المادة: فقه المجتمع
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 049.doc

الواجب الخامس في الواجبات الاجتماعية هو الحج

والحج من أركان الدين ففي صحيحة زرارة عن الإمام الباقر (عليه السلام) بني الإسلام على خمس الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية ووجوبه من ضروريات الدين ومنكره كافر وتاركه استخفافاً بمنزلة الكفار.

 وأما تركه بلا إنكار ولا استخفاف ممن استجمع الشرائط فهو من الكبائر وفي بعض الروايات انه يموت يهودياً أو نصرانياً وان كان محكوماً بالإسلام ظاهراً والحج لغة هو القصد والسعي إلى شيء.

غلب في اصطلاح الكتاب والسنة والمسلمين إلى القصد إلى بيت الله تعالى لإتيان أعمال خاصة في أوقات مخصوصة وعن الخليل الحج كثرة الاختلاف إلى من نعظمه وسمي الحج حجاً لأن الحاج يأتي قبل الوقوف بعرفة إلى البيت ثم يعود إليه لطواف الزيارة ثم ينصرف إلى منى ثم يعود لطواف الوداع و لا يبعد انه بلحاظ انه يذهب إليه كل يوم مرة أو مرات أو يذهب إليه كل سنة كما في القريبين إلى البيت الحرام وقد كانت مكة زادها الله شرفاً مقصداً للوفود منذ التاريخ البشري على ما ستعرفه وكيف كان فينبغي بيان أمور هنا:

الأول: حسن السعي إلى معالم المعبود ومشاعره وإتيان مراسم العبودية فيها من فطريات كل عابد بالنسبة إلى معبوده ولا يختص بملة دون أخرى والشوق إلى معالم المحبوب أمر فطري لكل حبيب وإلا لكان في اصل الحب خلل وتكون دعوى المحبة حينئذ باطلة ولذا كان البيت المعمور في السماء الرابعة مزدحماً بالملائكة كما في الروايات بحيث كل من طاف منهم حوله مرة لا تصل له التوبة مرة أخرى إلى الأبد والكعبة المقدسة  مزدحم خواص الملائكة والمسلمين من البشر يسعون إليها بعشق وانقطاع ويرون تحمل المشاق والمتاعب خفيفة أمام الوصول إلى أهم معالم ربه ومشاعره .

ولا يزال الحج في ازدياد عاماً بعد عام وبيت المقدس مقصد أهل الكتاب وهناك معالم أخر موجودة على ظهر الأرض يقصدها عبادها ولقد كان الطواف حول البيت العتيق منذ هبوط آدم (عليه السلام) إلى الأرض ففي الصحيح عن الصادق (عليه السلام) لما أفاض آدم (عليه السلام) من منى تلقته الملائكة فقالوا يا آدم برّ حجك فأننا قد حججنا هذا البيت قبل أن تحجه بألفي عام ، ولا يدرى أن هذه الأعوام من أعوامنا المعروفة كل يوم وليلة منها أربع وعشرون ساعة أو من الأعوام الإلهية التي كل يوم فيها خمسون سنة كما قال سبحانه وتعالى وان يوماً عند ربك خمسون سنة أو هي من قبيل الأيام الإلهية الخاصة التي هي خمسون ألف سنة كما قال سبحانه وتعالى وان يوماً عند ربك خمسين ألف سنة والكل محتمل وان كان المنصرف الأول.

