mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 13.doc

تحدثنا في محاضرة سابقة عن التصور الإسلامي والأرضي للسلوك من حيث انشطاره إلى سلوك سوي وسلوك شاذ حيث قلنا أن العمليات التربوية تأخذ بنظر الاعتبار أمثلة هذه التصنيفات حتى تنشئ الشخصية وفقاً للسلوك السوي المطلوب، وقلنا أيضاً أن كلاً من التصورين الأرضي والإسلامي يتفقان في تحديد معالم السوية والشذوذ ولكنهما يفترقان في خط آخر هو أن التصور الإسلامي للسلوك يضيف إلى التصور الأرضي خطاً آخر وهو يتسم بأهمية بالغة، ونعني به الخط الفكري أو العقائدي أو الأيديولوجي، أي أن التصور الإسلامي للسلوك بنمطيه السوي والشاذ يأتلف مع التصور الأرضي في نظرتهما إلى مفردات هذا السلوك الشاذ أو السوي، ولكن الإسلام يضيف إلى ذلك المبادئ الفكرية التي تعني أن مفهوم الاستواء في التصور الإسلامي هو الالتزام بهذه المبادئ بالإضافة إلى المبادئ التي يلتزم بها البحث الأرضي.

على أية حال حدثناكم عن ذلك مفصلاً ورسمنا الخطوط العامة للتصورين بالنسبة إلى مفهومي السلوك الشاذ والسوي ووعدناكم بأن نحدثكم عن مفردات كل من السلوكين، وهذا ما نبدأ به الآن، ونبدأ ذلك بالحديث عن التصور الأرضي لمفردات السلوك بنمطيه الإيجابي والسلبي أو السوي والشاذ. وقبل أن نحدثكم عن ذلك نود أن نشير إلى أن كلاً من علم النفس المرضي وعلم النفس السوي بالنسبة إلى البحوث الأرضية يتكفلان بتحديد مفردات السلوك وتصنيفه، بيد أن الملاحظ أن الأول منهما - أي علم النفس المرضي - في الغالب هو الذي يستأثر باهتمام علماء النفس، أي أن العصاب غالباً يشكل المادة التي يحوم عليها نشاط الباحثين.

طبيعياً إن تحديد أصناف العصاب ينطوي ضمناً على فهم ما يضادها من مبادئ السلوك السوي، وتبعاً لذلك قد تنتفي الحاجة إلى الحديث عن أصناف السلوك السوي، لكننا مع ذلك نواجه عناية الباحثين حيال التعريف بمبادئ السلوك السوي بحيث يشكل أمراً لافتاً للنظر وبخاصة في البحث المتصل بسمات الشخصية وما يصاحب ذلك من اللجوء إلى الأقيسة والاختبارات التي تقيم الشخصية من حيث الموازنة بين السمات المرضية والسوية لديهما.

هذا بالإضافة إلى أن كتب علم النفس والتربية مشحونة بالحديث عن مبادئ الصحة النفسية، وهذا يعني أن علماء التربية وعلماء النفس يعنون بعلم النفس السوي بنفس العناية التي يعنون بها بالنسبة إلى علم النفس المرضي، ولكن مع ذلك فإن علم النفس المرضي يستأثر بعناية تلفت النظر.

على أية حال نبدأ الآن فنحدثكم عن مفردات السلوك السوي والشاذ ونبدأ ذلك أولاً بالحديث عن التصور الأرضي لهذه الجوانب، ويمكننا أن نذهب إلى أن تصنيف السلوك من حيث مفرداته المتنوعة يأخذ لدى الباحثين الأرضيين جملة مستويات منها:

أولاً:التصنيف العام للأمراض النفسية أو العصاب، وتصنف هذه الأمراض النفسية عادةً إلى:

1- عصاب القلق.

2- عصاب الكآبة.

3- عصاب الخوف.

4- عصاب الهستيريا.

5- عصاب النونوستانيا.

6- الحصر القهري.

7- الوسواس.

