mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 05.doc

بسم الله الرحمن الرحيم    

تحدثنا في لقاءات سابقة عن أوّل مادة من مواد التربية، ألا وهي مادة كلٍّ من عنصر الوراثة والبيئة، حيث قلنا أن التربية أو أن الفاعلية التربوية تظلّ مرتبطة بهذين العنصرين ارتباطاً كبيراً بحيث يمكن الذهاب إلى أن طبيعة فهمنا للعنصر الوراثي وفاعليته يساهم دون أدنى شك في تكييف العمل التربوي وفق التكيف الوراثي الذي يسم الشخصية، والأمر نفسه بالنسبة إلى عنصر البيئة حيث أن التنشئة الاجتماعية أو التربية حينما تأخذ بنظر الاعتبار أثر البيئة وانعكاساتها على الشخصية حينئذٍ فإن الفاعلية التربوية ستأخذ دون أدنى شك دورها في إرساء أو في إنجاح العمل التربوي.

وفي حينه أوضحنا أيضاً أن كلاً من هذين العنصرين يظل الاعتقاد بهما، أو يظل التصور العلماني لهما متفاوتاً بين علماء التربية والنفس والاجتماع، حيث قلنا أن البعض ممن يؤكد على أهمية العنصر الوراثي في العمل التربوي، وآخر عكس ذلك يؤكد على أهمية البيئة في العمل التربوي، وثمّة اتجاه ثالث يؤكد على تآزر هذين العنصرين وأثرهما في العملية التربوية. وانتهينا من ذلك كله إلى أن التصوّر الإسلامي للموقف هو الذي يحسم المسألة دون أدنى شك حيث قلنا أن التصور الإسلامي لهذين العنصرين يظلّ من الوضوح بمكان كبير حيث يقر التصوّر الإسلامي بأن كلاً من هذين العنصرين له أثره في العملية التربوية دون أدنى شك، أي أن هذين العنصرين يتآزران في العملية التربوية من حيث انعكاس ذلك على العملية المشار إليها.

وفي حينه أيضاً أوضحنا أن الاتجاهات العلمانية تظلّ بدورها متفاوتة في تحديد النسب التي تخضع لأحد هذين العنصرين أو لكليهما، أي أن السمات العقلية والمزاجية والنفسية والاجتماعية والأخلاقية والجسدية وو.. الخ، هذه السمات يظل بعضها خاضعاً لفاعلية وراثية أكثر من غيره، والبعض الآخر يظل خاضعاً للعنصر البيئي أكثر من العنصر الوراثي، أي أن السمات، أو بالأحرى ما يطلق عليه بالسمات الشخصية أيضاً تظل موضع تفاوت بين العلماء المعنيين بشأن التربية والنفس والاجتماع، ولكن دائماً نكرر بأن التصوّر الإسلامي لأية مسألة سيظل هو الأمر الحاسم لكلّ خلاف في هذا الصدد ما دامت السماء تظلّ متسمة بالمعرفة المطلقة مما لا ضرورة لتكرار هذا الكلام بقدر ما نستهدف تعزيزه بما ذهبنا إليه من أن عرضنا لهذه الاتجاهات الأرضية العلمانية ليس بهدف تقويمها إيجاباً أو سلباً بقدر ما نهدف من خلال المقارنة إلى أن نتبيّن مدى فاعلية التصوّر الإسلامي وأهميته، من حيث أن المقارنة دائماً تفضي إلى نتيجة مهمة هي أن الأشياء تتميّز بما يخالفها وبما يضادها وبما يشابهها من القضايا المطروحة.

على أية حال عندما نتجه إلى التصور الإسلامي في هذا المجال نجد أن هذا التفاوت بدوره يظلّ طابع التصور الإسلامي حيال العناصر المختلفة أو حيال السمات المختلفة التي تطبع الشخصية من حيث الخضوع إلى أثر الوراثة أو البيئة ومن حيث تحديد نسبة الضخامة أو الضآلة بالنسبة إلى هذه السمة أو تلكم السمة الأخرى.

