربوي للشخصية ونقدّم أو بالأحرى نتعامل مع هذه الظواهر بما يتطلبه الموقف التربوي من حذر ويقظة بالشكل الذي نحدثكم عنه في لقاءاتنا اللاحقة إنشاء الله.

والحق أن هذه المراحل ما هي إلا مراحل - في الواقع - ترهص بمراحل أخرى هي الأشد أهمية ألا وهي المراحل المتمثّلة في كلٍّ من الطفولة والرشد، والفروع أو المراحل الفرعية التي تنتظم كل مرحلة من هاتين المرحلتين؛ أي مرحلتي الطفولة والمراهقة، فالطفولة تقسّم عادةً إلى مرحلتي الطفولة الأولى والطفولة الثانية، وهناك من العلماء التربويين والنفسيين من يقسّمها إلى أكثر من مرحلة، وكذلك حينما نتجه إلى مرحلة المراهقة حيث سنجد من يقسّمها إلى مرحلتين أيضاً ونجد من يقسّمها إلى أكثر من مرحلتين، بعد ذلك نواجه مرحلة من مراحل الرشد، حيث أن المراهقة في الواقع هي البداية الأولى من مرحلة الرشد، وما يليها تجسّد مراحل من الرشد متنوّعة على نحو ما نحدّثكم عن ذلك في محاضراتنا اللاحقة إنشاء الله تعالى.

المهم إننا استهدفنا من هذا التمهيد أن نشير إلى مسألة مهمة جداً ألا وهي مسألة نمو الشخصية؛ حيث يعنى علماء التربية والنفس بهذه المراحل ويجدون أن أهم ما ينعكس على العملية التربوية أو بالأحرى يجدون أن أهم ما تضطلع به العمليات التربوية هي في الواقع تبدأ لتلاحظ مراحل نمو الشخصية حتى تقدم ما يتلائم من التنشئة الاجتماعية، ما يتلائم وهذه المراحل.

على أية حال نبدأ الآن ونحدثكم عن هذه المراحل بشكل مفصل إنشاء الله، وذلك من خلال التصور الإسلامي لها مقارناً بطبيعة الحال بالتصورات الأرضية، حيث نكرّر الإشارة إلى أن عملية المقارنة أي مقارنة التصور الإسلامي بالتصور الأرضي لا يعني أن هدفنا هو إقامة المقارنة من أجل الإطلاع فحسب، وإنما هو من أجل أن يقف الطالب على التصور الإسلامي ومن خلال وقوفه على التصور المذكور، تتعمق قناعته بفاعلية التصور الإسلامي وانفراده بالملاحظات الصائبة في هذا الميدان، حيث أن التصورات الأرضية في المستويات جميعاً تظل خاضعة لتفاوت ملحوظ بين وجهات النظر مما يجعل العملية التربوية مضطربة لا ترسو على شاطئ محدد، بينما نجد التصور الإسلامي يحسم الموقف بوضوح.

إذن لنبدأ الآن ونتحدث عن مراحل نمو الشخصية والانعكاسات التربوية على هذه المراحل من النمو، ونبدأ ذلك بالحديث عن التوصيات الإسلامية المرتبطة بالتحسين الوراثي والتوصيات المتصلة بالتنشئة الاجتماعية، للإفادة من هذين العنصرين في تعديل السلوك البشري وتنظيمه. وقد قلنا أن المشرع الإسلامي قد أقرّ نمطاً من الوراثة الطارئة، عندما تحدثنا عن الوراثة قلنا أن المشرّع الإسلامي قد أقرّ نمطاً من الوراثة الطارئة، ضمن ظروف وشروط خاصة، وقلنا أن الخارج عن ذلك فإن البيئة هي التي تتكفل بعملية التنشئة، وفي ضوء هذا يمكننا الآن أن نتابع توصيات المشرع الإسلامي فيما يتصل بكلٍّ من التحصين الوراثي والبيئي، حيث نقف أولاً مع التوصيات المتصلة بالتحصين الوراثي، وهي توصيات كما قلنا تتناول مرحلة معينة من مراحل نمو الشخصية، هي المرحلة الأولية، أو بالأحرى يمكن أن نحدد ذلك بالذهاب إلى أنها المراحل التمهيدية، حيث يشدد المشرّع الإسلامي في توصياته على هذه المراحل التمهيدية، وهي مراحل تتمثّل في خمس:

أولاً: مرحلة الانتقاء الزوجي.