ويلاحظ أن هذا التصنيف يتناول أمراضاً بأعيانها تتمثل إما بتوتر عام يصيب الشخصية حيث نجد أن هذا التوتر قد يكون قلقاً غير عادي تصحبه حساسية ومخاوف لا مبرر لها وهذا ما يجسّد مصطلح عصاب القلق، وقد يكون التوتر كآبةً يصحبها إحساس بالعجز واليأس وفقدان الثقة، وهذا ما يرتبط بعصاب الكآبة. وقد يكون التوتر خوفاً غير عادي من المرتفعات والمياه والدماء والنيران وسواها وهذا ما يرتبط بعصاب الخوف. وقد يكون التوتر حصراً قهرياً يجد المريض نفسه من خلال ذلك مرغماً على أن يمارس أفعالاً أو ألفاظاً أو أفكاراً مؤلمة لا يستطيع مقاومتها وهذا فيما يرتبط بعصاب الحصر القهري، وهكذا سائر الأمراض التي تقدم ذكرها.

ومن البين أن مثل هذا التصنيف يتناول الشخصية من حيث اختلال جهازها الوظيفي وتعطل أحد أجزائه عن وظيفته الاعتيادية، هذا واحد من التصنيفات الأرضية للأمراض النفسية المسماة بالعصاب. وثمة تصنيف ثانٍ يطلق عليه مصطلح فعاليات الدفاع، وهذا التصنيف يتناول مجموعة ما يسميه صاحب التحليل النفسي بحيل الدفاع، حيث تشكل هذه الفعاليات جملة من الأعراض التي تسم المرضى فيما يضمّهم التصنيف السالف، إلا أنه يمكن أن يعد طابعاً مرضياً تستخدمه الشخصية بنحو لا شعوري لإزاحة توتراتها، ومن هذه الحيل مثلاً الإسقاط، وهو أن يلصق المريض عيوبه بالآخرين كالبخيل الذي لا يعي مصدر شذوذه فيسقط ذلك على الآخرين ويتهمهم بالبخل.

ومن هذه الحيل التسويغ، وهو محاولة إيجاد العذر للسلوك المعيب الذي يسم الشخصية المريضة وهذا كالفاشل في اختباره المدرسي مثلاً يسوغ فشله بأنه ناجم من انشغاله ببعض الظروف الطارئة أو عدم أهمية الاختبار، ومن هذه الحيل النكوص وهو ارتداد الشخص إلى سلوك طفولي في حالة مواجهته لإحباطات مختلفة، مثل اجتلاب العطف أو البكاء أو .. الخ. وهكذا سائر الحيل الدفاعية التي لا نجد ضرورة لأن نعرضها الآن.

وهناك تصنيف ثالث للأمراض وهو التصنيف الذي يتناول الأمزجة، أي هو تصنيف يتناول أشكال الأمزجة للآدميين من حيث صلتها ببنية الشخصية كالتصنيف الإغريقي المعروف للأمزجة الأربعة الدموي والصفراوي والبلغمي والسوداوي. وكالتصنيفات الحديثة الكثيرة لأشكال ثنائية وثلاثية أو رباعية.. الخ. يحاول الباحثون من خلالها أن يوجدوا الصلة بين التركيب الجسمي والمزاج كالصلة مثلاً أو كإيجاد الصلة مثلاً بين الشكل الجسمي البدين وبين ميل صاحبه إلى بعض أنماط السلوك وهكذا..

ومن البين أن مثل هذا التصنيف للأمزجة يتناول نمطي السلوك العصابي والسوي أيضاً، ولكنه في حالات الاختلال العقلي أو النفسي يربط الباحثون بين الأمزجة المذكورة وبين أمراض العصاب التي تقدم ذكرها في التصنيف الأول، وبين أمراض الذهان أي الجنون أيضاً.

وهناك تصنيف رابع يطلق عليه (التصنيف العام للسمات) وهذا التصنيف يتضمن مجموعة من السمات يختلف الباحثون الأرضيون في تحديدها من واحدٍ إلى آخر، حيث يمثل السمات طابعاً عاماً يميز هذا الفرد أو ذاك، ومن أمثلته مثلاً التصنيف الثنائي ليونغ فيما يصنف الأطفال إلى انطوائيين بعامة أو انبساطيين، وتصنيف البوك الثلاثي لسمات الشخصية، حيث يذكر أن هناك سمة رئيسة تطبع مجمل سلوك الشخصية، وأن هناك سمات مركزية ما بين خمس سمات إلى عشر سمات تبرز بوضوح في سلوك الشخصية بالإضافة إلى وجود سمات ثانوية متنوعة. وهناك تصنيف لكارتيل لسمات الشخصية العامة يتراوح بين الخمس والخمس والعشرين، كالسيطرة مثلاً وضدها الخضوع، والشجاعة وضدها الجبن، والمرح وضده الاكتئاب وهكذا..

