mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 28.doc

بسم الله الرحمن الرحيم  

بدأنا في محاضرتنا السابقة بالحديث عن التربية العقلية أو بدأنا في الواقع بالحديث عن سمات الشخصية وينصب الحديث أولاً عن السمات العقلية وما يرتبط بها من العمليات التربوية التي ينبغي أن تسلك لتنمية المهارة العقلية وانتهينا من ذلك إلى أن التربية العقلية تنشطر إلى نمطين أحدهما ما يتصل بالمهارة الإدراكية الصرفة أي عملية التذكر والنسيان والتخيل وو..الخ، والنمط الآخر يتصل بالبعد المعرفي حيث استشهدنا بنصوص إسلامية توضح مدى الفارقية بين هذين النمطين من المهارات من جانب وعدم انفصام أحدهما عن الآخر من جانب ثان.

المهم لقد انتهينا من الحديث في المحاضرة السابقة عن الجانب الإدراكي  حيث استشهدنا بنماذج من معالجات المعصوم (عليه السلام) كالحفظ ويقابله النسيان وكالفهم ويقابله الغباوة ووعدناكم بأن نحدثكم عن النمط الآخر وهو النمط المعرفي، وهذا ما نبدأ به الآن فنقول:

إن التصور الإسلامي للسمات العقلية يظل في نطاقه الذي حددناه معاً مرتبطاً بفعالية الإدراك من كونه جهازاً وظيفياً صرفاً، أما من حيث انسحاب هذا الجهاز الوظيفي على الموقف المعرفي للإنسان وهو الموقف الفلسفي أو الفكري من الكون والمجتمع والإنسان فإن التصور الإسلامي لظاهرة العقل أو الإدراك أو المعرفة بتعبير آخر يأخذ منحى آخر هو وحدة العقل الوظيفي والفكري، أي عدم انفصام أحدهما عن الآخر، ونحن في الواقع يهمنا أن نختصر ذلك بتعبير أو مصطلح خاص هو وحدة العقل المعرفي، ولكننا انسجاماً مع نفس المصطلحات الإسلامية التي تطلق مصطلح العقل حيناً بمعناه الأول وحيناه بمعناه الثاني لذلك فإننا نضطر أيضاً إلى استخدام ذلك المصطلح وحيناً نستخدم مصطلحنا المعرفي.

المهم أن ما نود أن نشير إليه الآن أن للإسلام تصوراً خاصاً لظاهرة السمة المعرفية أو العقلية تأخذ منحىً محدداً هو وحدة العقل الوظيفي، أي العقل الذهني والفكري، أي العقل الفلسفي وعدم انفصام أحدهما عن الآخر.

وفي هذا الميدان نقول إن مجرد الاضطراب الوظيفي للعقل يدخل في نطاق الأمراض الذهانية، أو سائر الاختلالات المتصلة بالتخلف العقلي وسواه، وهو أمر يعفي الشخصية من تحمل مسؤولياتها من حيث ترتب آثار العقاب والثواب، كما يعفيها من تحمل المسؤوليات الوضعية المتصلة بأحكام الزواج والطلاق والبيع والشراء وسائر التصرفات الأخرى إلا في نطاق محدد يتصل ببعض العقوبات التي لا تاخذ الشخصية المضطربة العقلية منها نظراً للضبط الاجتماعي الذي يتطلب أمثلة هذه العقوبات، ولعلكم تتذكرون جيداً عندما حدثناكم عن التربية البيئية وفيما يتصل بخاصة بالطفولة في مرحلتها الثانية حدثناكم حينئذٍ عن بعض العقوبات التي رسمها الإسلام لمعاقبة الأطفال الجامحين الذين يصدر منهم سلوك منحرف حيث ألحق المشرع الإسلامي لهذا النمط من العقوبات أيضاً ممن يعانون اضطراباً عقلياً حيث رتب آثاراً على هذا الاضطراب تتجاوز الوعي الذي يحمله الذهاني أو المضطرب في هذا المجال.