ثانياً: مرحلة انعقاد النطف.

ثالثاً: مرحلة الحمل.

رابعاً: مرحلة النفاس.

خامساً: مرحلة الرضاعة.

ومن البيّن أن هذه المراحل الخمس تشمل كلاً من البيئة قبل الولادة والبيئة بعد الولادة، فمرحلة الانتقاء الزوجي والانعقاد والحمل تمثّل بيئة ما قبل الولادة كما هو واضح، في حين أن مرحلتي النفاس والرضاعة تمثلان بيئة الأرض أي بيئة ما بعد الولادة، ولكن هاتين البيئتين تخضعان في الواقع لعنصر الوراثة الطارئة فيما يمكن من خلال - التزامنا نحن المعنيين بالشأن التربوي - وتوصيات المشرع الإسلامي نستطيع أن نخضع ذلك لعمليات التعديل والتحسين الوراثي والبيئي لسلوك الشخصية اللاحقة.

إذن لنبدأ ونتحدث عن هذه المراحل بشيء من التفصيل ولكن في حدود التصور الإسلامي بخاصة؛ ونقف الآن مع المرحلة الأولى وهي المرحلة التي أسميناها بـ(مرحلة الانتقاء الزوجي) فماذا نجد من التصور الإسلامي حيال هذه المرحلة؟!.

من الأهمية بمكان أن نذكّر الطالب بما سبق أن قررناه أو استشهدنا به في محاضرة سابقة، استشهدنا ببعض النصوص الواردة عن الإمام الصادق (عليه السلام) فيما يرتبط بالانتقاء الزوجي وقدمنا جملة توصيات تتمثّل في بعض الردود التي حذّر الإمام الصادق (عليه السلام) من التزاوج وإياها. وما نستهدف الآن الإشارة إليه بشيء من التفصيل هو أن نذكّر بأن مرحلة الانتقاء الزوجي وهو العملية التي تسبق عملية الزواج، أي مرحلة انتقاء الرجل للمرأة وانتقاء المرأة للرجل، هذه المرحلة تظل متميزة بأهمية كبيرة في التصور الإسلامي لدرجة أن التوصيات الإسلامية تقدم توصيات متنوّعة في هذا الميدان وذلك يعكس دون أدنى شك أهمية هذا الانتقاء من حيث انعكاساته على مستقبل الشخصية، ونحن نكّرر الآن ما سبقت الإشارة إليه في محاضرة سابقة من تحذير الإمام الصادق (عليه السلام) من الزواج من بعض الرهوط أو الأقوام الذين عرفوا بالنزعة العدوانية، وهي الغدر، حيث أوضح الإمام (عليه السلام) أن لهؤلاء الأقوام أصولاً وأعراقاً غادرة تسحب أثرها على الأجنّة، ولا ضرر من أن نعيد قراءة هذه التوصيات متمثلةً في قوله (عليه السلام): (لا تزوّجوا إليهم فإن لهم عرقاً يدعوهم إلى غير الوفاء)، وفي نصٍ ثان يقول (عليه السلام): (فإن لهم أرحاماً تدلّ على غير الوفاء)، وفي نص ثالث يقول (عليه السلام): (فإن لهم أصولاً تدعوهم إلى غير الوفاء)..

ومن الواضح الآن لديكم أن كلاً من العرق والأرحام والأصول وهي مصطلحات وردت في النصوص الثلاثة تشير إلى عملية النقلة الوراثية لسمة الغدر وانسحابها على المورثات أي الجينات التي تستقرّ نطفة في رحم الأم.

