mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 27.doc

بسم الله الرحمن الرحيم     

انتهينا في محاضراتنا السابقة من الحديث عن تنظيم الدوافع والممارسات التربوية التي ينبغي أن تسلك حيال ذلك بالنسبة إلى تنظيم الدوافع البشرية،وهي دوافع ذات نمطين؛ نفسي وحيوي حدثناكم عن ذلك كله مفصلاً في محاضراتنا السابقة.

أما الآن فنتجه إلى حقلين آخرين من حقول التربية الإسلامية والميادين التي تتحرك التربية خلالها وفي مقدمة ذلك العمليات التربوية المتصلة بسمات الشخصية وقد ذكرنا في محاضرتنا السابقة أن مصطلح الشخصية مصطلح يطلقه علماء النفس ليمثل أحد محاور النشاط الذي يعنى به علم النفس والتربية ويهمّنا من ذلك وجهة النظر الإسلامية بطبيعة الحال مقارنةً بوجهة النظر الأرضي حيال سمات الشخصية، وسمات الشخصية هي مجموعة الصفات التي يتسم بها الشخص بشكلٍ عام، سواء أكانت هذه السمات أو الصفات ذات طابع جسمي أو كانت ذات طابع عقلي أو كانت ذات طابع نفسي، وسواء أكانت هذه الدوافع النفسية ذات طابع تكويني عام أو ذات طابع ينسحب على السلوك الفردي أو الاجتماعي.. الخ.

لكن قبل ذلك ينبغي أن نمهّد للحديث عن سمات الشخصية والطرائق التربوية التي ينبغي أن تسلك إسلامياً حيال هذه السمات حتى تكتسب طابع السواء، لذلك ينبغي أن نمهد ذلك بالحديث عن السواء وعن المرض أيضاً مع أننا حدثناكم في لقاءات سابقة عن هذا الجانب، ولكنه كان في سياق خاص يتصل بتصنيف السلوك أما الآن فحديثنا يرتبط بسياق آخر وهو سمات الشخصية وانسحاب ذلك على مفهوم السلوك السوي وما يقابله من السمات الشاذة، ولذلك كما قلنا ينبغي أن نمهّد بذلك بالحديث عن مجموعة من المبادئ الأساسية وفي هذا الصدد نقول:

إن الشخصية تتمثل بكونها ذات طابع موحد لا تتجزأ سماتها النفسية عن العقلية وعن سائر السمات الأخرى بقدر ما تتلاحم في ذلك، أي أن كل سمة في الواقع ترتبط بنحو أو بآخر عضوياً بسمة أخرى على نحو ما سنشير إليه في حينه إنشاء الله تعالى.

إلا أننا نود أن نشير الآن إلى أن فرز السمات إحداها عن الأخرى من الممكن أن نتصوّره ليس بسبب أن الدراسة تتطلب مثل هذا الفصل بين السمات الشخصية، بل لأن السمات ذاتها من الممكن أن تحدد حيناً بفواصل يتيسر فرز إحداها عن الأخرى، ولذلك نجد أن عالم النفس الأرضي أو التربوي طالما يستخدم أقيسة واختبارات متنوعة يتحدد خلالها نمط الشخصية من زوايا مختلفة، مثل المهارات العقلية من ذكاء ومحاكمة وحدس، والمهارات الاجتماعية المتنوعة فضلاً عن الخصائص الجسمية أو المزاجية أو الخلقية التي يفرزها هذا القياس أو ذلك بحيث يمكن فصل كل خصيصة عن سواها من خلال الأقيسة المشار إليها.

لكن في الآن الآتي من الممكن أن يتجه عالم النفس أو التربوي إلى وصل هذه الخصائص بعضها مع الآخر لاستخلاص سمة عامة قد تكون في تصور بعض علماء النفس سمة رئيسة إلى جانب مجموعة من السمات المركزية ضمنها السمات الثانوية المتنوعة بحيث تتبادل هذه السمات الثلاث؛ أي الرئيسة والمركزية والثانوية التأثير فيما بينها من خلال ملاحظة وحدة سلوكية لدى هذا الشخص.

وكل من وقف على نشاط علماء نفس الشخصية في هذا الميدان، بمقدوره أن يقف مفصلاً على أمثلة هذه السمات التي تنفرز إلى ما هو رئيس وإلى ما هو مركزي وإلى ما هو ثانوي، وإلى آخر ذلك من تقسيمات لعلماء الشخصية المعاصرين.