وأخيراً هناك تصنيفات عامة لمجمل السلوك وهي تتضمن قوائم بالسلوك في مختلف مستوياته سواء أكان السلوك انفعالاً أو مزاجاً أو خلقاً، والتصنيفات الأخيرة أي المزاج والسمات ومجمل السلوك تتناول عادةً من خلال التقابل بين ما هو شاذ أو سوي، كما تتناول من حيث تداخل بعضها مع الآخر، فضلاً عن أنها تتناول من حيث تقسيمها إلى ما هو رئيس أو فرعي أو ثانوي.. الخ.

وبنحوٍ عام فإن هدفنا الآن من هذا العرض السريع جداً لتصنيفات البحث الأرض أن ننتهي منها إلى التصنيف الإسلامي للسلوك وملاحظة تصوّره للمفردات العصابية والسوية من خلال المقارنة بينها وبين البحث الأرضي، والآن ما هو التصنيف الإسلامي للسلوك، هذا السؤال يطرح الآن للإجابة عنه بقولنا إن التصنيف الإسلامي للسلوك يتحدد بوضوح في نمطين أشرنا إليهما تكراراً وهما الشهوة والعقل والذات والموضوع أو الشذوذ والسوية.

أما مفردات الشذوذ والسوية فإن كلاً منها يخضع لنمط خاص من التصنيف الإسلامي فالشذوذ يتناول كلاً من الذهان والعصاب، أما الذهان فإنه يتناول من زاوية الطب العقلي بنحو مستقل، وأما العصاب فإنه يمثل ذخيرة حية يتوفر المشرع الإسلامي على دراستها بنحو ,وافر حتى ليشمل كافة الأوامر والنواهي المتصلة بجوانب النشاط المادي والعقلي وحيث ترتكن صياغتها جميعاً إلى التدريب على ما هو سوي من السلوك واجتناب ما هو عصابي منه، وهذا هو هدف التربية الإسلامية. وملاحظة هذا الجانب يتخذ نمطين من التناول:

أحدهما يمكن استخلاصه من مجمل مبادئ الشريعة فيما نحدثكم عنه لاحقاً، والآخر يتمثل في عملية التصنيف لمفردات السلوك، وهذا ما نتحدث عنه الآن بشيءٍ من التفصيل نظراً لأهميته من حيث المقارنة بينه وبين البحوث الأرضية التي تعنى بتصنيف السلوك إلى مستويات سبق أن أشرنا إليها.

والآن نتقدم إليكم بعنوان هو (تصنيف العصاب): وفي هذا المجال نقول:

يخضع المشرع الإسلامي العصاب لأكثر من تصنيف ولأكثر من منهج فالمشرع يصنفه كما قلنا حيناً من الزاوية النفسية الخالصة، على نحو ما هو مألوف في الأبحاث الأرضية سواء أكان ذلك متصلاً بالأمراض العامة أو الأمزجة أو السمات، كما يصنفه حيناً ثانياً من الزاوية الفكرية الخالصة، أي الزاوية العبادية الخالصة،ويصنفه حيناً ثالثاً من الزاويتين رابطاً بين العصاب النفسي والعصاب الفكري جاعلاً منهما وحدة لا انفصام بين جزئياتها، ومستويات التصنيف المذكور تتخذ حيناً شكل قوائم شاملة مستوعبة لكل مفردات السلوك، وتتخذ حيناً آخر رقماً غير محدد قد يكون واحداً أو أكثر، وقد يصاغ في ثنائيات أو ثلاثيات أو رباعيات.. الخ، حسب السياق الذي ترد المعالجة من خلاله. ويهمنا من المستويات المذكورة أن نشدد في إبراز الجانب النفسي من التصنيف ومن ثم إبراز وحدة العصاب النفسي والفكري بصفة أن هذين الجانبين يبلوران مفهوم العصاب في التصور الإسلامي وافتراقه عن التصور الأرضي بنحوٍ متميز وبخاصة الجانب الأخير، أي وحدة العصاب الفكري والنفسي حيث سنجد أن التصنيفات الإسلامية في هذا الجانب، حتى في تناولها لمسائل فكرية صرفة نجد أن بعض هذا التصنيف تخضع ذلك إلى بعدٍ نفسي صرف كالقلق أو الخوف أو الكآبة أو.. الخ. وتجعل ذلك مصدراً للمرض النفسي ومن ثم مصدراً للمرض الفكري أو العقائدي أيضاً، وهذا جميعاً ما سنحدثكم عنه الآن.