إن هذه السمة - سمة الغدر - تظل سمة نفسية، ونودّ الآن أن نذكركم بأننا عندما حدثناكم في لقاءات سابقة عن عنصري الوراثة والبيئة وانعكاساتهما التربوية نذكركم بأننا قلنا أن التصور الإسلامي لهذا الجانب يشير إلى أن النوع البشري بعامة يرث - في الواقع - أصولاً نقية من أية اضطرابات أو خلل، ولكن ثمة وراثة طارئة أيضاً تعتبر استثناءً للقاعدة المذكورة، حيث تسبب هذه الوراثة الطارئة خللاً أو اضطراباً في جهاز الشخصية، وقلنا أيضاً أن جهاز الشخصية لا ينحصر في سمة معينة أو مهارة معينة بل إن جهاز الشخصية يتناول كلاً من المهارات العقلية والمزاجية والأخلاقية والفكرية والاجتماعية وو.. الخ. هنا ونحن نتحدث عن مرحلة الانتقاء الزوجي نشير إلى أن هذه النصوص الواردة عن الإمام الصادق (عليه السلام) إنما تحدثنا عن واحدةٍ من السمات المرتبطة بسمات الشخصية وهي النزعة العدوانية أو ما لاحظتموه من المصطلح الذي استخدم كلمة الغدر لتشير هذه الكلمة أو لتشير هذه الظاهرة إلى النزعة العدوانية أو إلى سمة نفسية ترقد في أعماق الشخصية متمثلةً في النزعة المشار إليها.

والأمر ذاته سوف نجده أيضاً من خلال التصوّر الإسلامي لهذه الظاهرة - أي ظاهرة الانتقاء الزوجي وانعكاس ذلك على مستقبل الشخصية - فيما يتصل بالسمات الأخرى للشخصية؛ كالحسد مثلاً أو البخل أو الجبن، حيث نجد الإمام الصادق (عليه السلام) ذاته يحذرنا من الزواج من بعض الرهوط التي تتبعهم سمات تتصل بالحسد والبخل والجبن حيث يعقّب على ذلك جميعاً بقوله: (فتخيروا لنطفكم) إن قوله (عليه السلام) (فتخيروا لنطفكم) إنما تعني ضرورة أن ينتقي الرجل والمرأة كل واحد منهما زوجاً من رهوط أو أقوام لا تتبعهم سمات الحسد والبخل والجبن ونحو ذلك.. طبيعياً هنا قد يسأل بعضكم الآخر فيقول: هل إن هذه السمات ترتبط في الواقع بأقوامٍ أو بطوائف معينة، أم أن هذه السمات هي سمات فردية؟

إن الحديث عن هذا الجانب يطول بطبيعة الحال، لكننا لا مانع من أن نستثمر هذا الجانب لنقرّر بأن الواقع هو أن الفرد وليس القوم هو الذي يرث السمات النفسية أو العقلية أو الأخلاقية أو المزاجية.. الخ، لكن إذا افترضنا أن أفراداً معينين قد اجتمعوا في مكانٍ ما وكان من خلال التكيف البيئي لكلٍّ من هؤلاء الأفراد أن يتأثر كل واحد منهم بالآخر من خلال ظروف خاصة، حينئذٍ فإن سمة كالبخل مثلاً أو سمة كالغدر أو سمة كالحسد أو سمة كالجبن.. الخ. من الممكن أن تنسحب على هؤلاء من خلال مرور أجيال متنوعة بطبيعة الحال، وليس من خلال جيل قصير وإنما من خلال عدة أجيال تتناوب في هذا الصدد حتى تجعل هذه الطائفة أو تلك بل وحتى هذه المدينة وتلك بل وحتى هذه الأمة أو تلك تتميز بسمات معينة.

على أية حال لا نريد الآن أن ندخل في تفصيلات ذلك لأن الكلام في تفصيلات ذلك يتطلب طرحاً لمعرفة أخرى لا تتصل الآن بالمادة التربوية التي نحدثكم عنها، بل تتصل بمادة أخرى قد نحدثكم عنها إنشاء الله في محاضرات خاصة بالموضوع المشار إليه.