لكننا - بغض النظر عن ذلك - يعنينا الآن أن نتحدث عن فرز السمات بعضها عن الآخر وملاحظة ذلك في الآن ذاته من خلال وحدة السلوك أو وحدة السمات، حيث قلنا أنه لا سبيل إلى التشكيك بوحدة هذه السمات بالنحو الذي نحدثكم عنه لاحقاً إنشاء الله..

كما يعنينا من ذلك كله بطبيعة الحال أن نتجه إلى التصوّر الإسلامي الذي ينظر إلى الشخصية من ملاحظة فصل سماتها المتنوعة بعضها عن الآخر حيناً، وملاحظة ذلك من خلال وحدة هذه السمات حيناً آخر كما هو شأن التصور الأرضي. لكن ينبغي أن نلاحظ بوجود فوارق كبيرة بين التصور الأرضي والإسلامي في هذا الصدد بحيث يتجاوز الإسلام كما كررنا من خلال محاضرتنا السابقة ونكرر ذلك لاحقاً أيضاً بحيث يتجاوز الإسلام النطاق الأرضي إلى نطاق أكثر سعة هو إدراج المعيار العبادي في رسمه لسمات الشخصية، وقد لاحظتم في محاضرات سابقة أي المحاضرات المتصلة بتصنيف السلوك كيف أن الإسلام يتوافق مع الاتجاه الأرضي في فرزه لكثير من مفردات السلوك العصابي ومفردات السلوك السوي ولكنه في الآن ذاته يتجاوز مفردات السلوك الأرضي إلى مفردات السلوك العبادي كما لاحظتم كيفية وحدة هذين السلوكين - العبادي النفسي والعبادي - عبر تصنيفات السلوك، المهم هنا نعيد الكلام ذاته ولكن بنحو آخر فنقول:

إن ثمة فارقاً كبيراً بين التصورين الأرضي والإسلامي في رسمهما لسمات الشخصية بحيث يتجاوز الإسلام النطاق الأرضي إلى نطاق أكثر سعة هو إدراج المعيار العبادي في رسمه لسمات الشخصية، فهو من جانب يفرز ويرحب بين السمات التي تعارف عليها بحث الأرض ونعني بها السمات النفسية المختلفة التي تعزل السلوك عن مفهومها العبادي، كما أنه يفرز ويرحب بين السمات النفسية والسمات العبادية، أي ينظر إلى كل ما هو نفسي وما هو عبادي منفصلاً عن الآخر لكنه يصل بينهما أيضاً من جانب آخر بحيث يجعل من تبادل التأثير بين السلوكين أمراً لا سبيل إلى تجاهله.

كل ما في الأمر أن ملاحظة مثل هذه الوحدة بين السلوكين لا يمكن أن يتمثلها عالم النفس الأرضي أو التربوي ما دام هذا الأخير منعزلاً أساساً عن أي تصور عبادي لسلوك الإنسان.

إن هدف محاضراتنا هذه هو أن نعرض إلى التصور الإسلامي حيال سمات الشخصية من زواياها المتنوعة التي أشرنا إليها، أي فرز السمات النفسية بعضها عن الآخر ووصلها ثم فرز السمات العبادية عنها ووصلها أيضاً، وتبعاً لذلك نحاول الآن عرض التصور الإسلامي للسمات في فصول متنوعة نصل فيها بين التصور الأرضي والتصور الإسلامي من خلال الزوايا المشار إليها.

طبيعياً أن يظل تناول سمات الشخصية كما هو طابع كل من التصورين الأرضي والإسلامي مرتبطاً بمعياري السواء والمرض، أو السلامة والشذوذ، بمعنى أن تصور لسمات الشخصية سيتجه إلى تحديد خصائصها المختلفة التي تؤشر إلى كونها سالمة من الأعراض أو العكس من ذلك في تأثيراتها إلى سمات الشخصية الشاذة، من هنا نواجه في البحث الأرضي مجموعة سبق أن رأيتموها من قوائم السلوك التي تضع قبال كل سمة صحية سمة مرضية، كذلك نجد في التصور الإسلامي الذي عرضنا لأكثر من قائمة سلوكية خلاله، ووقفنا عليها في محاضراتنا السابقة حيث ستكون هذه القوائم موضع تحليلنا لسمات الشخصية التي نحاول معالجتها، مضافاً إلى ذلك فإن توصيات وملاحظات عيادية مختلفة تتصل بتحديد ما هو سوي وما هو شاذ ستكون أيضاً موضعاً لتحديد السمات المذكورة.

