mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 03.doc

بسم الله الرحمن الرحيم     

تحدثنا في لقائين سابقين عن مفهوم كلّ من مادة التربية ومادة علم النفس وانتهينا إلى أن هاتين المادتين يتناولان بشكل عام السلوك البشري ولكن من خلال ضرورة خاصة هي إنماء قوى الإنسان والوصول بها إلى الكمال، وقلنا أن الوصول بقوى الإنسان إلى كمال طبيعته يظل مفهوماً نسبياً، لأن المجتمعات تتفاوت فيما بينها من حيث الثقافة التي تغلفها حيث أن لكل مجتمع قيمه الخاصة التي ينطلق منها في تحديد سلوكه الأمثل.

بيد أننا انتهينا إلى أن المطلوب منا هو أن نحدد التربية أو نحدد مادة علم النفس من خلال التصور الإسلامي لهذه المادة، ففي ضوء التصور الإسلامي لمفهوم التربية انتهينا إلى أن المقصود من التربية هو بذل الجهد الذي يمارسه فرد أو جماعة أو جهاز أو مؤسسة .. الخ، بذل هذا الجهد على فرد أو جماعة أو مجتمع آخر بهدف تغيير سلوكه، إلا أن السلوك المطلوب تغييره هو تدريب الشخصية على تعلّم السلوك العبادي، وقلنا إن السلوك العبادي يقصد به المبادئ التي رسمها الله سبحانه وتعالى لنا وخلقنا أساساً من أجل أن نمارسها تبعاً لقوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) إذاً المطلوب منا تربوياً هو أن نتدرب على تعلّم السلوك العبادي المطلوب.

تساءلنا أيضاً وقلنا ما المقصود بالسلوك العبادي من جانب وما المقصود بعملية التعلم من جانب آخر؟ وقلنا أن السلوك العبادي يقصد به ممارسة المبادئ التي رسمها الله تعالى لنا، وأما المقصود من مصطلح التعلم، وليس هو ذلك المعنى الشائع الضيق الذي ينحصر في تعلم المادة، كما لو تعلمنا مادة في التاريخ أو الأدب أو الاجتماع ...، بل إن مفهوم التعلم يتجاوز هذا المفهوم الشائع ليقصد به مطلق ما نكتسبه من سلوك جديد في حياتنا، فكلّ ما يمارسه الشخص من عمل جديد، عمل اكتساب صفة جديدة يطلق عليه مصطلح التعلم، فمثلاً إذا تدربنا على أن نمارس الصدق في كلامنا حينئذٍ فإن ممارسة الصدق أو التدريب عليه ينطبق عليه مفهوم التعلّم، وكذلك إذا اضطررنا أننا اكتسبنا صفة الجود حينئذٍ فإن الإنفاق أو تدريب الشخصية على الإنفاق يسمى تعلماً أيضاً، لأننا اكتسبنا صفة جديدة هي الإنفاق في سبيل الله تعالى. وهكذا بالنسبة إلى سائر الممارسات التي نمارسها في حياتنا اليومية..

المهم بعد أن انتهينا من هذا التمهيد اتجهنا إلى تمهيد آخر حيث قلنا أن الحديث عن عملية التعلم للسلوك العبادي ينبغي أن يمهّد له بالحديث عن طبيعة التركيبة الآدمية للبشر، وتحدثنا أيضاً عن طبيعة هذه التركيبة واستشهدنا بأقوال للإمام علي (عليه السلام) وللنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث انتهينا من ذلك إلى ملاحظة مهمة جداً، هي أن البشر في طبيعة تركيبته ينطلق من مفهوم خاص هو التجاذب بين نمطين من المحركات التي تدفعه إلى أن يمارس هذا السلوك أو ذاك، وهذان النمطان هما الشهوة والعقل حيث وصلنا إلى مفهوم الشهوة والإشباع الذي تنشده الشخصية بدون قيود، والمقصود من مصطلح العقل هو الإشباع الذي تنشده الشخصية من خلال الضوابط والمبادئ المقررة. وهذا هو ما نريد أن نلفت نظركم إليه من جديد، فأردنا أن نقول بأن المهم في هذا النمط من التركيبة التي أشار إليها الإمام علي (عليه السلام) والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أن طبيعة هذه التركيبة الباحثة عن الإشباع تتمثّل في أن كلاً من طرفي البحث عن الإشباع، أي كلاً من الشهوة والعقل ينشد إشباعاً خاصاً له، كلّ ما في الأمر أن الإشباع الشهواني لا يتقيد بضوابط ومبادئ بينما يتقيد الإشباع العقلي بالضوابط والمبادئ.

