mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 02.doc

بسم الله الرحمن الرحيم  

تحدثنا في لقاء سابق عن مادة علم النفس وعلم التربية وأوضحنا في حينه مدى الفارقية بين هاتين المادتين من جانب ومدى الإلتقاء الدلالي فيما بينهما من جانب آخر، وانتهينا إلى أن علماء النفس وعلماء التربية يتفاوتون فيما بينهم في تحديد الفوارق بين هاتين المادتين من جانب، وفي تحديد نفس المادة أي التربية وعلم النفس من جانب آخر، إلا أننا انتهينا إلى أن ثمة خطوطاً عامة يمكن أن تشكّل مادة مشتركة بين هذين الضربين من المعرفة، حيث انتهينا إلى أن التنشئة أو بالأحرى إنماء القوى الموجودة في الإنسان إنماء هذه القوى نحو الكمال المطلوب هو هدف كل من التربية وعلم النفس بحيث يهدف عالم النفس إلى أن ينشئ الشخصية على ما يصطلح عليه بالسلوك السوي، وكذلك هدف عالم التربية أن ينشئ الشخصية أيضاً على تعلّم السلوك السوي، ولكن مع الافتراق أو التفاوت في مستويات السلوك المشار إليه حيث يندرج السلوك في سمات عقلية وسمات نفسية وسمات اجتماعية وسمات معرفية، وسمات فكرية.. الخ.

على أية حال إنما نود أن نشدد فيه هو أننا سنتحدث عن هاتين المادتين عبر مادة واحدة نعنى بها ألا وهي ما انتهينا إليه من التعريف الإسلامي للمادة التي نتحدث عنها وانتهينا إلى أن هذه المادة تتمثل في تدريب الشخصية على تعلّم السلوك العبادي من خلال التصور الإسلامي للسلوك. وتعلّم السلوك العبادي بالنسبة إلى التصور الإسلامي للسلوك يظل في الواقع متجانساً مع سائر الاتجاهات والأيديولوجيات التي تلحّ على تدريب الشخصية أيضاً على تعلّم السلوك السوي كل ما في الأمر أن السلوك السوي في التصور الإسلامي يشمل في الواقع الخطوط التي انتهى إليها البحث العلماني مضافاً إلى الخطوط العامة التي تجسّد مبادئ الإسلام، وبكلمة أخرى إن ما يصطلح عليه بالسلوك السوي أو السلوك المطلوب أو إنماء القوى الموجودة في الإنسان، إن إنماء هذه القوى نحو ما هو سوي من السلوك يشارك فيها كل من التصور الإسلامي والأرضي في تحديدها، ولكن التصور الإسلامي يضيف إلى ذلك تحديداً آخر هو الالتزام بمبادئ السماء على نحو ما فصلنا الحديث عنه في لقاء سابق، وعلى نحو ما سنفصّل فيه كثيراً إنشاء الله في محاضراتنا اللاحقة.

لكننا حسبنا الآن أن نبدأ في هذه المحاضرة ونتحدث عن الخطوط العامة التي تجسّد مفهوم التربية أو مفهوم علم النفس من خلال ما انتهينا إليه من أن التنشئة أو من تعلم السلوك العبادي المطلوب. والذي نعتقده الآن هو أننا سنتحدث عن مفهوم التربية ونجعله مفهوماً أكثر شمولاً وسعة من مفهوم علم النفس، وذلك لسببٍ واضح هو أن التربية بما أنها تعنى بإنماء جميع القوى الكامنة في النفس البشرية، حينئذٍ فإن إنماء هذه القوى ستتناول مطلق سلوك الشخصية ويدخل ضمنها السلوك المرتبط بالعلوم النفسية.

