mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 01.doc

بسم الله الرحمن الرحيم

المادة التي نتناولها هذا العام هي مادة التربية وعلم النفس وهذا المصطلح؛ أي مصطلح (التربية وعلم النفس) ينطوي على مستويين من الدلالة، الأول منهما أن كلاً من هاتين المادتين مادة علم النفس ومادة التربية تصبان في دلالة واحدة، ومن جانب آخر من الممكن أن نقول أن كلاً من هاتين المادتين ينطوي على دلالة خاصة تفترق عن أختها، إلا أن المادتين تشتركان في خطوط معينة في هذا الصدد.

لذلك فإن انتخاب مادة التربية وعلم النفس لم تأت اعتباطاً بقدر ما تشير إلى أحد هذين المعنيين الذين أشرنا إليهما أو إنه يكون مادة واحدة، وإما أن يكونا مادتين كل مادة تفترق عن الأخرى ولكنها تشترك مع نظيرتها في خطوط معينة من الدلالة، لكن ثمة سؤال مهم وهو أن نتمنى أن هاتين المادتين تعنيان دلالة واحدة إذاً ما معنى أن نجعل مصطلحين لمادة واحدة، ألا يعدّ دون أدنى شك عملاً عابثاً، ولذلك لابد لنا من أن نستخلص شيئاً آخر من دمج هاتين المادتين حيث تجدون أن كليات التربية على سبيل المثال طالما وضعت في مناهجها هذه المادة دون سواها طبعاً بالعنوان الآتي علم النفس والتربية أو التربية وعلم النفس.

وهذا يعني كما قلنا أن هاتين المادتين لابد وأن تنطويا على مادة مشتركة ومتجانسة، وإلا فإن مجرد وجود المادة المشتركة لا يكفي لدمجهما لأن العلوم الإنسانية كما سنرى ذلك في محاضراتنا اللاحقة العلوم الإنسانية تعلم الاجتماع وعلم التربية وعلم النفس وحتى السياسة والاقتصاد وو الخ.. كل هذه العلوم من العلوم الإنسانية في الواقع بينها خطوط مشتركة ولكنها في الواقع أيضاً يفترق كل خط منها عن الآخر، وتجتمع الخطوط الأخرى في نسيج معين من الدلالة سنعرض لذلك فيما بعد إنشاء الله.

المهم أن نقول أن هاتين المادتين (علم النفس والتربية) بالإضافة إلى أنهما يعدان مادة مشتركة في دلالتهما في بعض الخطوط بطبيعة الحال، أيضاً تعدان مادة متجانسة من حيث الدلالة، لكن السؤال المهم هو هل نستطيع ونحن نتحدث عن التربية الإسلامية أو عن علم النفس الإسلامي هل نستطيع أن نعتبر كلاً من هاتين المادتين التربية وعلم النفس نعتبرهما مادة واحدة دون أن نجد ثمة حاجة إلى أن نصطنع هذا الفارق بينهما؟

نعتقد أن طرح هذا السؤال من الأهمية بمكان كبير خاصة من خلال تصورنا الإسلامي للسلوك البشري، نحن نتحدث عن التربية أو عن علم النفس، وحتى عن العلوم الأخرى في الواقع إنما نتحدث عن السلوك البشري، كل ما في الأمر أن السلوك البشري يختلف كلاً منه عن الآخر في المجال الذي يختص به، ونحن كما قلنا أننا عندما نعتبر أن سلوكاً معيناً من أنماط السلوك البشري هو الذي تتناوله مادة التربية أو مادة علم النفس من خلال التصور الإسلامي حينئذٍ يمكننا أن نستغني عن المادتين والذين يعودا مثل مادة مثل علم النفس أو مادة واحدة باسم التربية وهذا ما نبدأ به..

نبدأ أولاً فنتحدث عن التربية؛ ترى ما المقصود من هذا المصطلح؟.

المقصود من التربية لغوياً بطبيعة الحال التنشئة تساوي التربية وهي بمعنى التجزئة هو أن ندرب الشخص على سلوك معيّن من أنماط السلوك، ونهذب هذا السلوك بالنحو المطلوب الذي يتجانس مع طبيعة الثقافة التي نحصل فيها على المجتمع، أو هذه الجهة أو تلك.

