mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 39.doc

بسم الله الرحمن الرحيم   

لا نزال نحدثكم عن السمات الاجتماعية والعمليات التربوية التي ينبغي أن تسلك حيالها في تنظيم هذه السمات وفق ما هو مطلوب إسلامياً، وقد تحدثنا في البداية وقلنا بأن السمات الاجتماعية يقصد بها إقامة العلاقة بين الشخصية وبين الآخرين في شتى الصعد من التعامل الاجتماعي وقلنا أن كلاً من ظاهرة الحب والتوافق الاجتماعي أي ظاهرة حب الشخصية للطرف الآخر من جانب، والتوافق الاجتماعي أي تكيف الشخصية مع الآخرين من جانب آخر يظلان محورين مهمين جداً من محاور التحاور الاجتماعي العام، وبالنسبة إلى الحب بدأنا بالحديث عنه مفصلاً فيما يتصل بمطلق التوصيات الإسلامية والأرضية التي ترسم لنا خطوطاً لتنمية الحب ومبادئه وبخاصة التوصيات الإسلامية التي تشدد في هذا الجانب تشدداً ملحوظاً لا تصل إليه التوصيات الأرضية البتة.

المهم فيما يتصل بالتعبير عن الحب تحدثنا عن جملة مستويات ومنها المستوى الأخير الذي وقفنا عنده وقلنا أنه من أهم السمات التي ينبغي أن تختطها الشخصية لتعميق الحب بين الأطراف هو أن تعبّر الشخصية للأطراف الأخرى عن حبها إياهم وهو تعبير أطلق عليه علماء النفس السلوكيون المعاصرون مصطلح حرية التعبير الذاتي وأما التصور الإسلامي فقد نبهنا إلى هذا الجانب على لسان المعصومين عبر توصيات متنوعة في هذا الميدان، وانتهينا من ذلك كله إلى عنوان آخر هو في الواقع أيضاً مظهر لفظي إلا أنه مظهر لفظي عام مقابل المظهر اللفظي الخاص المتمثل في مصطلح التعبير الذاتي وهذا ما نبدأ ونحدثكم عنه الآن فنقول:

إن كلاً من التعبير الذاتي عن الحب بحسب ما قرره كل من الإسلام والأرض وكلاً من المصاديق التي شدد فيها الإسلام وفي مقدمتها قضية السلام أو التحية نقول: إن هذا الجانب من التعبير الذاتي عن الحب قد أفصح كما لاحظتم عن استواء الشخصية أولاً وتربيتها أو تدريبها سلوكياً على الاستواء ثانياً، وما يترتب من معطى على الطرف الآخر من أطراف التعامل من معطى مماثل أيضاً حيث تتدرب هذه الأطراف الأخرى على الاستواء أيضاً، ويمكننا أن نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول: في الواقع أن مطلق التعبير اللفظي يساهم في تدريب الشخصية على الاستواء وهو أمر قد ألفتت التوصيات الإسلامية نظرنا إليه عندما قررت على سبيل المثال هذه التوصية القرآنية الكريمة القائلة: (قولوا للناس حسناً) أو هذه التوصية الواردة عن المعصومين (عليهم السلام) بقولهم: (الكلمة الطيبة صدقة)، إن أمثلة هذه التوصيات لم تكن في الواقع مجرد أخلاق اجتماعية بقدر ما هي تدريب على اكتساب السلوك السوي، فإشارة التوصية القائلة بأن الكلمة الطيبة صدقة، في الواقع إن هذه الصدقة أو الزكاة ينبغي أن يضعها المعنيون بشؤون التربية موضع ملاحظة عيادية في غاية الأهمية من حيث انعكاساتها على الشخصية، فالتزكية هنا يعني نقاء الأعماق كما تعني بعداً عبادياً أيضاً، إلا أن البعد الأول وهو نقاء الأعماق يظل بمثابة الجذر الذي تتفرع عنه المعطيات العبادية منه، فصاحب الكلمة الطيبة يمارس عملية تقدير للحب فيمسح من أعماقه بقايا التوتر والصراع اللذين تخلفهما الكراهية مما يعني أن الشخص يتصدق على صحته النفسية ويزيح عنها آثار الأعراض المرضية.