وتترتب على هذا الإدراك لمثل هذه الطبيعة نتائج مهمة جداً في السلوك البشري، حيث سنرى أن بعض الاتجاهات الأرضية أو العلمانية في تصوّرها لطبيعة التركيبة البشرية تؤمن أيضاً بأن الشخصية يتجاذبها طرفان أحدهما الإشباع المطلق والآخر هو الإشباع المقيد. بيد أن الفارق بين التصورين الإسلامي والعلماني هو أن التصور العلماني المذكور في بعض خطوطه يؤكد بأن الإشباع الشهواني المطلق هو سلوك طبيعي لدى الشخصية، وأما الإشباع العقلي فهو سلوك مفروض على الشخصية، أي لكي تستطيع الشخصية أن تتكيف في حياتها حينئذٍ لا مناص لها من أن تكبح جماح شهواتها، ويفرض عليها ذلك فرضاً.

طبيعي أن مثل هذا التصوّر العلماني لطبيعة التركيبة البشرية كما سنرى ذلك لاحقاً ينطوي على نكسة علمية وأخلاقية لابد لنا من أن ننتبه على خطورتها، المهم أن التصوّر الإسلامي لطبيعة التركيبة البشرية من خلال نظرته لهذين النمطين من الإشباع هو لا يماثل لكل التصورات الأرضية التي قلنا أنها تنظر إلى الجانب الشهواني وكأنه شيء طبيعي عند الشخصية، وأما الإشباع العقلي فأمر مفروض عليها حتى تستطيع أن تتكيف مع الحياة، فمن الحقائق المعروفة في هذا الميدان أن كلاً منا لا يمكنه بحالٍ من الأحوال أن يحقق إشباعاً مطلقاً لحاجاته، بل لابدّ وأن يتقيد بهذا الإشباع وإلا لا يمكنه أن يتكيف مع الحياة، لذلك فإن التقيد بالمبادئ الخاصة في تصوّر هذا الاتجاه الأرضي - كما قلنا - يظل تقيد مفروضاً على الشخصية لا يحقق له نفس الإشباع الذي يحققه الطرف الشهواني من الشخصية.

بيد أن التصوّر الإسلام يقف تماماً على التضاد من هذه النظرية التي سنحدثكم عنها، إن التصور الإسلامي لقضية إشباع الحاجات يتمثّل في ذهابه إلى أن الإشباع الشهواني غير المقيد بأية ضوابط أو مبادئ، هذا الإشباع يتميز بكونه ملحاً، وهذا صحيح أي أنه يتفق مع التصور الأرضي بكون الإشباع الشهواني إشباع له إلحاحه في سلوك الشخصية، ولكن يفترق التصور الإسلامي عن العلماني بالنقطة الآتية، ألا وهي النقطة المرتبطة بالإشباع الذي يحققه العقل. فالإسلام في ضوء ما قرره الإمام علي (عليه السلام) وفي ضوء ما قرره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يرى أن الإشباع العقلي هو أكثر فاعلية من الإشباع الشهواني، ولكن الإشباع الشهواني هو أكثر إلحاحاً؛ ومن المفيد جداً أن نلقي الآن مزيداً من الأضواء على هذين المصطلحين ونعني بهما المصطلح الذي يقرر بأن الجانب الشهواني من سلوك الشخصية يتميز بأكثر من الجانب العقلي، ولكن الجانب العقلي يتميز بفاعلية أكثر من ا لجانب الشهواني.

