mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 26.doc

بسم الله الرحمن الرحيم

لا نزال نحدثكم عن العمليات التربوية التي ينبغي أن تسلك بالنسبة إلى تنظيم الدوافع الحيوية حيث ذكرنا في محاضرات سابقة جملة من الدوافع، ومنها الدافع الجنسي فيما بدأنا نتحدث عنه من خلال التصور الأرضي والإسلامي وأوضحنا الفوارق بين هذين التصورين وانتهينا من ذلك إلى الحديث عن جملة مسائل ترتبط بهذا الدافع حيث قلنا أن الدافع الجنسي من خلال التصور الإسلامية يمكن أن يشطر إلى نمطين من التعامل؛ أحدهما مطلق التعامل بين الجنسين والآخر التعامل الخاص متمثلاً في الزواج. وقلنا إن التعامل الأول يتمثل في مختلف أشكال العلاقة القائمة بين الجنسين كالمزاح والسلام والمصافحة واللقاء والصداقة وسواها.. حيث قلنا إن أمثلة هذه الممارسات العادية بين الجنسين بالنسبة إلى التصور الأرضي تبدو وكأنها ممارسات عادية، ولكننا قلنا أنه من خلال التصور الإسلامي تعد ممارسات منحرفة، واستشهدنا بأمثلة من ذلك، بدأنا الحديث عنها بالنسبة إلى كلٍّ من المحادثة والرؤية وبدأنا بعد ذلك بالحديث عن أحد مظاهر هذا التعامل وهو ما يطلق عليه مفهوم الصداقة حيث قلنا أن الصداقة في هذا النمط من التعامل عند الأرضيين ينشطر بدوره إلى نمطين أحدهما مطلق الصداقة بين الجنسين والآخر الصداقة التمهيدية المفضية إلى الزواج، وانتهينا إلى أن كلاً من هذين النمطين أيضاً يجسدان سلوكاً منحرفاً، حيث حدثناكم عن النمط الأول مفصلاً ووقفنا عند النمط الأخير وهو النمط المتمثل في الصداقة التمهيدية المفضية إلى الزواج وهذا ما نبدأ الآن فنحدثكم عنه ونقول:

إن البحوث الأرضية فضلاً عن التجارب التي تحياها المجتمعات يومياً لظاهرة الصداقة التمهيدية المفضية إلى الزواج، إنما تألف نمطاً من العلاقة المشار إليها فيما يطلق عليها اسم الحب الرومانسي، إلا أن علماء الأرض أنفسهم يشككون في الواقع في المعطى النفسي في المجتمعات الحديثة ظاهرة مألوفة حيث يشير البعض أولاً إلى سلبية السمة الرومانسية ذاتها ما دامت أساساً تقوم على تعامل مفرط في الانفعالية، ويشيرون إلى نتائجها المنسحبة على الحياة الزوجية التي ستستبدل بعواطف أخرى من جانب وبظهور التناقضات من جانب ثانٍ وباستتباعها حسب الإحصاء العلمي إلى ظاهرة الطلاق من جانب ثالث، ويمكننا توضيح هذه الحقائق من خلال التصور الإسلامي الذي يرفض أساساً أمثلة هذه العلاقة التمهيدية مكتفياً من ذلك بالاستخبار عن سلوك الشخصية و؟؟؟ اللتين تجسدان نمط انتخاب الزوجين.

ويمكننا في الواقع كما انتبه البحث الأرضي على ذلك أن نعلل سبب الحظر الإسلامي للصداقة التمهيدية بالعودة إلى مدارسة المسوّغات التي تدفع الجنسين إلى إقامة أمثلة هذه العلاقة، فبالرغم من أن هذه العلاقة هي رومانسية الطابع، أي إن مجرّد كونها يطلق عليها مصطلح الحب الرومانسي، معناه الحب العاطفي المغالى فيه، والحب المغالى فيه لا يمثل الأسلوب الرصين في التعامل كما هو واضح، بل هو سلوك إلى الصبيانية أقرب منه إلى سلوك الراشدين.

على أية حال لعل المسوّغ الرئيس الذي يفتعله الأرضيون أو يصدرون عنه بصدق هو أن هذا الأسلوب من الصداقة يسمح للطرفين بأن يتعرف أحدهما على الآخر!؛ لكننا نجد أن هذا المسوغ لا يمكن أن يحقق للجنسين ما يستهدفانه من الكشف لسمات الشخصية، كيف ذلك؟!!

