mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 30.doc

بسم الله الرحمن الرحيم  

نتابع حديثنا عبر المحاضرات التي نلقيها عليكم بالحديث عن قائمة السلوك التي قدمها الإمام الصادق (عليه السلام) في تصنيفه لسلوك الشخصية حيث أننا لا نزال نحدثكم عن السمات العامة للشخصية فيما بدأناها في محاضرة سابقة بجملة من المفردات المقارنة بين نمطين من السمة السوية والسمة المرضية وما ينبغي أن ينجز من العمليات التربوية التي تعدل السمة السلبية إلى سمة إيجابية، وقد بدأنا ذلك بجملة من الظواهر التي تبدو وكأنها متماثلة كالسلامة ويقابلها البلاء، وكالعافية وتقابلها البلوى، وكالراحة ويقابلها التعب والسعادة ويقابلها الشقاء والفرح ويقابله الحزن، لقد تحدثنا عن هذه الظواهر بشكل مفصل في ما لا حاجة إلى معاودة الحديث عنها الآن، إلا أن الحاجة تفرض ضرورتها الآن بالنسبة إلى لفت نظركم إلى نقطة مهمة جداً هي سبق أن أشرنا إليها أيضاً وهي أن التصور الإسلامي للسمات ينطلق حيناً من التصور النفسي الصرف وآخر من التصور العبادي الصرف أيضاً وحيناً ثالث من التصور المازج بينهما، فقد لاحظنا مثلاً بالنسبة إلى السعادة والشقاء أن السعادة والشقاء هنا يدلان بمعنيين عباديين وليس بالمعنى النفسي الذي يمثل التوازن الداخلي للشخصية مقابل الشقاء الذي يمثل اضطرابها،بل يمثل السعادة أي توفيق الشخصية لممارسة العبادة بالنحو المطلوب، مقابل الشخصية الشقية التي تحرم من الممارسة العبادية المطلوبة.

ومن ذلك أيضاً ما لاحظناه من الفرح ويقابله الحزن، حيث لاحظنا أن الفرح إذا تجاوز مداه تحول إلى مرح والمرح هو سمة سلبية عصابية وقد تكون سمة ذهانية أيضاً، ويقابلها الحزن أيضاً بمعناه النفسي حيث قد يكون مرتبطاً بمفهوم الكآبة التي هي مصطلح نفسي أو سلوك نفسي، الإمام الصادق (عليه السلام) نفسه في القائمة التي قدمها وفي نصوص تربوية أخرى أوضح فيها كيف أن النفس إذا ذبلت واستكانت وحزنت وو.. الخ، كل ذلك يجسد سلوكاً عصابياً فيها مقابل السلوك الإيجابي، المهم أن الفرح ويقابله الحزن مثلاً يجرد حيناً بمعناه النفسي الذي يعني التوازن الداخلي وعدم الإحساس بالحزن، ويقابله الحزن الذي هو إحساس بمعناه الذي ذكرناه الآن، أي عدم الإحساس بالراحة النفسية، ولكننا تساءلنا في نهاية محاضرتنا السابقة وقلنا أن كلاً من الفرح والحزن حينما يردان حيناً عبر ظاهرة إيجابية ويقابل الحزن قد يردان أيضاً على عكس ذلك تماماً ومنها مصطلح الحزن الذي وعدناكم بأن نحدثكم عنه في محاضرتنا الحالية وذلك نظراً لأهمية هذا الجانب وانعكاسه على السلوك العبادي للشخصية. والأهمية العبادية لهذا الجانب هي أن الإمام الصادق (عليه السلام) كما لاحظتموه في القائمة التي ذكر فيها الحزن وما يقابله من الفرح وفي التوصية العيادية التي قدمها أيضاً بالنسبة إلى تركيبة البشر من حيث خضوعها إلى نمطي الحرارة والبرودة، وخضوع ذلك بنسب معتدلة يجسد الشخصية المتوازنة بخلاف ما لو تجاوز كل من مستوى الحرارة والبرودة النسبة المعتدلة حيث يتحول في حالة البرودة إلى شخصية كئيبة وفي حالة الحرارة إلى شخصية اعتيادية بالشكل الذي تم تفصيل الحديث عنه في محاضرة سابقة.