كما أن انعكاساتها على الطرف الآخر تترك هذه الانعكاسات نفس المعطيات المتمثلة في إحساس الشخصية بقيمتها وتفتح أمام السلوك ميداناً لممارسة الحب المتبادل بين الأطراف الاجتماعية، وعلى العكس فإن الكلمة غير الطيبة أو العدوان اللفظي بشكل عام، سواء أكان على صعيد الهمز والغمز واللمز أو التجريح المكشوف، وسواء أكان بمحضر من الآخرين أم تجريحهم ونعني بها الغيبة، كل ذلك يظل مؤشراً إلى عرض مرضي خطير هو النزعة العدوانية التي سبق أن قلنا بأن كل الاتجاهات الأرضية تجمع على أنها هي التي تتسبب في تمزق جوانب الذات وتفضي بها إلى أشكال من التمزق والصراع والتوتر وما إلى ذلك..

من هنا نجد التوصيات الإسلامية تشدد على هذا الجانب أو تشدد في هذا الجانب وتحذرنا من أعراض النزعة العدوانية إلى الدرجة التي تقول فيها إحدى التوصيات الإسلامية: (إذا قال الرجل لأخيه المؤمن أف خرج من ولايته) لاحظوا أن مجرد التعبير بلغة (اف) وهي أخف كلمة صادرة عن نزعة الكراهية كافٍ لأن يخرج الشخصية من سمتها العبادية وإذا كان الأمر كذلك فإن التعيير والتجريح والشتم ونحوها تظل حينئذٍ في قمة السلوك المرضي الذي تتوعّد السماء عليه بأشد العقاب، بل إن من التوصيات الإسلامية ما يحظر على الشخص أن يعترض أخاه المتكلّم وأن يقاطعه حديثه بحيث نستخلص من هذه التوصية إن أية نزعة من الكراهية مهما صغر حجمها حتى لو كان الأمر مجرد مقاطعة كلام قد يستدعيه الموقف، حتى هذا المقدار من التعبير العدواني يمنعه المشرع الإسلامي. فيما يدعنا نتأمل بمزيد من الملاحظة مدى حرص الاتجاه الإسلامي على تنقية الشخصية وتدريبها على أعلى مستويات السلوك السوي من حيث تعاملها مع ظاهرة الحب التي تعد أساساً لسائر أنماط السلوك.

ومن الطبيعي فإن التوصية بممارسة التعبير اللفظي عن الحب أو التحذير من التعبير العدواني وإرداف ذلك بعمليات الثواب والعقاب سيتضاعف في ميدان العلاج السلوكي من محاولة التدريب على الالتزام بتوصيات المشرع ومن ثم التدريب على اكتساب سمة السواء، ونظراً لتنوّع المظاهر اللفظية المعبرة عن نزعة العدوان كإهانة الشخص مثلاً وتعييره وشتمه والسخرية منه وكشف أسراره والافتراء عليه.. الخ، نظراً لتنوع هذه المظاهر وتوفّر عشرات النصوص الإسلامية على معالجة ذلك نجد أن الوقوف عليها يتطلب مجالاً لا تسعه محاضراتنا ولذلك نكتفي من ذلك بمعالجة مظهرين اجتماعيين هما الغيبة والمزاح، ونحن نختار دائماً من الممارسات ما هو مألوف جداً في مجتمعاتنا وما هو محظور وممنوع ومنهي عنه أيضاً في التصور الإسلامي، حتى نستطيع من خلال وقوفنا عند التوصيات الإسلامية أن نعدل من سلوكنا وندرب ذواتنا على أن تتسم بالسلوك السوي المطلوب، المهم أن هذين المظهرين - الغيبة والمزاح - يظل الأول منهما ممارسة غائبة عن ذاكرة علماء النفس والتربية، وأما الأخرى فتبدو وكأنها عند الأرضيين ممارسة مقبولة اجتماعياً مع أن بعض علماء النفس التحليليين أشاروا إلى سمتها العدوانية بالشكل الذي سنحدثكم عن ذلك إنشاء الله..