إن أول ما ينبغي أن ننتبه إليه في حديثنا عن التربية وعن إنماء القوى الكامنة لدى الإنسان، إن أول حديث عن هذا الجانب يتمثل في الحديث عن طبيعة التركيبة البشرية، فما دامت التربية تهدف إلى تنشئة الشخصية تنشئة مقبولة أو تنشئة سوية حينئذٍ فإن هذه التنشئة تظل مرتبطة في الواقع بطبيعة التركيبة التي يصدر عنها الشخص في سلوكه، إننا كبشر دون أدنى شك مركبون تركيبة خاصة هذه التركيبة الخاصة، تتناول الجانب العقلي والجانب المعرفي والجانب النفسي والجانب الاجتماعي والجانب الجسدي .. الخ. كل هذه الجوانب من الشخصية يتناولها مفهوم التربية أو التنشئة، ولذلك فإن هذا المفهوم التربوي ينبغي أن ينطلق أولاً من معرفتنا بطبيعة التركيبة البشرية التي نصدر عنها في سلوكنا، إن العلوم الإنسانية ما دامت تتحدث عن السلوك حينئذٍ فإن معرفة مصدر هذا السلوك تظل من الأهمية بمكان كبير، فمعرفتنا بطبيعة هذه التركيبة سوف تجعلنا دون أدنى شك قادرين على أن ننشئ الشخصية وفق ما هو مطلوب من السلوك ما دمنا على وعيٍ بطبيعة التركيبة البشرية التي نصدر عنها.

إن الحديث عن أصول الطبيعة البشرية يقودنا إلى أن نحدثكم من خلال لغة علم النفس حيث أن علم النفس كما أشرنا في المحاضرة السابقة يعنى بسلوك الكائن الآدمي في شتى مجالات نشاطه، إلا أن الزاوية التي يشدد عليها في مجالات النشاط تنحصر في العملية المتمثلة فيما يسمّى بالاستجابة مقابل أو قبالة أو حيال مثير أو محرك معين، ولقد استشهدنا في حينه بمثالٍ بسيط جداً وقلنا في حينه أن الشخصية عندما يساء إليها على سبيل المثال حينئذٍ فإن هذه الإساءة تشكّل مثيراً أو تشكّل منبّهاً وإن طبيعة ردنا على هذه الإساءة تمثل استجابة حيال المحرك أو المنبه المذكور.

وقلنا أيضاً أن الاستجابة قد تتحدد مثلاً في كوننا أن نرد الإساءة بمثلها أو نردّها بضعفين أو أن نسامح الشخصية أو أكثر من ذلك أن نردّها بالإحسان إلى الشخصية، في كل هذه الحالات نواجه المثير وهو الإساءة ونواجه رداً هو الاستجابة المقابلة أو الاستجابة المحسنة أو الاستجابة اللامبالية .. الخ.

والحق أن هذه العملية النفسية القائمة على الاستجابة مقابل المثيرات تتناول جانبين من تركيبة الشخصية:

الجانب الأول: هو الجانب الإدراكي كالتفكير والتحذير والتذكر والنسيان.

الجانب الثاني: يمثل جانباً وجدانياً كالإرادة والانفعال .. الخ.

فمثلاً حينما يتذكر أحدكم حادثة من الحوادث أو ينسى بعض تفصيلاتها أو يتخيّل جانباً من ذكرياتها في مثل هذه الحالة يكون كل من تذكركم ونسيانكم وتخيلكم متصلاً بالجانب الإدراكي من الشخصية، أما في حالة تحسسكم على سبيل المثال بالانشراح أو الانقباض أو اللامبالاة من استحضار تلك الحادثة حينئذٍ يكون كل من انشراحكم وانقباضكم أو لا مبالاتكم متصلاً بالجانب الوجداني من الشخصية. وفي الحالتين فإن العملية النفسية تقوم كما ذكرنا على هذه الاستجابة حيال المثير المشار إليه، لذلك فإن طبيعة التركيبة البشرية تقوم بأكملها أو بالأحرى تحوم بأكملها حول هذه العملية، والمطلوب الآن بعد إشارتنا إلى هذه العملية أن نوضح مهمة علم النفس في هذا الجانب ونقول في هذا الصدد أن المهمة التي يضطلع بها الباحث النفسي والتربوي هو في الواقع يتمثل في:

أولاً: تحديده للعمليات النفسية المشار إليها.