المهم إن إشارة الإمام الصادق (عليه السلام) أو أية توصية إسلامية إلى مفهوم الحزن هنا يشير إلى الجانب السلبي وهو مرض الكآبة العصابي أو الذهاني، ولكنكم تجدون أيضاً في نصوص أخرى أن مفهوم الحزن يظل مفهوماً إيجابياً بكل ما تعنيه هذه الكلمة من دلالة، والأمر كذلك بالنسبة إلى ما لاحظتموه أيضاً في محاضراتنا السابقة من الإشارة إلى مصطلحات من نحو البلاء والراحة يتضمن مثل هذا المصطلح معنيين أحدهما البلاء الإيجابي الذي هو سمة الشخصيات التي قد أخضعها الله سبحانه وتعالى للشدائد والاختبار، مقابل البلاء النفسي الذي يعني سمة مرضية، وهكذا بالنسبة إلى الحزن في مصطلحيه الذي يعني أولهما جانباً إيجابياً ويعني الثاني جانباً سلبياً وهو كما قلنا يتطلب تفصيلاً في هذا المجال حتى يكون الطالب على وعي تام وهو يستهدف رسم العمليات التربوية التي ينبغي أن تسلك حيال الشخصية حتى يتعدل سلوكها وفق السلوك العبادي المطلوب.

نقول ثمة توصيات متنوعة تطالب الشخصية بأن تكون حزينة، السؤال هو: ما هو تفسير أمثلة هذه التوصيات التي تطالب بأن تكون الشخصية المؤمنة حزينة مقابل التوصيات التي تشير إلى أن النفسية الحزينة أو الكئيبة هي النفسية المريضة؟!.

إن علم النفس الأرضي لا يمتلك بطبيعة الحال أي تصور لهذه الظاهرة سوى الظاهرة السلبية المتمثلة في عصاب الكآبة أو في ذهان الكآبة وما إلى ذلك، ولكنه قد يقر في سياق خاص مثلاً أن الحزن قد لا يرتبط بالسمة السلبية في حالة ما إذا كانت المنبهات تستلزم ذلك كالحزن على الفقيد مثلاً، إلا أن هذا التصور الأرضي لا يفقه شيئاً من الطابع الحزين لدلالة الحياة من حيث البعد العبادي في الحياة ذاتها، أي لتجربة خلافة الإنسان أو للتجربة العبادية للإنسان أساساً، بينما نجد أن التصور الإسلامي للحزن يتمثل في مفهوم عبادي خاص حيث يمكن الذهاب إلى أن التصور الإسلامي أساساً يقوم على المفهوم العبادي الذاهب إلى أن مسؤولية تحمل الخلافة في الأرض وما يترتب عليها من آثار أخروية فضلاً عن أن تجربة الدنيا لا تمثل إلا جسراً أو متاعاً ينبغي تجاوزه إلى حياة أخرى.. الخ، كل هذه التصورات تجعل من استجابة الشخصية حيال تجربة الحياة مطبوعة بطابع الحزن وليس بطابع الفرح، ومطبوعة بطابع التعب وليس بطابع الراحة مع ضرورة أن نشير في هذا السياق إلى أن بعض الاتجاهات الأرضية ومنها الاتجاه الوجودي مثلاً يحاول أن يصل بين الطابع المأساوي لتجربة الحياة وما تستجرّه المسؤولية من قلق أو توتر يعدان سمة سوية في السلوك. كما أن بعض المدارس المعاصرة أيضاً تذهب إلى أن التوتر والشدة وما إلى ذلك تعد ظواهر ضرورية لأن طبيعة الحياة تستلزم ذلك، ولأن خلو الشخصية من أي توتر يفقد دلالتها الإنسانية.