نعود الآن ونذكّركم بأن المرحلة الأولى وهي المرحلة الانتقائية للزوجين تظل متسمة بأهمية كبيرة حيث لاحظنا كيف أن الإمام الصادق (عليه السلام) قد حذّرنا من الزواج من بعض الرهوط أو الأقوام الذين عرفوا بالنزعة الغادرة وعرفوا بسمات الحسد، وعرفوا بسمات البخل، وعرفوا بسمات الجبن، إلى آخر ذلك.. ومما تجدر الإشارة إليه ونحن نستهدف المقارنة أيضاً بالتصورات الأرضية أو العلمانية من الأجدر أن نشير أيضاً إلى أن البحوث العلمانية في الواقع، أو البحوث الأرضية قطعت مراحل مختلفة من التجريب على الحيوان كالخيول والأنعام والكلاب والجرذان وغيرها.. حيث أسفرت هذه التجارب، أو أسفر هذا التجريب عن نتائج إيجابية من الزواج الانتقائي، كما أجريت بعض التجارب على الإنسان من خلال عملية التعقيم، وتمرير الانتقاء الزوجي في ضوء العملية المذكورة، حيث أسفر التجريب بدوره عن نتائج إيجابية أيضاً، ولكن كما تعلمون إن التجربة في هذا الميدان - التجربة على البشر - تختلف عن التجربة على الحيوان، لأن التجربة على البشر ترتطم بعدم إمكانية خضوع الأشخاص جميعاً لهذا الانتقاء لأن الضرر المتوقع حدوثه لا يمكن أن يتلافى بالنسبة إلى الإنسان كتلافيه أو كعدم أهميته بالنسبة إلى الحيوان!.

وهذا كله في ما يرتبط بالمرحلة الأولى أي مرحلة الانتقاء الزوجي.

وأما في ما يتصل بالمرحلة الثانية، حيث قلنا أن المرحلة الثانية من هذه المراحل التمهيدية تتمثل في مرحلة انعقاد النطف، حيث إن الكائنين الذين اتحدا من خلال الزواج بعد عملية الانتقاء المشار إليها سيمران بدون أدنى شك في مرحلة جديدة هي مرحلة الانعقاد المتمثل في النطفة، وهنا يلاحظ أن المشرع الإسلامي قد شدّد بإلحاح ملحوظ في هذه المرحلة وقدّم أيضاً توصيات متنوّعة تتصل بمختلف الحالات والمواقف والأزمنة وهي مواقف وحالات وأزمنة يختص بها المشرع الإسلامي وتغيب هذه في الغالب من ذاكرة علماء النفس الأرضيين وعلماء النفس التربويين لأنهم منعزلون عن السماء ولا يفقهون شيئاً من هذه الظواهر.

على أية حال هذه الحالات منها مثلاً حالات الطمث عند المرأة وحالة الاحتلام وحالة الاختضاب، وحالات أخرى كثيرة موجودة في مظانها يستطيع الطالب أن يراجع أي كتاب في الحديث ككتاب (الوسائل) حيث يجد عشرات الروايات المشيرة إلى هذه الظواهر. المهم إن ما نستهدف التأكيد عليه هو أن التصوّر الإسلامي أو أن التوصيات الإسلامية تشير بوضوح إلى أن ثمة ممارسات تتزامن مع الحالات المذكورة، أي الممارسة الجنسية في الحالات التي تتزامن مع ما سبقت الإشارة إليه سوف تسحب آثارها السلبية على الجنين في حالة انعقاد النطفة أثناء الممارسة الجنسية، أي إذا قدّر للنطف أن تنعقد خلال الحالات المذكورة.

وهذه الآثار السلبية تتمثل في أعراض عقلية ونفسية وجسمية، مثل الذُهان وهو الجنون، وكذلك بالنسبة إلى العصاب أي الأمراض النفسية، ومنها النزعة العدوانية وكذلك بالنسبة إلى السمات الجسمية كالعمى والبرص والجذام وو.. الخ. ففيما يتصل مثلاً بالتوصيات المحذرة من الممارسة الجنسية في حالة الطمث يشير أحد النصوص الواردة عن المعصومين (عليهم السلام) إلى العرض الجسمي الآتي حيث يتساءل (ترى هؤلاء المشوهين في خلقهم؟) وهذا سؤال من الإمام المعصوم (عليه السلام) يوجهه إلى أحدهم فماذا يجيب هذا الراوي؟ (قلت: نعم) يقول الإمام (عليه السلام) مجيباً: (هؤلاء الذين يأتون نساءهم في الطمث!) هذه توصية من التوصيات.