ثانياً: يتمثل في تنظيم هذه العمليات.

وفي ضوء هاتين المهمتين نبدأ الآن فنحاول أن نقدم وجهة النظر الإسلامية في هذا الميدان مقارنةً بوجهة النظر الأرضية حتى يستطيع الطالب أن يقف عند الفوارق أو عند نقاط التلاقي بين الاتجاهين الإسلامي والأرضي.

إن كل من يعنى بأصول الطبيعة البشرية سواء أكان ذلك في ميدان علم التربية أو علم النفس كل من يعنى بهذا الجانب سوف يشير أولاً إلى أن ثمة أصلاً عاماً يحكم السلوك البشري بشكل واضح وهو أصلٌ بديهي لا يكاد يجهله كل واحد منا ونعني به البديهة القائلة بأن الإنسان يصدر في تركيبته عن البحث عن اللذة والاستناد عن العلم بمعنى أن الكائنات البشرية جميعاً تصبر على المبدأ المذكور في نشاطها بأكملها، فمثلاً عندما نجوع نبحث عن لذّة هي الشبع، ونجتنب ألماً هو الجوع، وكذلك حينما تلفّنا العزلة مثلاً نبحث عن لذّة هي الانتماء الاجتماعي ونجتنب ألماً هو العزلة، وحتى حينما نختار العزلة على سبيل المثال فهذه العزلة في الواقع هي بحث عن لذة خاصة هي الهدوء الذي ننشده وهي اجتناب للألم المتمثل في الضوضاء والصخب وهكذا..

إن هذا المبدأ الباحث عن اللذة والمجتنب عن الألم إذا تجاوزناه في الواقع إلى مطلق سلوك البشر حينئذٍ نجد أن علماء النفس والتربية يقدمون وجهات نظر متنوّعة في هذا الصدد تتفاوت من باحثٍ إلى آخر دون أن يرسوا هؤلاء على مرفأ محدد في تذليل الأصول البشرية وتصنيفها، بيد أن ثمة وجهات نظر  أرضية لا مانع من الإشارة إليها حتى ننطلق منها من ثمّ إلى تحديد التصوّر الإسلامي حيال هذا الجانب.

ولعلّ الأصل القائل بأن الغريزة هي المجسّدة لمبدأ البحث عن اللذة ومبدأ الاجتناب عن الألم، هذه النظرية التي تقدم مصطلحاً هو الغريزة تجسد في الواقع واحدة من النظريات التي تحاول أن تفسّر العمليات النفسية التي نصدر عنها، وهذه النظرية تقول أن الكائن الآدمي يصدر عن مجموعة من الغرائز تدفعه إلى الحركة والنشاط، ومن أمثلتها بحثنا أو بالأحرى غريزة بحثنا عن الطعام وغريزة حبنا للاستماع وغريزة القتال .. الخ.

وهذه الغرائز هي في الواقع كما تجسدها النظرية المشار إليها تمثل نمطين من الغرائز، فهناك غرائز ذات أصل حيوي كالطعام والجنس والنوم ونحوها.. وقد تكون ذات أصل نفسي كالانتماء الاجتماعي والتقدير الذاتي والمقاتلة والخنوع و.. الخ. ولكن في الحالتين تظل هذه الغرائز في تصور هذا الاتجاه مشكلة إرثاً فطرياً يحمل البشر على التحرّك من خلالها، بيد أن هذه النظرية في الواقع تظل محكومة بأكثر من جانب سلبي في تصوّرها لمفهوم الغريزة وفي مقدّمة ذلك عدم اصطناعها للفارق بين الغريزة بمعناها الحيوي والغريزة بمعناها النفسي، حيث أن الغريزة في الواقع لا يمكننا أن ندرجها بنمطيه في خانة واحدة لأن الغريزة المتصلة بالجانب الحيوي كحاجتنا إلى الطعام أو الجنس، تفترق تماماً عن الغريزة النفسية كحاجتنا إلى التقدير الاجتماعي مثلاً، إن البحث عن الطعام يرتبط بغريزة حيوية لا مناص لنا من إشباعها، أي أننا نرثها فطرياً بدون أن تكون لإرادتنا دخل في ذلك، فالجوع يجسّد عملية تقلّص لعضلات المعدة، ولابدّ من إزاحة هذا التقلص من خلال إشباع خاص هو الطعام، ولا يمكن للشخصية أن تتخلّى عن هذا الإشباع من خلال ممارسة إرادة ونحو ذلك.. وهذا على العكس تماماً من الغرائز التي يمكن أن نصطلح عليها بالغرائز النفسية كغريزة التقدير الاجتماعي، أو غريزة المقاتلة ونحو ذلك..