إذن لنبدأ بالحديث عن هذين المظهرين أو بالأحرى عن هاتين الممارستين المنتشرتين في مجتمعاتنا والمتمثلتين في أخطر سلوك عدواني تقوم به الشخصية حتى لو كانت مع الأسف الشديد شخصيات إسلامية ذات وعي لهذه المسألة إلا أن أمثلة هذه الشخصيات لم تتورّع البتة من صدورها عن هاتين الممارستين وهذا ما يقتادنا إلى إلقاء مزيد من الإنارة على هذين السلوكين حتى نستطيع من خلال ذلك أن نتخلّص منهما وأن ندرّب ذواتنا على تعلّم السلوك المطلوب إسلامياً، ونقف أولاً عند الحديث عن الغيبة؛ وفي هذا الميدان نقول:

في مجتمعاتنا وهي ملأى بالإفرازات العصابية من السلوك لا يكاد يتناجى اثنان أو أكثر إلا ونجد تجريح أحد الأطراف للآخر في غياب عنه يعد تنفيساً عن العقد الدفينة عند هذا الطرف أو ذاك تفريجاً عن شتى النزعات العدوانية، والغريب أن مثل هذه المجتمعات موسومة بطابع التقبل لعمليات التجريح تحت ستار إظهار العيب واستنكاره في آن واحد، نقول إن تجريح الآخرين وهم غائبون عن التجمع يمثل مصطلح الغيبة بينما تجريح الآخرين وهما حاضرون يمثل مصطلح العدوان أيضاً ولكن بغير مصطلح الغيبة، بل هو في الواقع عدوان حضوري إذا صح التعبير.

المهم إن الأمر في الواقع لا يقف عند الأفراد الذين تتأزم علاقاتهم فيما بينهم بل يتعداه حتى إلى المتآلفين أيضاً حتى أن الزمر الصديقة لا يأمن أحدها تجريح الآخر عندما يغيب أحد الأطراف، والأشد غرابة من ذلك أن الحذر والتخوف من التجريح لا تكاد تلتفت الشخصية إليه عندما تبني سلوكها أساساً على تجريح الغائبين، إن ظاهرة التجريح وما يسميه التشريع الإسلامي بالغيبة تظل من الشيوع بنحو ملحوظ في ممارساتنا اليومية حتى أنه كما قلنا لا يكاد يجتمع اثنان أو أكثر إلا نجدهم مقطعاً زميلاً أو عدواً أو محايداً لا علاقة لهم به لمجرد صدور الخطأ أو الذنب عنه مثلاً.

إن هذه الظاهرة المرضية لم يعنى بها البحث الأرضي بالقياس لعنايته بشتى أنماط السلوك المرضي مع أنها أشد أنواع السلوك مفارقة في الصعيد الفردي والاجتماعي من حيث النزعة العدوانية الكامنة وراء السلوك المشار إليه، وعلى العكس من ذلك نجد أن المشرع الإسلامي أكسب هذا الجانب معالجة تتناسب وخطورتها بالغة المدى، فقد ألمحت التوصيات الإسلامية إلى مفارقاتها الاجتماعية في شتى الصعد، وإليكم الآن بعضاً من التوصيات:

يقول المعصوم (عليه السلام): (من قال في مؤمن ما رأته عيناه وسمعته أذناه فهو من الذين قال الله عز وجل عنهم: والذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا).

ويقول المعصوم (عليه السلام) في نص آخر: (من أشاع فاحشة كان كمبتديها).

إننا اخترنا هذين التوصيتين لسبب مهم هو لكي نوضح المفارقة التي تصدر عن الأفراد تحت ستار أن هؤلاء الأفراد يحرصون كل الحرص على إشاعة القيم الخيرة ولذلك فإنهم يستنكرون أية شخصية تمارس خطأ أو ذنباً ومثل هذه الممارسة تستدعي في نظر المجرّح تجريحه وهو غائب أمام الآخرين، إن النصين المتقدمين يوضحان أن إذاعة هذه المفارقة بين الأفراد ينطوي على نزعة عدوانية في الواقع، ولقد تستر بها صاحبها في غفلة من الرقابة الاجتماعية ثم نهض آخر فكشف السر عنها وحينئذٍ فإن الدافع إلى كشف هذا السر ينطوي على تعبير عدواني يفرّج به الشخص عن التواءاته، فإذا تجاوزنا التعبير العدواني إلى الصعيد الاجتماعي فحينئذ يكون فضح المفارقة أو الذنب أو الخطأ الصادر عن الشخص الغائب قد أسهم في الواقع في إشاعتها بين الناس لأنها تسمح لذوي الالتواءات بمحاكاة هذا السلوك بصفة أنهم يبتدرون لأية فرصة تكسر طوق الرقابة الداخلية والخارجية بغية تمرير النزعات الالتوائية لديهم، وخطورة الموقف تتمثل في الحافز على إذاعة هذا السر، فإذا كان الحافز للشخص الذي يستغيب شخصاً آخر هو شجب وسلوكه فحينئذٍ بمقدوره أن يتستر به، أي أن يخبر صاحب المفارقة بمقابلة بينه وبين صاحب المفارقة فحسب؛ ويوضح له سلبية سلوكه حتى يقلع عن الذنب أو الخطأ، أما أن يفضحه أمام الآخرين بحجة أنه يريد أن يكشف عن الخطأ، أو بحجة أنه يريد أن يصحح الخطأ فحينئذ يقع هذا المجرح في نفس المفارقة التي وقع عنها المخطأ أو المذنب، وذلك لبداهة أن إشاعتها من خلال طرح الشخصية لا تقل مفارقة عن إشاعتها من خلال ممارسته فلماذا ينتقدها إذا؟.