إذاً التربية معناها التنشئة لكن نجد أن التعريفات التي يقدمها علماء التربية في هذا المجال، فنجد أن التعريف لمادة التربية لا يختلف عن الإشكاليات التي ترد في مطلق العلوم الإنسانية، فأنتم تجدون أن مادة علم النفس أو مادة علم الاجتماع تقترن بمئات التعريفات، كل تعريف قد يفترق عن الآخر وقد يلتقي وإياه ولكن في الواقع أيضاً ثمة تعريفات قد نرى بعداً شاسعاً فيما بينها ومن ذلك التعريفات التي قدمت في مكان التربية، على سبيل المثال لو تناولنا كتاباً في علم التربية وليكن أحد الكتب الأوروبية، حيث نجد في هذا الكتاب عبر مقدمته جملة من التعريفات التي ينتخبها هذا الكاتب، من ذلك التعريف الذي يقول: التربية هي العمل الذي نقوم به لتنشئة طفلٍ أو شاب، وإنها مجموعة من العادات الفكرية أو اليدوية التي تكتسب، ومجموعة من الصفات الخلقية التي تكتسب، هذا تعريف.

تعريف آخر يقول: التربية هي علم يجعل غايته أن يكون الفرد من أجل ذاته، وذلك بأن يوقظ فيه ضروب ميوله الكثيرة، ونجد تعريفاً ثالثاً يقول: أن نجعل من الفرد أداة سعادة لنفسه ولغيره، ويقول آخر: أنها جميع ما نقوم به من أجل أنفسنا وما يقوم به الآخرون من أجلنا بغية الاقتراب من كمال طبيعتنا، وثمة تعريف آخر: التربية هي العمل الذي تحدثه الأجيال الوافدة في الأجيال التي لم تنضج بعد النضج اللازم للحياة الاجتماعية، وهناك تعريف آخر يقول: التربية هي مجموع العمليات التي يستطيع فيها مجتمع أو زمرة اجتماعية صغرت أو كبرت أن ينقل أهدافها المكتسبة بغية تأمين وجودهم الخاص ونموهم المستمر، وهناك تعريف آخر يقول: هدف التربية هو تنشئة الكائنات الإنسانية الكثيرة على الحرية والعدالة والسلم.

وفي هذه الأنماط من التعريفات تجدون ثمة ما يشير إلى تربية عامة كالتربية التي تشير إلى أنها تنمي لدى الإنسان ميوله التي يمتلك استعداداً خاصاً بها، وهناك من التعريفات ما يتناول الحياة القانونية للإنسان أو الحياة السياسية أيضاً كالتعريف الأخير الذي لاحظناه، طبيعياً ثمة تعريفات أخرى قد يختصر فحواها على تربية خاصة كالتربية الرياضية، أي التربية الجسدية أو التربية العلمية أو التربية النفسية أو التربية الروحية، وحتى التربية المهنية أو الحرفية الخ..

مقابل هذه التعريفات نجد تعريفات أيضاً تصب في موضوعات خاصة إما أن تتناول مرحلة معينة من مراحل العمر، كالتربية الخاصة بالأطفال حيث نجد تعريفات خاصة تشير إلى أن التربية هي ذلك العمل الذي يقوم به المعلم أو المدرّس لتنشئة طفل، وقد يتجاوز التعريف ظاهرة الطفل إلى ظاهرة المراهق أيضاً وقد يتجاوز ذلك إلى سائر مراحل العمل، كما ورد عن التعريف الذي يقول أن التربية تبدأ من الولادة إلى الموت.

إلى جانب ذلك نجد تعريفات لا تتناول مرحلة معينة من العمر أو ما يسمى بالدراسات التتبعية بل تتناول مجالاً خاصاً ضمن مجالات الحياة كالمجال المدرسي على سبيل المثال، ولعل أكثر الجهود المنصبة في ميدان التربية نجدها تتمثل في التربية الخاصة بالتربية المدرسية، أي أن ثمة مادة علمية تختصّ بها التربية وتركّز جهودها على مسألة الطالب والمعلم، والمادة الدراسية وما يتصل بذلك، وطبيعي أن ثمة هدف تربوي آخر يتجاوز العلاقة الخاصة بين التلميذ والدرس ومعلّمه في ميدان المعرفة البحتة، ويتجاوز ذلك إلى ميدان السلوك العام أيضاً أي السلوك الأخلاقي والنفسي والروحي الخ..