والملاحظ أن نفس علماء النفس والتربية قد اضطلعوا بالرد على هذه النظرية من خلال إشارتهم إلى أن الأصل الحيوي كالبحث عن الطعام نرثه فطرياً كما قلنا، ولكن البحث عن التقدير الاجتماعي أو الصدور عن غريزة المقاتلة ونحوها مثل هذه الغرائز لا تشكّل جهازاً فطرياً يحمل الشخصية على البحث عن التقدير أو الحث على المقاتلة بقدر ما تكون المسألة خاضعة لنمط التربية التي تنشأ الشخصية عليها، وقد عزز هؤلاء العلماء وجهات نظرهم التي ترد على أن الغريزة لا يمكن أن تكون دائماً ذات أصل فطري بل إن جانباً منها يجسّد غريزة نفسية تكتسب من خلال التنشئة الاجتماعية عزز هؤلاء العلماء وجهات نظرهم في الدراسات التي أجراها أيضاً علماء الإناسة أو علماء الأقوام أو علماء الأنثربولوجيا على شعوب وقبائل متخلفة أثبتت فيها هذه الدراسات أن المقاتلة مثلاً والسيطرة وحب التملّك ونحو ذلك من الأصول النفسية، هذه الأصول هي منعدمة لدى القبائل المذكورة، فهذه القبائل تتسالم بدلاً من المقاتلة، وتسحق ذاتها بدلاً من حب السيطرة، وتتنازل عن ممتلكاتها بدلاً من حب التملّك وهكذا، وهذا كله يعني أن الأصول النفسية المشار إليها تحددها البيئة والتنشئة وليست غرائز يرثها الكائن الآدمي كما يرث غريزة الطعام والجنس والنوم ونحو ذلك..

ومع ذلك سنرى عند حديثنا عن التصور الإسلامي لهذه الظاهرة أن ما هو نفسي من الممكن أن نرثه فطرياً في سياقات خاصة نحدثكم عنها في حينه إنشاء الله تعالى.. إلا أن هذه التفصيلات سوف نتطرق عليها عندما نصل إلى البحث التربوي المرتبط بالعنصرين الوراثي والبيئي، إلا أننا استهدفنا الإشارة الآن فحسب إلى نظرية الغرائز التي قدمتها إحدى وجهات النظر الأرضية والردود التي اضطلع بها نفس العلمانيين بالنسبة إلى النظرية المشار إليها، لذلك نرى أنه من الأجدر أن نبدأ نحن الآن فلنقدم وجهة النظر الإسلامية لطبيعة التركيبة البشرية على أن نواصل ذلك بمناقشتنا لسائر النظريات العلمانية التي تترافق أو تتخالف مع التصوّر الإسلامي لطبيعة التركيبة البشرية.

إن التركيبة البشرية في التصور الإسلامي يمكننا أن نحدثكم عنها من خلال جملة نصوص تربوية أشار إليها القرآن الكريم من جانب وأشار إليها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من جانب آخر وأشار إليها المعصومون (عليهم السلام) من جانب ثالث.