السبب واضح هو لبداهة أن كلاً من الطرفين يتقمّص سلوكاً يحاول من خلاله أن ينتزع به تقدير  الطرف الآخر، لا أنه صادر عن سلوك حقيقي وهذا ما يرتطم به الطرفان عند مرحلة الزواج، لأن الزواج من حيث استمراريته سوف تبدأ تدريجاً خلاله كل ممارسة تنتسب إلى السلوك الواقعي للشخصية، وهذا مما يستتبع كشف الاختلاف بين طبيعة الطرفين حيث كانت الطبيعة قد أخفيت بتعمد في مرحلة الصداقة التمهيدية، يضاف إلى ذلك أن عنصر المسؤولية التي تفرضها الحياة الزوجية لا تتوفر في الصداقة التمهيدية لأن الصداقة التمهيدية خالية من أي عنصر آخر عدا الحب الرومانسي، وهذا أيضاً يقف حاجزاً عن اكتشاف سلوك كل منهما في سماته الحقيقية.

وأخيراً فإن التعرف على سمات الشخصية لا ينطوي في جوهره على أية مسوّغات ذات بال، إلا في الحرية التي رسمها الإسلام كما قلنا، فالتوصيات الإسلامية تطالب مثلاً بتوفر سمتين لكل من الزوجين هما الالتزام الفكري أي الإيمان وحسن الخلق، دون أن تطالب التوصيات الإسلامية بأن يدقق كل طرف في السمات النفسية للطرف الآخر، والسر في ذلك أن العثور على الشخصية السوية بما تحمل هذه السمة من دلالة أمر يصعب توفره عند الغالبية من الناس إلا النادر!.

وهنا نتساءل هل أن الرجل الباحث عن امرأة سوية يتصف هو ذاته بالسوية في السلوك، وهل الفتاة الباحثة عن رجل سوي هل هي متصفة بدورها بسمات السوية؟.

إن كلاً منهما لا يخلو من سمات المرض الذي تجمع كل الاتجاهات المعنية بعلم النفس المرضي بعدم خلو آدمي منه إلا النادر، حيث تشير أكثر من إحصائية علمية إلى نسب ضخمة في هذا الصدد مما يعني أن الأرضيين أنفسهم الذي يتشبثون بضرورة الصداقة التمهيدية لا يخلون من أحد نمطين؛ النمط المثالي وهو النمط الذي لا يفقه من حقائق الواقع شيئاً، والنمط المريض الذي يحاول أن يحمي ذاته بإحدى طرائق آليات الدفاع وهي طريقة التسويغ أو التبرير حسب الاصطلاح الذي يستخدمه علم النفس التحليلي، أي أن المريض الذي يبحث عن إشباع دافعه الجنسي غير المشروع يحاول أن يلتمس له طريقاً يقترن بالتقبل الاجتماعي، وهو الصداقة التمهيدية لتمرير هدفه المذكور مبرراً ذلك بأنه يستهدف التعرف على الشخصية.

المهم إن العلاقة بين الجنسين خارجاً عن الزواج بمفهومه الإسلامي ما دامت مقترنة بالمفارقات التي فصّلنا الحديث عنها من جانب وما دامت من جانب آخر لا تحل مشكلة الانسجام بين الزوجين، كما أقرّ البحث الأرضي بذلك أيضاً حينئذٍ لا تخلو عن كونها مجرد سلوك مثالي لا واقعية لنتائجه أو مجرد سلوك مرضي ينتسب إلى إحدى آليات الدفاع المعروفة وطابعها المذكور، أي التسويغ، وهذا على العكس من التصور الإسلامي للظاهرة حيث يضع كلاً من الواقع ومن الصحة النفسية بنظر الاعتبار في معالجته لهذه الظاهرة.