المهم هذا يعني كله أن المشرع الإسلامي يعزل منذ البدء أمثلة هؤلاء المضطربين عقلياً من صعيد التوصيات والمقررات العيادية ويوصي بمعالجتهم بالعقاقير ونحوها، ولكنه يتجه إلى الأصحاء عقلياً بتوصياته التي نتحدث عنها في محاضراتنا.

لكن إن الأصحاء عقلياً أيضاً من الممكن أن تتبعهم سمات خاصة من الشذوذ وهم على نمطين؛ النمط الأول يتمثل في مجرّد الأعراض العقلية التي لا تصل إلى درجة المرض العقلي، وهذا كالغباء والنسيان ونحوهما مما ألمحت إليه قائمة السلوك التي قدمها الإمام الصادق (عليه السلام)، إن أمثلة هذه الأعراض تحتجز الشخصية عن ممارسة سلوكها بالنحو الطبيعي الذي يتطلبه الموقف أياً كان عادياً كالتعلم والسلوك الاجتماعي بعامة، أو عبادياً كان كالممارسة بالنسبة إلى الوظيفة العبادية للإنسان، وهذا النمط من الاضطراب العقلي لا يرتب المشرع الإسلامي عليه آثار الثواب والعقاب أيضاً إلا في نطاق الاستعداد الذي لا يمكن أن تتجاوزه الشخصية، وتبعاً لذلك وردت جملة من التوصيات والمقررات والملاحظات التربوية التي تشدد في أن الله سبحانه وتعالى إنما يثيب ويعاقب بقدر عقول الناس من ذكاء وغباء وتخوف وتخلف وسلامة وشذوذ، بل حتى العقل الاجتماعي يأخذ المشرع الإسلامي مستوياته بنظر الاعتبار في هذا الميدان، فهم منعزلون عن أضواء الثقافة والحضارة بعامة ممن لا تتيسر لديهم وسائل الاتصال بأصول الثقافة الإسلامية يختلط التعامل حيالهم عن التعامل الذي يمارسه المشرع الإسلامي حيال الآخرين.

إذن ثمة أنماط من الأصحاء عقلياً تظل موضع ملاحظة عيادية يشير المشرع الإسلامي إلى سماتها المرضية كالغباء والنسيان وانسحاب ذلك على مجمل السلوك نفسياً وعبادياً.

وأما النمط الآخر فهو النمط الصحيح عقلياً لكنه يظل موضع تشدد المشرع الإسلامي من حيث المفهوم العبادي للعقل كما قلنا، وليس من حيث المفهوم الوظيفي الصرف له، ولعلّ تصوير هذا الجانب بالاستشهاد بملاحظة مهمة وردت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعل الاستشهاد بهذا النص أو بهذه الملاحظة يلقي الضوء الكافي على التصور العبادي للعقل أو ما اصطلحنا عليه التصور العبادي للبعد المعرفي أو للعقل المعرفي مقابل العقل الوظيفي، ونكرر هذا الكلام العقل الوظيفي مقابل العقل المعرفي لنشير إلى الأول بالنسبة إلى العقل العام الذي ؟؟؟ الإنسانية فيه وهو جهاز الإدراك من إدراك وتأمل وذكاء ونسيان وغباء وتخيل ومحاكمة وو.. الخ، مقابل العقل المعرفي الذي يعني مجرد المعرفة التي يتلقفها الإنسان بيئياً ويترتب عليها آثار سلوكه العبادي إلا أن هذا العقل المعرفي لا يمكن أن يتم إلا من خلال ركونه إلى العقل الوظيفي الذي يمدّه بوسائل المعرفة الصحيحة.