وإذا حل غالبية الدراسات الحديثة تتناول هذا الجانب الأخير من التربية، أي التربية الخاصة بالمدرسة وملحقاتها، لكن نود أن نلفت النظر أيضاً إلى أن ثمّة اتجاهاً أحدث، هذا الاتجاه وجد في السنوات الأخيرة ويبدو وكأنه أصبح رد فعل لهذا الاتجاه الذي يشدد في مسألة المدرسة وما يواكبها من نشاط، هذا الاتجاه الجديد وصل إلى حدٍّ يبدو أن بعضاً من المربين المعاصرين يؤلف كتاباً خاصاً وداعاً أيتها المدرسة، أي أن هذا الاتجاه يظل على تناقض أو تضاد حاد بين الاتجاه السابق الذي أشرنا إليه وهو الاتجاه المدرسي في التربية، وبين الاتجاه الأحدث الذي يشير إلى أن المدرسة أساساً لا يمكن أن تكون ميداناً للتربية بل نجد أن هؤلاء الذين يشددون على محاربة المدرسة نجدهم يقدمون لنا مسوّغات متنوعة للكشف عن أن المدرسة في الواقع هي أداة تقييد للشخصية، إنها تحتبس الشخصية من أن تفتح ميولها التي تتناسب مع طبيعة تركيبتها لأن المدرسة كما يقول هؤلاء تفرض على الطلبة مادة معينة وأسلوباً معيناً قد لا يتفق والحرية التي ينبغي أن يمارسها الطفل أو الطالب في المدرسة.

والحديث عن هذا المجال حديث طويل لا نجد ضرورة كبيرة في الاستمرار بهذا الحديث، الإشارة فحسب إلى أن الاتجاهات التربوية المعاصرة والموروثة لم تتفق لحدّ الآن على تحديد خاص للتربية بقدر ما تشير إلى الخلافات التي ألمحنا إلى جانب منها، لكننا مع ذلك نستطيع أن نقول أن ملخّص الاتجاهات التربوية في خطوطها العامة يمكن أن ندرجها في مادة أو في تاريخ منها، أو في ظاهرة محددة، هي أن ما نقول أن هدف التربية هو إنماء القوى الإنسانية لدى الشخص، أي أن كل شخصية بشرية لديه قوى خاصة هي القوى العقلية والنفسية والجسمية والفكرية، هذه القوى الموجودة بالقوة لدى الإنسان هدف التربية هو أن يوقظ هذه القوى ويوجّهها ويعززها نحو الكمال، طبيعياً مصطلح الكمال يظل مصطلحاً نسبياً لأن الكمال في التصور الإسلامي يختلف عنه في التصورات العلمانية، التصورات العلمانية للكمال هي تصورات نسبية، فكل مجتمع له ثقافته الخاصة وله أيديولوجيته الخاصة وله أفكاره وعاداته وتقاليده وو. الخ.. فإذاً مصطلح وصول الشخصية إلى الكمال يظل مصطلحاً في الواقع غائماً ومبهماً وملبداً، لا يمكن أن نستخلص منه دلالة واضحة محددة، بقدر ما يظل الأمر نسبياً كما قلنا.

ولكن، إذا كان هدف التربية هو إنماء القوى لدى الإنسان، القوى النفسية والعقلية والجسمية .. الخ. والوصول بها إلى الكمال المنشود، أقول إذا كان الكمال المنشود هو مصطلح نسبي حسب التصورات العلمانية فإننا بصفتنا إسلاميين أليس من حقنا أن نقدم تعريفاً لمادة التربية في هذا الميدان بحيث تتناسب تماماً مع التصور الإسلامي للكمال أو للسلوك، أن الآية القرآنية الكريمة تقول: (وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون) أي أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ليمارس عملاً عبادياً في الحياة، ما هو العمل العبادي؟

العمل العبادي هو مجموعة المبادئ التي رسمها الله سبحانه وتعالى لنا متمثلة في الأوامر والنواهي التي نعرفها جميعاً في ميدان العقائد وفي ميدان الأخلاق، وفي ميدان الأحكام الفقهية .. الخ.

إذاً الوصول إلى الكمال أو تنمية القوى الموجودة في الإنسان حسب التصور الإسلامي تتمثل في القوى المتمثلة في العمل العبادي، أي الالتزام بمبادئ الله سبحانه وتعالى حيث يمكننا أن نقول أن التصور الإسلامي في التربية هو تدريب الشخصية أو تنشئة الشخصية على ممارسة العمل العبادي المطلوب، أي أن الشخصية تمارس المبادئ التي رسمها الله تعالى بالنحو المطلوب.