ولنعد إلى بعض الأمثلة التي قدمناها في محاضراتٍ سابقة، لنعد إلى المحرّك الجنسي الذي أشرنا إليه سابقاً، فالشخصية عندما تواجه مثيراً جنسياً حينئذٍ إما أن تحقق من خلال هذا المثير إشباعاً مطلقاً أو إشباعاً شهوانياً، وإما أن تحقق من خلال ذلك إشباعاً عقلياً، فالإشباع الشهواني في مثل الحالة إشباع - أو بالأحرى - يجسد حاجة ملحة على الشخصية، بحيث يشبه الحاجة الحيوية المتمثلة مثلاً بحاجتنا إلى الطعام أو الشراب، يعني أن الشخصية تتحسّس لحاجة كبيرة لا مناص من إشباعها في هذا الميدان. ولكن إذا اتجهنا إلى الجانب الآخر من الإشباع العقلي حيث يمكننا أن نقدم نفس المثال الباحث عن الجنس فنقول إن الشخصية التي تواجه مثيراً جنسياً معيناً، فإن الإلحاح الذي يدفعها إلى أن تحقق إشباعاً لحاجتها المذكورة، هذا الإلحاح من الممكن جداً أن يتلاشى في حالة ما إذا درّبت الشخصية على أن تمارس سلوكاً مضاداً للحالة السابقة، ولعلّكم تتذكرون مقولة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الحالة (المداومة على عمل الخير تستتبع كراهية الشر)، ومعنى هذا أننا إذا دربنا أنفسنا على أن نكبح جماح الجانب الشهواني من الإشباع حينئذٍ فإن لدينا فاعلية مهمّة جداً تستطيع هذه الفاعلية أن تسيطر على الموقف وتجعل الشخصية تنتصر لمبادئها العقلية بدلاً من الانتصار لمبادئها الشهوانية، فأنت - كما ذكرنا لك في مثال سابق في محاضرتنا السابقة - حينما تكون قد مارست أو حينما تكون قد تعودت أن تمارس سلوكاً سلبياً شهوانياً حينئذٍ فإن هذا السلوك الشهواني أو السلبي المتمثل في ممارسة الكذب أو الاغتياب يتميز بفاعلية كبيرة بحيث أنك تجد نفسك مضطراً إلى أن تمارس هذا السلوك، ولكن في حالة ما إذا درّبت نفسك على محاربة هذا النمط من السلوك كأن تسيطر على أعصابك ولا تسمح لأعماقك الحاقدة أن تجرح الآخرين أو لا تسمح لأعماقك أن تتطلع إلى إشباع عابر هو تحقيق مصلحة آنية من خلال ممارسة الكذب، أقول حينما تدرب نفسك على مقاومة هذا النمط من الإشباع ستجد نفسك بالتدريج وقد هربت، وبالأحرى وقد أصبحت تنفر وتكره كلاً من الغيبة وكلاً من الكذب، وتحس بأن الكذب والغيبة هي ممارسة كريهة إلى النفس.

وهذا كما قلنا ما قاله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما قال: (إن من المداومة على الخير يستتبع كره الشر) وهذا في الواقع أيضاً ينطبق مع طبيعة تركيبتنا التي أشار إليها القرآن الكريم حينما قال سبحانه وتعالى حبب إلينا الإيمان وكره إلينا الفسوق والعصيان، فالطبيعة البشرية سوف تكره وتنفر من السلوك السلبي المتمثل في الاغتياب أو الكذب، وسوف تنفر من ذلك في حالة ما إذا درّبناها على تعلّم السلوك السوي المتمثل في الصدق بدلاً من الكذب وفي مدح الآخرين بدلا من اغتيابهم، على أية حال إنما فصّلنا وكررنا الكلام في هذا الجانب لأن السلوك البشري أساساً يقوم على فهم خاص لهذين الطرفين من الإشباع حيث أن التصوّر الإسلامي كما أوضحناه لكم ينطلق من تصور خاص يجعل الشخصية في الواقع متطلّعة إلى أن تمارس سلوكها العبادي المطلوب وفق مبدأ خاص هو أن تتدرّب على أن تتعلّم السلوك السوي حيث يترتب على مثل هذا التدريب أن تنجح الشخصية في الانتصار للمبادئ التي يتعين عليها ممارستها في ضوء التصور الإسلامي لمفهوم خلافة الأرض أو لمفهوم العبادة.