المهم لقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث كان جالساً بين أصحابه حيث مرّوا ذات يوم بأحد الذهانيين فقال لهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما مؤداه أن هذا الشخص مصاب وليس بمجنون، فلاحظوا كيف أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عقب على هذه الشخصية المريضة عقلياً بأنها شخصية مصابة وليست بمجنونة، وسبب أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) استخدم مصطلح مصاب ولم يستخدم مصطلح المجنون، ليلفت نظرنا إلى النقطة المهمة جداً ألا وهي إشارته إلى دلالة المفهوم العبادي الأصيل للعقل، بمعنى أن الاضطراب الوظيفي ليس هو المحدد بمفرده لمفهوم العقل، أي الخلل في جهاز الوظيفة العقلية لا يحدد وحده مفهوم العقل في التصور الإسلامي نظراً لأنه مرض لا يتحمل صاحبه مسؤولية سلوكه، بل إن تحمل ذلك يتحدد لدى أولئك الذين يتميزون بسلامة جهازهم الوظيفي، ولكنهم لم يمارسوا مسؤولية الإدراك الذكي لدلالة وجودهم في الحياة، ولعلّ النصوص القرآنية الكريمة التي كانت تشبّه الكفار بالأنعام أو بل هم أضل سبيلاً، مثل هذا التشبيه دون أدنى شك يفصح بوضوح على أن هؤلاء الذين لا يمارسون مسؤولياتهم في الحياة من خلال الإدراك الذكي لدلالة وجودهم الذي خلقهم الله سبحانه وتعالى من أجل ممارسة الوظيفة العبادية، أمثلة هؤلاء نسبهم القرآن الكريم إلى الأنعام، بل جعلهم أضل سبيلاً، لأن الفارق بين الأنعام أو الحيوان وبين الإنسان هو ممارسة الجهاز الإدراكي لديه بالنحو المطلوب، وليس مجرد ممارسته بما أنه جهاز إدراكي يدرك ويتخيل ويتذكر وينسى وو.. الخ، بل بما أنه جهاز إدراكي موظف لكي يتعرّف على معنى وجوده في الحياة ويمارس في ضوءه مسؤوليات، فإذا فقد هذا البعد المعرفي حينئذٍ فإن جهازه الوظيفي الإدراكي لا قيمة له البتة، ولذلك شبه القرآن الكريم أمثلة هذه الأجهزة بجهاز الحيوان الذي لا يدرك معنى وجوده في الحياة، بل جعله أشد ضلالة عندما قال سبحانه وتعالى: (إن هم كالأنعام بل أضل سبيلا).

على أية حال إن علم النفس الأرضي والتربية الأرضية حينما يتحدثان عن الذكاء مثلاً نجدهما يقدمان أكثر من تعريف في هذا الميدان؛ فبعض علماء النفس يعرّف الذكاء بأنه القدرة على ممارسة التجريب، وبعضهم يعرّفه بأنه القدرة على استخلاص علاقات التشابه والتضاد بين الأشياء، والبعض الثالث يصل بين الذكاء وبين البعض المعرفي كظاهرة التعلّم والقدرة الاستبصارية وما إلى ذلك.. والبعض الرابع يصل بينه وبين مشكلات البيئة فيعرف الذكاء من حيث التمكن في التعامل مع ظواهر الحياة أي التوافق بيئياً، ومن البيّن أن التعامل مع ظواهر الحياة يجيء في مقدمته التعامل مع ظاهرة الكون والمجتمع والإنسان، أي الموقف الفلسفي من الحياة. بمعنى أن التغافل عن المعنى الفلسفي للحياة يشكل سمة سلبية من سمات العقل سواء أكان هذا التغافل حيال ما وراء الوجود المادي كالله سبحانه وتعالى واليوم الآخر، أو مجرد عدم الالتزام بمبادئ السماء وهو المعصية أو ممارسة الذنب، ويمكننا أن نبلور هذه الحقيقة بنحو أشد وضوحاً حينما نتجه إلى نفس تعريفات الذكاء بمختلف أشكالها التي يقدّمها علماء النفس والتربية في هذا الميدان، فالتجريد مثلاً وهو يقابل العيان في العمليات الذهنية أو الحسية في عمليات الذهن أو استخلاص علاقات التشابه أو التضاد بين الأِشياء لا يمكن أن يتم بمستوياته المطلوبة ما لم يقتنص العقل كل أطراف المماثلة والمضادة بين الأشياء، وأول ما يفتقده غير الذكي من هذه العمليات هو تغافله عن العلاقة السببية للكون من حيث الاستدلال على وجود الله سبحانه وتعالى وتغافله عن العلاقة السببية في تكوينه النوعي ونشأته وموته وقدراته.. الخ، ثم تغافله عن العلاقة السببية في سائر ظواهر الطبيعة التي يواجهها حيث ينسج حيالها صمتاً أقل ما يدل عليه هو التغافل عن إدراك علاقة التشابه والتضاد بين الظواهر، وهذا وحده كاف للحكم على مثل هذه الشخصية المتواكلة لأنها لم تستكمل أدوات الذكاء التي حددها علماء النفس والأصول.