إن القرآن الكريم يحدد مفهوم التجريح بالنسبة إلى الآخرين في فقرة عاصفة تزلزل الشخصية في مواجهتها للظاهرة السلوكية المذكورة - أي الغيبة - حيث الآية القرآنية تقول: (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه) إن هذه الصورة الفنية إفصاح واضح عن خطورة الغيبة، فاللحم الميت منتن وكريه وبشع، تتكور ثلاث حواس على تضخيم نفورنا منه، فمن حيث حاسة البصر لا يقوى الفرد على رؤية البشاعة للحم الميت، ومن حيث حاسة الذوق فإن طعمه لا يقوى المذاق على تصوره فضلاً عن تذوقه فعلاً، ومن حيث حاسة الشم فإن رائحته المنتنة تزكم الأنوف، وحين تتوالى مع حاسة التذوق وهي أكل اللحم الميت رائحة كريهة ومشهد كريه حينئذ فإن هذه الصورة تفصح عن مدى الالتواء الناجم من الغيبة أو مدى ما تنطوي الغيبة عليه من مفارقة ضخمة في ميدان السلوك.

ولقد حدد المشرع الإسلامي مفهوم الغيبة بشكل واضح لأن ثمة سياقات قد تلتبس على الشخص فلا يستطيع أن يميز فيها بين تجريح مقبول حيناً في سياقات خاصة وبين التجريح غير المقبول بنحو مطلق. لقد حدد التشريع الإسلامي دلالة الغيبة وفق النصين الآتيين: (الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه)، والآخر (ذكرك أخاك بما يكره) وهذا يعني كما ألمحنا فضحاً لمفارقة لذنب لخطأ تستر به صاحبه مراعاة للرقابة الاجتماعية، من هنا يخرج التشريع من دائرة التجريح الأشخاص الذين لا يقيمون وزناً للرقابة الاجتماعية أي الأشخاص الذين استهتروا في سلوكهم، أي أعلنوا عن سلوكهم المخطأ أو المذنب بشكل صريح دون أن يقيموا وزناً للمعيار الاجتماعي، أمثلة هؤلاء وقف المشرع الإسلامي منهم موقفاً خاصاً هو السماح لفضحهم لسبب واضح، لأن هؤلاء لم يتستروا بل هم قد اختاروا المجاهرة بالخطأ أو الذنب، ولذلك فإن المفارقة هنا من حيث تجريحها بالنسبة إلى هؤلاء المستهترين أو الذين يعلنون عن سلوكهم الملتوي لا يخلو في الواقع من معطيات فردية واجتماعية، فالمجرح أو الذي يقوم بنقد أو بتشهير هذه الشخصيات المستهترة في الواقع ينتصر للقيم الخيرة، كما أن مفهوم إشاعة الخطأ أو الذنب أو الفاحشة لا يكاد يتحقق هنا، لأن الفاحشة في الواقع هنا قد أشيعت بصفة أن صاحبها لم يتستر عليها بل هي ظاهرة، ولذلك فإن ذكرها والشخص غائب لا يترتب عليه ذلك أي ضرر بعكس الحالة السابقة التي تستر فيها الشخص على ممارسته للانحراف.