لكن يتعين على الدارس الإسلامي أن يعرض ولو عابراً من جديد لمعايير كل من السواء والمرض في التصور الأرضي لهما من حيث مفرداتهما وليس من حيث طابعهما العام الذي تقدم الحديث عنه في القسم الأول من محاضراتنا، وهدفنا من ذلك هو أن ننظر إلى الوحدة بين السلوكين النفسي والعبادي وعند ذلك من حيث العمليات النفسية امتداداً إلى جذر واحد في السلوك، كل ما في الأمر أن فرز ما هو عبادي عن ما هو نفسي يظل مشيراً إلى الطابع الصحي أو المرضي بشكل أحادي الجانب وإلى الجانب الآخر يستشف هذه السمة أو تلك.

على أية حال نبدأ الآن فنعرض عابراً جملة من المعايير الأرضية التي أجمعت عليها كل الاتجاهات النفسية والتربوية على الرغم من تباينها في تفسير الظواهر لكنها تقف جميعاً على وجود هذه المعايير المشتركة في تحديد ما هو سوي وفرز ما هو مرضي.

وهذه المبادئ هي على النحو الآتي:

المبدأ الأول: مبدأ تقبل الذات.

إن هذا المعيار يعني أن الشخصية السوية تنسج نظرة واقعية لإمكاناتها قوة أو ضعفاً بحيث تتقبل ذاتها حيال ما هو واقعي فيها، فلا تبالغ في إمكاناتها ولا تقيد من إمكاناتها أيضاً، فإذا بالغت الشخصية في إمكاناتها وقعت فريسة لتورّم الذات، وداخلتها أوهام العظمة والكبرياء والزهو، وإذا كان العكس، أي إذا قللت الشخصية من تقديرها لذاتها وقعت فريسة لمشاعر الضعة والهوان والحطة وما إلى ذلك..

المبدأ الثاني: مبدأ تقبل الواقع.

وهذا المعيار يعني أن الشخصية السوية هي التي تتعامل مع الواقع الذي تواجهه على حقيقته، فلا تتجاوز الواقع بما هو خارج عنه فتحلق في السماء مثلاً وتبتعد عن الأرض، ولا تتهرّب منه فإذا تجاوزت إمكانات الواقع أصبحت فريسة لتعامل وهمي أو مثالي لا حقيقة له، وإذا تهربت من هذا الواقع انسحبت إلى داخل ذاتها وتعطلت كل إمكاناتها التي ينبغي أن تستثمرها في التعامل مع الموقف الذي تواجهه، وفي الحالتين يصبح كل من تجاوز الواقع والتحليق إلى الهواء أو الهروب من الواقع سلوكاً شاذاّ لا يتفق مع معايير الصحة النفسية.

المبدأ الثالث: مبدأ تقبل الآخرين.

وهذا المبدأ يعني أن الشخصية السوية لديها استعداد لأن تخرج من أسوار ذاتها وتتجه إلى التفاعل مع الذوات الأخرى، أي إنها تتنازل عن ذاتها وتؤجل إشباع حاجاتها وتعنى بإشباع الآخرين وحاجاتهم، بمعنى أنها تحب وتحَب أيضاً بصفة أن إثارة الحب والتكيف مع الآخرين يستتلي بالضرورة أن الآخرين الذين سكب عليهم حب الشخصية سيتجهون إلى الشخصية أيضاً بعاطفة الحب ذاتها، ومن خلال هذا التبادل يتم التوافق الداخلي للشخصية بحيث تشبع حاجاتها إلى الحب الذي يخلعه الآخرون عليها في نفس الوقت الذي تثير من خلاله بمحبتها هي على الآخرين.