نكرر أن كلاً من الواقع والصحة النفسية يضعها المشرع الإسلامي في اعتباره لمعالجة الظاهرة المشار إليها، أما الواقعية فتتمثل في المطالبة بعدم التدقيق في سمات الشخصية، بل يكتفى بأن تكون الشخصية مستقيمة فكرياً وأخلاقياً دون أن نتغلغل في دقائق سلوكها وتفصيلاتها، وهذا ما نلحظه بوضوح في توصية الإمام الباقر (عليه السلام) حينما سأله أحد أصحابه عن أمر بناته وعدم عثوره على الرجل المناسب لبناته فأجابه الإمام (عليه السلام): (فهمت ما ذكرت من أمر بناتك وأنك لا تجد أحداً مثلك فلا تنظرن في ذلك رحمك الله، فإن رسول الله قال: إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوّجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير).

لاحظوا أن هذه التوصية تلخّص الموقف بكل مظاهره فهي تتسم بكونها واقعية في نظرتها للآدميين بعامة فلا تشترط خلو الشخصية من كافة الأمراض المرضية بل تقتصر على مجرد توفر السمة الفكرية والأخلاقية في المنحني المتوسط من قياسات الشخصية، وهذا فيما يتصل بظاهرة الواقع الذي يضعه الإسلام في اعتباره، وأما المعيار الآخر الذي يضعه في الاعتبار هو الاستقامة التي أشارت التوصية المذكورة إليها خلال مطالبتها بتوفر سمتي الدين والخلق، وقد سبق التلميح في أكثر من موقع من محاضراتنا إلى أن الإسلام يوحّد بين ما هو فكري وبين ما هو نفسي، ويعدهما مظهراً واحداً فالملتزم إسلامياً لا ينفصل عن السوي نفسياً والعكس هو الصحيح.

المهم أن المشرع الإسلامي يطالب المنحني المتوسط من السلوك ويحذر المنحرفين فكرياً أي غير الإسلاميين ومن المنحرفين نفسياً أي مرضى ذهانيين وعصابيين ولا أخلاقيين بالمستوى الذي يتجاوز المنحني المتوسط.

المهم يعنينا الآن أن نكرر الإشارة إلى أن التوصيات الإسلامية عبر حظرها للصداقة التمهيدية بين الجنسين إنما تأخذ بنظر الاعتبار انتفاء الفائدة التي يلتمسها الأرضيون وراء العلاقة المذكورة وأما تحقيقها لا يتم من خلال التعامل غير المشروع بل من خلال استخبار خاص يحرص على توفير سمتي الدين والخلق في الشخصية دون الحاجة إلى العلاقة التمهيدية المذكورة، ونقصد بالاستخبار أن يتم التعرف على الشخصية من خلال جمع المعلومات عنها وليس من خلال الصداقة، ما دامت الصداقة لا تشرح واقع الشخصية وهذا بعكس الاستخبار الذي يقدم تقريراً واقعياً عن السلوك من خلال ملاحظات الآخرين عنها.

والآن مع انتهاءنا من الحديث عن العلاقة التمهيدية بين الجنسين أو الصداقة بين الطرفين بعامة أو المحادثة أو الرؤية أو الملاقاة وسواها.. مما ؟؟؟ تصورات الإسلامية حيالها إنما تظل محكومة بالحرم فلأنها تقترن بدلالات مرضية تغافل البحث الأرضي عن غالبيتها وشدد الإسلام حيالها بالنحو الذي فصلنا الحديث عنه، لكن ينبغي أن لا نغفل في الآن ذاته عن الاستثناءات التي يرسمها الإسلام لقاء هدف الحظر المشار إليها.

إن كل أشكال العلاقة بين الجنسين بنحوها المتقدم حينما تأخذ سمة القاعدة فلأنها تفضي إلى إرساء المبادئ الصحية للشخص، وتأخذ بنظر الاعتبار مصلحة المركب الاجتماعي في شتى تفاعلاته، بيد أن الحرج الفردي والاجتماعي حينما يفرض هيمنته على هذا الموقف أو ذاك عندئذٍ تأخذ التوصيات الإسلامية مسار آخر تحاول من خلال ذلك أن تدفع أي ضرر نفسي ينسحب على الموقف، فمثلاً بالنسبة إلى المحادثة لاحظنا أن التوصية الإسلامية لا تمنعها على الجنسين إذا كانت الضرورة تتطلبها بقدر ما تمنع ذلك في نطاق التعامل الذاتي الصرف، كما أن الرؤية قد تتطلبها بعض المواقف كمعالجة الطبيب مثلاً أو الشهادة أمام الحاكم ونحو ذلك مما يستدعي الموقف. هذا فضلاً عن أن الرؤية بينهما إذا اقترنت بعدم التعمد أو التعمد في حالة الإقدام على الزواج حينئذٍ أمثلة هذه النظرة تشكل الاستثناء للقاعدة العامة. والملاحظ أن الذاتية أو الشهوانية هي المحظورة إسلامياً وهو أمر يستدعي منا أن نتأمل كثيراً في أمثلة هذا الحظر ما دمنا حريصين على أن نقدم وجهة النظر الإسلامية لهذه الظواهر، فمثلاً ثمة توصية إسلامية تقول بالنسبة إلى الرؤية: (أول نظرة لك والثانية عليك)، لاحظ أن النظرة الأولى قد يفرضها الشارع والدائرة والمسجد ووسائل المواصلات وسواها، إلا أن التعمد والإصرار على متابعة النظرة الأولى يكشف عن بعد آخر هو الإشباع الذاتي لشهواته وليس النظرة العادية غير المتعمدة.