والأمر ذاته يمكننا أن نسحبه بوضوح على الشخصية الإسلامية غير الملتزمة، أي العاصية أو المنحرفة، بصفة أن عدم التزامها بمبادئ السماء يعد تغافلاً عن إدراك العلاقة بين المتشابهات والمتضادات التي تحقق إشباعاً للشخصية إلى رؤية هذه العلاقة التي لا يدركها إلا من أوتي ذكاء قد استكمل أدواته.

من هنا نجد أن الإمام الصادق (عليه السلام) في القائمة التي وقفتم عندها في محاضرات سابقة أي القائمة البالغ عدد مفرداتها خمساً وسبعين مفردة، قد قدم (عليه السلام) فيها مضافاً إلى سمتي الغباء والنسيان وما يقابلهما من ذكاء وتذكر، قدم سمة السهو مقابلاً لسمة التفكّر، عادّاً إياها من سمات المرض أو الجهل أو الشك، فالغباء والنسيان سمتان عقليتان تنسحبان على مطلق التعامل مع ظواهر الحياة، ومنها الظاهرة العبادية وأما السهو فسمة عقلية وفكرية في آن واحد، أي التغافل عن الالتزام بمبادئ السماء وهو تغافل ناشئ عن عدم إدراك العلاقة بين وسائل الإشباع التي ينبغي أن تختار الشخصية ما هو أكثر إشباعاً من غيره، فمثلاً المنغمس في متاع الحياة الدنيا وهو يعنى بهذا المتاع كل العناية ويسعى إلى إشباع حاجاته من هذه الحياة، نقول: إن المنغمس في متاع الحياة الدنيا يتغافل عن إدراك العلاقة بين هذا المتاع العابر الذي هو بين الأمتعة الآجلة التي لا حدود لها في اليوم الآخر، لذلك ورد بنحو يلفت النظر الاستشهاد بحادثة المقابلة التي جرت بين شخصين أحدهما يؤمن بالله واليوم الآخر والآخر لا يؤمن بذلك، حيث اتهم المنحرف المؤمن بالزهد لإشباع حاجاته فكانت الإجابة من الزاهد في الحياة الدنيا أن الزاهد هو هذا المنحرف أو الملحد وليس هذا المؤمن أو الزاهد، لأن المنحرف يزهد بإمتاع ضخم هو إمتاع اليوم الآخر الذي لا حدود له حيث أن الإشباع الأخروي إشباع خالد بينما الإشباع الدنيوي إشباع قصير لا يتجاوز عمر الإنسان.

على أية حال نخلص مما تقدم إلى أن التصور الإسلامي للسمات العقلية ينشطر إلى ملاحظتين؛ إحداهما تفصل بين العقل بصفته الوظيفية وبين العقل بصفته العبادية، بل أخرى تجعل كلاً من العقل الوظيفي والعبادي وحدة لا انفصام بينهما من حيث سلامته أو شذوذه بشكل عام، وأما في ميدان العلاج التربوي أو التحصيل أو التجريد على صياغة السمة العقلية وفقاً لمبادئ السواء بحيث تكسب السمة طابعاً إيجابياً للشخصية فإن كلاً من العقل الوظيفي والعبادي يجد في التوصيات الإسلامية جملة من الأشكال التربوية أو جملة من أشكال العلاج لها، ففيما يتصل مثلاً بالسمات الوظيفية نجد أنها على نمطين أحدهما يوصي من خلاله باستخدام العقاقير ونحوها بخاصة في الاضطرابات الخطيرة وهو أمر خارج عن نطاق دراساتنا التربوية، وأما الآخر فيوصي من خلاله باستخدام التربية الخاصة أو العلاج بالنوم مثلاً وبغيره من أشكال العلاج الذي يتوفر عليه علم النفس الأرضي أيضاً أو العلاج العبادي الخاص فيما ينفرد به الاتجاه الإسلامي.