لكن، هل إن الأمر يقف عند هذا الحد، أي مجرد كوننا نقدم مادة التربية ونكتفي بهذا أم أن الأمر ينبغي أن نتجاوزه فنتحدث أيضاً عن علم النفس حتى نلاحظ العلاقة أو الصلة القائمة بين هاتين المادتين كما قلنا مادة علم النفس ومادة التربية.

لكن قبل أن نحدثكم عن ذلك ينبغي أن نذكركم بحصيلة ما قلناه من كلام قبل دقائق ألا وهو أن هدف التربية لدى جميع المعنيين بشؤون التربية هو إنماء القوى الإنسانية لدى الشخصية والوصول بها إلى الكمال المطلوب، بغض النظر عن النسبية في هذا الكمال الذي يختلف فيه التصور الإسلامي عن التصورات العلمانية وتختلف التصورات العلمانية فيما بينها في ذلك، أقول بغض النظر عن ذلك فما دام هدف التربية هو إنماء القوى عند الإنسان، حينئذٍ نتجه إلى علم النفس ولكي نطرح السؤال الآتي هو هل أن علم النفس من حيث الهدف يتمثل أيضاً في إنمائه للقوى الموجودة في الإنسان أم أن هدف علم النفس هو هدف آخر؟ هذا ما نحاول الإجابة عليه أيضاً.

لعلم النفس تعريفات متنوعة أيضاً كما أشرنا إلى هذا المجال، لكن دعونا نقدم تعريفاً ملخصاً لكل التعريفات ألا وهو أن علم النفس يعنى بدراسة السلوك الإنساني من زاوية خاصة، فقد سبق أن أشرنا أن العلوم الإنسانية جميعاً تتناول السلوك البشري ولكن لكل علم الميدان الخاص أو الزاوية الخاصة التي ينطلق منها، وبالنسبة إلى علم النفس فإن الزاوية التي ينطلق منها هو حدود أو دراسة الإجابة التي تصدر عن الإنسان مقابل أو قبالة المحرك الذي يدفع الإنسان إلى أن يستجيب حياله بهذا الشكل أو ذاك.

ولنتقدم بمثالٍ واحد في هذا الميدان، مثلاً:

إذا أساء إليك أحد الأشخاص فهذه الإساءة تمثل محركاً لك أو منبهاً لك، كأن شتمك أو أهانك أو ضربك أو أخجلك .. الخ. هذا هو المحرك الأساس للسلوك، وأما ردّ فعلك حيال هذا السلوك أو استجابتك حيال هذا السلوك فتتمثل في واحدٍ من أنماط السلوك الآتي: إما أن ترد الإساءة بمثلها فإذا شتمك مثلاً ستشتمه أيضاً، وقد لا تبالي البتة لهذا الموضوع، أي إذا شتمك فإنك ستستجيب له أو سيكون رد فعلك لهذه الاستجابة رد فعل ينطوي على اللامبالاة أي كأنه لم يشتمك أبداً، أو يمكنك أن تستجيب له استجابة ثالثة هي عكس ما هو متوقع، أي أن تحسن إلى هذا الشخص الذي أساء إليك، أي إذا شتمك فإن رد فعلك أو استجابتك ستكون هو الإحسان إلى هذا الشخص! وذلك من خلال مدحك له والثناء عليه.. الخ.

وقد تستجيب باستجابة رادعة هي أنك تعفو عنه ولا تجيبه إجابة أو استجابة محددة سلبية أو إيجابية، بل تعفو عنه ويكون الأمر كأنه لم يحدث شيء، طبعاً هذه الاستجابة أو بالأحرى هذا المحرك هنا يقابله من الاستجابة هما الزاوية التي ينطلق منها علم النفس في دراساته، وهذا المحرّك طبيعي لا يحرّك في الكل محركاً نفسياً فقد يكون محركاً جسمياً .. الخ. مما سنتحدثكم عنه إنشاء الله في لقاءات لاحقة. لكننا نقتصر الآن أن نشير إلى أن مادة علم النفس تتناول هذا الجانب، جانب الاستجابة حيال محرّك معين.