والآن مع توضيحنا لهذه الجوانب نعود فنناقش بعض الاتجاهات الأرضية التي تقف على التضاد من التصور الإسلامي لمفهوم الإشباع لدى الشخصية؛ إن بعض التصورات الأرضية وفي مقدمتها الاتجاه التحليلي يصوّر طرفي التجاذب في الطبيعة الإنسانية وكأنهما قائمان أولاً على طرف باحث عن اللذة وطرف آخر كابح لها، أي أن الطرف الشهواني من اللذة هو طرف باحث عنها بشكل مطلق، وأما الطرف الآخر وهو العقل فيعد عنصراً كابحاً للذة المشار إليها، هذا من جانب ومن جانب آخر يرى هذا التصور العلماني أن الطرف الباحث عن اللذة هو أشد فاعلية من الطرف الكابح لها، حتى في حالة تدريب الشخصية على مكافحة الجانب الشهواني. وأنتم ترون الآن كيف أن هذا التصور يقف على الضد تماماً من التصور الإسلامي، ومع أننا في الواقع لا نهدف إلى أن نصرف وقتاً طويلاً في مناقشة الاتجاهات العلمانية لأن الهدف أولاً وأخيراً هو تقديم التصور الإسلامي لطبيعة البشر ولكننا نضطر في مثل هذه الحالات بخاصة أن بعض من ينقصهم الوعي أو الثقافة الإسلامية قد تستجلبه هذه النظرية المضادة للتصور الإسلامي، وفي هذا ما فيه من خسارة فادحة للبشرية دون أدنى شك.

إن الباحث الذي قدم النظرية المذكورة يطلق عليه اسم (فرويد) وله تفصيله المعروف للشخصية وهو التقسيم المعروف الذي يقول أن للشخصية ثلاثة تقاسيم هي: الهو والأنا والأنا الأعلى.

ونعتقد أن فهم هذه المصطلحات قد يقترن بشيءٍ من الصعوبة من خلال هذه المحاضرة التي نلقيها عليكم، ولكن مع ذلك فإننا سنتحدث عن هذا الجانب ونحيل الطالب - كما قلنا - إلى كتابنا (دراسات في علم النفس الإسلامي) ليقف على تفصيلات الموقف.

إن هذه المصطلحات الثلاث أو هذه الأبنية التي تتركب منها الشخصية تتمثّل أولاً في مصطلح (الهو) وهذا المصطلح يمارس ما يقوله الإمام علي (عليه السلام) من مصطلح الشهوة، أي أن (الهو) كمصطلح تمثل بناءً خاصا من الشخصية أو تمثل طرفاً من الشخصية باحثاً عن الإشباع وهو الإشباع المطلق الذي لا يتقيد بضوابط ومبادئ، ويقف قبالة ذلك المصطلح الآخر الذي أسماه (فرويد) بـ(الأنا) فـ(الأنا) هو يماثل ما ذكره الإمام علي (عليه السلام) من الطرف الآخر الباحث عن الإشباع ألا وهو (العقل) حيث أطلق (فرويد) مصطلح (الأنا) على هذا الجانب من البحث عن الإشباع المقيد بطبيعة الحال ببعض المبادئ أو الضوابط، ولكن هناك مصطلح ثالث ذكره فرويد وهو ما أطلق عليه مصطلح (الأنا الأعلى) وفي الواقع أن (الأنا الأعلى) هو أيضاً نمط من البحث عن الإشباع المقيد ولكن الفرق بينه وبين (الأنا) هو أن (الأنا الأعلى) يمثل الجهاز الفطري، أي الجهاز الذي يرثه الإنسان فطرياً مقابل (الأنا) الذي يمثّل اكتساباً بيئياً للمبادئ والضوابط التي ينطلق منها الشخص في تعامله مع الطرف الأول، أي الطرف الباحث عن الإشباع المطلق.