إن النظرة الأولى طبيعياً من الممكن أن تقترن أيضاً بالاستجابة الجنسية، بخاصة إذا كان المنبه قوياً إلا أن التوتر الناجم عنها سرعان ما يتلاشى عندما يمارس الشخص عملية تأجيل لإشباع شهوته بصفة أن التأجيل ممارسة موضوعية تفصح عن استياء الشخص وتوازنه حيال أي منبه ذاتي بحيث يصبح التوتر عابراً لا يمسخ الشخصية ولا يسلخها من واقعها الإنساني، وهذا بعكس النظرة الثانية التي تعني أن الشخص يتعمد إرواء شهواته بطرائق غير مسموح بها ماسحاً من ذهنه الالتزام بأية قيم موضوعية وهذا ما يسلخه من واقع الإنساني ويحوله إلى كائن مريض.

وأما الرؤية المقترنة بالإقدام على الزواج فإنها تكتسب بدورها بعداً موضوعياً بالرغم من اقترانها بما هو متعمد، ولكن الفارق بين العمدين واضح بمكان كبير، فالأول ذاتي صرف والآخر موضوعي صرف، أما ذاتية الأول فلما ذكرناه من محاولة الإشباع غير المشروع، وأما موضوعية الآخر فلأن الناظر في صدد الإقدام على علاقة مشروعة تتوقف توازن الشخصية واستمرارية ذلك على قناعة هذه الشخصية بالشكل الخارجي الذي يحقق إشباعه الجنسي المشروع.

بكلمة أخرى إن الرؤية هنا مجرد وسيلة لهدف مشروع لا أنه هدف قائم بذاته، ولذلك نجد أن التوصية الإسلامية تمنع الرؤية التي يستثمرها الناظر في إشباع غير مشروع، حتى لو كان يعتزم الزواج ويمكننا ملاحظة هذا الجانب المتسم بدلالة بالغة المدى في حقل التوصيات الإسلامية التي تفرز بدقة بين العمليات النفسية التي تقترن بالرؤية فتشطر هذه الرؤية إلى رؤية ذاتية ورؤية موضوعية، ونحن ندعو الطالب في أن يتأمل بدقة في هذا النص الإسلامي الذي نقدمه الآن حيث يفرق هذا النص بوضوح بين الرؤية الذاتية والموضوعية أو الرؤية الشهوانية والعقلية لمن يهدف إلى الزواج فيقول على لسان بعض الرواة الذين وجهوا سؤالاً إلى المعصوم (عليه السلام) فقالوا:

أينظر الرجل إلى المرأة يريد تزويجها فينظر إلى شعرها ومحاسنها؟.

قال (عليه السلام): (لا بأس ما لم يكن متلذذاً).

؟؟؟؟ على لسان الراوي يقول: قلت فتمشي بين يديه - أي المرأة تتفنن بين يديه -؟

قال (عليه السلام): (ما أحب أن يفعل).

ففي هاتين التوصيتين إشارة إلى عدم التلذذ وعدم السماح للمرأة بأن تمشي بين يدي الناظر، لأن التوصيتين هنا لا تسمحان للرجل أن يستغل حريته الممنوحة له في النظر إلى مفاتن المرأة واستثمار ذلك في إشباع ذاتي، بل يكتفي بمجرد الرؤية التي تحقق عملية التعرف على السمات الجمالية، كما لا يسمح للاستغلال المذكور في إحراج الفتاة التي يريد النظر أن تتفنى بين يديه وأن تتبذل بنحو ؟؟؟ الضعة والضعف بصفة أن التفني ونحوه يستجر إلى إثارة المنبه الجنسي ويستثمر شهوانياً.