والآن لننظر هل أن دراسة هذه الاستجابة خلال المحرك المشعر إليه تتماثل مع حدث التربية الذي أشرنا إليه قبل دقائق، قلنا التربية تهدف إلى تنشئة الكائن الإنساني من خلال إنمائها للقوى الموجودة فيه، للوصول بذلك إلى الكمال، هنا بالنسبة للمثال الذي ضربناه وهو الإساءة التي تصدر من الشخص والإستجابة التي تصدر منك، هذه الاستجابة هل تتناول نفس الهدف الذي لاحظناه في التربية أم لا؟

طبيعياً أن علماء النفس ينشطرون إلى نمطين، أحدهما يقول أن مهمة عالم النفس هي أن يبين نمط الاستجابة، بغض النظر عن كون هذه الاستجابة هي استجابة إيجابية أو سلبية، أي أن علم النفس هو علم وصفي وليس علماً معيارياً، وهناك اتجاه آخر وهو أن علم النفس علم معياري في الواقع يرسم ما ينبغي للشخصية أن تختطه من الاستجابة حيال المحركات، يعني في المثال المتقدم عندما يسيء إليك أحد الأشخاص، فإن عالم النفس يحدث من وراء دراسته لهذه الاستجابة أن يحدد لك الاستجابة الإيجابية التي تتناسب مع الموقف، وفي هذا الميدان نجد أن علم النفس علم معياري أي يعنى بالجانب الخلقي من السلوك تماماً كالتربية التي أشرنا إليها من أنها تعنى بإنماء القوى الإيجابية عند الإنسان.

إذاً القوى الإيجابية عند الإنسان في مادتي علم النفس والتربية، هذه القوى يتماثل بعضها مع الآخر من حيث الهدف، فكما أن التربية تهدف إلى أن تنشأ على سبيل المثال القوى الخيرة في أعماق الإنسان كأن يكون ذا خلق حسن مثلاً، كذلك فإن علم النفس إنما يدرس استجابة الإنسان حيال الشخص الذي أساء إليه يهدف هذا العلم وهو علم النفس إلى أن يدرّب الشخصية على أن تستجيب استجابة سوية أخلاقية ألا وهي أن يعفو عمّن أساء إليه أو يحسن إليه بدل أن يردّ الإساءة بمثلها، أو يردّ الإساءة بأكثر من ذلك.

إذاً نستطيع أن نقول أن كلاً من هدف التربية وهدف علم النفس هو تنمية أو تنشئة القوى الخيرة لدى الشخصية، وإذا كان هذان العلمان يهدفان إلى غرضٍ واحد حينئذٍ ما هو المسوّغ إلى أن نقول أن علم النفس وعلم التربية علمان يفترق أحدهما عن الآخر؟ أو لماذا نضع هذه المادة التربية وعلم النفس في المناهج الدراسية؟

طبيعياً الإجابة على هذا السؤال تعتبر ناقصة فإن علماء التربية وعلماء النفس يقفون عند هذا الحد من الهدف، لكن في الواقع هناك اختلافات أخرى نجدها عند علماء التربية وعلماء النفس ينطلقون من خلالها إلى وضع فواصل بين هذين العلمين وإلى وضع نقاط التقاء بطبيعة الحال. وهذا ما نبدأ الآن أيضاً ونحاول إلقاء الإنارة عليه.

إن علماء هاتين المادتين يذهبون إلى أن علم النفس وضع النظرية والخطة للسلوك، وان علم التربية يستفيد من هذه النظرية التي يخطط لها علم النفس ويحاول تطبيقها في مختلف مجالات الحياة، فمثلاً العالم النفسي حينما يضع خطة لغوية لعملية التدريس أو لعملية التعلّم حينئذٍ يأتي عالم التربية فيستفيد من هذه النظرية ويطبّق نظرية التعلم على طلاب هذه المدرسة أو تلك، هذا هو أحد الاتجاهات التي يقول بأن علم النفس هو في الواقع علم نظري والتربية هي علم تطبيقي يستفيد منها الناس، وهناك فريق آخر يقول كما أن من حق عالم النفس أن يخطط لنظرية فإن عالم التربية أيضاً من حقه أن يخطط لعمل تربوي، أي كأن يقول أن ممارسة نمط خاص من التعلم وحينئذٍ فإن ممارسته لهذا التعلم من خلال نجاحه ستسفر عن نتيجة هي تخطيط للنظرية في التربية، ومعنى هذا أن كلاً من علم النفس والتربية من الممكن أن يخططا لنظرية معينة، وأن كلّ واحدٍ منهما يستفيد من الآخر، فلو افترضنا أن معلماً ما اتخذ طريقاً معلماً للتدريس لممارسته سنوات متعددة لتدريس مادة ما حينئذٍ فإن عالم النفس يستطيع أن يفيد من هذه التجربة التي أقامها المربي ويخطط هو أيضاً أو بالأحرى يستفيد من هذا التخطيط، وبذلك يكون كل من علم النفس وعلم التربية يتناولان التأثير أو يتبادلان التأثير فيما بينهما.