على أية حال لا نريد أن نتابع هذا الاتجاه بقدر ما نريد أن نتابع الاتجاه الإسلامي الذي ينبغي ونحن نتدارسه أن نفرق بين الحزن بصفته عملية نفسية شاذة من حيث البناء الوظيفي لجهاز النفس وبين الحزن الذي ينجم عن تصور ناجم لتجربة الحياة، فهناك فارق بين أن نتلفع بنظرة سوداء تشلّنا عن ممارسة عملنا الوظيفي في الحياة، وبين تصور يدفعنا إلى أن نواصل المزيد من ممارساتنا الوظيفية، فالمؤمن كما تصفه التوصيات الإسلامية حزين إلا أن حزنه هنا سوي وليس عصابياً، يدفعه ذلك إلى التفكير بتعديل سلوكه وبمواصلة عمله العبادي الذي أوكلته السماء إليه، إنه حزين لأنه يجهل ما سيترتب على تحمل مسؤوليته التي يقصر حيال تحملها، وهذا كله يستدعي الحزن، وأما الحزين نفسياً فإنه على العكس من ذلك، ينسحب من الحياة إلى داخل ذاته ويتعطل تماماً عن ممارسة سلوكه الاعتيادي الذي ينبغي أن يمارسه مثل اكتساب الرزق  مثلاً والتوافق الاجتماعي والخدمة العلمية.. الخ، وبكلمة أخيرة الحزين أو المكتئب نفسياً كائن شاذ عصابياً كان أو ذهانياً، وهو مطبوع بخلل في جهازه النفسي يعطله عن ممارسة وظيفته، في حين أن الحزين عبادياً أو إسلامياً أو حتى اجتماعياً بحسب التصور الأرضي يجسد قمة في السواء، لأنه يستجيب استجابة حزينة حيال الحياة وذلك من حيث تحسسه بالمسؤولية في هذا المجال، وإمكانية قصوره في ممارسة المسؤولية بنحوها المطلوب، وبهذا القدر نكتفي بالحديث عن الحزن ويقابله الفرح، حيث أن الحزن لاحظناه ينسحب على معنيين معنى نفسي ومعنى عبادي. ولذلك ننتهي من الحديث لهذا الجانب لننتقل إلى سمة جديدة وهي سمة ذات أهمية ألا وهي سمة اليقين ويقابلها الشك.

اليقين والشك

إذن لنتحدث عن المستويات التي ينبغي أن تستذكر طويلا لملاحظة هذه السمة وتعديلها إلى المستوى المطلوب. اليقين ويقابله الشك لعله يمثل مستويات من الظواهر التي نلاحظها يومياً أو من المستويات التي يألفها الذهن حيث أن تجربة اليقين كتجربة الشك يوميا ودلالياً تشير في تصورنا إلى معنى واضح لا يحتاج إلى مزيد من إلقاء الإنارة عليه، والأمر نفسه بالنسبة إلى المظهر النفسي لهذين المصطلحين أو بالأحرى المصطلح النفسي لهاتين الظاهرتين، فبالنسبة إلى الشك بحسب معجم علم النفس المرضي يعد جذراً لغالبية الأمراض العصابية والذهانية،بل يمكننا أن نقر بوضوح أن المرض النفسي ما دام قائماً على عدم التوازن داخل الشخصية فإن عدم التوازن المذكور يعني عدم وجود يقين نفسي حيال هذه الظاهرة أو تلك، ولنقل أن الصراع بصفته تعبيراً عن مرض الشخصية لا يمكننا أن نتصور أساسه إلا إذا تصورنا أن الإقدام والإحجام على ممارسة الشيء هو التعبير عن الشك حيال الشيء المذكور، فإذا كنا نملك حيال الشيء حينئذ لا يتنازع عنا طرفا الصراع أي الإقدام والإحجام، مما يعني من ثم أن الشك يعد أساساً للأمراض النفسية بمختلف أنماطها، فمثلاً إذا شككنا بقدراتنا العلمية حينئذ لا نستطيع أن نواصل نشاطنا العلمي، وإذا شككنا بقدراتنا على أن ننجح بأداء ممارسة العمل الوظيفي أو العمل الإداري أو العمل الاجتماعي، حينئذ أيضاً سنشل عن العمل ولا نستطيع مواصلة ذلك.

إذن الشك يعد أساساً للأمراض النفسية بمختلف أنماطها، وأما صلة اليقين وهو ما يقابل الشك بمعايير السلوك السوي لدى الشخصية فأمر يتضح أيضاً بخاصة إذا أخذنا ذلك بنظر الاعتبار من خلال إحساسنا بالثقة أو الجدارة لذواتنا، بمعنى أن الشخص الذي يحتفظ بتقدير إيجابي لذاته يظل على يقين بأية ممارسة يقدم عليها، دون أن يشكك بإمكاناته على ممارسة هذا العمل أو ذاك، على العكس من ذلك يظل الشاك في كل ممارساته منطلقاً من التقدير السلبي لذاته متحسساً بعدم جدارته متلمساً كل مظاهر الضعف والدونية والحطة فيها.

وقد سبق أن حدثناكم عن هذه الظواهر في أكثر من محاضرة، إلا أننا ما دمنا نتحدث عن القائمة التي قدمها الإمام الصادق (عليه السلام) بالنسبة إلى سمات الشخصية حينئذ فإن إعادة الكلام في المجال المشار إليه تفرض ضرورتها.