وإليكم التوصية الثانية على سبيل المثال وهي توصية تتصل بالممارسة الجنسية بعد الاحتلام وقبل الاغتسال من ذلك، يشير أحد النصوص الواردة عن المعصوم (عليه السلام) إلى المرض العقلي الكبير (الذهان) أي الجنون حيث قال (عليه السلام): (يكره أن يغشى الرجل المرأة وقد احتلم حتى يغتسل من احتلامه الذي رأى فإن فعل يخرج الولد مجنوناً) وهذا فيما يتصل بالذهان.

أما فيما يتصل بظاهرة الاختضاب وانعكاساتها فإن التوصية الآتية تحذر من إمكان انسحاب أثر أخلاقي على الجنين ألا وهو التخنث حيث تقول التوصية: (لا تجامع أهلك وأنت مختضب فإنك إن رزقت ولداً كان مخنثاً).

هذا إلى أن هنالك توصيات شتى تتصل بمواقف وأزمنة مختلفة وهي في الغالب غائبة عن البحث الأرضي، حيث أن البحث الأرضي منعزل عن إدراك أسرار التشريع الإسلامي ولحسن الحظ أن بعض أطباءنا المعاصرين استطاع أن يؤلّف أكثر من كتاب في هذا الميدان يوضح فيه من خلال وقوفه على الطب الحديث وعلاقة ذلك بالتوصيات الإسلامية التي تحذّر الشخصية من الممارسة الجنسية في أوقات خاصة، أو في ظروف خاصة فيما لا نريد الخوض الآن فيها لأنها تتطلب معلومات طبية لسنا بصددها الآن.

المهم إن المشرع الإسلامي يحذرنا من الممارسة الجنسية خلال الأوقات والحالات الخاصة التي أشرنا إليها أو الحالات أو الأوقات التي أعرضنا عنها حيث تتسبب في إحداث أعراض عقلية ونفسية من الممكن أن تفرزها أزمنة ومواقف خاصة على الجنين. لكن هنا ينبغي أن نشير إلى ملاحظة مهمة جداً ترتبط بالتوصيات المذكورة، هذه الملاحظة تنطوي على جملة نقاط:

أولاً: هذه التوصيات التي لاحظناها لا تأخذ في لسان النصوص الواردة عنهم (عليهم السلام) الطابع الحتمي بقدر ما تخضع لاحتمال، أي من خلال تزامن الممارسة الجنسية مع انعقاد النطفة. وهذا ما يتضح في مثل قوله (عليه السلام): (فإن قضي بينكما ولد) أي إذا تزامن الانعقاد مع الموقف حينئذٍ سيترتب عليه المحذور المشار إليه.

ثانياً: حتى مع التزامن فإن التوصيات المحذرة تشير إلى احتمال أن تنسحب السمة السلبية على الجنين، وليس إلى حتميته ويتضح ذلك في قوله (عليه السلام) عن بعض الممارسات: (فإنه يتخوّف على من يفعل ذلك الخبل) وهذا يعني أن ثمة احتمالاً بانسحاب ظاهرة الذهان على الطفل.

إذاً الأعراض المذكورة تظل جزءاً من سبب وليست كل السبب في العملية المذكورة، ولكن بما أن المشرع الإسلامي يحرص كل الحرص على إبقاء النسل نقياً من كل شائبة نجده يضع أمامنا كل فرص الوقاية،  ملحاً على ضرورة تلافي أي احتمال من الممكن أن يترك أثره السلبي على النسل، هذا مع ملاحظة أن التحذيرات المذكورة تفسّر لنا بعض الأسباب الكامنة وراء ظهور الأعراض المرضية المختلفة، فيما لا يزال الطب العقلي والنفسي عاجزاً عن تفسير أسبابها وخاصة فيما يتصل بالمواقف والأزمنة المحظورة، حيث قلنا إن أكثر من مؤلَّف حديث ظهر في هذه السنوات يشير إلى هذه الجوانب، ولكنها لا تزال غير منتشرة مع الأسف الشديد!.