على أن بعض المفارقات في الواقع لا تنبع من الاستهتار بالقيم أو الإصرار على ذلك بل تنبع من ظهورها بشكل واضح وسافر لدى الجميع، وهي بهذا تشكل سمة من سمات الشخصية من نحو الإهمال مثلاً الذي تعرف به هذه الشخصية أو الحدة التي تعرف بها الشخصية الأخرى، ففي أمثلة هذه الحالة نجد أن المشرع الإسلامي يسمح بأن نلوّح بمثل هذه السمة التي تطبع هذه الشخصية أو ذاك، في بداهة أنها لا تكشف عن سر ولذلك نجد من التوصيات ما يقول: (الأمر الظاهر مثل الحدة والعجلة فلا) أي إن الشخصية التي تتسم بسلوك ظاهري كالحدة في المزاج أو العجلة في ممارساتها حينئذ إذا ذكرنا هذه السمة أمام شخص ما حينئذ لا تعد مثل هذه الممارسة تجريحاً ولا كونه نابعاً من نزعة عدوانية بل كون ذلك نابع من نزعة دفاعية في الواقع، وهذا من نحو من يلحقه أذى من آخر فحينئذ يسمح المشرع له بإخبار الآخرين عن الأذى الذي لحقه أو الظلم الذي لحقه، وفي هذا الميدان تقول الآية الكريمة المعروفة في هذا المجال وهو أن الله تعالى لا ينهى العبد إذا لحقه ظلم من أن يشهر صاحبه، وذلك لأن المظلوم في مثل هذه الحالة يمارس عملية دفاع عن النفس وليس عملية عدوان على الآخرين، فإذا افترضنا أن أحد الأشخاص اعتدى عليك أو سرقك أو أو.. الخ، حينئذٍ فإذا ذكرت ذلك لاخوتك لا يعد مثل هذا السلوك مرفوضاً لأن الممارسة هذه تظل عملية دفاع عن النفس، ومع ذلك فالواقع أن التجاوز أيضاً عن هذا الجانب، أي أن تعفو الشخصية عن الشخصية التي آذتها وذلك بأن لا تفضحها يكون هذا السلوك في الواقع تصاعداً نحو ما هو سوي دون أدنى شك.

المهم إن الآية الكريمة حينما تشير إلى الدفاع كما قلنا فإنها تعقب إلى أن العفو أقرب إلى التقوى، وهذا التعقيب تصعيد بالموضوع عند الشخصية إلى الذرى تبعاً لحجم الوعي العبادي لديها، وبنحو عام فإن المشرع الإسلامي تحقيقاً للسوية وحرصاً على وأد نزعات العدوان يلقي مسؤولية المفارقة المذكورة على المستمتع أيضاً وليس على الفاضح للجريمة وحده، بصفة أن المستمع في الواقع يمارس عملية تشجيع للمجرح، وبصفته يمرر نزعته العدوانية أيضاً من خلال صمته على المجرّح، لذلك نجد أن التشريع يطالبنا في الواقع بالكلمة المادحة بدلاً من الكلمة المجرحة، أكثر من ذلك إنه يطالب عبر تصعيدنا الموضوعي لهذا الجانب أن نحاول التماس المحامل الإيجابية حتى ننفي المفارقة بأي وجه كان عن صاحبها، لنستمع إلى التوصية الآتية: (ضع أمر أخيك على أحسنه ولا تظن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً).

إن هذه التوصية توحيد للموضوعية إلى ذرى الاستواء وتدريب عليها وزرع للمحبة بين الأطراف وتجسيد للتوافق الاجتماعي والنفسي من خلال تفجير الكلمة المادحة بدلاً من الكلمة المجرحة، لكننا حتى الآن في الواقع لم نتحدث إلا عن الشخصية المغتابة، أي التي تمارس عدوانها المذكور دون أن نتحدث للمجتمع بالغيبة أي الشخصية التي تصغي إلى تجريح الآخرين في غيابهم، فقد قلنا أن المجرح حينما يأكل لحم أخيه ميتاً إنما يلقي بحديثه إلى الآخرين منتظراً مشاطرتهم إياه أو على الأقل صمت هؤلاء حيال تجريحه، إلا أن كلاً من المشاطرة والصمت يفصح بدوره عن النزعة العدوانية ذاتها، أي نفس مشاعر الحقد والكراهية التي يفرزها المريض وهو متلذذ بإيذاء الآخرين، النزعة السادية إذا سمحنا لأنفسنا أن نستخدم لغة علم النفس المرضي هي التي تسم كلاً من المجرّح والمستمع إليه. وقبل أن نحدد لكم معالم هذا المرض الذي يغلف شخصية المستمع إلى الغيبة يجدر بنا أن نقف أولاً على النصوص الإسلامية في هذا الصدد:

يقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (من ذب عن أخيه المؤمن الغيبة كان حقاً على الله أن يعتقه من النار). وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (من ياتي عنده أخوه المؤمن وهو يستطيع نصره فنصره نصره الله عز وجل في الدنيا والآخرة وإن خذله وهو يستطيع نصره خذله الله في الدنيا والآخرة).