ونبدأ ذلك بالحديث عن عنوان جديد هو (وحدة العصاب)؛ ونقصد بوحدة العصاب هو أن كلاً من العصاب النفسي والفكري أو العقائدي يظلان في الواقع عصاباً واحداً له جذره المرضي، أي لا فرق بين عصاب كالخوف أو القلق أو الكآبة وبين عصابٍ كالكفر أو المعصية حيث أن هذه العصابات أو الأعصبة جميعاً تنتسب لجذر مرضي واحد، ولعلّ أبرز المعالجات التي تتناول الصلة بين المرض النفسي والمرض الفكري هي معالجة الإمام علي  (عليه السلام) في نص يوازن فيه بين ثلاثة أنماط من السلوك هي:

أولاً: الكفر.

ثانياً:النفاق.

ثالثاً: الإيمان.

طبيعياً أن كلاً من الكفر والإيمان يجسدان المرض في حين أن الإيمان يجسد السلوك السوي، إلا أن ما يعنينا هو أن الإمام علياً (عليه السلام) جعل كلاً من الاتجاهات الفكرية الثلاثة قائماً على أساس نفسي صرف، وهذا هو ما يلفت الانتباه كل اللفت، حيث جعل الإيمان قائماً على أساس نفسي سليم وهو السوية، وجعل الكفر والنفاق قائمين على أساس نفسي مضطرب ونعني به الشذوذ أو المرض النفسي أو نعني به العصاب.

ومن الواضح أن الكفر هو رفض الاعتقاد صراحةً بوجود المبدع لهذا الكون وتعاليمه، أما النفاق فهو بدوره رفض للمبدع وتعاليمه ولكنه رفض غير صريح بل رفض باطنيِ تمليه المصلحة الذاتية على صاحبه بأن يظهر خلاف ذلك، والمهم أن كلاً منهما يمثل أسلوباً مرضياً في التعامل مع السماء وتعاليمها، والآن ما هي الأسس المرضية لهذا التعامل، لنقرأ ما كتبه الإمام علي (عليه السلام) في هذا المجال ولنبدأه بالحديث عن الكفر حيث يقول (عليه السلام):

(بني الكفر على أربع دعائم: الفسق والغلو والشك والشبهة، والفسق على أربع شعب: على الجفاء والعمى والغفلة والعتو، والغلو على أربع شعب: على التعمق بالرأي والتنازع فيه والزيغ والشقاق، فمن تعمق لم ينته إلى الحق ولم يزده إلا غرقاً في الغمرات ولم تنحسر عنه فتنة إلا غشيته أخرى، ومن نازع في الرأي وخاصم شهر بالحمق من طول اللجاج.. والشك على أربعة شعب: على المرية والهول والتردد والاستسلام، والشبهة على أربع شعب: على إعجاب بالزينة وتسويل النفس وتأويل العود والحق بالباطل).

لاحظوا أن هذا النص يتضمن عشرين نمطاً من مفردات السلوك كلها تنتسب إلى المرض أو العصاب بمعناهما الأرضي أو العلماني، دون أن يتضمن أي نمط من السلوك بالموقف الفلسفي من الحياة، أي الموقف العبادي، فالغلظة في الطبع مثلاً والفظاظة في الخلق والخرق في التعامل وعدم الصلة والبر والرفق.. كلها إفصاح عن الجفاء الذي جعله الإمام علي (عليه السلام) أول سلوك من شعبة الفسق، وأول دعامة من الكفر، فهذه الأنماط من السلوك تظل ذات طابع نفسي صرف ما دامت تتصل بالنزعة العدوانية من غلظة وقسوة ونحوهما، فيما تقف هذه في أعلى السلم من إفرازات العصاب كما هو واضح.