إن هذه المعايير الثلاثة التي يجمع علماء النفس والتربية على عدّها سمات الشخصية السليمة يواكبها وتتفرّع منها معايير أخرى طالما يتوكأ على هذه المعايير أكثر من باحث تربوي في تحديده لسمات الشخصية السوية ومن هذه المبادئ مبدأ الإحساس بالثقة. بمعنى أن الشخصية السوية تنسج نظرة إيجابية عن ذاتها بغض النظر عن جوانب القوة وضعفها وينشطر هذا الإحساس إلى نمطين سبق أن أشرنا إليهما في سياق خاص في حينه، أحد هذين النمطين هو إحساسها بالاستقلال كما لو تحسسنا بأننا مسؤولون عن أنفسنا بحيث لا نحتاج إلى حماية الآخرين في المواقف التي لا تستدعي الحماية المذكورة، وهذا مثلاً من نحو ذهابنا إلى دائرة رسمية ومتابعة المعاملة بأنفسنا دون أن نصطحب من يعيننا على إنجاز ذلك، أما النمط الآخر فهو الإحساس بالجدارة وهذا من نحو تحسسنا بأننا جديرون على أن نمارس عملية التدريس مثلاً دون أن يصاحب هذه العملية شعور بقصور ذاتي عن ممارسة التدريس أو ممارسة أي سلوك اجتماعي.

وهناك مبدأ آخر هو النضج الانفعالي؛ ونقصد بالنضج الانفعالي في تصور علماء النفس والتربية هو تكامل الشخصية من حيث استجابتها للمنبهات المختلفة التي تواجهها بحيث تبدو الشخصية متماسكة في تصرفاتها فلا تجنح إلى النكوص الطفولي الذي يعني ارتداداً إلى أساليب عاطفية غير رصينة كالبكاء والعناد والدلال ونحو ذلك من أشكال السلوك البدائي الذي يصدر عن الشخصيات المريضة حيث ترتد أو تنكص إلى أساليب طفولية بالنحو الذي أوضحناه.. كما لا تجنح إلى الحساسية المفرطة في مواجهتها للمثيرات بقدر ما تتميز بالجلد والصبر والتأني ومدارسة الأمر بهدوء ورصانة وتبصر ونحو ذلك.. ويمكن القول بأن النضج الانفعالي يمثّل الطابع العام للسلوك السوي الذي لا يصاحبه أي اضطراب نفسي، بحيث يوازن ما يصطلح عليه بالطابع العقلي مقابل الطابع العاطفي، ومع أن كلاً من العقل والعاطفة يتجاذبان سلوك الشخصية إلا أن الفارق بينهما هو في طغيان أحد الطابعين على الآخر، فالناضج هو الذي يتحكم في انفعالاته ويسيطر عليها من خلال تسليط الأضواء العقلية عليها، أما غير الناضج فتسيطر عاطفته على سلوكه بحيث تجده إما ثائراً منفعلاً أو منسحباً إلى داخل ذاته، وفي كلا الحالتين يتعامل مع العنصر العاطفي أكثر منه مع العنصر العقلي.

والمعيار الأخير ينبغي أن لا نغفل عن أهميته في تحديدنا لسمات الشخصية السوية وهو معيار اتفقت الاتجاهات النفسية عليه أيضاً ونعني به ضرورة أن يتحدد لدى الشخصية موقف من الحياة، وهذا المعيار يعد في الواقع أهم المعايير التي تفرز الشخصية المضطربة عن الشخصية المستوية، ومعنى أن يكون لها موقف من الحياة، هو أن يكون لها وجهة نظر تتجه إلى هدف خاص تتحرّك الشخصية إليه في مختلف نشاطها، وإلا فإن غياب الهدف من وراء التصرفات الشخصية يظل مؤشراً إلى اضطرابها دون أدنى شك.

إن هذه المعايير ونظائرها تترتب عليها مفردات من السلوك لا سبيل إلى حصرها كما أن فقدانها يستتلي أنماطاً من السلوك الشاذ توفر على دراستها علم النفس المرضي، بعضها يتصل بالسمات الذهانية والآخر بالسمات العصابية والثالث بسمات الاضطراب بشكل عام، ولكن دون أن يصل ذلك إلى درجة المرض الخطير بقدر ما تمثّل جميعاً سمات شاذة قبال السمات السوية، وبعامة يمكننا أن نقرر بأن الشخصية السوية في تصور علماء النفس والتربية هي التي تنتظم سلوكها مجموعة من السمات المشار إليها مقابل الشخصية الشاذة التي تفتقد المعايير المذكورة، ويمكننا أن نذهب إلى أن التوافق أو التوازن الذي يتبع هذه الشخصية أو تلك إنما ينصب على مدى تجسيده للقيم المذكورة في تصرفات هذه الشخصية.