إذن الموضوعية لا الذاتية هي التي يسمح الإسلام بممارساتها عبر الرؤية المستثناة من القاعدة العامة، في مقابل ذلك تجيء التوصيات المتصلة بالمرأة من حيث السماح لها في بعض النصوص بإظهار الوجه والكفين مع أن نصوصاً أخرى تضاربها وتعارضها في التوصية بالقناع ونحوه حيث نستخلص من ذلك كله أفضلية الحجاب الكامل تجنباً لأية إثارة محتملة في هذا الميدان.

إلى هنا نكون قد انتهينا من الحديث عن الدافع الجنسي والتوصيات التربوية التي صيغت لكي تنظّم هذا الدافع في سلوك الشخصية بالنحو الذي تقدّم الحديث عنه، أما الآن فنتقدم إلى دافع آخر من الدوافع الحيوية التي حدثناكم عنها في لقاءاتنا السابقة، وهذا الدافع هو (الحاجة أو الدافع إلى الطعام). إذن هذا العنوان (الدافع أو الحاجة إلى الطعام) سنتخذه  عنواناً نتحدث من خلاله عن التصور الإسلامي والأرضي لدافعية الطعام من حيث كونه دافعاً حيويةً يتطلب مبادئ خاصة في التعامل مع هذا الدافع.

ومع أن هذا الدافع يبدو وكأنه مرتبط في مجال تنظيمه بالطب الجسمي إلا أننا في الواقع عبر التصور الإسلامي للحاجات والطرائق التربوية في تنظيمها يظل الحديث عن هذا الطابع مصحوباً بأهمية العمليات النفسية وانعكاسها على مفهوم السلوك السوي على المستوى العبادي والنفسي، ويمكننا في الواقع طرح العمليات التربوية التي تستهدف تنظيم هذا الدافع من خلال صعيدين:

الصعيد الأول: انعكاسات هذا التنظيم على الصحة النفسية من حيث الأساس الكيميائي لظاهرة الطعام، أي فاعليته في مجال الوقاية والعلاج النفسي ثم انعكاسات ذلك على الصحة المشار إليها من حيث الأساس النفسية والعبادي للظاهرة.

ففيما يتصل بالجانب الأخير، أي الأساس النفسي والعبادي نجد أن المشرع الإسلامي يعنى بتوصيات متنوعة في التعامل مع ظاهرة الطعام؛ ولعلّ المطالبة بتناوله بقدر ما يمسح التوترات العضلية للمعدة يظل في مقدمة التوصيات التي تربط بين هذا الجانب وبين السوية النفسية والعبادية، طبيعياً هناك ثلاثة مستويات من الإشباع لهذه الظاهرة:

أولاً: الإشباع بقدر سد الحاجة.

ثانياً: الإشباع المعتدل.

ثالثاً: الإشباع المفرط، أي التخمة.

والآن إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن التصور الإسلامي للشخصية يتحدد في نطاق ما هو أفضل عبادياً في أن تحيى قدراً من الشدائد أو الإحباط أو الحرمان وذلك انطلاقاً من مقولة (الدنيا سجن المؤمن) حينئذٍ فإن ما هو أفضل عبادياً سيتحدد في تحقيق الإشباع بقدر سدّ الحاجة، لا الإشباع المتوسط فضلاً عن الإشباع الذي يصل حد التخمة، ولعلّ التوصية الإسلامية المعروفة الذاهبة إلى أن الأفضل للشخصية أن ترفع يدها عن الطعام والنفس تشتهيه، هذه التوصية القائلة (لا تقم عن الطعام إلا وأنت تشتهيه) تجسد مفهوم التناول بقدر سد الحاجة بما يواكب ذلك من عمليات نفسية تصاحبها عادةً توترات ناجمة من عدم الإشباع.