وأما الدعامة الثانية من الكفر فقد مثلها الإمام علي (عليه السلام) في الغلو وفرّع عنها أنماطاً من السلوك كالتعمّق والتنازع.. الخ. ومن الواضح أن الغلو بعامة هو مبالغة الشخصية في تعاملها مع الظواهر وتحميل ذلك أكثر من الواقع، بما تستتليه من عناد ومخاصمة ودخول إلى عوالم الوهم والتداعي المريض في الاستجابة، حيث يقول الإمام (عليه السلام): (لم تنحسر عنه فتنة إلا غشيته أخرى) وهذا هو التداعي. فلاحظوا هذه الأنماط من السلوك تعرفها علم النفس المرضي بنحو واضح لا يحتاج إلى التعقيب.

أما الدعامة الثالثة فتقوم على ظاهرة الشك، ولا حاجة أيضاً إلى أن نعقب على مفهوم الشك وانتسابه الواضح إلى العصاب في سريانه وراء عصاب القلق والحصر والهستيريا.. الخ.

وأما الدعامة الأخيرة فهي الشبهة، وهي بدورها واضحة بدوركم حيث أن صلتها بالأمراض النفسية من الوضوح بمكان ما دامت لا تتعامل مع الظواهر بنحوها السليم، أي الشخصية التي تتعامل مع الشبهة لا تتعامل مع الظواهر بنحوها السليم بقدر ما يتعامل المريض من خلالها مع أوهامه حيث يتأول كما يقول الإمام ويتسول ويلابس.. إلى آخر القائمة التي ذكرها الإمام دون أن يستبصر حقيقة سلوكه القائم على رواسب قاتمة غائبة عن وعيه، أي الرواسب اللاشعورية التي يحياها.

إذن هذه القائمة المتضمنة عشرين نمطاً من السلوك تجسد سمات المرض بالنحو الذي يقره علم النفس الأرضي تماماً، مما يفسر لنا بوضوح أن الشخصية الكافرة، أي غير المؤمنة بالله تعالى إنما تنطلق من أسس نفسية مريضة في سلوكها حيال موقفها من الله سبحانه وتعالى، ومن ثم يعني ذلك أن العصاب النفسي والفكري يشكلان وحدةً لا انفصام لها.

وهذا بالنسبة إلى ما لاحظناه من التقسيم للسلوك المرتبط بالكفر، وأما التقسيم المرتبط بالنفاق بصفته شطراً آخر من الكفر، فينتسب بدوره إلى أسس نفسية مريضة في التعامل مع السماء، فالنفاق بعامة يعني تقمّص الشخصية وارتدائها قناعين مختلفين، ولا أدل على طابعها المرضي من انتسابها إلى ما يسميه أحد علماء النفس المعاصرين بـ(الشخصية النفعية)، وهي واحدة من أنماط أربعة يسمها الباحث المذكور وهو فرون بسمات الانتهازية والحقد والتحايل والغيرة وهذه السمات لمطلق الانتهازيين، وقد قدم الإمام علي (عليه السلام) وصفاً من الدقة بمكان كبير للنفاق ضمنه أيضاً عشرين نمطاً من السلوك، تقوم هذه الأنماط بأكملها على أسس نفسية مريضة، واعتبرها خلفية للموقف الفلسفي من الكون متجسداً في شخصية المنافقين الذين يرتدون قناعين في موقفهم من السماء، ولنقرأ ما كتبه الإمام علي (عليه السلام) في هذا المجال، فيقول (عليه السلام):

(النفاق على أربع دعائم: الهوى والهوينة والحفيظة والطمع،  والهوى على أربع شعب: على البغي والعدوان والشهوة والعصيان، والهوينة على أربع شعب: على الغيرة والأمل والهيبة والمماطلة، والحفيظة على أربع شعب: على الكبر والفخر والحمية والعصبية، والطمع على أربع شعب: على الفرح والمرح واللجاجة والتكبر).