المهم إننا حين ننفي ظاهرة اليقين ومقابلها الشك من متاعها النفسي الخالص إلى الظاهرة العبادية نلحظ أن المشرع الإسلامي قد وصل بين اليقين النفسي وبين اليقين العبادي، ولعلكم تتذكرون جيداً في القسم الأول من محاضراتنا تلك القائمة الأولى التي قدمها الإمام علي (عليه السلام) من حيث مفردات السلوك المتصل بكل من الإيمان والكفر والنفاق، تتذكرون أن هذه القوائم كانت تتضمن السمات النفسية الخالصة مع أنها تتحدث عن سمات عبادية صرفة، هي الإيمان بالله سبحانه وتعالى والكفر والنفاق، وكلها ظواهر عبادية خالصة، إلا أنكم لاحظتم أن الأربعين جذراً التي رسمها الإمام (عليه السلام) بالنسبة لدعائم الكفر والنفاق، هذه المفردات جميعاً تنتسب إلى مفردات نفسية صرفة، وكذلك اليقين حيث وصل الإمام (عليه السلام) بين اليقين وبين الإيمان مما يعني أن الشخصية السوية التي لا تعد صراعاً ينسحب هذا السلوك السوي لديها على نظرتها الفلسفية للكون، وعلى العكس من ذلك فإن الشخصية الشاكة ينسحب شكها حيال مختلف المظاهر التي تواجهها في الحياة اليومية على شكها حيال الله أيضاً.

وبكلمة أخرى أكثر وضوحاً إن الشخصية الشاكة مثلاً بقدرتها على أن تواصل مسيرة الحياة سوف ينسحب شكها على معرفة الله سبحانه وتعالى، وكذلك العكس عندما تثق الشخصية مثلاً بقدراتها، أي تملك يقيناً بقدراتها فإن هذا اليقين ينسحب على تعاملها مع السماء أيضاً فتؤمن بالله ولا تشك في ذلك.

المهم إن أهمية الوصل بين السمات النفسية الخالصة كالشك وكاليقين وبين السمات العبادية كالإيمان وكالكفر، ينبغي أن لا يغفل عنها المعنيون بشؤون التربية أو بشؤون علم النفس السوي وعلم النفس المرضي ما دام يقين الشخص بجدارة ذاته وعدم تشكيكه بما يواجهه من المنبهات المختلفة ينسحب على تفكير الشخص حيال ظاهرة الكون ومبدع الكون، وما دام تشكيكه في حالة العكس ينسحب أيضاً على تشكيكه حيال ظاهرة الكون ومبدع الكون.

ولعل هذا الجانب يظل غائباً تماماً عن ذاكرة علم النفس الأرضي وعلم التربية فيما قطع هذا العلم وذاك مراحل متنوعة من الدراسات التجريبية أو الدراسات المتصلة بسواء الشخصية ومرضها إلا أنه بسبب من عزلتها عن السماء وتصوراتها لم ينجح كل من عالم النفس والتربوي في تقديم النموذج العملي للشخصية السوية، ويمكننا ملاحظة هذا الجانب بوضوح حينما نعرض على سبيل المثال لمعيارين من معايير السواء التي أقرّتها كافة الاتجاهات النفسية والتي عرضناها عليكم في بداية محاضراتنا المتصلة بسمات الشخصية، وهذان المعياران هما تقبل الواقع وتقبل الذات من حيث صلتهما بسمة اليقين والشك وانسحاب ذلك على الموقف الفلسفي من ظاهرة الكون ومبدعه.

إن الموقف الفلسفي من الكون يظل بالقياس إلى الشخصيات المنعزلة عن السماء محفوفاً بأحد سلوكين؛ إما تجاهل الموضوع أو التشكيك به، بمعنى أن طبيعة الغموض  أو الجهل الذي يغلف البشرية حيال نشأة الكون نظراً لعدم إمكان خضوع ذلك إلى التجريب أو الاستخلاص الذهني يلتزم بالضرورة هروباً من الواقع أو تشكيكاً للواقع بالنسبة إلى الشخصية المنعزلة عن السماء، مما يعني أنها لم تنطلق في موقفها المشار إليه من مبدأ تقبل الواقع، بل انطلقت من مبدأ مرضي هو الهروب من الواقع لأنها أبت أن تتعامل واقعياً مع هذه الظاهرة بل هربت منها وأخذت موقفاً لا أبالياً، أي أنها لم تستدل على موقفها بأي دليل تجريبي أو عقلي.