الثاني: كل ما ضبطته الكتب في فضل البيت العتيق والطواف حوله والوقوف في تلك المشاعر العظيمة ليس إلاّّ كقطرة من البحر ولمعة من الشمس وماذا يقال في بيت جعله الله تبارك وتعالى مباركاً وأمناً وهدى للعالمين واستعبد الله تعالى به خلقه ليخبر به طاعتهم في اتيانه وحثهم على تعظيمه وزيارته وجعله محلاً لأنبيائه وقبلة للمصلين له وهو شعبة من رضوانه وطريق يؤدي إلى غفرانه منصوب على استواء الكمال ومجمع العظمة والجلال خلقه الله قبل دحو الأرض بالفي عام كما هو مضمون الروايات الشريفة وماذا يقال في بيت من نظر إليه لم يزل تكتب له حسنة و تمحمى عنه سيئة حتى ينصرف عنه وماذا يقال في بيت أحد أركانه يمين الله في أرضه يصافح بها خلقه وانه باب من أبواب الجنة لم يغلقه الله تبارك وتعالى منذ فتحه وان عليه ملك موكل منذ خلق الله السموات والأرض ليس له عمل إلاّّ التأمين على دعاء الناس وعنده نهر انهار الجنة تلقى فيه أعمال العباد كل خميس .

وقد ورد عن نبينا الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وما آتيت الركن اليماني إلاّّ وجدت جبرائيل قد سبقني إليه يلتزمه وفي الركن الآخر حجر استودع الله تبارك وتعالى منه ميثاق عباده إذ اخذ ميثاقهم في قوله عز من قائل وإذا اخذ ربك من بني آدم من ظهورهم إلى آخر الآية الشريفة فالمقامات المعنوية والرتب التي يصل إليها الإنسان في ذلك المكان الشريف وتلك المشاعر العظيمة تخرج عن حد الوصف عظمة وشرفاً وثواباً وجزاءً وفضلاً

الثالث: تشريع الحج كان عند هبوط آدم بمباشرة جبرائيل ففي خبر أبي إبراهيم عن أبي عبدالله (عليه السلام) لما بلغ الوقت الذي أراد الله عز وجل أن يتوب على آدم نزل إليه جبرائيل قال السلام عليك يا آدم الصابر ليلته التائب عن خطيئته أن الله عز وجل بعثني إليك لأعلمك المناسك التي تطهر بها أي التي يريد الله أن يتوب بما عليك فاخذ جبرائيل (عليه السلام) بيد آدم (عليه السلام) حتى آتى به مكان البيت إلى آخر الحديث ) .

 والأخبار في ذلك كثيرة وقد واظب الأنبياء على الحج بعد أبيهم آدم (عليه السلام) قال أبو الحسن (عليه السلام) أن سفينة نوح كانت مأمورة طافت بالبيت حتى غرقت الأرض ثم أتت منى في أيامها وأما إبراهيم و إسماعيل فقد تحملا المشاق في الحج وتشعير المشاعر ذكر في القرآن وفصل ذلك في الروايات المستفيضة بين الفريقين قال الصادق (عليه السلام) أمر الله عز وجل إبراهيم (عليه السلام) أن يحج بإسماعيل معه فحجا على جمل احمر وما معهما إلاّّ جبرائيل والخبر طويل اكتفينا بمحل الشاهد قدر رواه الفيض الكاشاني (رضوان الله عليه ) في كتابه الوافي فالتشريع وقع ثانياً اهتماماً بالقضية بالوحي السماوي وأمين الوحي والنبي الجليل الخليل وقال أبو جعفر (عليه السلام) حج موسى بن عمران ومعه سبعون نبياً من أنبياء بني إسرائيل خطم ابلهم من ليف يلبون وتجبيهم الجبال وعلى موسى عباءتأن قطوانيان يقول لبيك عبدك وابن عبدك ومرّ يونس بن متى بصفائح الروحاء وهو يقول لبيك كشاف الكرب العظام لبيك ومرً عيسى  بن مريم بصفائح الروحاء وهو يقول لبيك عبدك وابن أمتك لبيك ومرّ محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بصفائح الروحاء وهو يقول لبيك ذا المعارج لبيك .