ويمكننا ملاحظة النمط الأول من العلاج متمثلاً في جملة من التوصيات بتناول أغذية خاصة بعضها يحدد لأعراض بأعيانها والآخر يحدد بسمات عامة ففيما يتصل بالحفظ مثلاً أي بالمهارة الإدراكية الخاصة بالحفظ نجد توصيات بتناول العسل واللبان وغيرهما بغية تنمية المهارات المتصلة بتقوية الذاكرة، وبالمقابل نجد تحذيرات من تناول بعض الأغذية التي تتسبب في إبراز العرض المرضي وهو النسيان، وهو ما يقابل الحفظ في التوصيات السابقة، حيث ورد التحذير مثلاً من تناول التفاح الحامض وتناول الجبن وغيرهما من حيث تسبيبها للعرض المذكور ألا وهو ظاهرة النسيان.

وأما فيما يتصل بتقوية المهارات العقلية بشكل عام وفي مقدمتها الذكاء فإن التوصية مثلاً بتناول الرمان واليقطين والسلق والسباب والسفرجل والعسل وغيرها تظل موضع تشدد لدى المشرع الإسلامي وإلى جانب هذا العلاج الكيميائي المذكور نجد نمطاً آخر من العلاج تمارسه بعض اتجاهات الطب العقلي الأرضي ومنه الاتجاه الشرطي ونعني به العلاج بالنوم، إلا أن الاتجاه الإسلامي يحدد هذا العلاج من خلال العنصر الزمني للنوم وليس من خلال مطلق النوم، ولعلّكم تتذكرون عند حديثنا عن ظاهرة النوم، أي عن الدافع والحاجة إلى النوم والعمليات التربوية التي ينبغي أن تسلك خلال تنظيمه، حيث ذكرنا أن أحد هذه العمليات يتصل بالنوم في أوقات خاصة حيث ذكرنا أن نوم العصر مثلاً يسبب حماقة وأن نوم الظهر يسبب ذكاء إلى آخر ما لاحظناه في الحقل الخاص بتنظيم الدافع إلى النوم.. حيث تتذكرون إيصاء المشرع الإسلامي بالنوم في أزمنة خاصة ومنها نوم القيلولة، بغية تنمية الذكاء أو الحفظ، وبالعكس فإن عدم ممارسة هذا النوم يفضي إلى بروز عرض هو النسيان.

وهذا إلى أن ثمة علاجاً آخر تتقدم التوصيات الإسلامية في هذا الميدان وهو العلاج العبادي المتمثل في أذكار خاصة يجدها القارئ في مظانها حيث يمكنه أن ؟؟؟ بجملة نصوص تشير إلى آيات قرآنية كريمة وتشير إلى أذكار وأدعية خاصة كلها تتناول ظواهر عقلية تتصل بزيادة الحفظ والذاكرة وما إلى ذلك.. وعلى الطالب أن لا يشكك البتة بأمثلة هذه التوصيات الإسلامية وذلك لسبب واضح أن الله سبحانه وتعالى وهو الذي أودع الظواهر الكيميائية قوى خاصة أو فاعلية خاصة للمعالجة فإنه تعالى أيضاً وضع هذه الفاعلية في مجموعة من النصوص التي تتصل بالقرآن الكريم وبالأذكار وبالأدعية ونحو ذلك، ولعل التجارب التي يحياها البشر في هذا المجال كافية للتدليل على فاعلية مثل هذا العلاج، بل نجد أن أمثلة هذا العلاج أشد فاعلية من سواها بخاصة فيما يتصل بمن يثق كل الثقة بأمثلة هذه التوصيات.