على أية حال نكرر الذهاب إلى أن التوصيات الإسلامية المذكورة تظل حائمة على زمنٍ محدد يتمثّل في لحظات هي لحظات انعقاد النطف وأما بعد عملية انعقاد النطف فإن التوصيات الإسلامية تأخذ مجالاً آخر عبر المرحلة الثالثة من مراحل التحسين الوراثي، ألا وهي مرحلة الحمل، إذاً لنتحدث أيضاً عن هذه المرحلة ونعني بها مرحلة الحمل:

إن هذه المرحلة بدورها تحتل موقعاً له خطورته أيضاً من عملية تحسين النسل، وقد قدّم المشرّع الإسلامي توصيات متنوّعة تخصّ هذه المرحلة وهي توصيات تحوم في الغالب على التغذية المنتقاة للحامل، وانعكاس أثر هذه التغذية على الجنين في مختلف سماته العقلية والنفسية والجسمية، وقد سبقت الإشارة في محاضرة متقدمة إلى أن هذه المرحلة - مرحلة الحمل - بما تصاحبها من تغيرات قد أشارت البحوث الأرضية إلى أهميتها وإلى أهمية الأساس الكيميائي لها من حيث صلة التغذية المنتقاة بمهارات الطفل العقلية وغيرها من السمات، كما سبقت الإشارة أيضاً إلى أن النصوص الإسلامية شددت على التغذية وصلة ذلك بسمات الجنين عقلياً ونفسياً وجسدياً ومنها التغذية باللبان حيث ورد عن الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) نقلاً عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (أطعموا حبالاكم اللبان، فإن الصبي إذا غذي في بطن أمه باللبان اشتد عقله)، ويقول الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) وقد سبق الاستشهاد بهذه الرواية أيضاً حيث يطالب في توصيته نفس الإطعام حيث يعلّق على ذلك قائلاً: (فإن يك غلام في بطنها يخرج زكي القلب شجاعاً، وإن تكن جارية حسن خُلقها وخَلقها) ففي هذين النصين تجدون إشارة واضحة إلى أهمية التغذية المذكورة وصلة ذلك بتحسين النسل من حيث السمات العقلية والنفسية كالذكاء والشجاعة وحسن الخلق.

وأما تحسين النسل من حيث السمات الجسدية فيظل موضع عناية بدوره لدى المشرع الإسلامي حيث نجد في الكتب المقررة توصيات متنوعة بتناول الحامل للسفرجل مثلاً من حيث كونه يصفّي اللون ويحسّن السمة الجسمية للجنين.

بعد ذلك ننتقل إلى المرحلة الرابع وهي مرحلة النفاس، هذه المرحلة تمثل فترة ما بعد الولادة، ولكنها تخضع أيضاً لإمكانية تحسين النسل، ومن البيّن أن مرحلة النفاس تمثل أياماً معدودات تصاحبها عدة تغيرات نفسية وجسمية حيث يظل عنصر التغذية المنتقاة على صلة بهذه التغيرات وعلى صلة بانسحابها على سمات الطفل، وقد أوصى المشرع الإسلامي بتناول نمط خاص من التغذية في هذه المرحلة هو تناول الرطب نظراً لانسحابه على السمة المزاجية للطفل متمثلةٍ في سمة الحلم، وفي هذا الصدد يقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا تأكلوا نفساء يوم تلد الرطب فيكون غلاماً إلا كان حليماً، وإن كانت جارية كانت حليمة) أما الإمام الصادق (عليه السلام) فيشير إلى أحد أنواع التمور وانعكاسه على السمة المتقدمة - أي الحلم بالنسبة إلى الطفل - وهو نوع من التمر يسمى بالبرني حيث يقول: (خير تموركم البرني فأطعموا نساءكم في نفاسهن تخرج أولادكم حلماء) ومن البين أن سمة الحلم تعد من أبرز ملامح الشخصية السوية، حيث تمثل هذه السمة قدرة فائقة على التحكم في الانفعالات وكذلك في ضبطها، لذلك فإن الالتزام بالتوصيات المذكورة يعني أننا نهيئ الطفل لتحسين بالغ الخطورة في شخصيته لاحقاً.