وأما عملية التوافق ذاتها فإن لعلماء النفس والتربية وجهات نظر حيالها، فالاتجاه التحليلي مثلاً يشدد لدى أحد ممثليه على التصالح بين قوى النفس الثلاث الأنا والأنا الأعلى والواقع، ولدى البعض الآخر يتجسد التوافق بين الإحساس بالتصور والتعويض الإيجابي عنه، والاتجاه السلوكي يتجسد في قوانين التعلم الذي يوازن بين المنبه وبين الاستجابة وبين الاستثارة والكبت، ولدى الاتجاه الجساني يتمثل في تكميل الوحدة الجساني أي المعادلة بين الحاجة ومجالها النفسي، ويتمثل لدى الاتجاهين الظاهري والوجودي في تجسد خاص للوعي بالموقف الذي تحياه الشخصية علانية وهكذا..

إذن هذه الاتجاهات المعاصرة المختلفة تتفاوت في تحديدها لعملية التوافق، ولكن بشكل عام يمكن الذهاب إلى أن هذه الاتجاهات على تباينها تشدد في سمات مشتركة في فرز السوي عن الشاذ، وتفترق الواحدة عن الأخرى في الطرائق التي تفضي إلى تحقيق التوازن وعدمه.

أما إسلامياً فإن المعايير المتقدمة تظل موضع وفاق مع التصور الإسلامي أيضاً، بيد أنها تظل كما كررنا جزءاً من دلالة ما يعنيه مفهوم السواء، وليست وحدها هي المحددة لمفهوم السواء، بل يستكمل مفهوم السواء بإضافة المفهوم العبادي له، ويمكننا أن نلخّص وجهة النظر الإسلامية في هذا الميدان بما سبق أن حدثناكم عنه مفصلاً لكننا نعرض له عابراً فنقول: إن الإسلام ينظر إلى المرض النفسي واحداً من أنماط السلوك المتصل بالجانب الشهوي من الشخصية مقابلاً للسلوك العقلي، الجانب العقلي والجانب الشهوي يتجاذبان ويظل الجانب العقلي من الاتجاه المذكور نابعاً من الالتزام بمبادئ السماء، وأما الجانب الشهوي فيظل نابعاً من الانقياد إلى الذات الباحثة عن الإشباع الطليق غير المقيد بالروابط والمعايير فيما يصطلح عليه إسلامياً بأنه من عمل الشيطان.

إن الجانب الشيطاني لا ينحصر في التصور الإسلامي في مفردات السلوك التي خبرتها الأبحاث الأرضية وهو الاضطراب العقلي أو النفسي بل يتناول كل مفردات السلوك المنهي عنه شرعاً، إنه يشمل الجانب الفكري المتمثل في عدم الإيمان بالله، وهو من عمل الشيطان، ويشتمل على عدم الالتزام بمبادئ السماء، مثل عدم ممارسة الصلاة مثلاً، وهذا من عمل الشيطان أيضاً، ويشمل الجانب النفسي وهو مختلف أنماط الاضطراب وهو أمر من عمل الشيطان أيضاً، والدليل على أن المرض النفسي هو ممارسة شيطانية تلميح النصوص الإسلامية إلى ذلك؛ فالملاحظات العيادية الإسلامية تشير مثلاً إلى أن الله تعالى إذا أراد أن يزيل نعمة عن العبد فإنه أول ما يغير عقله، أي يجعله مفتقداً لبناءه النفسي السليم. كما تشير التوصيات الإسلامية إلى أن المؤمن لا يصاب بعقله.

وهناك ملاحظات عن بعض الأمراض النفسية كالوسوسة حيث يشير الإسلام إلى طابعها بشكل واضح من خلال ذهابه إلى أن الوسوسة هي من عمل الشيطان.

إذن الأمراض النفسية في شتى أنماطها تعد وجهاً واحداً من وجوه العمليات المختلفة التي تتصل إلى الجانب الشهوي من الشخصية، كل ما في الأمر أن علم النفس الأرضي لا يألف إلا نمطاً واحداً من أشكال السلوك الشاذ هو السلوك المتصل باضطراب الجهاز النفسي، بينما يضيف الإسلام إلى ذلك الجانب الفكري والعبادي أيضاً أي عدم الإيمان بالمبدع، وهو الله سبحانه وتعالى وما يترتب على ذلك من مختلف أشكال السلوك ثم عدم التزام الشخصية الإسلامية بمبادئ السماء فيما يصطلح عليه الذنوب والمعاصي، تعد جميعها ممارسات للجانب الشهوي أو الشيطاني، مما يعني في نهاية المطاف أن للإسلام تصوراً خاصاً للسلوك يختلف عن التصور الأرضي وهو أمر كررناه ونكرره لاحقاً، كل ذلك من أجل أن يبين الطالب مدى فارقية التصور الإسلامي عن التصور الأرضي وضرورة انصياعنا للتصور الإسلامي في معالجاتنا التربوية لمختلف القضايا.