ولحسن الحظ أن زمننا المعاصر بدأ يكتشف أسراراً في هذا الميدان، وبدأت كتب حديثة تتناول هذا الجانب، بل بدأت تجارب حتى في أوروبا تخضع كثيراً من الظواهر للاستماع إلى نصوص قرآنية ودعائية لتجد انسحاب ذلك، ليس على العضوية البشرية فحسب بل حتى على عضوية النبات التي وجد التجريبيون في هذا الميدان مجالاً لتمرير تجاربهم المتصلة بفاعلية النص القرآني وفاعلية الأدعية ونحو ذلك حتى بالنسبة إلى النبات فكيف بالنسبة إلى العضوية الإنسانية!.

المهم إن الحديث عن التربية العقلية في الواقع لا يقف عند هذه الحدود التي حدثناكم عنها بل إن التربية العقلية إذا اتسعنا بالنسبة إلى مدلالوها الاصطلاحي وهو ما أطلقنا عليه مصطلح التربية المعرفية، هذه التربية في الواقع تتناول جوانب كثيرة من سلوك الشخصية إلا أن المرتبط بالبعد المعرفي وهو أمر سنحدثكم عنه بشكل سريع آملين منكم أن تتوفروا على قراءة المصادر الكثيرة التي تتحدث عن هذا البعد المعرفي، ويمكننا أن نتحدث عن ذلك بشكل خطوط عامة تتمثل أولاً في الحديث عن العقل وعن العلم والفارق بينهما من حيث الاصطلاح عبر التصور الإسلامي لهذا الجانب؛ وتتمثل ثانياً في ربط العقل بالعلم وتوحيد هذين الجانبين في كلٍّ موحد كما سنرى، وتتمثل ثالثاً في ذهاب التصور الإسلامي إلى أن البعد المعرفي عقلاً وعلماً ينصب على مادة معينة دون غيرها من المواد، أي المادة المتمثلة في المبادئ الإسلامية التي رسمها الله تعالى،وما عدا ذلك فيوظف ويصبح مجرد وسيلة معرفية فحسب. بالنسبة إلى ظاهرة العقل والتصور الإسلامي حيالها يمكننا أن نحيلكم إلى عشرات بل مئات النصوص الشرعية المشيرة إلى أن الله تعالى إنما خلق العقل فلأنه هو العنصر الوحيد الذي تترتب عليه مسؤولية السلوك العبادي للشخصية، لذلك وردت النصوص بأن الله سبحانه وتعالى يثيب ويعاقب من خلال العقل، كما تشير النصوص إلى أن البشرية جميعاً تعاقب وتثاب بقدر الحجم العقلي الذي ركّب فيها، وبقدر الحجم العقلي الذي تلقّته بيئياً.

المهم يجدر بنا أن نقدم لكم الآن جملة من النصوص الإسلامية المشيرة إلى هذا الجانب، أي إلى الجانب العقلي ثم إلى الجانب العقلي المرتبط بالعلم، ثم إلى الجانب الثالث من ذلك وهو وحدة العقل والمعرفة وانصباب ذلك في المفهوم العبادي فحسب.

 

مفهوم العقل

فبالنسبة إلى مفهوم العقل قلنا أن العقل الذي أودعه الله سبحانه وتعالى في تركيبة البشر يظل مجرد وسيلة للوصول إلى المعرفة العلاجية، ولذلك ورد في النصوص الشرعية أن العقل بمعناه العبادي هو المطلوب وليس العقل بما هو عقل صرف، وهذا ما يمكننا أن نجده بوضوح في مقابلة لأحد الرواة عن الإمام الصادق (عليه السلام)  حيث سأل هذا الراوي الإمام (عليه السلام)  قائلاً: قلت له ما العقل؟ فقال (عليه السلام): ما عبد به الرحمن.