ويمكننا الذهاب إلى أن (الأنا) مهمته هي أن تكبح غرائز (الهو) في ضوء مبدأ يطلق عليه الشخص المذكور مصطلح (مبدأ الواقع) أي أن مهمة (الأنا) تتمثل في كونه ينظم طرائق الإشباع وفق متطلبات الواقع الاجتماعي الذي يحياه الشخص بما تكتنف هذا الواقع من معايير وضوابط، إلا أن المهمة المذكورة هي في الواقع جزء من مهمة أخرى تتعامل من خلالها مع عنصر آخر هو (الأنا الأعلى) حيث تحاول (الأنا) أن توفق بين مطالب (الأنا الأعلى) وبين مطالب (الهو) ومطالب الواقع. إن (الأنا الأعلى) يمثل جهاز القيم الخاصة لدى الشخصية، ولكي يتضح جانب من مهمة هذه الأبنية يجدر بنا أن نعود إلى المثال الجنسي الذي كرّرنا الاستشهاد به أكثر من مرة.

إذا افترضنا أن شخصاً ما واجهه مثيرٌ جنسي فإن (الهو) يستحثّه لتحقيق الإشباع بأي ثمن كان، لكن بما أن الشخص يمتلك جهازاً قيمياً خاصاً فإن هذا الجهاز يحتجزه عن تحقيق الإشباع المطلق، مضافاً إلى ذلك فإن النظام الاجتماعي بما تكتنفه من قواعد وآداب عامة يمنعه أيضاً من تحقيق الإشباع حتى لو كان هذا الإشباع بهذه القيمة، أي إذا افترضنا أن الجهاز القيمي لدى الشخص وهو (الأنا الأعلى) يسمح له بأن يمارس الإشباع المطلق غير المقترن بأية ضوابط أو مبادئ، إلا أن هذا الجهاز الذي ينسجم مع حاجته إلى الإشباع المطلق، هذا الجهاز في الواقع لا يستطيع أن يحقق مهمته ما دام الواقع أو بالأحرى ما دام النظام الاجتماعي بما تكتنفه من قواعد وآداب عامة، هذا النظام يمنعه من تحقيق الإشباع المطلق الذي ينسجم مع جهاز الشخص المذكور قيمياً.

ونستخلص من ذلك أن مهمة (الأنا) تتجسّد في محاولات التوفيق بين ثلاثة مطالب، مطالب (الهو) الذي ينشد الإشباع المطلق ومطالب (الأنا الأعلى) الذي ينشد إشباعاً مقيداً، ومطالب الواقع الذي ينشد إشباعاً مقيداً أيضاً ولكنه إشباع يفرض عليه من خلال الواقع الاجتماعي الذي يحياه الشخص.