هذه القائمة من أنماط السلوك تحدد بوضوح أصول النفاق الفكري، أي الموقف الفلسفي المنافق حيال السماء وكلها تقوم على أعراض مرضية لا تحتاج إلى التعقيب في وضوح صلتها بالعصاب النفسي، فأنتم تلاحظون أن العصبية والحمية والكبر والمماطلة والخيلاء.. الخ. تعد من الأمثلة الواضحة في حقل الأمراض النفسية مما يعني أن أي موقف منافق حيال رسالة الإسلام إنما يستند في خلفياته إلى سمات الشخصية العصابية، وليست الشخصية السوية ويعني من ثم أن العصاب الفكري والنفسي يشكلان وحدةً لا ينفصم أحدهما عن الآخر، على أن مما تجدر ملاحظته هو أن الفارق بين العصابين الكفر والنفاق إنما يستند إلى الفارق بين نمطين من الاستجابة المريضة خلال ظواهر الحياة، فهناك استجابة مريضة تتصل باضطرابات التفكير كالعمى والغفلة والشك والشبهة والالتباس وسواها من القائمة التي لاحظناها متضمنة لأصول الكفر، ولكن يقابلها ما لاحظتموه من الاستجابة النفعية التي تتعامل مع الظواهر بمقدار ما تحققه من إشباع مريض لحاجات الذات كاللعب واللهو والأمل والاضطراب.. الخ. وسواها من أنماط السلوك التي تضمنتها قائمة أصول النفاق لذلك يتعين علينا أن ندرك مدى الدقة التي انطوت عليها ملاحظة الإمام علي (عليه السلام) في تفرقته لنمطي العصاب الكفري والنفاق، فالكافر تنسحب اضطرابات تفكيره مع ظواهر الحياة التي يحياها على نمط تفكيره أيضاً حيال موقفه من الله سبحانه وتعالى، فالأعمى لا يبصر حقائق الحياة، والغافل تحتجزه غفلته عن الاستبصار والشاك يمنعه شكه من اليقين بالحقائق والمشتبه يزرع ضباباً حولها وهكذا..

فهذا التعامل مع الحقائق اليومية لدى الكافر ينسحب على تعامله أيضاً مع الله سبحانه وتعالى، فنجده ينطلق من نفس عماه في عدم استبصاره بحقائق السماء وينطلق من نفس غفلته عن حقائق الحياة حيال السماء والأمر نفسه بالنسبة إلى الشك بظواهر الحياة حيث ينطلق من هذا الشك ليشك أيضاً بحقيقة الله سبحانه وتعالى والأمر نفسه بالنسبة إلى الشبهة حيث تنسحب بدورها حيال حقائق السماء.

إذن العمى والغفلة والشك والشبهة وسواها من القائمة التي تضمنت عشرين نمطاً من أصول الكفر تظل تعبيراً عن اضطرابات التفكير بعامة، حيث تنسحب على اضطرابات التفكير حيال السماء أيضاً وتنقاد الشخصية في نهاية المطاف إلى الكفر، فإذا اتجهنا إلى قائمة النفاق لاحظنا أن الأصول النفسية للنفاق تنسحب بدورها على النفاق العقائدي من خلال تعامل المنافق النفعي مع الظواهر ونشدانه الإشباع المريض لحاجاته، لذلك نجد أن الإمام علي (عليه السلام) لم يضمن قائمة النفاق سمات الكفر مع أنهما يشتركان في صفات عامة لكل العصابيين، ولكنه ضمنها ظواهر تتصل بالتعامل النفعي مع الأشياء، فالمريض الباحث عن الإشباع للذات نفعياً يظل يعنى بالأمل ويغتر بما حققه من إشباع ويتهيب من الإحباط ويتجه إلى إشباع وهمي من خلال التكبر والوهم والتعصب وسواها، فهذا النمط من التعامل النفعي للمريض مع حقائق حياته اليومية ينسحب على تعامله مع حقائق السماء أيضاً فنجد هذا المريض حفاظاً على مكتسباته الاقتصادية والاجتماعية يعلن ظاهراً إيمانه بالسماء ولكنه ينهزم عند إعلان الجهاد مثلاً.