ونكتفي الآن نحن بهذا النص نظراً لثرائه دلالة وتوعداً، فمن الملاحظ من الجانب الأول أن النص قيد الظاهرة بالقدرة على الدفاع عن الشخصية المعتدى عليها، ومن الواضح أن الاعتداء على الشخصية من خلال الكلمة المجرحة إما أن تتم من قبل شخصية تتمتع بمعطى اجتماعي ظالم كأن تكون ذات نفوذ سياسي أو سلطوي مثلاً أو حتى ذات اقتدار فردي بحيث يستطيع أن يمارس البطش حيال أي مستمع لا يشاطره الظلم حيال على أخيه المؤمن، وإما أن يتم من قبل شخصية تفتقد هذا البطش والنص بطبيعة الحال يتحدث عن النمط الأخير من الشخصيات المنحرفة التي تمارس الغيبة، وهذا النمط من الشخصيات المجرحة تألفها كما قلنا مجتمعاتنا وأنديتنا ولقاءاتنا الطويلة والعابرة مع الآخرين، والمعروف في مثل هذا اللقاءات أن تتصدر الكلام إحدى الشخصيات مثلاً بادئة بالأكل من لحم أخيها وهو ميت، ثم يجيء دور المستمعين وهم يتوزعون بين مشاطر أو صامت أو ذاب عن أخيه المؤمن، لكن الملاحظ غالباً أن النمط الأخير وهو النمط الذي يذب عن أخيه المعتدي يشكل عدداً ضئيلاً بل يكاد ينعدم بالقياس إلى ضخامة الأعداد التي تشارك المجرّح رأيه أو الساكت أساساً، والسؤال هو لماذا يغلف هذا الساكت ظاهرة السكوت أو بالأحرى لماذا نسكت مثلاً عندما نستمع أحدنا وهو يجترح شخصاً آخر؟!!.

الإجابة تتحدد بوضوح حينما نعرف تماماً أن الصامت بدوره الواضح هو شخصية مريضة، والسمة المريضة التي تطبع أمثلة هذا الشخص نابعة من إحدى الاستجابتين:

1- مشاركته الوجدانية.

2- محاباته.

ومن البين أن الاستجابتين المشار إليهما تطبعان بطابع العصاب أو المرض، فأنت حين تشارك وجدانياً الشخص المجرّح يعني ذلك صدورك عن نفس النزعة العدوانية بصفة أنك حينما تتعاطف مع شخصية منحرفة تمارس عملية تجريح فهذا يعني أنك أيضاً تحمل نفس المشاعر المتمثلة في الحقد أو الكراهية، وأما المحاباة فهي بدورها إفراز مرضي ينم عن سمات عصابية أخرى لعلّ من أشدها وضوحاً هو إحساسها بالضعة والدونية والحطة، إن علم النفس العيادي والتربوي في شتى اتجهاته يقرر بوضوح أن المحاباة تعد إفرازاً عن شخصية هزيلة تتدخل لديها مشاعر الضعة والانحطاط والدونية حتى أنها تحاول أن تسد النقص المذكور بالرضوخ أو الخضوع حيال أية ممارسة من الآخرين لا تأتلف مع الجهاز القيمي الذي تحمله، ولا أدل على ذلك ما نلاحظه في لقاءاتنا اليومية فيما يبدرها أحدهم بممارسة الغيبة مجرحاً أحد الأشخاص، وأما المستمعون فيقرون بنزاهة هذا الشخص، أو حتى مع العلم بواقع التهمة الموجهة للفرد، بيد أن المستمعين وهم يعرفون تماماً أن الغيبة منهي عنها، نجدهم مع ذلك يحابون هذه الشخصية صامتين حيالها، وسر ذلك عائد إلى أن المستمعين وهم مرضى متخمون بمشاعر النقص يضطرون إلى الصمت حتى يحتفظوا بالتقدير الاجتماعي الهزيل الذي ينتظرونه من الشخصية المجرحة، بصفة أنهم إذا مارسوا وظيفتهم الإسلامية المتمثلة في الدفاع عن الشخصية المجروحة فإن هذا الدفاع سيقلل من تقدير هذا المجرح الذي يمارس الغيبة كأن تفتر علاقتهم به أو تفضي إلى القطيعة أو يعاملهم بالازدراء أو السخرية التي يطلقها الآخرون الذين يزدحمون المجلس بهم.