إن ما نعتزم الحديث عنه أولاً هو أن نحدد علاقة (الأنا)بمبدأ الواقع والطريقة التي يسلكها في تحامله مع المبدأ المذكور، وهنا يمكن أن نقول أن أهم نقد يوجه لمبدأ الواقع هو أن المبدأ المذكور يظل في تصور الباحث العلماني المشار إليه يظل نمطاً من الإكراه، لا أنه نابع من داخل الشخصية، أي أن هذا النمط من المبدأ لم يكن تعبيراً عن الطرف الآخر من التجاذب في الطبيعة البشرية، حيث لاحظتم كيف أن الإمام علي (عليه السلام) أوضح أن كلاً من الشهوة والعقل يمثلان بحثاً عن اللذّة واجتناباً عن الألم، ولاحظنا كيف أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أوضح أن البحث عن اللذة العقلية تجسد طرفاً يتمتع بفاعلية أشد من الفاعلية التي تحملها اللذة الشهوية، ولكن من خلال تدريب الشخصية على مقاومة اللذة الشهوانية، في حين نرى أن هذه النظرية الأخيرة أي النظرية الأرضية المتمثلة في نظرية (فرويد) عندما تفترض أن (الأنا) تطلع لمهمة الضبط لغرائز (الهو) من خلال الواقع، هذه العملية الضابطة تمثل كبحاً خارجياً أي إكراهاً يفرض على الشخصية أن تصدر عنه لا أنه مبدأ يستند إلى بحث عن لذة أيضاً لها أساسها الفطري وهو اللذة العقلية، بل يستند في تصور هذا البحث إلى عامل خارجي مفروض على الشخصية، ومن هنا نشبه صاحب النظرية المذكورة (الأنا) بالفارس على ظهر الحصان، ولكن الفارس يبقى مكرهاً على أن يوجه الحصان الوجهة التي ينشدها الحصان مع الفارس، أي الحصان يمثّل الإشباع الشهواني المطلق، والشخصية التي تصدر عن هذا السلوك إنما توجه الحصان الوجهة التي ينشدها الحصان نفسه، أي الوجهة الباحثة عن اللذة الشهوانية غير المقيدة لأية ضوابط أو مبادئ.

وتلاحظون الآن كم هو الفارق بين التصور الإسلامي الذي قدم صورة تشبيهية عن الفارس وحصانه حينما أوضح الإمام علي (عليه السلام) أن الحصان أو المطية تتسم بكونها ذليلاً حمل عليها الفارس وأعطي زمام ذلك، أي أن الزمام بيد الفارس يوجه به حصانه، في حين أن (فرويد) قدم تشبيهاً قائلاً أن الحصان هو الذي يوجه الفارس، وأنتم تلاحظون الآن مدى خطورة هذه النظرية، حيث أنها تنطوي على انتكاس علمي وأخلاقي يدع الشخصية في واقع غرائزه هو، توجهه حيث تشاء بالرغم من محاولاته المستمرة على أن يتخلص منها ولكن لا سبيل إلى الخلاص في تصور هذا الباحث، حتى أن هذا الباحث نفسه قال بأن الكائن الآدمي محكوم عليه بالخسارة في صراعه المرير مع الحياة!.

ونخلص من ذلك إلى القول نفسه في وجهة النظر هذه من البحث العلماني يكمن في الواقع وراء جهل صاحب النظرية بطبيعة التركيبة للطبيعة البشرية، وهو تركيب قائم على ملاحظة أن كلاً من طرفي الصراع أو التجاذب (الشهوة والعقل) أو ما أطلق عليه في المصطلح العلماني بـ(الهو) ومبادئ الكبح لها، ينتميان في الواقع إلى مبدأ واحد هو أن (الهو) وحده مصدر اللذة وأن مبادئ كبحه مفروضة على الشخصية من الخارج.

والحق أن مبادئ الكبح نفسها ينبغي أن ندرج تماماً بأنها تستند إلى الأصل الغريزي الباحث عن اللذة أيضاً، حتى أن هذه المبادئ تستطيع أن تحول الشخصية إلى كائن ينفر من البعد الشهواني كما قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أحاديث سبق أن ذكرناه، أي الحديث القائل: (إن المداومة على عمل الخير تستتبع كراهية الشر).

هذا فيما يرتبط بـ(الأنا) أي العقل بحسب مصطلح الإمام علي (عليه السلام) في محاولاته التوفيقية بين مختلف مطالب الشخصية، والآن لنتجه إلى مطالب (الأنا الأعلى) وهو المبدأ الذي يجسد ميراثاً فطرياً للشخصية يتمثل في جهاز قيمي خاص يتوارثه الفرد بشكلٍ لا شعوري على هذا النحو الذي سنتحدث عنه..