ونبدأ الآن فنتحدث عن أصل نفسي يرتبط بطبيعة التركيبة البشرية حيث أوضح ذلك الإمام علي (عليه السلام) في إحدى ملاحظاته العيادية حيث قال (عليه السلام): (إن الله ركّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركّب في بني آدم كليهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شرّ من البهائم). ويعنينا من هذا النص التربوي أو النفسي المهم جداً أن نشير إلى الأصل النفسي لطبيعة التركيبة البشرية ثم إلى ثنائية هذا الأصل وهو الأشد أهمية، والحق نحن لا يمكننا أن ندرك دلالة المبدأ الذي أشرنا إليه في بداية حديثنا ونعني به المبدأ البديهي القائل بالبحث عن اللذة والاجتناب عن الألم إلا في ضوء أساسية الأصل النفسي وثنائية هذا الأصل على النحو الذي أشار الإمام علي (عليه السلام) إليه.

وكلكم يدرك تماماً أن البحث عن اللذة والاجتنابة عن الألم يظل محكوماً بجملة عناصر، فإذا استشهدنا بالمثال الذي سبق أن ذكرناه وهو البحث عن الطعام حينئذٍ إذا ربطنا هذا البحث عن الطعام لمبدأ البحث عن اللذة والاجتناب عن الألم فسوف نجد أن جملة عناصر تحكم هذا المبدأ:

العنصر الأول: هو إدراكنا لحالة الجوع التي نعانيها.

ثانيا: إحساسنا بالتوتر العضلي سعينا إلى إزاحة التوتر المذكور، مبيناً أن هذه العناصر جميعاً تظل ذات طابع نفسي في الواقع، إلا أن الأشد أهمية من ذلك كله هو أن المبدأ المذكور يحمل طابعاً ثنائياً لمفهوم الغريزة، أي يتمثّل في وجوده طرفين كما أشار الإمام علي (عليه السلام) يتجاذبان الكائن الآدمي في البحث عن اللذة وفي اجتنابه الشهوة والعقل كما اصطلح الإمام علي (عليه السلام) على ذلك، أو لنقل ذاته هو الموضوع أي أنه يشكل ونحو ذلك فإن هذا التركيب الثنائي في الواقع يرثه الفرد فطرياً، بمعنى أنه يشكل أساساً غريزياً للطبيعة البشرية العامة، وهذا الميراث الفطري من حيث بعده النفسي الذي أشرنا إليه يواكبه في الواقع ميراث فطري آخر من حيث البعد الإدراكي أيضاً ألا وهو الوعي بمبادئ الشهوة والعاطفة، حيث أن الآية الكريمة القائلة: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) هذا الإلهام للفجور والتقوى يعني بوضوح أننا جميعاً ندرك مبادئ الشهوة والعقل أو الذاتي والموضوعي أو الشر والخير، وإذاً كل من العنصر الإدراكي والعنصر الوجداني من الشخصية قد صيغ وفق تركيب ثنائي يقوم على وجود طرفين يتجاذبان الكائن الآدمي في بحثه عن اللذة واجتنابه عن الألم.

ولكي نقرّب هذا المعنى بشكل أكثر وضوحاً سوف نعيد المثال السابق الذي استشهدنا به بالنسبة إلى حدوث حالة الجوع، فنقول إن حدوث حالة الجوع تترك توتراً في النفس، وهذا التوتر يعني وجود الألم وحسب مبدأ الاجتناب عن الألم يبدأ الجائع فيبحث عن الطعام حتى يزيح التقلص العضلي للمعدة أي الألم، ثم الظفر باللذة وهي تحقيق الشبع فإن وجود التوتر يقودنا بالضرورة إلى أن نصطرع مع طرف آخر هو إزاحة التوتر، أي ما دام هناك توتر فإننا بحاجة فطرية غريزية إلى مجاهدته وإزاحته حتى نحقق الإشباع من الطعام، وما دمنا بالضرورة نبحث عن اللذة فإن البحث عن الإشباع لا مناص له من أن يزيح كل عثرة تقف أمامه وهذا بالنسبة إلى مثال واضح عن الحاجات الحيوية وإليكم مثالاً آخر عن الحاجات النفسية وهذا المثال أيضاً سبق أن قدّمناه لكم في لقاء سابق وهو حالة الإساءة إلينا حيث قلنا أن الشخص الذي يواجه إساءة من شخص آخر يجد أن ثمة توتراً سوف تحدثه هذه الإساءة في أعماقنا وبحسب مبدأ البحث عن اللذة، فإن إزاحة هذا التوتر وتحقيق الإشباع النفسي يتطلب منا أن نصدر عن واحدة من الاستجابات الآتية؛ فنحن إما أولاً أن نصفح عن الإساءة، وإما ثانياً أن نرد الإساءة بمثلها، وإما ثالثاً أن نرد الإساءة بضعفها، وإما رابعاً أن نحسن إلى صاحبها على عكس ما تقدم!.