على أية حال يعنينا مما تقدم أن نشير إلى أن الاتجاهات الفكرية غير المرتبطة بالسماء، أي الموقف الكافر هذه الاتجاهات تظل في موقفها المذكور ذات صلة بجذور مرضية الأصل فيها هو أن تعاملها مع وقائع الحياة التي تواجهها الشخصية تنسحب على تعاملها مع السماء على النحو الذي أوضحنا وهذا ما يفسّر لنا وحدة العصاب النفسي والفكري عبر واحد من التصنيفات التي يقدمها المشرع الإسلامي لأنماط العصاب، إن أهمية التصنيف المذكور إلى أربعين مفردةً من أعراض العصاب تتمثل في عملية حصرها أولاً، أي ترقيمها في عدد محدد من المفردات، وهذا العدد لم نتوفر بمثله في تصنيفات البحث الأرضي بكل مستوياتها، وتتمثل أهميتها ثانياً في أنها تجسد أصولاً نفسية عامة تغلف البشر جميعاً من حيث انتسابهم إلى أحد قطبي الشخصية، الشهوة أو الذات، من حيث اقتيادها إلى الالتواء الفكري وليس هي مجرد مفردات من السلوك الذي يميز فرداً عن آخر بل تطبع جميع المنحرفين، وتتمثّل أهميتها ثالثاً في انشطارها إلى مجموعتين من الأصول النفسية أو إلى مجموعتين من الاستجابات التي تصدر عن المنحرفين كفاراً ومنافقين، وهاتان المجموعتان هما ضبابية الاستجابة ووضوحها. وهاتان الخصوصيتان هما إفراز الجانب الشهوي أو الذاتي من الشخصية لكل أشكالها.

ولكي نوضح معنى ضبابية ووضوح الاستجابة عند المنحرفين نقف من جديد عند التصنيف العصابي للأمراض وهي القلق والكآبة والحصر والوسواس والمخاوف.. الخ. فهذه الأمراض كما لاحظتم في عرضنا لها لا تخلو من استجابة مرضية تتسم بالضبابية لدى المريض، أي ضياع الخيط الذي يحقق لدى الشخصية إشباعاً تنشدها في عملية بحثها عن اللذة، فمثلاً الشخصية القلقة لا قرار لها، نتيجةً لعدم وضوح الأسباب المقلقة أولبس الأهداف التي تنشدها، وهي أهداف مضببة، كذلك الشخصية المتسمة بالكآبة حيث يلفها العجز واليأس وعدم الثقة نتيجةً للغموض المتقدم نفسه من حيث الأسباب التي تدفع المريض إلى هذا السلوك، ومن حيث الأهداف التي ينشد المريض تحقيقها، وأما الشخصية الخائفة فلا نعتقد أنها تحتاج إلى التعقيب. وأما الشخصية الحصرية والموسوسة نجدها مع الغموض الذي يلف استجابتها لا تحتاج أيضاً إلى التعقيب، لأن الموسوس يتعامل أساساً بغموض مع الظواهر التي يحياها والحصري تتسلط عليه الأفكار بشكل غامض، يجهل مصدر سلوكه وهدفه، إن الأفكار المتسلط عليه، أو الألفاظ التي يضطر أن يلوكها لا يفقه شيئاً عن المصدر الذي يدفعه إلى تسليط هذه الأفكار أو الألفاظ عليه، لذلك يتعامل معها بشكلٍ ضبابي وغامض.

وهكذا إذا اتجهنا إلى آليات الدفاع وهو النمط الثاني من تصنيفات البحث الأرضي نجد هذه الآليات جميعاً تخضع لنمطي الاستجابة المضببة أو الواضحة، فهي من جانب مضببة ما دامت أساساً تنبع من لا شعور الشخصية، فالفرد الذي يسقط عيوبه على الآخرين يظل جاهلاً مصدر تجاربه الطفولية التي رصدت في لا شعوره،والتي يقدم تسويغاً لسلوكه المعيب يظل متصفاً بالصفة ذاتها، والناكص نحو السلوك الطفلي محكوم بنفس الظاهرة أي لا يستطيع أن يقف على الأسباب اللاشعورية التي دفعته إلى هذا السلوك، وهذا بالنسبة إلى الاستجابة المضببة.