والآن في ضوء ما حدثناكم عنه نتقدم إلى الحديث عن سمات الشخصية والعمليات التربوية التي ينبغي أن تسلك حيال ذلك حتى تكتسب هذه السمات صفة السوية متمثلةً في السمات العقلية والمزاجية والذاتية والاجتماعية والحيوية والتعبدية، علماً بأن هذه السمات جميعاً يظل تناولها في ضوء قوائم السلوك التي عرضناها في القسم الأول من محاضراتنا مع إضافة نصوص أخرى إلى ذلك وهذا ما نبدأ به الآن، حيث نحدثكم أولاً عن السمات العقلية أو ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح (التربية العقلية)، ونبدأ حديثنا عن ذلك بقولنا:

المقصود بالسمات العقلية هو كل ما يتصل بعمليات الإدراك البشري من تفكير وذكاء ونسيان وذاكرة وما إليها من العمليات الإدراكية المختلفة، بدءاً من العمليات العقلية الدنيا كالانتباه مثلاً والإدراك الحسي وانتهاءً بالعمليات العليا كالاستدلال والإبداع والمحاكمة وما إلى ذلك.. وعلماء النفس والتربية يتوفّرون على دراسة هذه الجوانب بنحو مفصّل سواء أكان ذلك متصلاً بفعالية الإدراك السوي أو كان متصلاً بالجانب المضطرب من الفعالية المذكورة، كأمراض التخلف العقلي وما إلى ذلك. وأما الإسلام فلا يعرض في الواقع لهذه الجوانب إلا من خلال خطوطه العامة دون الدخول في تفصيلات ذلك، ولعل السر في هذا الاختزال الإسلامي للمشكلة المذكورة يكمن في طبيعة الفاعلية الإدراكية التي يرثها الإنسان فطرياً، ويتحسسها بنحو عفوي. أو لنقل يتحسسها بنحو لا واعي بحيث لا تتدخل إرادته في تكييف سلوكه العقلي من استجابة ونسيان وتذكر وما يواكبها من ذكاء أو غباء أو تفوق أو تخلف وما إلى ذلك.. من خلال سلوكه النفسي والفكري الذي يتطلب تدريباً على ممارسته في شتى الصعد بينما لا نجد ضرورة متمثلة في نشاطنا الذي يدرك شيئاً أو يستجيب له أو ينساه أو يتذكره أو يتخيله إلى آخر ذلك من المهارات العقلية التي تسلك دون أن تكون لظاهرة الوعي بذلك أثر في ممارسة هذا النشاط العقلي.

على أية حال يعنينا أن نعرض للخطوط العامة إسلامياً لفاعلية الإدراك ومحددات ذلك في صياغة الشخصية من حيث استوائها أو شذوذها، وأول ما يواجهنا من فاعلية الإدراك هو التصور الإسلامي لهذه الفعالية من حيث التكييف الإرثي لها، ففي تقرير عيادي للإمام الصادق (عليه السلام) يعرض الإمام (عليه السلام) لطبيعة التركيبة البشرية قائلاً:

(عرفان المرء نفسه أن يعرفها بأربعة طبائع وأربعة دعائم وأربعة أركان؛ فإذا كان تأييد عقله من النور كان حالماً حافظاً ذكياً فطناً فهماً).

إن هذا التقرير العيادي من الإمام الصادق (عليه السلام) يلمح إلى فاعلية الإدراك وهي ما أسماها (عليه السلام) بالعقل، فيما أوضح مصدرها المتمثل في ظاهرة النور، ويلاحظ أن هذا التقرير أشار إلى أربع سمات عقلية هي: العلم والحفظ والذكاء والفهم، والسمات الثلاثة الأخيرة تظل في تصور علم النفس الأرضي موضع وفاق، من حيث كونها مهارات عقلية يقابلها النسيان والغباء والتخلف فيما تشكل أعراضاً مرضية، وهذه المهارات وما يقابلها من أعراض تعد جانباً وظيفياً في الجهاز العقلي، وأما سمة العلم فتختص بالتصور الإسلامي لظاهرة العقل من حيث وحدة العقل العبادي والوظيفي، فمع أن الإسلام يفصل بين ما هو وظيفي من جانب كما قلنا كفعالية العقل المتصلة بكوننا نستجيب ونتذكر وننسى وهي أمور تطبع البشر جميعاً وكذلك مهارات العقل المتصلة بالذكاء والحفظ والإدراك السليم، كل ذلك حينما ينظر إليه الإسلام من حيث المهارة العامة المشتركة بين البشر جميعاً، إلا أنه في الآن ذاته يصل الإسلام بين هذه الفعاليات والمهارات وبين العقل العبادي الذي يعنى بإدراك المهمة الخلافية للإنسان، أي ثمة فارق بين العقل من حيث كونه مهارة إدراكية، وبين العقل من حيث كونه سلوكاً عبادياً بالنحو الذي يتضح ذلك لاحقاً.