لكن في هذا المجال أيضاً لا نجد ثمة ضرورة ملحّة للعناية بهذا الجانب، فسواء كان المربي هو من يستطيع أن يخطط نظرية خاصة به أو كان عالم النفس هو الذي استطاع أن يخطط هذه النظرية أو تلك فالنتيجة واحدة، هي أن كلاً من المربي وعالم النفس يصلان إلى عملية خاصة من قضية التعلم كأن يصلان مثلاً إلى أن التعلم من خلال المحاولة أو الخطأ أو التعلم من خلال الاستبصار أو التعلم.. الخ. يستطيع كل واحد منهما ان يصل إلى هذه النتيجة، وبذلك ينشئان الطالب على إنماء قواه العقلية والمعرفية، من خلال انتهاجهما لهذه الطريقة أو تلك من طرائق التعلم.

إذاً لحد الآن لم نصل إلى نتيجة مهمّة تفصل بين مادتي علم النفس ومادة التربية، لكن ثمة فريق ثالث يقول أن كلاً من عالم النفس والتربية يتناول مادة مشتركة فيما بينهما، ولكن في الآن ذاته ينفصل كل منهما عن الآخر من حيث التركيز على هذه المادة أو تلك، فمثلاً المربي يعنى بطرائق التدريس ويصبّ جل اهتمامه في هذا الميدان، لنفترض أن مادة معينة كالكيمياء أو الفيزياء أو الرياضيات أو أية مادة أخرى لا يجدر بعالم النفس أن يتناول هذه المادة من حيث الطرائق التي ينبغي أن تتناول لتقريب أو لتوضيح المعنى أو لتفصيل المعرفة بذلك، هذا النمط من الاهتمام لا يعنى به عالم النفس، إنما يعنى به التربوي الذي يتناول تطبيقات معينة لمواد معينة كالفيزياء أو الكيمياء أي أنها مجرد مصاديق لممارسات خاصة لا يحصل لعالم النفس أن يتوفر عليها بقدر ما تنحصر المسألة في المدرسة وتجاربها في هذا الميدان.

على أية حال لا نريد أن نطيل الحديث في هذه الجوانب، ويكفينا أن نشير إلى أن علم النفس أو التربية ما دام كل منهما يهدف إلى إنماء قوى محددة عند الإنسان حينئذٍ فلنتجه إلى الهدف الرئيس ألا وهي عملية التنشئة ذاتها، أي المطلوب هي التنشئة أو التدريب أو تعلم السلوك المطلوب، فإن تعلم السلوك المطلوب قد يقوم به عالم النفس وقد يقوم به عالم التربية، قد يقوم به عالم النفس في مختلف المجالات وقد يقوم به عالم التربية في مجالات التدريس فحسب، قد يقوم به عالم النفس في كل مراحل الشخصية وقد يقوم به عالم التربية في مرحلة الطفولة أو المراهقة فحسب، وهكذا.. بالنسبة إلى مجالات كثيرة لا نجد ضرورة في الحديث عنها، مع قناعتنا بأن الفوارق بين هاتين المادتين تفرض في بعض المجالات ولكن بما أن هذه المسألة نظرية، فلنتناول هذه المادة علم النفس أو التربية أو المادتين خلال تناولنا لهاتين المادتين يمكننا أن نصل إلى ملاحظة الفوارق أو انعدامها بين هاتين المادتين، لذلك فنحن نعنى بالجوهر أكثر مما نعنى بالزخرفة أو الشكل الخارجي المصطلح صحيح أنه يكشف في الواقع عن المادة أو المضمون أو علم اللفظ أو الشكل يفصح عن المادة، ولكن في الآن ذاته فإن العناية بالمضمون هي المطلوبة أساساً أما الشكل الخارجي فهي مجرد وسيلة خارجية للتعريف عن المحتوى الداخلي للمادة، من هنا فإن في محاضراتنا الخاصة في التربية وعلم النفس سنتناول المادة التي تعنى بإنماء القوى الإنسانية أو بحسب تعريفنا لمادة التربية سنعنى بالمادة التي تدرّب الشخصية على تعلّم السلوك العبادي المطلوب.