وقد انتهينا من ذلك كله إلى ملاحظة هذا التفاوت وبدأنا في حينه بالحديث عن السمات العقلية حيث قلنا أن السمات العقلية تظلّ بالقياس إلى سائر السمات، أو بالأحرى إلى سائر السمات الشخصية تظلّ موضع اتفاق أكثر من كونها موضع اختلاف بين التصوّرات الأرضية من جانب، وبينها وبين التصور الإسلامي من جانب آخر. أي أن السمات العقلية أو المهارات العقلية تظلّ خاضعة في التصور الإسلامي والتصور الأرضي للعنصر الوراثي أكثر من كونها خاضعةً للعنصر البيئي.

وهذا يعني أن العنصر العقلي يكاد يتميز عن سائر العناصر، أو لنقل أن السمة العقلية تظل متميزة عن سائر السمات المرتبطة بالشخصية لكونها موضع تسليم إلى حدٍّ ما بين مختلف التصوّرات التي أشرنا إليها في هذا الميدان.

وعندما تحدثنا عن السمات العقلية عبر التصور الإسلامي استشهدنا بوثيقة عيادية مهمة جداً للإمام الصادق (عليه السلام) حيث جرت مقابلة بينه (عليه السلام) وبين أحد الرواة سأل فيه الإمام (عليه السلام) عن هذه المسائل المرتبطة بالمهارات العقلية وحيث أجابه الإمام (عليه السلام) إجابات متنوّعة انتهى منها إلى أن الكائن البشري يرث بشكلٍ عام سمات عقلية سالمة من أية اضطرابات أو خلل وإن هذا الطابع يسم البشرية جميعاً، ولكن هذا بشكلٍ عام، إلا أن ثمّة وراثة أسميناها بالوراثة الطارئة، هذه الوراثة الطارئة قد تساهم في إحداث الخلل أو الاضطراب في المهارات العقلية لأسباب قد تتصل بالبيئة من جانب، أو ببيئة الرحم لدى المرأة أو بأسباب أخرى ذكرناها في حينها.

وفي ضوء هذه الملاحظة انتهينا إلى أن السمات العقلية تخضع للعنصر الوراثي بشكلٍ عام كما تخضع للعنصر البيئي بشكلٍ خاص، أو بشكل استثنائي طارئ. بعد ذلك ذهبنا إلى عرض التصورات الأرضية وقلنا أن غالبية الاتجاهات العلمانية تجنح إلى أهمية الوراثة بالنسبة إلى المهارات العقلية، ولكن أشرنا أيضاً إلى أن ثمة اتجاهات أخرى تقف على الضد من هذا الاتجاه، أي أنها تمنح الأهمية للعنصر البيئي بشكل عام، وهذا الاتجاه يتمثّل في المدرسة الشرطية، أي مدرسة (بافلوف) وتلامذته وتياره الممتد في الدول الاشتراكية ومنظومتها. ولكننا أثبتنا أن التجارب التي قدمها هذا الاتجاه لكي ينتصر للعنصر البيئي، قدمنا نماذج من التجارب التي توفر عليها المعنيون بهذا الشيء، وانتهينا إلى أن التجارب التي حاول الاتجاه الشرطي أن يثبته وانتهينا من ذلك أيضاً إلى أن هذا الاتجاه في الواقع قد استثمر ظاهرة الإيحاء ومررها على السلوك العقلي بشكلٍ عام مما علّقنا على ذلك بقولنا: إن هذا التمرير هو في الواقع لعب بالحقائق ولا يعد عملاً علمياً البتة.