ومن نحو ما قرره (عليه السلام)  في نص آخر قائلاً: من كان عاقلاً كان له دين.

ولعلكم تتذكرون ما قدمناه في لحظات سابقة من الحادثة التي جاءت في سياق مرور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه بأحد المجانين حيث ذكروا له مصطلح المجنون فعقّب على ذلك بما مؤداه أن هذا الشخص هو مصاب لا مجنون، لأن المجنون هو من آثر دنياه على آخرته. وهذا مؤشر واضح إلى أن العقل يقابله الجنون ليس هو العقل بمعنى المهارة العقلية السليمة بل بمعنى من كان له دين.

وفي ضوء هذه الصلة الحقيقية بين العقل والدين نستخلص بأن التصور الإسلامي للعقل هو ؟؟؟ على العقل العبادي ومن ثم فإن الصلة بين العقل وبين البعد المعرفي بشكل عام تظل متمثلة في المعرفة العبادية لا المعرفة المطلقة وهذا هو الشق الثاني من السؤال الذي طرحناه.

وبالنسبة إلى صلة العقل بالعلم حيث يقتادنا هذا إلى ملاحظة التصور الإسلامي للعلم وصلته بالمفهوم العبادي، ولعلّ من أوضح الأمثلة على ذلك ما ورد بما مؤداه أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان ماراً ذات يوم بين صحابته إذ طاف الناس برجل فسأل (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه فقيل له: علامة فقال: علامة بم؟ فقالوا: علامة بالأنساب والأِشعار وو.. فعقّب على ذلك قائلاً: هذا علم لا ينفع من علمه ولا يضر من جهله.

ومن هذا نستخلص أن التصور الإسلامي للمعرفة ليست هي مطلق المعرفة، بل المعرفة المتصلة بالمعرفة الشرعية وما عداها فهي ضرب من المعرفة التي لا ضرر لمن يجهلها ولا نفع لمن يعرفها.

وقد ورد ما يلقي الإضاءة على هذا الجانب بشكل أكثر وضوحاً عندما نواجه نصوصاً من نحو قوله (عليه السلام): العلم ثلاثة آية محكمة أو فريضة عادلة أو سنة قائمة وما خلاهن فضل.

لاحظوا النص المتقدم يحدد المفهوم المعرفي في الآية والفريضة والسنة ويشير إلى أن ما عدا ذلك فضل لا ضرورة له، كما أن الإمام الصادق (عليه السلام) في نص عيادي مهم جداً أشار بما مؤداه إلى أن العلم يتمثل في أربعة بالنسبة إلى أية شخصية قائلاً: أولها أن تعرف ربك والثانية أن تعرف ما صنع بك والثالثة أن تعرف ما أراد منك والرابعة أن تعرف ما يخرجك عن دينك.

إذن المطلوب معرفياً من الشخصية المسلمة هي المعرفة الدينية فحسب؛ وما عدا ذلك فهو زيادة لا ضرورة لها كما لاحظنا ذلك في النصوص المتقدمة.

طبيعياً هذا لا يعني أن المعرفة محظورة إسلامياً بشكل عام بقدر ما يعني أن المطلوب أساساً وما هو مسؤول عنه شخصياً هو العلم بمبادئ الله تعالى، وما عدا هذا الجانب الذي ينبغي أن تتحمل كل شخصية مسؤولية تحمله وهو المعرفة العبادية حينئذٍ ما فضل عن ذلك يعد أمراً لا ضرورة له إلا بقدر ما ينبغي توظيفه من أجل الإسلام، أو ما ينتفع به دنيوياً على الأقل ولذلك ورد عن المعصوم (عليه السلام): (أن العلم علمان علم الأديان وعلم الأبدان)، حيث يشير الثاني إلى المنفعة الدنيوية متمثلة في الطب، كما ورد أن من العلوم هو العربية حيث ورد الحث على تعلمها وكان تعليل ذلك هو أنها مفتاح الفهم إلى الشريعة.