وعن أبي جعفر (عليه السلام) أن سليمان بن داود قد حج البيت في الجن والأنس والطير والرياح وكسى البيت القماص وعنه (عليه السلام) أيضاً صلى في مسجد الخيف سبعمائة في وان ما بين الركن والمقام لمشحون بقبور الأنبياء فيرجى من المسلمين الاهتمام بهذا الأمر العظيم الذي اهتم به جميع الأنبياء والمرسلين وقد أفرد المحدثون والمؤرخون من المسلمين ما يتعلق بحج خاتم الأنبياء والمرسلين أبواباً ومؤلفات مستقلة والمستفاد من مجموع الأخبار المستفيضة في الحج أن تشريعه قد وقع ثلاث مرات الأول بعد هبوط آدم والثاني في زمان النبي الخليل إبراهيم (عليه السلام) والثالث بعد بعثة نبينا الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا اختلاف بينها نعم حج التمتع وقع في حجة الوداع ولم يفصل أحكام الحج من بين نبي ولا وصي كما فصله خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبو عبد الله جعفر (عليه السلام) حتى قال أبو حنيفة النعمان بن ثابت أمام الحنفية لولا جعفر بن محمد (عليه السلام) لماعلم الناس مناسك حجهم وقد بذل الفقهاء رفع الله مقامهم كمال جهدهم في تفريعات الأحكام حسب الأدلة الواصلة إليهم والقواعد المعتبرة لديهم ومع ذلك كل سنة ترد فروع محدثة ليس لها في كتب فقه الفريقين ذكر ولا اثر .

وكيف لا يكون كذلك وقد ورد في صحيح زرارة قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) جعلني الله فداك أسألك في الحج منذ أربعين عاماً فتفتيني قال (عليه السلام) يا زرارة بيت حج إليه قبل آدم بألفي عام تريد أن تفنى مسائله في أربعين عاماً وقال في الجواهر كما انه ينبغي التفقه في الحج فانه كثير الأجزاء وهم المطالب و آخر المقاصد وهو مع ذلك غير مأنوس وغير متكرر وأكثر الناس يأتونه على ضجر وملالة سفر وضيق وقت واشتغال قلب مع أن الناس لا يحسنون العبادات المتكررة اليومية مثل الطهارة والصلاة مع الفهم لها ومداومتهم عليها وكثرة العارفين بها حتى أن الرجل منهم يمضي عليه الخمسون سنة والأكثر ولا يحسن الوضوء فضلاً عن الصلاة فكيف بالحج الذي هو عبادة غير مألوفة لا عهد للمكلف بها مع كثرة مسائلها وتشعب أحكامها وأطولها ذيلاً إلى آخر كلماته .

الرابع: أن سفر الحج كما انه من الأسفار الجسدانية هو سفر روحاني أيضاً لأنه الوفود إلى الله عز وجل والتشرف ببيته تعالى ومشاعره العظام والاستفادة من الاستفاضات المعنوية المفاضة من رب العالمين على الواقفين في تلك المواقف المباركة والطائفين حول الكعبة المقدسة وقد وردت في الشريعة المقدسة آثار كثيرة لمطلق السفر من جميع الجهات المتعلقة به ولابد في سفر الحج من ملاحظة الآداب الروحانية أيضاً بشكل أولى إذ السفر روحاني وأهم الأمور في هذا السفر التوبة عن المعاصي قبله وحين أداء العمل وملازمة الهدوء والوقار والسكينة والاهتمام بالواجبات وترك المحرمات و الإنقلاع عن المعاصي والعلائق والانقطاع إلى رب الخلائق والتخلق بأخلاق الله تعالى وهذه هي الهدية الأكبر التي تهدى إلى الله عز وجل ليست الهدية الكبرى أنعام تراق دماؤها في منى وفي حريم حرم الله عز وجل لتصريحه تعالى بأنها لا اعتبار بها قال الله عز وجل ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) .