وكل هذه الاستجابات في الواقع تنطوي على طرفين من الصراع فالرد على الإساءة بمثلها كما لو شتمنا شخص وشتمناه أيضاً تجسد محاولة لإزاحة الإهانة ثم محاولة لكي نشعر بلذة الانتقام، وأما آخراً بالنسبة إلى العفو والإحسان فإنهما يجسدان محاولة لكي نحقق توازناً داخلياً في أعماقنا أي لكي نبحث عن لذة هي الهدوء النفسي ولكي نزيح الألم الذي يتركه الرد على إساءة الشخص المذكور، وطرفا الصراع هنا كما تلاحظون هما جهاز القيم لدى الشخصية حيث تختار الشخصية السوية أو المتزنة تختار السلامة النفسية أو تختار الإثابة في مواجهتها لإزاحة الألم أي الإثابة من الله سبحانه وتعالى حيث يأمرنا بالصفح عن العدوان.

إذاً ثمة تركيبة ثنائية تشكّل الأصل النفسي الرئيس للطبيعة البشرية، يستوي في ذلك أن تكون هذه الطبيعة مرتبطة بالحاجات البيولوجية أو النفسية، والأهم من ذلك أن هذا البحث في الواقع يظل مرتبطاً بثنائية الطبيعة البشرية بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

هذا من جانب، ومن جانب آخر إذا أتيح لنا أن نتابع التصور الإسلامي لطبيعة التركيبة البشرية، حينئذٍ سوف نعود أيضاً إلى مقولات الإمام علي (عليه السلام) في ملاحظاته العيادية لهذا الجانب، حيث يمكننا أن نقول أن كلاً من الشهوة والعقل في التحليل الذي قدمه الإمام علي (عليه السلام) والطبيعة البشرية يجسدان أصلاً لكل أوجه النشاط، أي يجسد محركاً أساسياً للسلوك ومعنى المحرك أن كلاً منهما يبحث عن اللذة ويجتنب الألم، إلا أن ثمة فارقاً أساسياً بين الشهوة وبين العقل، حيث أن الشهوة قد تبحث عن الإشباع المطلق دون أن تخضعه للمبادئ أو الضوابط المقررة، أما العقل فهو بدوره يبحث عن الإشباع ولكنه يقيده بالمبادئ أو الضوابط المقررة، ولنعد إلى الأمثلة في هذا الصدد أيضاً؛ وسيكون المثال الذي نقدمه الآن إليكم هو مثال الحاجة البشرية إلى الجنس متجسدةً في الحاجة الحيوية أو الحاجة إلى التملّك متجسدةً في الحاجة النفسية، فبالنسبة إلى الحاجة الأولى الحيوية أي الحاجة إلى الجنس، إن الشخصية الآدمية عندما تواجه محركاً جنسياً حينئذٍ سوف يتجاذب هذه الشخصية طرفان، الطرف الأول هو الشهوة التي تبحث عن الإشباع المطلق، والطرف الثاني هو العقل الذي يبحث بدوره عن إشباع ولكنه إشباع مقيد، وبكلمة أكثر وضوحاً إن الطرف الأول من الشهوة فينشد الإشباع بطرق غير مشروعة، وأما الطرف الثاني فينشده من خلال الطرق المشروعة متمثلةً في الزواج، وهكذا بالنسبة إلى الحاجة النفسية أي الحاجة إلى التملك مثلاً، حيث أن الطرف الأول وهو الشهوة فينشد الإشباع فيمارس السرقة مثلاً، ولكن الطرف الآخر وهو العقل فيمارس هذه الحاجة أو يمارس محاولته لإشباع هذه الحاجة من خلال التقيد بالمبادئ التي تحكم سلوكه ألا وهو عمليه البيع والشراء مثلاً.