إذن في ضوء ما تقدم نجد أن المشرع الإسلامي يحث على طلب العلم الشرعي إلحاحاً ملفتاً للنظر، مثل قوله (عليه السلام): (تفقهوا وإلا فأنتم أعراب) لاحظوا إشارته (عليه السلام) إلى أن من لا يتفقه وهو من الأعراب إشارة إلى النص القرآني القائل: (الأعراب أشد كفراً ونفاقا) بل نجد حول المعصوم (عليه السلام) بنحو يصل به بين ضرورة التفكر وبين ضرورة العقاب البدني على ذلك، حيث ورد عن المعصوم (عليه السلام) قائلاً: (لو اتيت شاب من شباب الشيعة لا يتفقه في الدين لأوجعته). أي لمارس الإمام (عليه السلام) العقاب حياله.

والآن إذا تجاوزنا جانب التعلم لنتجه إلى جانب آخر يتسم بالأهمية ذاتها، ألا وهو جانب التعليم، حيث نحد النصوص الإسلامية تشدد في هذا الجانب وتشير إلى أن زكاة العلم تعليمه، وهذا يعني ترتيب المسؤولية على الجميع متمثلة في ضرورة أن يتعلّم الشخص وأن يعلّم الآخرين أيضاً، ولذلك وردت أحاديث متنوعة تشير إلى التوصية الآتية: (اغدوا عالماً أو متعلماً)، وهذا كله فيما يتصل بالبعد المعرفي من حيث التوفّر عليه ومن حيث توصيله إلى الآخرين، وأما من حيث التوصيل فللمشرع الإسلامي توصيات تربوية متنوعة تشير إلى وظيفة كلٍّ من العالم والمتعلم، فبالنسبة إلى العالم مثلاً ورد في الرواية المعروفة عن الإمام السجاد (عليه السلام) قوله: (وأما حق رعيتك بالعلم فأن تعلم أن الله عز وجل إنما جعلك قيماً لهم فيما آتاك من العلم وفتح لك من خزائنه فإن أحسنت في تعليم الناس ولم تخرق بهم ولم تفجر عليهم زادك الله من فضله وإن أنت منعت الناس علمك وخرقت بهم  عند طلب العلم كان حقاً على الله عز وجل أن يسلبك العلم وبهائه).

وورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلاً: (لينوا لمن تعلمون ولمن تتعلمون منه).

وقال أيضاً (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن الناس لكم تبع وإن رجالاً يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيراً) إلى آخر ذلك من التوصيات المتصلة بالعلم.

وأما التوصيات المتصلة بالمتعلم فهي متنوعة ونكتفي بالحديث عن الاستشهاد بواحدة من الروايات وهي الرواية الواردة عن الإمام علي (عليه السلام) حيث ورد فيها: (من حق العالم أن لا يكثر عليه بالسؤال ولا يعند في الجواب ولا يلح عليه إذا فشل ولا يؤخذ بثوبه إذا نهض ولا يشار إليه بيد في حاجة ولا يفشى له سر ولا يغتاب عنده أحد ويعظم كما حفظ أمر الله ويجلس المتعلم أمامه ولا يع من طول صحبته وإذا جاءه طالب علم فوجده في جماعة عمهم بالسلام وخصّه بالتحية وليحفظ شاهداً وغائباً وليعرف له حقه فإن العالم عظم أجره من الصائم القائم المجاهد في سبيل الله، فإذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا خلف منه وطالب العلم تستغفر له الملائكة ويدعون له من في السماء والأرض).

وورد من النصوص أيضاً ما يقول: (لا تجعلن ذرب لسانك على من أنفقك وبلاغة قولك على من سددك).

إن أمثل هذه التوصيات تشير بوضوح إلى آداب المتعلم وكيفية تقديره وتبجيله للأستاذ ونمط السلوك الذي ينبغي أن يختط حياله عظيماً للعالم بالنحو الذي لاحظتموه.

نستودعكم الله تعالى إلى لقاء لاحق إنشاء الله..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..