إن (فرويد) يحاول أن يضع لـ(الأنا الأعلى) هذا الأصل الفطري ولكن هذا الأصل نفسه يصوره الباحث وكأنه قائم على الإكراه أيضاً، وهنا نعود إلى نفس النفس الأخلاقية والعلمية التي ينطلق منها هذا البحث، إن الباحث يصور الأصل الفطري أو يصوّر (الأنا الأعلى) على أنه مبدأ قائم على الإكراه أيضاً وليس كونه أصلاً يوازي الأصل الباحث عن اللذة التي تتبع مطاليب (الهو)، وليمكننا أن نتعرف على هذه الحقيقة حاولنا أن نقف على طبيعة تفسير أسطوري يقدمه (فرويد) عن نشأة العقل الإنساني وتطوره، فيقرر هذا الباحث بأن الإنسان أو إنسان ما قبل التاريخ أي الإنسان البدائي لم يكن ليصدر إلا عن تركيبة بسيطة تنطلق من غرائز (الهو) حيث يشبع غرائزه حيث يشاء فيما لم تكن هناك أية ضوابط أو مبادئ مقررة، هذا الإنسان البدائي كان يشبه الحيوان من حيث افتراسه للآدميين ومن حيث إشباعه لحاجاته الأساسية فقد كان هذا الإنسان البدائي متمثلاً في انسان متوحش يستأثر بالإناث ويطرد أبنائه ولكن ذات يوم ما يقرر هؤلاء الأبناء المطرودون أن يقتلوا أباهم ويلتهموه حتى يضعوا حداً لاستئثاره المذكور، ولكي لا تتكرر المأساة ثانية يقول الباحث في تفسير أسطوري أن أولى المحاولات في انكار غرائز (الهو) بدأت مع هذه الحادثة، أي حادثة قتل الأبناء لأبيهم حيث ذهب هذا الباحث إلى أنه حتى لا تتكرر المأساة ثانية تبدأ أولى المحاولات في إنكار الغرائز أي غرائز (الهو) وتحريمها، وفي مقدمة ذلك الإنكار لغشيان المحارم.

ومن هذا المنطلق بالذات بدأ نشوء ما أسماه (الأنا الأعلى) أو الجهاز القيمي الخاص بالفرد، بدأ نشوء هذا الميراث الفطري عند الإنسان البدائي، حيث أن عملية القتل استدرجت أول إحساس بالذنب، أي أن الأولاد عندما قرروا قتل أبيهم حتى يضعوا حداً لاستئثاره بالإناث، عملية القتل نفسه قد استتبعت ميلاد الإحساس بالذنب لديهم، وإنكار هؤلاء الأولاد للغرائز استتلى أولى عمليات الكبت كما يصطلح عليه الباحث المذكور، ثم توالت عمليات الإنكار للغرائز حتى أصبحت بمرور الزمان ميراثاً فطرياً يجسده (الأنا الأعلى) بجهازه القيمي الخاص الذي يرثه البشر بأكملهم.

الباحث المذكور لا ينسى أن يشير أيضاً إلى أن شطراً من (الأنا الأعلى) يتحدد من خلال التنشئة الاجتماعية أيضاً، أي أن التنشئة زائداً الميراث الفطري يجسدان مادة الجهاز القيمي الخاص المسمى بـ(الأنا الأعلى)، ولكن في الواقع نحن الآن لا نريد أن ندخل في تفصيلات هذا الموقف بقدر ما نريد أن نطرح سؤالاً يتصف بأهمية كبيرة هو نفس السؤال الذي طرحناه عند حديثنا عن مبدأ الواقع.

هنا نسأل هذا الباحث ونقول له: لماذا صدر عن الإنسان ما قبل التاريخ، أو لماذا صدر الإنسان البدائي عن إحساس بالذنب؟ هذا من جانب، ومن جانب آخر لماذا أنكر هذا الإنسان البدائي غرائزه؟!!.