ومع أن التوصيات الإسلامية ؟؟؟؟ التناول بقدر سد الحاجة وبين معطيات ذلك جسمياً كالتوصية القائلة بأن ثلث المعدة للطعام والثلث الآخر للشراب والثلث الثالث للهواء نقول بالرغم من أن التوصيات الإسلامية توصي بأن التناول بقدر الحاجة وبين معطيات ذلك جسمياً إلا أنها تشدد على الجانب النفسي والعبادي بنحوٍ تضئل أمامه الطاقات الجسمية فحسب. إن هذه التوصيات طالما تؤكد بأن البطن إذا شبع طغى، والطغيان هنا سمة نفسية ترتبط بالتمحور حول الذات الكريهة وإشباعاتها البينية التي تسلخ الإنسان من عضويته، كما تؤكد التوصيات الإسلامية بأن الشبع مبعد عن الله ؟؟؟ من الله تعالى من نحو قوله (عليه السلام): (أبغض ما يكون العبد إلى الله إذا امتلأ بطنه) فالمبغوضية والابتعاد ونحوهما تظل ذات دلالات نفسية وعبادية مرتبطة بشذوذ الشخصية وابتعادها تماماً عن خط الاستواء النفسي، ما دام الإشباع مطلقا في الطعام وسواه يتنافى أساساً مع طبيعة التركيبة البشرية التي أرادها الله تعالى مكابدة لنمط من التوتر والشدة اللذين يساهمان في تزكية النفس تبعاً لمتطلبات الامتحان او الاختبار العبادي.

وقد رسمت التوصيات الإسلامية جملة من المبادئ المرتبطة بتنظيم الحاجة إلى الطعام بحيث تساهم هذه التوصيات في تدريب الشخصية على تأجيل إشباعاتها وفي تدريبها من ثم على تعلّم السلوك السوي ومن ذلك مثلاً ما سبق أن لاحظتموه من مطالبة المشرع الإسلامي بأن نرفع اليد عن الطعام مع ميل نفسها إليه،ومنها أن نقتصر في الطعام على وجبتين يومياً بل هناك نص يقول: (وزعوا الوجبات الثلاث في يومين) ومنها النصوص التي تقول أو تنهى عن تناول الطعام بين الوجبتين كالنص القائل: (تغدى وتعشى ولا تأكل بينهما شيئاً) ومنها الاقتصار على صنف واحد بدلاً من التنوع كما ورد ذلك في نصوص متنوعة.

نقول إن أمثلة هذه المبادئ التي تلوناها عليكم أمثلة تظل منسحبة على تدريب جاد للشخصية بأن تمارس عمليات تأجيل لشهواتها كما هو بيّن، فإذا أضفنا إلى ذلك المطالبة بالصوم الإلزامي مثلاً في شهر رمضان وبأشكال متنوعة من الصوم المندوب في أيام أو مجموعات أو شهور حينئذٍ يمكننا أن ندرك أهمية مثل هذا التدريب على تحمّل شدائد العطش والجوع وانعكاسات ذلك على البناء النفسي للشخصية، ويمكننا ملاحظة هذا التأكيد على البعد النفسي للظاهرة وارتباط ذلك بعمليات التأجيل لشهواتها حينما نجد توصيات تبدو وكأنها تضاد عملية التأجيل للشهوات الشخصية، وهذا كالمطالبة مثلاً بأن يفطر الصائم مثلاً إذا كان صومه مندوباً، في حالة دعوته إلى الطعام، والمطالبة بأن لا يصوم الضيف إلا بإذن من يضاف عنده، والمطالبة هنا ليس بتأجيل شهوات الطعام لأن الدعوة للإفطار وليس الصوم، لذلك فإن مثل هذه المطالبة إنما تتجه لعمليات التأجيل النفسي وليس التأجيل الحيوي للطعام أو الشراب، مما يعني أن عمليات التدريب تنصب على ما هو نفسي فحسب، لا على ما هو غير مخالف لهوى النفس، فالصائم مثلاً وهو مرتبط نفسياً بممارسة الطاعة قد يصعب عليه أن يفطر لمجرد دعوته إلى الطعام، كما يصعب عليه أن لا يتناول طعاماً وهو معتزل لممارسة الصوم، فهنا عمليتان متفاوتتان ولكن بحقيقة واحدة هي عملية انفناء عن الطعام وهو الصوم وعملية تناول الطعام وهو الإفطار بناء على رغبة الآخرين لا على رغبة الشخص، ولكنهما ينتسبان إلى حقيقة واحدة هي التأجيل أو مخالفة الهوى والنفس بالنحو الذي أوضحناه.