على أية حال انتهينا من ذلك كله ووقفنا عند مسألة ثانية تتعلق بالمهارات الشخصية، وهي المهارة المتصلة بالجانب النفسي، ويمكننا في هذا الصدد أن نقرر بأن الاصطلاح الذي انتخبناه بالنسبة للمهارات النفسية وهو في الواقع اصطلاح مطاط يكاد يستوعب أكثر من شكل أو أكثر من مهارة، حيث يشمل السمات الفكرية ويشمل السمات المزاجية، ويشمل السمات الاجتماعية.. الخ.

إلا أننا أدرجنا ذلك كله في السمة النفسية لأسباب ترتبط بالواقع الداخلي للشخصية حيث لا ضرورة الآن لأن نفرز هذه القضايا بقدر ما تفرض الضرورة فاعليتها عندما نتحدث في محاضرات لاحقة إنشاء الله عن سمات الشخصية حيث تنفرز هناك كل سمة عن أخرى. ولكننا الآن نتحدث عن المهارة النفسية في مختلف مستوياتها ونقرر في هذا الصدد أن التصور الإسلامي يماثل في نظرته إلى هذه السمات النظرة التي سبق أن أشرنا إليها وهو أن النوع البشري بشكلٍ عام يرث خصائص نفسية أو داخلية عامة تتبع النوع كله ولكن هناك أيضاً وراثة طارئة تتدخل في هذا المجال.

وبشكلٍ عام يمكننا في البداية أن نقول أننا نستطيع أن نصطنع فارقاً بين نمطين من الأصول النفسية؛ النمط الأول هو السمات الفكرية أو ما يطلق عليه الباحثون أو المعنيون بشأن التربية وعلم النفس مصطلح (الاتجاه)، وأما النمط الآخر فهو السمات النفسية الخالصة، وعلى أية حال نعود إلى الحديث عن الوراثة النقية والطارئة في ميدان السمات النفسية والفكرية فنقول:

إن الوراثة النقية تتمثل في الواقع في ظاهرة الاستعداد أو القوة بصفة أن الطبيعة البشرية ترث مجرّد استعداد لممارسة هذه السمة أو تلك، وإن البيئة هي التي سوف تترجم هذا الاستعداد أو القوّة إلى فعلٍ يختاره الفرد بمحض إرادته وليس على نحو الفرض، وفي هذا المجال نود أن نقول أن ثمة فوارق بين الوراثة الثابتة أو النقية التي تحدثنا فيها عن خضوع المهارة العقلية لها، وبين خضوع القوة أو الاستعداد لها، فالمهارة العقلية تجسّد عنصراً إيجابياً هو الذكاء في درجته الفائقة، أما الاستعداد فهو عنصر محايد يجسده الكائن الآدمي في سلوك لاحق بالشخصية قد يكون إيجابياً وقد يكون سلبياً، بيد أن الوراثة النفسية تأخذ دلالاته المماثلة لما لاحظناه في المهارات العقلية حينما ننقل الحديث إلى صعيد فلسفي يتمثّل في صياغة الطبيعة البشرية وفق تركيبة قائمة على معرفة السماء سلفاً بسلوك الشخصية ثم تكييف السمات الشخصية وفقاً للمعرفة المشار إليها.

على أية حال لا نريد أن ندخل في تفصيلات هذا البحث بقدر ما نود أن نشير عابراً الآن إلى أن المشرّع الإسلامي بالنسبة إلى السمات النفسية والفكرية يؤكد نقاء هذه السمة في النوع الإنساني كله، خالياً من آية شائبة أو فارقية بين النوع البشري، شأنه في ذلك شأن سائر السمات العضوية والحيوية والعقلية التي يرثها البشر على حدٍّ سواء، يستوي في ذلك أن يكون الأصل أو السمة تكون فكرية أو نفسية، وإليكم الآن نصاً جديداً للإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً يتحدث فيه عن السمات الفكرية على النحو الآتي، فيقول (عليه السلام):