كذلك فإن مبدأ تقبل الذات بما يتحسسه الملحد أو المشكك من قصور في معرفة السر يظل في الواقع غير متحقق أيضاً في ممارسته الفكرية حيال الكون، وذلك بصفة أن الشخص الذي يتجاهل أن يفكر في الظاهرة الكونية لا يتقبل ذاته بما فيها من قصور، وإلا لما سمح لنفسه بأن يتجاهل ظاهرة يحياها، بل لا مناص له من أن يفرق موضوع يعجز عن هذه المواجهة، إذن لا مبدأ تقبل الواقع ولا مبدأ تقبل الذات يورثا في التعامل مع الظاهرة الكونية ومبدعها لدى الشخصيات المنعزلة عن السماء، وحينئذٍ لا بد من أن نفترض بأن نحكم على المتجاهلين للظاهرة الكونية بأنهم غير أسوياء، أي كل من يشكك أو يلحد يظل شخصية غير سوية انطلاقاً من هذه المبادئ التي حدثناكم عنها الآن والتي تقرها الاتجاهات جميعاً وفي مقدمتها مبدأ تقبل الواقع ومبدأ تقبل الذات.

المهم أن الشخصية الإسلامية تظل بمنأى عن السمة المرضية التي تطبع ذاتها في أحد أنماطها وهو الشك بما تسحبه على نظرتها الفلسفية حيال الكون، وهو أمر لا يتوفّر لدى الشخصيات الأرضية المنعزلة عن السماء في غفلتها تماماً عن ملاحظة السمة المرضية التي تطبع ذاتها وفشل ذلك من ثم في تحقيق السلوك السوي بالنحو الذي تضطلع عليه عبر رحلتها العلمية الشاقة في البحث عن ذلك.

بهذا ننتهي من الحديث عن كل من ظاهرتي اليقين وما يقابلها من الشك، ولكننا نتابع حديثنا عن سائر السمات العامة التي رسمها الإمام الصادق (عليه السلام) بالنسبة إلى الشخصية وبالنسبة إلى ما ينبغي أن يمارس خلالها من عملية تربوية لتعديل السلوك، ونواجه الآن ظاهرتين متقابلتين أخريين هما: الرجاء ويقابله القنوط،

الرجاء والقنوط

وتعرفون تماماً بأن الرجاء هو سمة إيجابية لا تحتاج إلى التعقيب لوضوح دلالتها في الأذهان، يقابلها القنوط فيما يشكل سمة مرضية بدورها.

ويعد ما يسميه علماء النفس بعصاب الكآبة واحداً من الأمراض التي يجيء القنوط أو اليأس عرضاً فيها حيث تجر المريض إلى أن ينسحب من الحياة وتطلعاته ويجمد داخل أسوار ذاته، والسبب في عد الرجاء سمة سوية في تصور علماء النفس وفي التصور الإسلامي أيضاً حيث عد الإمام الصادق (عليه السلام) الرجاء واحداً من جنود العقل وهو أن الرجاء يدفع بالشخصية إلى أن تواصل ممارساتها المختلفة في الحياة على العكس من القنوط الذي يحتجز الشخصية عن مواجهة أية ممارسة جديدة، ومن ثم يدعها تنسحب إلى داخل ذاتها فتتعطل فاعليتها.

وإذا عرضنا هذه الظاهرة على أحد معايير السلوك السوي وهو الإحساس بالجدارة كما أوضحنا ذلك أيضاً في محاضرة سابقة قدمنا فيها عرضاً بمبادئ السلوك الأرضي في تصوره لعالم السواء وكان واحداً من تلكم هو الإحساس بالجدارة حينئذٍ يمكننا أن ندرك بأن اليائس لا يتحسس بجدارة ذاته، ولا يتحسس بكفاءتها في ممارسة نشاطه حيث ينسج حول ذاته نظرة سلبية غير قادرة على تخطي الحواجز التي تواجها في الحياة، والأهم من ذلك هو أن اليائس يعاني من التمزق الداخلي بما يحتجزه عن تذوق أي طعم لحياته، فضلاً عن تضييعه لمختلف الفرص من الإشباع الذي لا مناص من تحقيق مقدار معين منه حفاظاً على توازن الشخصية.