وأما بالنسبة إلى الاستجابة الواضحة فتتمثل في الواقع في وضوح الأهداف التي تنشدها الشخصية عند بحثها عن اللذة، وليس عند صدورها عن السلوك من حيث جذوره، ولعل أوضح الأمثلة في ذلك هو الشخصية السيكوباثية أو اللاجتماعية التي تتعامل بوضوح مع كل الظواهر، كالمنحرف جنسياً وكالسارق وكشارب الخمر وكالمعتدي.. الخ. فكل هذه الأنماط حينما تتعامل مع ظواهر الجنس والسرقة وو.. إنما يتسم تعاملها لوضوح الاستجابة النفعية لديها، أي أنها تنشد الإشباع العاجل بأي ثمنٍ كان في سبيل أن تحقق هذا الإشباع من خلال الخمر مثلاً أو السرقة أو نحوهما، ومع أن مثل هذه الشخصية من الشخصيات المريضة السابقة أي القلقة والكئيبة والحصرية والموسوسة والخائفة، مع أن هذه الشخصية تشترك مع الفئات السابقة من حيث ضبابية المصدر من وراء سلوكها، إلا أن الطابع العام لاستجابتها يتمثل في كون هذه الاستجابة واضحة من حيث الإشباع الذي تلح على تحقيقه بينما كان الطابع العام في الفئات السابقة هو ضبابية أو تمزق استجابتها من حيث التوتر الذي تحياه دائماً.

إذن كل أنماط السلوك العصابي لا تخلو من إحدى استجابتين على النحو الذي أوضحناه، وهذا كله من حيث انشطار الأصول النفسية إلى مجموعتين، أما من حيث ترقيمها في أربعين مفردة فإن ذلك مفصح عن أن كل أنماط السلوك العبادي والمتصل بالموقف الفكري أياً كان نمطها لا يخلو من واحد أو أكثر من الأصول المذكورة، وأنها تشكل جذوراً لها، على أن أهم ما ينبغي لفت الانتباه إليه الآن هو حصر السلوك العصابي في نمطين لم يلتفت إليهما أي باحث طوال تاريخ علم النفس المرضي ونعني بهما الكفر والنفاق، أي أن السمات العصابية التي يحددها علماء النفس في قوائم أو يصنفونها وفق فعاليات دفاعية أو أمراض عامة أو أمزجة أو غيرها، كل هذه التصنيفات تغفل عن إمكان حصرها في سلوكين رئيسين عامين يتفرع عنهما كل مفردات السلوك، فالعصاب إما أن يكون كفراً أي نكراناً لحقائق الحياة وارتباط ذلك بمبدع هذه الحياة وهو الله سبحانه وتعالى، أو نفاقاً أي بحثاً عن إشباع ذاتي، وكلاهما بإقرار قول علماء النفس مرض، فالمنكر للحقائق يحيا في عالم الوهم وهو سمة رئيسة للمرض، والباحث عن الإشباع يحيى في عالم الذات وهو سمة رئيسة أيضاً أي أن السمتين الرئيستين هما اللتان يتفرع عنهما أنماط السلوك.

إذن نلفت الانتباه للمرة الجديدة إلى أهمية هذا النص للإمام علي (عليه السلام).

وقد لاحظنا أن هذا التصنيف إلى أربعين مفردة لكل من الكفر والنفاق، إنما كان يتناول الأصول النفسية للعصاب، وللإمام علي (عليه السلام) نفسه تصنيف ثالث أيضاً يتضمن عشرين مفردةً ولكنها تصنيف للسلوك السوي متمثلاً في الإيمان حيث نجد أن نفس المفردات التي رسمها للإيمان تنطوي على جذور نفسية نؤجل الحديث عنها إلى مجال آخر إنشاء الله. ونكتفي الآن بالحديث عن التقسيم الثنائي أو بالأحرى نكتفي بذكر التقسيم الذي قدمه الإمام (عليه السلام) لكل من الكفر والنفاق ونتجه إلى تقسيم آخر للإمام الصادق (عليه السلام) يتناول بدوره وحده الجذر النفسي والفكري للعصاب وهذا ما نؤجل الحديث عنه إلى محاضرة لاحقة إنشاء الله..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..