(إن نطفة المؤمن لتكون في صلب المشرك فلا يصيبه من الشر شيء حتى إذا صار في رحم المشرك لم يصبها من الشر شيء حتى تضعه فإذا وضعته لم يصبه من الشر شيء حتى يجري عليه القلم)، هذا النص يظلّ من الوضوح بمكانٍ كبير، فهو يحدد لنا أصلاً فطرياً عاماً للنوع البشري يتسم بنقاء الأفكار من أية شائبة وراثية، يستوي في ذلك أن يكون الأصل في أصلاب الرجال أو أرحام الأمهات أو حتى في مراحل الطفولة، بمعنى أن كل شخصية تقبل على محيطها الجديد وهو الدنيا نقية من كل شائبة فكرية حتى تبلغ سن الرشد، وحينئذٍ يتحدد بملئ اختيارها نمط السلوك الذي تخطته له، فسواء أكان الأب أو الأم منحرفين فكرياً على سبيل المثال فإن ذلك لا ينعكس على الولد البتة، وبقدر ما يتحدد سلوك الشخصية وفق الحرية أو الاختيار الذي تمتلكه الشخصية في انتخاب الهدف الفكري الذي تؤمن به، والأمر نفسه يمكننا أن نلحظه أيضاً في نصٍ عيادي آخر للإمام الصادق (عليه السلام) يتصل هذا النص بالسمات الأخلاقية بشكل عام، ويقول هذا النص بعد أن يحدثنا بطبيعة الحال عن جملة من السمات يقول عنها الإمام (عليه السلام):

(فإن استطعت أن تكون فيك فلتكن، فإنها تكون في الرجل ولا تكون في ولده، وتكون في ولده ولا تكون في أبيه).

وعندما سئل الإمام (عليه السلام) عن هذه السماء ما هن؟ قال:

(صدق البأس وأداء الأمانة وصلة الرحم و.. الخ)..

ومن الواضح هنا أن هذه السمات الأخلاقية التي يحدثنا الإمام الصادق (عليه السلام) عنها تظل اكتسابية صرفة، أي بيئية صرفة لا صلة لها بأية أصول وراثية فهذه السمات الأخلاقية قد تكون في الأب ولكنها لا تنتقل في الابن، وقد تكون في الابن ولكنها لا تنتقل من أبيه إليه وهكذا.. وكل هذا يعني أن النوع الإنساني كله لا يرث أصولاً أخلاقية أو فكرية بنحو عام، وإنما يكتسبها النوع البشري من خلال المحيط. وهذا هو الخط العام للظاهرة المشار إليها. لكن كما حدثناكم عن المهارة العقلية واستثنينا حالات خاصة ههنا خاصة نحدثكم عن السمات الأخلاقية والفكرية ونتجه أيضاً إلى حالات استثنائية في هذا الميدان، أو بالأحرى نتساءل قائلين: هل يعني أن القاعدة المذكورة تظل متسمة بالثبات دائماً؟ أي أن النوع الإنساني دائماً يرث سمات أخلاقية وفكرية نقية من أية شائبة دون أن تخضع هذه الظاهرة لوراثة طارئة في ظل بعض الشروط أو الظروف؟!! كلا.