والسلوك العبادي المطلوب كما قلنا هو مجموعة المبادئ أو القيم التي أرسلها الله سبحانه وتعالى لنا وأمرنا أن نلتزم بها ومن أجلها خلق الله تعالى الإنسان حتى يمارسها بالنحو المطلوب، إذاً سوف نتناول المادة سواء أكانت تندرج ضمن مصطلح علم النفس أو كانت تندرج ضمن مصطلح التربية، فسنتناول هذه المادة من زاوية التصوّر العبادي لها، أي من خلال التصور الإسلامي للسلوك ولكن بشرط أن نقارن بين التصوّر الإسلامي وبين التصوّرات العلمانية التي صدرت عن العلمانيين قديماً وحديثاً، حتى يستطيع الطالب أن يكتشف الفوارق بين التصوّر الإسلامي للسلوك وبين التصوّرات العلمانية، طبيعياً هذه الفوارق بين كلّ من التصورين تصل بالشخصية الإسلامية إلى قناعة خاصة بأن ما رسمه الله سبحانه وتعالى هو طريقاً مطلوباً والمتناسبة والمتنجانسة مع طبيعة أو مع فلسفة وجودنا في الحياة.

أخيراً ينبغي أن نشير إلى أن التصور العلماني ينطوي في جوانب كثيرة منه على أفكار صائبة وعلى تجارب محكمة مصيبة أيضاً، انطلاقاً من أن الله سبحانه وتعالى خلق البشرية من جانب ومنحها قدرة خاصة على تعلّم مبادئ الخير والشر، وإدراكها للفجور والتقوى وهذا يعني أن الشخصية عندما تدرك مبادئ الخير والشر أو تدرك مبادئ الفجور والتقوى حينئذٍ تستطيع أن تنتهي إلى تجربة محكمة أو ملاحظة صائبة في تصوراتها، ولكن بما أن الإنسان أساساً ليس كاملاً حينئذٍ فإن وصوله إلى المبادئ وإلى صياغة المبادئ الصائبة يظل أمراً من المستحيل أن يتحقق البتة، ولا أدلّ على ذلك من أننا نرى منذ أن نشأ لحد الآن نجد عشرات المدارس والاتجاهات كل مدرسة تخالف الأخرى، وكل اتجاه يخالف الآخر بل نجد داخل الاتجاه الواحد نفسه ثمة تفاوت كبير بين هذه الشخصية أو تلك، فمثلاً في ميدان علم النفس التحليلي نجد خطوطاً متفاوتة بين الافراد وكذلك في ميدان علم النفس السلوكي وكذلك في ميدان علم النفس الجسمي وهكذا سائر المدارس.

نجد أن البشرية منذ وجودها لحد الآن تتفاوت في وجهات نظرها وحتى المتفقة في وجهة نظر معينة نجد خطوطاً فرعية داخلها تتباين فيما بينها أيضاً، ولا أدلّ على ذلك أيضاً من التطور الذي نلاحظه فلو كان التصوّر العلماني للظواهر تصوّراً سائداً لما كان هناك تطور معرفي بينما نجد أن التطور المعرفي خلال هذه القرون يكشف بوضوح عن أن الإنسان لا يزال ناقصاً ولا يمكن أن نصل إلى الكمال وهذا على العكس تماماً من التصور الإسلامي للسلوك حيث أن الله سبحانه وتعالى وهو الذي خلق البشر وركّبهم بهذه التركيبة الخاصة أنه يكون على خبرة بما يتناسب والسلوك المطلوب لدى هذه الشخصية ولذلك رسم لنا سلوكاً مطلقاً لا خطأ فيه بل هو السلوك المتسم بالكمال من الله سبحانه وتعالى هو الكامل كمالاً مطلقاً على العكس تماماً من البشر الذي يتسم بسمات العجز والقصور.

من هنا فإننا سنبدأ بإذن الله تعالى من المحاضرات اللاحقة بإلقاء الإنارة على التصور الإسلامي للسلوك التربوي والنفسي ومقارناً بطبيعة الحال بالتصور العلماني حتى يقف الطالب على نقاط التلاقي والافتراق بين التصورين، وتتعمق قناعته بكمال التصوّر الإسلامي وبذلك يتفاعل بسلوكه إلى النحو المطلوب إنشاء الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..