لذلك وصل الإمام (عليه السلام) بين الجانب الوظيفي للعقل في سماته الثلاث وبين الجانب العبادي منه  وهو العلم، حيث عقب (عليه السلام) بقوله: (وعرف فيما هو ومن أين يأتيه ولأي شيء هو ههنا وإلى ما هو صائر بإخلاص الوحدانية والإقرار بالطاعة) إن هذه السمات تمثل طابع الشخصية السليمة التي لم تتحرر لوراثة طارئة أو لتجربة بيئية تتدخل في تقريرها، وقد سبق أن تحدثنا في القسم الأول من محاضراتنا عن عنصر الوراثة والبيئة وعن أن النوع البشري بعامة تحكمه وراثة نقية لا تفاوت بين الأفراد في درجاتها ولكن الفارقية تبرز عبر وراثة طارئة أو تجربة بيئية فحسب.

المهم أن الإمام (عليه السلام) وهذا ما نكرره الآن وصل بين الجانب الوظيفي للعقل حيث ذكر سمة الحفظ والذكاء والفطنة، لكنه أضاف إليها سمة العلم، وسمة العلم ليست مرتبطة بالجانب الوظيفي للعقل، بل مرتبطة بالجانب البيئي أي ما يتلقاه الشخص من معرفة خاصة قال عنها الإمام الصادق (عليه السلام) أنها معرفة تتصل بإخلاص الوحدانية والإقرار بالطاعة وما إلى ذلك من المفهوم العبادي للمعرفة التي تنفصل أساساً عن الجانب الوظيفي، وتحتفظ باستقلاليتها من جانب، ولكنها من جانب آخر لا تنفصل عن المهارة الإدراكية للأسباب التي ذكرناها، حيث لاحظنا أن الإمام الصادق (عليه السلام) عندما يشير إلى تلك السمات الوظيفية، أو عندما يشير إلى المهارة العقلية بشكل عام إنما لا يفصلها عن المهارة المعرفية التي تعني أن العقل لا قيمة له في الواقع إذا كان غير معني بالمعرفة العبادية، وإلا فإن مجرد الذكاء والتذكر والنسيان وما إلى ذلك من مهارات عقلية تظل مهارات لا قيمة لها إذا لم يوظفها الإنسان في السلوك العبادي.

على أية حال عندما نتابع حديثنا عن هذا الجانب سنلقي مزيداً من الأضواء عليها، ونتابع الآن هذا الحديث فنقول إن الإسلام في الواقع عندما يتحدث عن عنصري الوراثة والبيئة مثلاً بالشكل الذي لاحظتموه في حينه، وما يعتمل في الظاهرة المذكورة من وراثة طارئة أو تجربة بيئية، نقول المهم أن الإسلام يتحدث عن هذه الجوانب منفصلة ومرتبطة البعض مع الآخر وهذا ما يمكن ملاحظته مثلاً فيما سبق أن عرضناه عليكم في محاضراتنا الأولى المتمثلة في تصنيف السلوك حيث لاحظتم القائمة التي قدمها الإمام الصادق (عليه السلام) متمثلةً في أكثر من سبعين مفردة ذكر فيها، أو ورد فيها ما يلي: (الحفظ ويقابله النسيان، الفهم وتقابله الغباوة، التفكر ويقابله السهو) نذكركم قبل أن نتابع حديثنا عن هذا الجانب بأن علماء النفس الأرضيين لا يتحدثون عن الشخصية إنما يتحدثون عن السمات التي يقابلون فيها بين سمة وأخرى كما لاحظتم ذلك في حينه، ومسألة السمة ومقابلها تظل تصنيفاً ملحوظاً في التصور الأرضي والإسلامي مما يعني أن لهذا التصنيف أهمية خاصة بالنسبة إلى فرز السمات المتصلة بالشخصية.