والآن إذا نقلنا هاتين الظاهرتين - ظاهرة الرجال وما يقابلها من القنوط - من صعيدهما النفسي الصرف إلى صعيد السلوك العبادي نجد أن المشرع الإسلامي يمنح هذا الجانب عناية شديدة فيما يتصل بالتعامل مع الله وذلك من خلال ظاهرة الذنب وصلتها برجاء التجاوز عن الذنب أو القنوط من ذلك. وقد لحظ أحد المعصومين (عليهم السلام) رجلاً مارس عملية قتل فيأس من قبول توبته فقال له الإمام (عليه السلام) ما مؤداه أن يأسك من رحمة الله أشد ذنباً من ممارستك لعملية القتل!، ولذلك عدّ الأئمة (عليهم السلام) القنوط من رحمة الله تعالى هو من الكبائر، أي من الذنوب الكبيرة جداً، والواقع أن هذه الملاحظة العيادية للإمام (عليه السلام) تعد في القمة من عمليات الكشف عن ظاهرة القنوط ودلالتها النفسية، فالقتل هو عملية محرمة والعقاب على ممارسته أمر لا يداخله أي شك، ولكن اليأس من التجاوز عن هذا الذنب يظل أشد سلبية من القتل ذاته، والسبب في ذلك من الزاوية النفسية أن اليأس يتضمن في الحالة المتقدمة ممارستين هما: اليأس من رحمة الله سبحانه وتعالى فيما يشكل استجابة شاذة حيال الله، بصفة أن أي تعامل سلبي حيال الله تعالى يعد سمة مرضية، فكما أن القتل يتجسد فيه عدم التزام لمبادئ السماء يعد سلوكاً مرضياً فكذلك اليأس بصفته أيضاً عدم التزام بالمبادئ المذكورة يعد سمة مرضية بدوره، بمعنى أن اليأس هو التشكيك الفكري لمعرفتنا لله تعالى حق معرفته،وكل تشكيك بالمعرفة المذكورة يعد تعبيراً عن دلالة مرضية هي التشكيك بكل ما يواجهه الشخص من مظاهر الحياة، فينسحب شكه حينئذ الى سمة نفسية خالصة على شكه حيال معرفة الله سبحانه وتعالى أيضاً.

أما المفارقة الثانية المترتبة على اليأس من رحمة الله فتتمثل في أن اليائس من رحمته تعالى سوف يتوقف عن مواصلة أعماله العبادية الأخرى ما دام يائساً من المعطيات الأخروية، مما يعني تقاعس عن وظيفته الخلافية التي وجد أساساً لممارستها في الحياة، مضافاً إلى ذلك فإن يأسه من رحمته تعالى سينسحب على مجمل ممارساته الأخرى، مما يصبح سمة لشخصيته بشكل عام، وهذا ما يخرج اليائس إلى الوقوع في براثن المرض النفسي الخطير.

إذن اليأس ويقابله الرجاء يظل في التصور الإسلامي سمة مرضية كما ألمحت إلى ذلك القائمة التي تضمنت كلاً من سمات أو جنود الجهل كما أنه من الزاوية العبادية يظل حاملاً عرضاً أشداً من اليأس العادي نظراً لأنه من جانب تعبير عن سمة نفسية تقتاد الشخص إلى أن يتعامل مع الله بنفس السمة التي تطبع شخصيته حيال ظواهر الحياة، وإنه من جانب آخر يساهم في تضخيم حجم مرضه بحيث ينسحب اليائس في سلوكه على كافة ما يمارسه من سلوك.

بهذا ننتهي من الحديث عن اليأس ويقابله الرجاء أو الرجاء ويقابله اليأس ونتجه إلى مفردة أخرى هي الصبر ويقابلها الجزع.

الصبر والجزع

تجمع الاتجاهات التربوية والنفسية بأكملها على أن الصبر هو القدر الوحيد الذي ينبغي على الشخصية أن تتقبله حيال مواجهتها لشدائد الحياة، نظراً إلى أن الإحباط أي عدم الإشباع هو السمة التي لا تفارق طبيعة تجربة الحياة ما دام من الممتنع أن تحقق الحياة إشباعاً كاملاً للشخصية، أما الإسلام فإن تصوره لظاهرة الصبر تأخذ طابعاً يكاد يقترن بظاهرة الإيمان بحيث لا يفصل أحدها عن الآخر ولا نجدنا بحاجة إلى تقديم عشرات النصوص القرآنية والحديثية الحائمة على الصبر والمطالبة بالتدريب على الصبر ما دام الأمر من الوضوح بمكان كبير، ونظراً إلى أن الصبر يعد سمة عامة تندرج ضمنها كل عمليات التأجيل المتصلة بمواجهة الإحباط أياً كان حينئذ لا نجد مسوغاً لإفراد هذه الظاهرة في حقل مستقل ما دام تأجيل الشهوات يستغرق كافة أنماط السلوك، كل ما في الأمر أن المشرع الإسلامي عبر نقله ظاهرة الصبر من نطاقها النفسي إلى النطاق العلاجي إنما يجسدها في مفردتين من السلوك هما الصبر على الطاعة والصبر على المعصية، أي الصبر على ممارسة العمل المندوب عليه والصبر على ترك العمل المنهي عنه.