ولو تابعنا مبادئ التنظيم لهذا الدافع  للاحظنا مستويات متنوعة تصب جميعاً في الرافد النفسي المشار إليه، فمثلاً ثمة توصيات تطالب بإطعام الآخرين وتطالب البدء بالأكل قبل الآخرين، وتطالب برفع اليد بعدهم، وتطالب بكثرة تناول الطعام في حالة الضيافة، لاحظوا أن هذه المبادئ قد تبدو وكأنها تضاد المبدأ الذي يدعو إلى الأكل بقدر سدّ الحاجة، لكن ؟؟؟ في هذا يقتادنا إلى أن ندرك بوضوح إلى المطالبة بكثرة الأكل في الضيافة والبدء قبل الآخرين ورفع اليد بعدهم ؟؟؟؟ إلا أنها تنطوي على معطيات نفسية واجتماعية من الوضوح بمكان، فتناول الكثير من الطعام مرتبط برغبة الآخرين وليس برغبة الشخص الذي تدعوه التوصية بأن يكثر من الطعام، والبدء بالأكل قبلهم أيضاً الدعوة إلى حث الآخرين ورفع الخجل والحرج عنهم، وليس رغبة الشخص نفسه في التناول، كما أن رفع اليد بعدهم أي استمراريته في تناول الطعام حتى يفرغ الآخرون منه مرتبط بنفس الهدف الاجتماعي المذكور.

إذن تظل الأشكال المتقدمة من التنظيم للحاجة المذكورة - أي الطعام - ذات بعد نفسي هو التدريب على تعلم السلوك السوي بل إن تناول الطعام حتى خارجاً عن السياق الاجتماعي الذي أشرنا إليه حينما يقترن بالشبع أو بالتنوع في حالات خاصة نجد أن البعد النفسي أيضاً هو المعيار في تحديد ذلك، فمثلاً نجد التوصيات الإسلامية تطالب بالبسملة قبل التناول وبالحمد خلاله وبعده، ولا تجد حرصاً في أن تناول الشخص أشهى الأطعمة وتنويعها، لكن على أن يقترن ذلك بالشكر وبتذكر النعم التي منحتها السماء.

فاقتران التناول لأشهى الأطعمة أو تنويعها بالشكر ينطوي على دلالة نفسية هي ربط هذا الإشباع بالمصدر الحقيقي له وهو الله سبحانه وتعالى، وعملية الربط ذاتها ؟؟؟ بالسلوك إلى ما تستهدفه السماء عبادياً أي التعامل مع الله تعالى بأن يحيى الإنسان مفهوم الوظيفة العبادية بالنحو الذي أوكلته السماء إليه.

على أية حال بهذا ننتهي من الكلام عن الحاجة إلى أحد الدوافع الحيوية وهي الحاجة إلى الطعام ونكتفي بهذا بالنسبة إلى الحديث عن العمليات التربوية في ضوء التصور الإسلامي والأرضي بالنسبة إلى لتنظيم الدوافع الحيوية بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

والآن بالحديث المتقدم يكون قد انتهينا من الحديث عن جملة حقول ترتبط بالتربية الإسلامية وعلاقة هذه التربية بسلوك البشر، حيث بدأنا كما تتذكرون جيداً حديثنا عن السلوك البشري والطرائق التربوية التي تسلك في تنظيم هذا السلوك، بدأناها أولاً بالحديث عن التركيبة البشرية ثم عنصري الوراثة والبيئة وتدخلهما في العمليات التربوية، ثم تحدثنا بعد ذلك عن تصنيف السلوك إلى سلوك شاذ وسوي وقدمنا التوصيات الإسلامية والأرضية التي تتناول تنظيم السلوك السوي، وبعد ذلك تحدثنا عن الدوافع المركبة في الشخصية وقسمناها إلى دوافع نفسية وعقلية وحيوية. حيث حدثناكم عن الدوافع النفسية أولاً والطرائق التربوية التي ينبغي أن تسلك حيال تنظيمها، ثم تحدثنا بعد ذلك عن الطرائق الحيوية متمثلةً في العمليات التربوية التي تتناول تنظيم الدافع إلى النوم والدافع الجنسي والدافع إلى الطعام..