إننا نقول ألم يكن الإحساس بالذنب تعبيراً عن أصل فطري مضاد لغرائز (الهو)، أو بالأحرى ألم يكن الإحساس بالذنب جزئاً من التركيبة الثنائية التي أشار الإمام علي (عليه السلام) إليها حيث تتجاذب هذه التركيبة الشهوة والعقل، بحيث يجسد الإحساس بالذنب لدى الشخص تعبيراً عن اللذة العقلية أو اللذة الموضوعية التي تنكر العدوان وتجد في المسالمة لذة عقلية. إننا لنقول إن المسالمة إن لم تقترن بلذة عقلية لما كان للإحساس بالذنب أي مسوغ على الإطلاق، بل كان من الممكن أن تمضي جريمة قتل الأب -حسب منطق هذه الأسطورة - بدون أن يرافقها أي مدىً، هذا من جانب، ومن جانب آخر لماذا أنكر المجتمع البدائي بعد عملية القتل غرائزه؟ أي غشيان المحارم؟ ألم يكن هذا الإنكار تعبيراً عن لذة عقلية يحكمها مبدأ الثواب والعقاب الاجتماعيين؟ ثم ألا كان من الممكن ألا يتم إنكار الغرائز لو لم يكن الإنكار نفسه مستنداً إلى لذة عقلية تحسسها الذات حتى لو كانت بمنأى عن  الثابت الاجتماعي بمجرد قناعتها بالفائدة الاجتماعية للإنكار المذكور.

على أية حال نتوقف الآن عن البحث في هذا الجانب ونكتفي بما قدمناه من عرض عابر وسريع لنظرية (فرويد) لننتهي إلى أن هذه النظرية في الواقع تمثّل تضاداً كاملاً مع التصوّر الإسلامي للتركيبة البشرية، ونحن إنما كررنا الحديث عن هذا الجانب فلأن طبيعة التضاد الموجود بين التصورين الإسلامي والأرضي يفرض علينا التعرض لمثل هذه النظريات العلمانية حتى يقف الطالب منها موقف النقد، ومن ثم حتى يقف الطالب على طبيعة التصور الإسلامي السليم في صياغته للتركيبة البشرية، وما يترتب على هذا الإدراك للطبيعة البشرية من سلوك أوضحنا أن خلاصته تتمثل في كون الإنسان إذا قدّر له أن يعرف بأن مبادئ الإشباع لحاجات الإنسان أو مبدأ البحث عن اللذة والاجتناب عن الألم، لا يتم من خلال البحث عن الإشباع المطلق فحسب بل إن الإشباع المقيد يستطيع أن يحقق مهمته من خلال تدريب الشخصية على أن تمارس ضبطاً لشهواتها حتى يتحوّل هذا الضبط في نهاية المطاف إلى سلوكٍ عفوي أو تلقائي، حيث أن تدريب الشخصية على مقاومة لذتها الشهوانية يفضي بها في نهاية المطاف إلى أن تتطبّع على السلوك الجديد، ويصبح سلوكها الجديد القائم على الإشباع العقلي المقيد بالضوابط والمبادئ سلوكاً عقلياً وتلقائياً يفضي في نهاية المطاف بالشخصية إلى أن توفّق إلى ممارسة عملها العبادي الذي خلق الله تعالى الإنسان من أجل ذلك، فتوفق لممارسة العمل العبادي بالنحو المطلوب.

ومن خلال استعراضنا لهذه النظرية الأرضية ومقارنتها بالتصور الإسلامي يهدي إلى تقرير الحقيقة القائلة بأن مهمة التربية هي تنشأة الكائن الآدمي أو تدريب الشخصية على تعلّم السلوك العبادي، وإذا افترضنا أن الشخصية تصدر في سلوكها العام عن الجانب الشهواني حينئذٍ فإن تدريبها على ممارسة الجانب الآخر من السلوك وهو الإشباع العقلي، يعني ذلك أن الشخصية سوف ترتطم بالأخلاق في تعلّم أي سلوك جديد يتفق مع المبادئ والضوابط التي تفرضها طبيعة الحياة على الشخصية.

على أية حال نبدأ في محاضراتنا اللاحقة بالحديث عن عناصر التربية وفق التصور الإسلامي لها، وفي مقدمة ذلك عنصر الوراثة والبيئة وإسهامهما في الميدان التربوي على النحو الذي سنوضحه لاحقاً..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..