المهم ما دام الأمر مرتبطاً بالعلة التي ذكرناها حينئذ سنفرد الحديث عن الصبر وما يقابلها من الجزع لنتحدث عن سمة أخرى هي الوقار ويقابلها الجهل.

إن هذه السمة التي أدرجها الإمام الصادق (عليه السلام) ضمن قائمة العقل وما يقابلها أي الجهل تكاد تعني جانباً مما سبق أن عرضناه أيضاً من معايير السماء عند علماء النفس والتربية وهي سمة النضج الانفعالي ولعلكم تتذكرون عند حديثنا عن النضج الاجتماعي ما عرفناه بشكل مفصل حيث يظل الوقار مرتبطاً بهذا الجانب كلا الارتباط بصفة أن الوقار يعني تماسك الشخصية بسائر تصرفاتها سواء أكان هذا التماسك نابعاً من بناءها النفسي العام، أي كونها طبعاً في الشخصية أو كان مصطنعاً، فالذي يصطنع الوقار أيضاً أمر تنظر إليه التوصيات الإسلامية بصفة أن اصطناع الوقار هو في الواقع تدريب على أساليب السلوك الناضج انفعالياً بحيث يفرد من خلال التدريب إلى أن يصبح طابعاً ثابتاً في سلوك الشخصية أي يتحول إلى طبع في نهاية المطاف. وسنرى عند حديثنا عن سائر سمات الشخصية أن الإسلام يحذر من أي تصرف يتنافى مع سمة الوقار كممارسة المزاح والجدال والكذب وغير ذلك من أنماط السلوك التي تتصل بسمات متنوعة لدى الشخصية تتنافى مع ظاهرة الوقار.

نكتفي أيضاً بالحديث عن هذا الجانب لنتجه إلى سمة أخرى هي التوءدة  وتقابلها العجلة، وكما قلنا أن النضج الانفعالي يعد واحداً من معايير السواء لدى الشخصية على النحو الذي سبقت الاشارة إليه أكثر من مرة، إن التوؤدة وتقابلها العجلة تعد من أبرز معالم النضج الانفعالي، سر ذلك أن أية استجابة حيال أحد المنبهات ستكتسب سمة الشذوذ إذا لم تات من تفكير مدروس متأن مثقف، وإذا عرفنا أن الانفعالات الحادة هي واحدة من أبرز أسباب المرض النفسي بما يصاحب هذه الانفعالات من تغيرات نفسية حينئذ أمكننا أن ندرك موقع العجلة من الانفعالات المذكورة، بخاصة إذا عرفنا أن الانفعال الحاد لا يقتصر على إقرار ظاهرة كالغضب مثلاً، بل قد يتخذ مظهراً داخلياً مصحوباً بحساسية شديدة حيال مواجهة هذا الأمر أو ذاك، ومما لا شك فيه أن العجلة تعني نمطاً من الانفعال بالموقف يتسم بحدة وحساسية زائدة عن الحد الطبيعي بحيث تدفع الشخصية إلى أن تستبق النتائج وتدفعها إلى تسريع النتائج على نحو تفقد فيه عاطفة الشخص اتزانها وهدوئها فتكتسب سمة الانفعال الحاد الذي يعد تعبيراً مرضياً عن السلوك، ولذلك ورد في إحدى التوصيات الإسلامية أن العجلة من الشيطان وهذا تعبير واضح عن السمة المرضية المذكورة.

كما أن التوصيات الإسلامية ألمحت إلى بعض إفرازات العجلة مثل قولهم (عليهم السلام) أن العجلة تورث الندامة وأن عكس ذلك يورث السلامة، حيث وصلت هذه التوصيات بين ظاهرة العجلة بصفتها سمة مرضية وبين منعكساتها على معطيات الإشباع الذي ينشده الشخص في تحركاته بشكل عام، هذا فضلاً عن كونه يساهم في تصعيد التوتر الداخلي للشخصية بصفته إحساساً بالمرارة وبالإحباط يظل أساساً إفرازاً لتوتر سابق هو العجلة ذاتها، بما يصاحب ممارستها من توتر حاد خلال البحث عن الإشباع، بمعنى أن الحافز إليها هو نشدان الإشباع في حين أن النتيجة التي تفضي إليها ليس هو عدم تحقيق الإشباع فحسب بل تستتبع توتراً جديداً هو الندم الذي يضيف إلى الإحباط السابق وهو عدم الإشباع إحباطاً جديداً هو ظاهرة الندم.