وأما ما تبقى من الحديث عن العمليات التربوية في ضوء التصورين الإسلامي والأرضي فينصب على موضوع مهم جداً ألا وهو موضوع السمات الشخصية والطرائق التربوية التي ينبغي أن تسلك حيال تنظيم هذه السمات بالنحو المطلوب.

إن الحديث عن السمات المشار إليها هو في الواقع ينصب على أحد محاور علم النفس والتربية وهو المحور المرتبط ببحوث الشخصية كما يصطلح على ذلك، فالشخصية هي مجموعة من السمات العقلية والمزاجية والتكوينية والانفعالية والاجتماعية وو.. الخ. هذه السمات تتفاوت دون أدنى شك بالنسبة إلى توفرها في هذه الشخصية أو تلك مما تتطلب حديثاً مفصلاً، نبدأ به إنشاء الله في محاضراتنا اللاحقة إلا أننا استهدفنا الآن أولاً التمهيد في حديثنا عن هذه السمات والإشارة أيضاً إلى أننا مع كوننا قد نتحدث عن السمات المرتبطة ببحوث الشخصية بنحوٍ يتداخل مع بعض الظواهر التي طرحناها عبر حديثنا عن تنظيم الدوافع نقول في الواقع هناك صلات مشتركة بين كل جزء من أجزاء السلوك البشري فعندما نتحدث عن السمات النفسية لدى الشخصية فإنما نتحدث في الآن ذاته عن نمط من التركيبة الدافعية عند الشخصية أيضاً، وهكذا يتداخل البحثان ولكن التركيز على بحث دون آخر هو الذي يسوغ لنا طرح موضوعات مستقلة بعضها يتصل بطبيعة التركيب التابعي والآخر يتصل بطبيعة السمات الشخصية.

ونود بهذه المناسبة أن نضيف إلى أن بحوث الشخصية في التصور الإسلامي سوف تفترق بطبيعة الحال عن التصور الأرضي لها بعد أن نلاحظ أن كلاً من التصورين الإسلامي والأرضي يلتقيان في خطوط عامة كالحديث عن السمات العقلية والتكوينية والانفعالية والاجتماعية ..الخ، ولكن ثمة بحوث إسلامية لا يفقه البحث الأرضي شيئاً عنها ألا وهي السمات العبادية، أي بالإضافة إلى السمات التي أشرنا إليها نود أن نعلمكم أيضاً بأننا سنتناول السمات التي أطلقنا عليها مصطلح السمات العبادية أو السمات التعبدية، أو السمات الشعائرية، وذلك كل ما يتصل بالحديث عن السلوك الشعائري في الإسلام كالصلاة مثلاً أو الصوم أو الحج أو الجهاد أو الدعاء أو.. الخ، مما تنطوي على معطيات تربوية متنوعة نحدثكم عنها إنشاء الله في محاضراتنا اللاحقة،وبهذا يكون حديثنا عن سمات الشخصية حديثاً يتناول ما تتناوله الأبحاث الأرضية عادة بالإضافة إلى ما يتناوله البحث الإسلامي الخاص بالسمات الشعائرية بالنحو الذي تقدم الحديث عنه، وإليكم إنشاء الله تفصيلات ذلك في محاضرات لاحقة إنشاء الله تعالى. ولكن مع ملاحظة مهمة جداً هو أننا لا نتناول كل مفردات السلوك الشعائري في الإسلام لأن ذلك يتطلب منا أن نحدثكم بعشرات المحاضرات مما لا يتسم به حجم الدراسة التي تتوفرون عليها، لذلك فإننا في الواقع نكتفي كما تمت الإشارة ببعض السمات الشعائرية كالحديث مثلاً عن السمات العامة للإيمان والكفر، أو الحديث بشكل عام عن الطاعة والمعصية أو الحديث بشكل عام عن الهدف العبادي أو النية التي يصدر عنها الشخص إسلامياً في ممارسته للمهمة العبادية التي خلق من أجلها.

وهكذا بالنسبة إلى مفردات خاصة من الشعائر كما أشرنا إلى مفردات الصلاة والصوم والحج والجهاد والدعاء..  إلى آخر ذلك مما سنتوفر عليه إنشاء الله في محاضراتنا اللاحقة، ونكتفي بهذا القدر من الحديث ونستودعكم الله سبحانه وتعالى..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..