والغريب أنك حينما تعاتب أحد المستمعين للغيبة وتذكره بموقفه اللاإسلامي نجده يحددك بصراحة بأن معارضة الشخصية المجرحة أو المصطفقين حوله يجر حوله السخرية والاستنكار، نقول إنه لمن المؤلم حقاً أن تخشى مثل هذه الشخصية المريضة أصدقاءها أو المحتشدين في المجلس لكنها لا تخشى الله ورسوله، إنها تخشى فقدان التقدير الاجتماعي الهزيل الذي يخلعه الصديق ولا تخشى فقدان التقدير الذي يخلعه الله تعالى للمؤمنين، إنها تخشى السخرية ونظرات الاستنكار لكنها تتناسى أو تجهل أن الخوف من سخرية الصديق أو المجلس ينم عن جذر مرضي أشد تبعات من السخرية والاستنكار ألا وهو الإحساس بالنقص والضعة والحطة والدونية.. الخ.

على أية حال قلنا أن كلاً من المشاركة الوجدانية والمحاباة يسمان شخصية المستمع إلى الغيبة وهما إفصاح عن نزعتين عدوانيتين إحداهما تتخذ طريقة الفرز الصريح أي التفريج المباشر عن توتر الأعماق، أما الثانية فتتخذ طريقة الفرز غير المباشر وذلك من خلال حفاظها على الحاجة إلى التقدير الاجتماعي الزائف. من هنا نجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يضع كلاً من المجرح والمستمع في إطار واحد من الوزر، يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): (من ردّ عن أخيه غيبة سمعها في مجلس ردّ الله عنه ألف باب من الشر في الدنيا والآخرة، فإن لم يرد عنه وأعجبه كان عليه كوزر من اغتاب). لاحظوا لقد ماثل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بين وزر من اغتاب ووزر من استمع إلى الغيبة.

والآن يهمنا أن نؤكد من جديد أن كلاً من النزعة العدوانية والإحساس بالنقص يغلفان شخصية المستمع إلى الغيبة وهو ساكت عن الرد إليها، على أية حال إذا كان الحديث عن الغيبة ومستمعها تترتب عليه مسؤوليات جزائية بالنحو الذي أشرنا إليه حينئذ فما هو الموقف الذي يمكن أن تتلافاه الشخصية المغتابة أو المستمعة؟ ماذا ينبغي أن تسلك حيال سلوكها الماضي بحيث تكتفي بالتوبة مثلاً كما هو الطابع العام لأي انحراف يصدر عن الشخصية، أم أن المشرع الإسلامي الإسلامي الإسلامي قدم لنا علاجاً لهذا الجانب، هذا ما نوضحه الآن.

لنقرأ التوصية الآتية:  سئل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ما كفارة الاغتياب؟ فقال: تستغفر الله لمن اغتبته كلما ذكرته.

وتقول توصية ثانية: (الغيبة لا تغفر حتى يغفرها صاحبها).

لاحظوا هذين النصين وسواهما حيث تجدون أنهما يلقيان الإنارة على الظاهرة المشار إليها، فالنص الأول يشير إلى أن الشخص الذي يغتاب آخر عليه أن يستغفر الله سبحانه وتعالى لمن اغتابه كلما ذكر جريمته المشار إليها، إلا أن النص الآخر يقول لا تغفر، يعني حتى لو أن الشخص بدأ يستغفر الله لمن اغتابه كلما ذكره، هذا النص قد يعارضه نص آخر يقول: (الغيبة لا تغفر حتى يغفرها صاحبها)، إذا مع هذا التعارض الظاهري بين هاتين الروايتين ماذا نستطيع أن نقرر؟

إننا نستطيع أن نقرر بوضوح بأن الوظيفة الأولى للمجرح هي أن يذهب إلى المجرَّح أو المجروح فيعتذر له، أي يقول له مثلاً لقد سبق وأن أسأت إليك فاغتبتك وعليه أرجوك أن تغفر لي هذه الخطيئة، هذا هو السلوك المطلوب أولاً من قبل الشخص المجرح، ولكن إذا افترضنا أن هذا الشخص المجروح لا يمكن الوصول إليه أو إذا افترضنا أنه قد توفي مثلاً حينئذ فإن النص الآخر أو الوظيفة الأخرى تحدد له ما قالت التوصية عنه بأنه كلما يذكره يستغفر الله للشخص المجروح.