إن الوراثة الطارئة التي لاحظناها عند حديثنا عن المهارة العقلية تتحكم بدورها هنا، أي في الأصول الأخلاقية والفكرية أيضاً يستوي في ذلك أن تتم النقلة الوراثية من خلال أصلاب الرجال أو أرحام الأمهات، ويمكننا أن نلاحظ هذه النقلة الوراثية الطارئة من خلال الأصلاب متمثلة في التوصيات التي يقدمها التشريع الإسلامي عن الزواج الانتقائي، فالإمام الصادق (عليه السلام) نفسه يؤكد بنفس القوة التي نفى من خلالها وراثة الأصول الأخلاقية والفكرية، الإمام نفسه يؤكد بالقوة ذاتها إمكانية الوراثة الطارئة أيضاً، ولكن في ظل بعض الشروط أو الظروف، فمثلاً يشير الإمام (عليه السلام) إلى سمة الغدر وبأن هذه السمة تظل واحدة من السمات النفسية التي يحذرنا الإمام الصادق (عليه السلام) منها عبر توصيته بالزواج الانتقائي حيث يقول (عليه السلام) مشيراً إلى بعض اليهود: (لا تزوجوا إليهم فإن لهم عرقاً يدعوهم إلى غير الوفاء) وفي نص آخر يقول: (فإن لهم أرحاماً تدعوهم على عدم الوفاء) وفي نص آخر يقول: (فإن لهم أصولاً تدعوهم إلى عدم الوفاء) وواضح أن كلاً من العرق والأرحام والأصول وهي مصطلحات وردت في الروايات المتقدمة، تشير إلى عملية النقلة الوراثية لسمة الغدر وانسحابها إلى المورثات التي تستقر نطفة في رحم الأم.

وأما النقلة الوراثية الطارئة من خلال بيئة الرحم، فإن التشريع الإسلامي طالما يقدم توصياته في هذا الصدد مشيراً إلى أهمية التغذية النفسية للجنين، وفي هذا الصدد يقول الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) كما سنوضح ذلك في حينه، أو بالأحرى يطالب الإمام الرضا (عليه السلام) الحبالى بأن يتناولن اللبان ويركب على ذلك أثراً هو أن الولد سيخرج ذكي القلب شجاعاً وأن البنت تكون حسنة الخلق والخَلق، ففي مثل هذه التوصية يشير الإمام الرضا (عليه السلام) إلى سمات كحسن الخلق والشجاعة ونحوهما من السمات النفسية والعقلية والأخلاقية ثم انسحاب ذلك على الجنين خلال بيئة الرحم، مما نخلص من ذلك كله بوضوح إلى أن الوراثة الطارئة في هذه السمات، تظل أمراً لا سبيل إلى التشكيك به.

وهذا كله فيما يتصل بالتصوّر الإسلامي لهذه السمات أو المهارات المتصلة بالجانب الفكري والأخلاقي للشخصية، وكما قلنا أن الاتجاهات العلمانية أو الأرضية تظل في هذا الميدان مشيرة إلى إمكانية تحقق هذه الوراثة الطارئة وإمكانية أن يرث النوع البشري نقاءً في وراثته العامة لهذه السمات، أو يمكننا أيضاً أن نشير إلى أن كثيراً من الاتجاهات الأرضية تنفي أساساً البعد الوراثي للسمات الأخلاقية وتجعلها خاصةً بالبيئة على نحوٍ لا نجد ضرورة الاستشهاد بها بقدر ما نعتزم الإشارة إلى أن التصورات الأرضية تظل متفاوتة في هذا الاتجاه.

لكن في الآن ذاته ثمة ملاحظة يجدر بنا أن نسجلها في هذا الميدان وهي أن بعض البحوث العلمانية تصطنع فارقاً بين نمطين من السمات النفسية هما السمات المزاجية والسمات الأخلاقية؛ فمثلاً أن سمة الانطواء أو الانبساط يمكننا أن نعد كلاً منهما من سمات المزاج، وهو بعد من الممكن أن يرتكن إلى الوراثة، ولعلّكم على خبرة تامة بالاتجاهات أو بالأحرى بالطب اليوناني وغيره من الطب الموروث من حيث إشارته إلى سمات المزاج عند الشخصية والتقسيم الرباعي المعروف للمزاج المشار إليه، بل حتى نجد في زمننا المعاصر اتجاهات تؤكد ما ذهب إليه القدماء من وراثة الأمزجة بالشكل الذي أشير إليه. والمهم أن سمات - كالانطواء والانبساط - تعد في التصورات الأرضية من سمات المزاج، وهذا البعد - كما قلنا - يرتكن إلى الوراثة بحسب ما لاحظناه من الاتجاهات الموروثة والمعاصرة، ولكن السمات الأخلاقية كالوفاء أو الصدق مثلاً فإنهما يكتسبان اكتساباً ولا علاقة لهما البتة بأية وراثة طارئة، هذا هو التصور الأرضي أو العلماني في بعض خطوطه.