وأخيراً المرحلة الخامسة وهي مرحلة الرضاعة؛ حيث نشير أيضاً إلى أهمية هذه المرحلة وهي مرحلة تمثل فترة ما بعد الولادة، ولكن أهميتها تظل مرتبطة بالتغذية المنتقاة أيضاً وهي تغذية تنحصر في نمط واحد هو الحليب الذي يتناوله الطفل في مرحلة الرضاعة، ونظراً لخطورة التغذية في هذه المرحلة وانسحابها على سمات الطفل عقلياً ونفسياً وجسمياً، نجد أن المشرع الإسلامي يشدد عليها كل التشدد حتى لتفوق سائر توصياته المتقدمة في عملية تحسين النسل، ويمكننا ملاحظة التشدد في توصيات المشرّع الإسلامي متمثلة أولاً في تحديد نمط اللبن الذي ينبغي أن يتناوله، وفي تحديد أنماط السمات المختلفة التي تسحب أثرها على الطفل ثانياً.

فمثلاً فيما يتصل بنمط اللبن الذي ينبغي أن يتناوله الطفل، نجد أن المشرع الإسلامي يشير إلى أن الرضاعة من الأم عامة أفضل من سواها، يقول النص: (ليس للصبي خير من لبن أمه) وهذه التوصية تحتل خطورة تربوية يتعين الالتزام بها، بخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار انتفاء المسوّغ للألبان الخارجية بمجرّد حصول بعض الملابسات المحيطة بالأم صحياً أو بالأسرة اجتماعياً، أما في حالة وجود المسوغ المشروع فإن المشرع الإسلامي يقدم تحذيراته الشديدة من إهمال هذا الجانب موصياً بضرورة التثبت في عملية انتقاء اللبن، مبيناً أثر المرضعة على سلوك الطفل، يقول أحد النصوص: (انظروا من يرضع أولادكم فإن الولد يشب عليه) إن هذا النص يعني بوضوح أن شخصية الطفل ستشبّ على نمط الحليب الذي يتناوله ساحباً أثره على سلوكه اللاحق.

وتجيء سمة الحماقة واحدة من السمات التي يحذّر المشرع الإسلامي منها عبر عملية الرضاعة حيث يقول الإمام محمد الباقر (عليه السلام) في هذا الجانب: (لا تسترضعوا الحمقاء ولا العمشاء فإن اللبن يعدي)، والحق أن هذه التوصيات تتجاوز سمة الحماقة وسواها إلى سائر السمات العقلية والنفسية ومنها سمات الشخصية المنحرفة فكرياً؛ فمثلاً نجد بعض النصوص تحذر من لبن البغي وشاربة الخمر وآكلة لحم الخنزير، وإليكم النص الآتي حيث يشير إلى الأنماط المتقدمة ويلفت نظر ولي الطفل إلى ضرورة الاتسام بالحذر حيث يقول: (فامنعوها - أي المرضعة - عن شرب الخمر وما لا يحل - مثل لحم الخنزير،  وأيضاً يخاطب أولياء الأطفال - لا تذهب بولدك إلى بيوتهن) فهذا النص يوصي بعدم السماح لولي الطفل من مغادرته بطفله إلى بيوت المرضعات المذكورات حتى يتحاشى إرضاعه لبناً يتزامن مع شرب الخمر وتناول لحم الخنزير.

على أية حال إن التوصيات المذكورة سواء أكانت متصلة بالرضاع أو بالنفاس تظل امتداداً لمراحل ما قبل الولادة فيما تشكل توصيات حائمة على مراحل خمس تساهم في عملية تحسين النسل من خلال عنصر الوراثة، أما عملية التنشئة الاجتماعية من خلال عنصر البيئة فإن توصيات المشرع الإسلامي تأخذ نمطاً آخر من العناية بها ما دامت المهمة العبادية للكائن البشري تتحقق من خلال التنشئة أساساً وهي تنشئة تتناول مراحل متنوعة من نمو الشخصية على نحو ما نحدثكم عن ذلك في لقاءات لاحقة إنشاء الله..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..