نكتفي بهذا القدر من الحديث عن الغيبة لنتجه عن الحديث إلى الظاهرة الأخرى التي وعدناكم بها وهي ظاهرة المزاح، ونقول في هذا الميدان:

لقد أشار بعض علماء النفس المحدثين إلى أن المزاح نزعة عدوانية مقنعة أي إنه إفراز لا شعوري عن النزعة العدوانية، وكان هذا الباحث في الواقع على قدر كبير من الصواب بيد أن الأهم من ذلك هو ما ألفت نظرنا إليه المشرع الإسلامي حينما حدد هذه النزعة بقول الإمام المعصوم (عليه السلام) بأن المزاح هو السباب الأصغر، وهذا تعبير ورد عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) أي الإمام السجاد، وفي هذا الصدد نقول: إن المزاح في الواقع على الضد تماماً من الكلمة الجادة التي طالبنا المشرع الإسلامي بها تجسيماً للتوافق وترسيخاً لمفاهيم السوية. إن المزاح في الواقع يعد كما قلنا نمطاً من أنماط السلوك المقبول اجتماعياً، وإذا كانت ظواهر من نحو الكذب والاغتياب من الممكن أن يسحب الآخرون عليها طابع السلب، فإن المزاح لا يكاد يطبعه في تصور الغافلين أي طابع سلبي، مع أنه في الواقع هو سباب أصغر كما قال الإمام (عليه السلام) عن ذلك، حيث أن الشخص يتخذ قناعاً اجتماعياً مقبولاً يختفي وراء السباب، فالممازح لا يمكنه أن يصرح بوضوح عن أعماقه العدوانية تجاه هذا الشخص، لذلك يغلف هذا الكلام بظاهرة المزاح لأنها مقبولة اجتماعياً فيمرر نزعته العدوانية من خلال التقبل الاجتماعي للمزاح، والواقع إذا تجاوزنا هذا الطابع للمزاح، أي النزوة العدوانية واتجهنا إلى مفارقات متنوعة تتبع المزاح وجدناها في ضوء التصور الإسلامي على النحو الآتي:

أولاً: غياب التقدير؛ تقول التوصيات الإسلامية: (إياكم والمزاح فإنه يذهب بماء الوجه)، وتقول توصية: (لا تمازح فيجترأ عليك)، إنك حين تواجه شخصاً  ما يفرض عليك احترام بحديثه الجدي، إلا أنك ما أن تمازحه حتى تحس أنه فسح أمامك مجالاً للتحرك وبقدر ما يمارس من مزاح يتسع المجال حتى يصل الأمر إلى غياب الهيبة تماماً وتسقط الشخصية حينئذ كائناً بلا قيمة، على أن الأمر لا يقف عند هذا الحد بل يتجاوزه إلى الاجتراء على الشخصية المازحة وذلك بتوجيه الإهانة إليك وتجريحها وإساءة الأدب حيالها، وهذا ما ألفت أنظارنا إليه نص يقول: (لا تمازح فيجترأ عليك).

وهناك توصية تقول: (المزاح يذهب بماء الوجه) والذهاب بماء الوجه أيضاً من الوضوح بمكان حيث يعني ذلك فقدان التقدير الاجتماعي الذي تبحث الشخصية المازحة عنه، أي أن الباحث عن المزاح إذا كان هو البحث عن اكتساب تقدير الآخرين ولفت الأنظار للشخصية حينئذ فإن مثل هذه النتيجة التي تجعل الممازح موهما حينئذ فإن النتيجة ستظل ذكرا لما استهدفه المازح.

هذا إلى أن ثمة مفارقات أخرى تترتب على المزاح ومنها أن المزاح يفجر الحقد، ومنها أن المزاح ينقص العقل، ومنها أن المزاح يذهب بنور الإيمان لدى الشخصية، إن هذه المفارقات قد فصلنا الحديث عنها في الكتاب المقرر دراسياً لذلك نحيلكم إليه لأن الوقت لا يسمح بتفصيل الكلام عنه، لكننا ينبغي أن لا نغفل أن الإسلام يحدد لنا في مجالات أخرى ضرورة المزاح بل يعتبره عملاً مندوباً إذا كان الهدف منه هو إدخال السرور على قلب الآخرين، وإن المزاح ما دام تعبيراً عن نزعة عدوانية فكان الهدف منه عكس ذلك وهو إلقاء السرور على الشخصية الأخرى حينئذٍ يكتسب المزاح سمة إيجابية.

ونكتفي الآن بما حدثناكم عنه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..