على أية حال نعود فنذكركم بهذا التقسيم أو التصنيف الذي وردت فيه سمات تتصل بالمهارات الإدراكية والمعرفية متمثلةً كما لاحظتم في ظاهرة الحفظ ومقابلها النسيان وظاهرة الفهم ومقابلة الغباوة وظاهرة التفكر ومقابلها السهو. أما السمة الأولى وهي الحفظ فتمثل بطابع الشخصية السوية التي اصطلح الإمام (عليه السلام) لها بأنها تستمد ذلك من النور؛ أو ما يصطلح عليه البحث الأرضي الذي يطلق عليه مصطلح السواء حيث تستخدم لغة علم النفس الأرضي مثل هذا المصطلح مقابلاً لما استخدمه الإمام (عليه السلام) من مصطلح النور الذي يعني المصدر الرئيس للسلوك المعرفي لدى الإنسان. يقابل ذلك النسيان، والنسيان ظاهرة يمكن أن نشطرها إلى نمطين، أحد النمطين يمثل الاستواء بصفة أن النسيان فاعلية لا مناص لها في العمليات الإدراكية، وإلا لما أتيح لنا أن نتذكر إذا لم ثمة نسيان، كما أن النسيان الذي لاحظه علماء النفس يتم حيناً لأسباب موضوعية مثل تقادم الزمن أو تشابه الموضوعات وغير ذلك، وقد يتم لأسباب مرضية وهذا ما ألمح الإمام الصادق (عليه السلام) إليه عندما فرضه سمة قابلت بينها وبين الحفظ بصفة أن الحفظ يمثل وراثة نقية وأن النسيان يمثل سلوكاً طارئاً قد يكون عبر الوراثة الطارئة التي تنقل من خلال المورثات إلى الجنين أو عند المرحلة التكوينية ومرحلة الحمل وغيرها، وقد يكون ذلك بيئياً عبر صدمة لعضوية الدماغ، أو يكون نتيجة لخبرة نفسية مؤلمة جداً هي الشدائد التي تفضي بالشخصية إلى الوقوع في أشكال متنوعة من المرض النفسي والمرض العقلي أيضاً.

المهم أن النسيان مقابل الحفظ يمثل سمة مرضية بغض النظر عن الجذر الوراثي أو البيئي لها، والأمر نفسه نجده فيما يتصل بالسمة الأخرى التي ذكرها الإمام الصادق (عليه السلام) وهي سمة الغباء مقابل سمة الفهم؛ فالفهم كما لاحظتم يعني الإدراك السليم للشيء، يقابله الغباء الذي يعني تخلفاً عن الإدراك السليم سواء أكان هذا التخلف وراثياً وفي درجته الشديدة كما هو ملاحظ في أمراض التخلف العقلي الذي نجده لدى تصنيفات علماء النفس، أم كان في درجته الخفيفة التي لا تعدو كونها انحرافاً قليلاً عن المنحني المتوسط للذكاء، أي إذا كان المنحني المتوسط للذكاء هو درجة 100 فإن الانحراف القليل عنها يمثل مثلاً 90 أو 80، وفي الحالتين يمثل هذا التخلف سمة مرضية تعكس أثرها على سلوك الشخصية.

المهم أن التصور الإسلامي للسمات العقلية يظل في نطاقه المتقدم مرتبطاً بفعالية الإدراك من حيث جهازه الوظيفي الصرف، أما من حيث انسحابه على الموقف الفلسفي أو الفكري من الكون والمجتمع والفرد فإن التصور الإسلامي لظاهرة العقل أو المهارة الإدراكية يأخذ منحى آخر هو وحدة  العقل الوظيفي والفكري، أي عدم انفصام أحدهما عن الآخر وهو ما نعنى به الآن في الواقع كل العناية ما دام هدفنا ينصب ليس على دراسة الظواهر العقلية من خلال التصور الأرضي لها فحسب، بل من خلال التصور الإسلامي الذي يضيف إلى التصور الأرضي تصوراً أشمل وأوسع يرتبط بطبيعة الكائن الآدمي الذي خلقه الله تعالى من أجل أن يمارس وظيفته العبادية في هذه الحياة، وهو أمر نؤجل الحديث عنه إنشاء الله إلى محاضرة لاحقة. ونستودعكم الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..