طبيعياً ينبغي أن نفرق بين العجلة بصفتها استجابة غير صحية من حيث البعد النفسي لها وبين التحذير بممارسة العمل الحسن، بصفته على عكس السابق استجابة ناضجة من حيث البعد العبادي لها، ففي إحدى التوصيات الإسلامية تقرير بأن خير البر عاجله، أي التعجيل بممارسة العمل الإيجاب، وواضح أن التوصية بالتعجيل هنا لا علاقة لها بطرائق الاستجابة الانفعالية الصرفة التي تعد مرضاً بل لها صلة بتحكيم النضج الانفعالي في الموقف وذلك بأن نسرع في عملنا الإيجابي كمساعدة الآخرين مثلاً أو ممارسة أي شعار من شعائر الدين دون التباطؤ به، أي التعجيل هنا تعجيل عن نضج انفعالي على العكس العجلة التي تعد تعبيراً عن عدم النضج الانفعالي المشار إليه.

بعد هذا نتجه إلى ملاحظة سمة أخرى وهي سمة الحياء ويقابله سمة الوقاحة، الوقاحة كما تعرفون ذلك تعد في تصور العلماء الذين يعنون بأمراض الشخصية سمة للشخصية المنحرفة اجتماعياً، أي الشخصية السيكوباثية بصفة أنها تعبير عدم خضوع الشخصية للمعايير والضوابط الاجتماعية، تقابلها سمة الحياء التي أشار إليها الإمام الصادق (عليه السلام) في قائمة السلوك التي قابل فيها بين العقل والجهل، فالحياء كما نعرف يعني الخضوع للجهاز القيمي، بمعنى أن الشخصية تمتنع عن القيام بأية ممارسة تتنافى مع المعايير الخلقية التي تعارف عليها، إلا أن الحياء أيضاً كما ألمحت بذلك الملاحظات العيادية لكل من الإسلام والأرض ينشطر بدوره إلى نمطين؛ أحدهما نمط سوي والآخر نمط مرضي.

ففي التوصيات الإسلامية يشير المعصومون (عليهم السلام) إلى أن الحياء نوعان حياء حمق وحياء عقل، وفي توصيات علم النفس الأرضي أن الحياء والخجل ينتسب في أشكاله إلى الشذوذ وهو الخجل المرضي الذي يمتد بجذوره إلى أساليب التنشئة الطفلية التي تعرض الطفل خلالها إلى قدرات مؤلمة تحسسه بضئالة ذاته وانحطاطها فينسحب ذلك على استجابته حيال الظواهر التي يواجهها حيث يتحرج مثلاً من مقابلة الغرباء أو يتهيب من الدخول في المدارس أو الدوائر الرسمية أو التهيب من إلقاء خطبة أو محاضرة.. الخ.

ومن البين أن أمثلة هذا الحياء تشل الشخصية عن ممارسة وظيفتها بل تحتجزها حتى عن التعلم بمختلف مظاهر الحياء، وقد ألمح الإمام الصادق (عليه السلام) إلى هذا الجانب حينما أشار إلى بعض منعكسات الخجل المرضي فقال (عليه السلام) : (من رق وجهه رق علمه) مشيراً بذلك إلى صلة الخجل وعدم اكتساب المعرفة، كما أن ملاحظات عيادية أخرى ألمح الإسلام من خلالها إلى نمطي الحياء الصحي والمرضي فيما يمكن فرز أحدهما عن الآخر تبعاً لما يتطلبه الموقف العبادي، فالحياء مثلاً من تعلم مسألة عبادية يعد حياءً مرضياً ولكن الحياء من ممارسة عمل سلبي يعد حياءً إيجابياً وهكذا فإن السياق هو الذي يتحدد في ذلك.

والآن نكتفي بهذا القدر من عرض السمات العامة على أن نؤجل الحديث عن سائر السمات العامة إلى محاضرات لاحقة إنشاء الله، ونستودعكم الله سبحانه وتعالى..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..