والحق من الممكن أن نقول بأن هذه الملاحظة من الممكن أن تتسم بالصواب إلى حدٍّ ما، ولكننا لا نستطيع في الواقع في ضوء التصور الإسلامي وفي ضوء ما لاحظناه من نصوص لا نستطيع أن نعمّم هذه الظاهرة على النوع البشري كله، بل يتعين علينا أن نذهب إلى أن هذا الأمر يأخذ طابع التغليب وليس طابع العموم، إذا دققتم النظر في النصوص الإسلامية التي تقدم الحديث عنها سوف تجدون أنه قد يبدو أمامكم لأول وهلة أن هذا الكلام الصادر عن الاتجاهات الأرضية يتساوق مع وجهة النظر العلمانية من حيث اصطناع الفارق بين الأصول المزاجية والأخلاقية، حيث لاحظتم مثلاً أن الإمام الصادق (عليه السلام) عندما أشار إلى بعض السمات كسمة أداء الأمانة، وسمة صدق البأس ونحوهما إنما عزلها من دائرة الوراثة، ونسبها إلى المحيط، وهي سمات أخلاقية صرفة كما هو واضح، ولكنه حينما حدثنا عن نقاء النطفة في أصلاب المشركين وأرحام المشركات إنما عزل هذه السمة الفكرية عن الوراثة ونسبها إلى المحيط أيضاً.

بيد أنه حينما تحدث الإمام (عليه السلام) عن سمة الغدر ألحقها عندئذٍ بالوراثة عند بعض الأقوام، لكن بما أن الغدر سمة عدوانية كما نرى، والعدوان بدوره أحد إفرازات المزاج الانطوائي مثلاً، عندها يكون خضوعه للوراثة كما نتصور ناجماً من كونه سمة مزاجية وليس سمة أخلاقية، وهذا شيء نحن استنتجناه استنتاجاً بطبيعة الحال دون أن يتوفر البحث الأرضي على تفصيل الكلام فيه بهذا النحو.

على أية حال إذاً هذه النصوص تتوافق مع الاتجاهات الأرضية الذاهبة إلى أن السمات الأخلاقية خاضعة للاكتساب والسمات المزاجية خاضعة للوراثة، ولكن أيضاً ينبغي أن نشير أن هذا الاصطناع بين أصول المزاج وبين الأخلاق يظل مثلما قلنا ظاهرة تأخذ الطابع التغليبي للعموم، ويمكننا أن نستدلّ على ذلك من خلال نفس النصوص الإسلامية التي تقدّم توصياتها المتصلة بتحسين النسل، كما سنرى في ميدان أو في فصل لاحق عندما نحدثكم عن التربية وصلتها بالتحسين الوراثي المتمثل في مرحلة الزواج والرحم والولادة أو بالأحرى مرحلة الرضاعة ..الخ، عندما نحدثكم عن ذلك كله لاحقاً ستجدون أن الإشارة تجيء إلى حسن الخلق والحلم والاستقامة في الدين وإلى سمات فكرية وأخلاقية وو.. الخ، كل ذلك يظل أمراً واضحاً من حيث انتسابه إلى سمات أخلاقية وفكرية صرفة، ومنها النص الذي قدمه الإمام الرضا (عليه السلام) عن التغذية المنتقاة في مرحلة الحمل حيث أشار إلى حسن الأخلاق وصلة ذلك بمادة اللبان الذي تتناوله الحامل.