إذاً كل من طرفي التجاذب اللذين يحركان الكائن الآدمي، كل واحد من هذين الطرفين يتسم بطابع هو بحثه عن اللذة واجتنابه عن الألم، كل ما في الأمر أن الأول وهو الشهوة يبحث عن الإشباع بدون التقيد بمبدأ ما، والثاني يبحث عن الإشباع ولكن مع التقيد بمبدأ ما، إذاً كل من هذين المبدأين يحاول تحقيق الإشباع، ولكن طرق الإشباع تتميز كل واحدة من هذين الطرفين عن الآخر، حيث قلنا أن الطرف الشهواني يبحث عن الإشباع المطلق والثاني وهو العقل يبحث عن الإشباع المقيد، وهذان النمطان من الإشباع يعدان في الواقع مفترقاً للتصور الإسلامي لهذه الطبيعة البشرية والتصور العلماني للطبيعة البشرية متمثلةً في إحدى النظريات الحديثة التي تحدثت عن الطابع الثنائي للشخصية البشرية أيضاً ولكنها أخطأت تماماً في تحديدها لهذه العملية على نحو ما سنحدثكم عن ذلك لاحقا إنشاء الله.

إلا أننا نعتزم الآن أن نشير إلى هذه الحقيقة وهي أن كلاً من طرفي التجاذب أي الشهوة والعقل يجسدان بحثاً عن اللذة، وبحثاً عن الألم، كل ما في الأمر أن البحث الأول عن اللذة يقترن بالتقيد بالمبادئ والثاني لا يتقيد بالمبادئ، وهذا ما أوضحه الإمام علي نفسه في ملاحظة عيادية مهمة جداً هي على هذا النحو:

يقول الإمام علي (عليه السلام) عن الخطايا وهي اصطلاح يمثل الشهوة التي أشار إليه الإمام (عليه السلام) في النص السابق، يقول عن هذه الخطايا: أنها (خيل فرس حمل عليها أهلها، وخلعت لجمها)، ويقول عن الطرف الآخر من التجاذب وهو العقل ويصطلح عليه بالتقوى يقول: (التقوى هي مطايا ذلل حمل عليها أهلها، وأعطوا أزمّتها)، هذا النص له أهمية كبيرة جداً في ميدان البحث أو في ميدان دراسة الطبيعة البشرية القائمة على التجاذب بين طرفي الشهوة والعقل، حيث تمثّل هذه الملاحظة العيادية أهمية كبيرة جداً في ميدان التصوّر الإسلامي وافتراقه عن التصور العلماني في بعض نظرياته الحديثة، فأنتم لاحظوا جيداً من أصل متقدم يريد في الواقع أن يقول أن الشهوة أي البحث عن اللذة من خلال عدم تقيدنا بالمبادئ تمثل الخيل التي لا تنصاع أو لا تنقاد إلى راكبها، حيث أن اللجام الذي يسم هذه الخيول سوف ينفلت عن صاحبها ويكون صاحبها في الواقع غير مسيطر عليها، أي غير مقيد بأن يشبع حاجاته وفق المبادئ، فهو في بحثه عن الإشباع الجنسي يمارس على سبيل المثال العملية الجنسية غير المشروعة أي أن الشهوة تمثل لديه الخيل الشمس التي قد خلعت لجمها ولم تنصع لقياد حاملها.

وهذا على العكس تماماً من الطرف الآخر أي الشخص الذي يسيطر عليه عقله أو بالأحرى يسيطر عليه إشباعه للحاجة الجنسية من خلال المبادئ المشروعة متمثلة في الزواج كما قلنا، وهذا قد شبهه الإمام علي (عليه السلام) بالمطايا الذلل، أي الدابة الذليلة التي تعطى أزمّتها بيد الراكب، أي أن الراكب هو الذي يقود الدابة وليست الدابة هي التي تقود الراكب، في الحالة الأولى أي حالة البحث عن الإشباع غير المقيد بالمبادئ نجد أن راكب الدابة قد فقد سيطرته عليها بل هي الدابة التي سيطرت عليه وجعلته غير مسيطر عليها، وهذا على العكس تماماً من النمط الآخر الذي أعطي الزمام بيده يحرك الدابة التي هي الشهوة حيث يشاء، فيتقيد بمبادئ الإشباع ولا يلجأ إلى العملية الجنسية غير المشروعة.

إلى هنا يكون الإمام علي (عليه السلام) قد حدثنا عن طبيعة التركيبة البشرية القائمة على ثنائية الشهوة والعقل من جانب وعلى كون أن الجانب الأول لا يتقيد بالمبادئ التي تحقق إشباعه وإن الجانب الثاني بالمبادئ التي تقيد الإشباع.

وسنرى من خلال مناقشتنا للنظريات العلمانية مدى الفارق بين هذا التصور السليم لطبيعة التركيبة البشرية الذي أوضحه الإمام (عليه السلام) بالنحو المذكور وبين طبيعة التصور العلماني المخطأ على نحو ما نحدثكم عنه لاحقاً إنشاء الله. لكننا قبل أن نحدثكم عن ذلك ينبغي أن نشير إلى مقولة عيادية مهمة للنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث تلقي إنارة كاملة على هذه الظاهرة وهي قوله (صلى الله عليه وآله وسلم)  بالنسبة إلى تدريب الشخصية على ممارسة الجانب العقلي من اللذة وتجنبه للجانب الشهواني منها حيث يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن من المداومة على الخير تستتبع كراهية الشر) إن هذا النص العيادي للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يفصح عن قاعدة لا تزال غائبةً عن علماء التربية وعلم النفس بالنسبة إلى ما يرتبط بالجانب العقلي من اللذة، ألا وهي إمكانية النفور من الجانب الشهوي للذة في حالة كوننا ندرّب على تأجيل ما هو ملحّ وعاجل من الشهوة، فمثلاً بالنسبة إلى الشهوة الجنسية غير المشروعة إذا درّبنا أنفسنا في كل مرة على عدم الممارسة غير المشروعة حينئذٍ فإن النتيجة ستكون على النحو الآتي ألا وهي كراهيتنا لهذه العملية السلبية. وهكذا بالنسبة إلى الشهوة النفسية ومثالها الحاجة أو الشهوة المتمثلة في ممارسة الغيبة مثلاً، فنحن إذا كنا قد تعودنا على أن نمارس الغيبة أو البهتان أو العدوان اللفظي على الآخرين حينئذٍ إذا دربنا أنفسنا على الحالة المضادة ألا وهي الإقلاع عن أية ممارسة من الغيبة أو البهتان أو العدوان اللفظي فبتكرار هذه المحاولات حينئذٍ يتكوّن لدينا جانب نفسي هو نفورنا وكراهيتنا لممارسة الغيبة، وهذا أمر في الواقع يستطيع كل واحد أن يمارسه ويستطيع أن يبرهن على نجاحه في هذا المجال. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا دوماً إلى أمثلة هذه الممارسات التي تستتبع في نهاية المطاف كراهيتنا للشر.

إلى هنا نكتفي بالحديث عن طبيعة التركيبة البشرية وفقاً للتصور الإسلامي، على أن نحدثكم في محاضرتنا اللاحقة عن التصور الأرضي في بعض خطوطه حيث نجد مدى الفارق بين التصور العلماني والتصور الإسلامي في هذا الميدان وما تترتب عليه من نتائج خطيرة دون أدنى شك وهو أمر سنحدثكم عنه في محاضرتنا اللاحقة إنشاء الله تعالى..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..