إذاً يمكننا أن نقول أن السمات الأخلاقية بدورها خاضعة للوراثة الطارئة في نطاق خاص، ولكنكم تلاحظون - أو بالأحرى - يمكننا أن نلاحظ أن بعض الباحثين، وهذا ما وقفنا عليه في دراسات معاصرة، يحاول أن يصل أو أن يوجد علاقة بين الأخلاق - وهي صفة اكتسابية - وبين المهارة العقلية الفائقة، أي الذكاء في نسبته الفائقة، وهي نسبة وراثية كما اتضح لكم سابقاً. إن بعض الباحثين يحاول من خلال إيجاد هذه الصلة بين المهارة العقلية الفائقة - أي الذكاء - وبين الصفة الأخلاقية العالية فاستطاعوا من خلال إيجاد هذه الصلة بين السمتين أن يقدموا لنا تفسيراً آخر من حيث صلة هذه السمات الأخلاقية بالوراثة والمحيط.

فقد أجري اختبار لمجموعة تتميز بالذكاء وفقاً لمقاييس أو قواعد الذكاء التي يستخدمها البحث الأرضي، حيث لوحظ تميّز هؤلاء بسمات أخلاقية عالية كانت تفتقدها المجموعة الضابطة التي أسقطتهم مقاييس أو غرائز الذكاء، ومع ذلك فإن بعض الباحثين يصر على أن السمات الأخلاقية التي افتقدتها المجموعة الضابطة ناجمة من افتقادهم إلى الذكاء من حيث اكتسابه وليست هي وليدة الوراثة!.

على أية حال إن غرائز الذكاء أو المقاييس أو الاختبارات وهي بالعشرات يستخدمها علماء التربية والنفس تقدم لنا أيضاً في هذا المجال معلومات لا بأس بها من حيث الصلة بين كلٍّ من الخُلق الحسن وبين الذكاء، وهو أمر يتوفر عليه المشرع الإسلامي أيضاً في مجالات لا نعتقد أن الضرورة تفرض فعاليتها الآن علينا لنحدثكم عنها، بل ستجيء في حينها بإذن الله تعالى.

المهم - على أية حال - أن الحكم بصواب هذه الملاحظة الأرضية لا ينفي إنكار الوراثة الأخلاقية ما دام المشرع الإسلامي قد حدد هذا الإمكان بوضوح، وما دام الارتباط الوراثي بين الأصول المزاجية والأخلاقية والفكرية والعقلية لا يمكن إغفاله على الأقل في حالات معينة على النحو الذي قرره قادة التشريع الإسلامي.

على أية حال يمكننا أن نقول بصورة عامة أن التصور الإسلامي لعنصري الوراثة والمحيط يتمثل أولاً في أن النوع الإنساني يرث أصلاً نفسياً عاماً على مستوى الوراثة النقية لا يتميز من خلالها فرد عن آخر، سواء أكان ذلك متصل بالمهارات العقلية أو المهارات النفسية عامة، إلا أن هناك وراثة طارئة تدرج ضمن شروط خاصة تتصل بالأفراد أو الجماعات فيما تشكل استثناءاً للقاعدة العامة وخارجة عن ذلك، فإن التنشئة أو المحيط يتكفل بتحديد النمط الذي تخطته الشخصية في ضوء الأصل النفسي الذي ترثه بالقوة، ونعني بها القدرة على التمييز واختيار النمط الملائم من السلوك، وأما التصور الأرضي للظاهرة فخلاصته كما قلنا، لقد توزعته اتجاهات متباينة بدءاً من الاتجاه النافي للبيئة أساساً مروراً بالاتجاه النافي للوراثة أساساً وانتهاءً بالاتجاه الذي يزاوج بينهما، ولكن كما قلنا أن الاتجاه الأخير يظل هو المسيطر على الموقف وهو اتجاه لحسن الحظ يتوافق مع ما لاحظناه في الاتجاه الإسلامي، مع وجود فوارق ذكرناها في حينه.

بهذا نكون قد انتهينا من فصلين يتحدثان عن التربية وعلاقتها بعنصري الوراثة والمحيط من جانب وعلاقة التربية من جانب آخر بالتركيبة البشرية ونتجه الآن إلى مادة ثالثة أو إلى فصل ثالث يتصل بمفهوم التربية أو بفاعلية التربية وعلاقة ذلك بمراحل نمو الشخصية.

لكن قبل أن نحدثكم عن هذا الجانب ينبغي أن نشير إلى أن التربية وعلم النفس وعلم الاجتماع تؤكد بشكل بالغ الأهمية على مراحل النمو عند الشخصية، وقد سبق أن ذكرنا في محاضرتنا الأولى أن علماء التربية قد يفترقون عن علماء النفس بالنسبة إلى تركيزهم على مهارات أو على نشاطات خاصة تتصل بالنشاط المدرسي وتتصل بنشاط الطفولة وتتصل بمراحل نمو الشخصية، لذلك فإن الحديث عن مراحل النمو عند الشخصية يكتسب أهمية كبيرة دون أدنى شك، وسرّ ذلك هو أن الشخصية تمر كما سنرى بمراحل متنوّعة بدءاً من مرحلة انعقاد النطفة ثم مرحلة الحمل ثم مرحلة الولادة حيث تبدأ بمرحلة النفاس ثم بمرحلة الرضاعة، وهذه المراحل الأولى جميعاً تتميز بأهمية خاصة من حيث البعد التربوي لهذا الجانب بصفة أن هذه المراحل البدائية من النمو سوف تعكس أثرها على الشخصية تبعاً لنمط التربية التي تنشّئ الشخصية عليها.

وهكذا بالنسبة إلى مراحل النمو الأشد أهمية، وهي مراحل الطفولة الأولى والطفولة الثانية ومرحلة المراهقة وحتى مرحلة الرشد بجميع مستوياتها.

إن الأهمية لهذه المراحل تتمثّل على سبيل المثال بالنسبة إلى الطفولة الأولى والثانية حيث سنرى أن المشرّع الإسلامي يؤكد على مراحل معيّنة من مراحل النمو بحيث يطالبنا بأن نشدد التربية في هذه المرحلة دون سواها، وهي المرحلة الطفولية الثانية مثلاً، وأما الاتجاهات الأرضية كما سنرى أيضاً تؤكد على هذه المراحل ولكنها تشدد على المرحلة الطفولية الأولى وتمنحها أهمية كبيرة وهو أمر طبعاً لا يتوافق مع الاتجاه الإسلامي. والأمر نفسه بالنسبة إلى المراهقة حيث يتوافق الاتجاهان الإسلامي والأرضي كما سنرى ذلك لاحقاً في أهمية هذه المرحلة وإمكانية انعكاس سلوكها على مستقبل الشخصية وهكذا كما قلنا حتى المرحلة الراشدة الكبيرة بمستوياتها المتنوعة التي تفضي إلى أرذل العمر، حتى هذه المستويات في الواقع تظل متسمة بالأهمية ما دمنا نجد أن الإسلام يخضع الشخصية لتعديل سلوكها حتى في آخر لحظة من لحظات حياتها.

على أية حال إن الحديث عن مراحل النمو يظل متسماً بأهمية كبيرة لذلك سوف نركّز على هذا الجانب في محاضراتنا اللاحقة إنشاء الله، ونعدكم في المحاضرة الآتية أن نبدأ بالحديث عن هذا الجانب ونستهله بالحديث عن مرحلة التحسين الوراثي متمثلاً في المراحل البدائية الأولى، أي مرحلة الانتقاء الزوجي ثم مرحلة الانعقاد بالنسبة إلى النطفة، ثم مرحلة الحمل ثم مرحلة النفاس ثم مرحلة الرضاعة، وبعد ذلك نتحدث عن سائر المراحل بالنحو الذي ستقفون عليه لاحقاً إنشاء الله..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..