 فالتقوى هي المطلوبة أولاً والتلبس بمخالفة المحبوب عند زيارته والورود إلى بيته مما ينكره كل ذي شعور فإذا كانت القلوب محجوبة عن الله عز وجل لأجل الشقاق والنفاق والمعاصي والانشغال بالدنيا وارتكاب المحرمات فكيف يطاف بها حول البيت وتوقف بها المواقف فعن أئمة الدين عليهم صلوات المصلين من حج بمال الحرام نودي عند التلبية لا لبيك عبدي ولأسعديك .

الخامس: من أعظم مظاهر عز الربوبية وذل العبودية الذي لا يتصور أعظم منه أبداً هو الحشر الأكبر الذي يعم جميع الأنبياء وأممهم وقد تحيرت عقول الحكماء العارفين في خصوصيات هذا العالم العظيم وأشير إلى بعض جهاتها في القرآن الكريم وقد سمي الحج بالحشر الأصغر وقد كتب العلماء رسائل في وجوه المطابقة بين الحشرين من الفقهاء وأهل المعرفة واحسنوا وأجادوا رضوان الله عليهم أجمعين.

 وقد استفادوا ذلك مما شرحه مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة في خطبته التي هي من جلائل خطبه الشريفة وقد ذكر فيها أسرار الحج ومن أهمها تذكر الحشر الأكبر الذي يرد على جميع أفراد البشر فيتذكر من خلع الثياب ولبس ثياب الإحرام والوقوف في موقف واحد التوشح بالأكفان والحشر في صعيد واحد ومن السعي والطواف اضطراب الناس في المحشر فيطلبون ملجأ وملاذا إلى غير ذلك مما يتوجه إليه  العاقل الملتفت إلى الأهوال التي ترد عليه في الحشر .

ثم أن من أهم الأمور النوعية التي لابد للحجاج من مراعاتها أضهار محاسن تحمل الأذى حتى يصير جميع أهل الجمع كنفس واحدة ومنه أهمها أيضاً سعي الناس لقضاء الحوائج بعضهم لبعض فأن لذلك فضل عظيم ويحقق المنافع الاجتماعية والمنافع الجمة للحج. فعن الخزعي قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) أنا إذا قدمنا مكة ذهب أصحابي يطوفون ويتركوني احفظ متاعهم قال (عليه السلام) أنت أعظم أجراً وقال (عليه السلام) أيضاً من أماط أذى عن طريق مكة كتب الله له حسنة ومن كتب له حسنة لم يعذبه ) إلى غير ذلك من أورد في الروايات الشريفة الدالة على عظمة الحج وكثرة منافعه الاجتماعية والإنسانية العظيمة التي لا مجال لتفصيلها هنا.

 قال تبارك وتعالى ( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود . وأذن في الناس يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق . ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة  الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير. ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق . ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم بهيمة الأنعام إلاّّ يتلي عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خرّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الطير في مكان سحيق . ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها تقوى القلوب لكم فيها منافع إلى اجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق . ولكل أمة جعلت منسكاً ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فألهكم الله واحد فله اسلموا وبشر المخبتين).

 فالحج عبادة جامعة للمعاني والقيم الدينية كما هو عبادة تجمع المصالح الاجتماعية وتزيد من أواخر المجتمع وتماسكه دينياً ودنيوياً فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة ) وقالت الصديقة الطاهرة (عليه السلام) في خطبتها والحج تشييداً للدين إذ لا أشكال في وجوب تشييد الدين وتقويته كما قال الله تعالى ( أن أقيموا الدين ) بالواجبات ويستحب ذلك في المستحبات إذ إن استحكام الدين في فرائضه بالواجبات وفي المندوبات باتيان المستحبات لان مثل الدين كبناء يحتاج إلى مواد أساسية للبناء بالإضافة إلى المواد التجميلية والتكميلية وهو أيضاً بين واجب ومستحب هذا بالإضافة إلى ما للمستحبات من دور كبير في السوق نحو مزيد الالتزام بالواجبات فهي مشيدة للدين ذاتاً وتسبيباً والحج من المقومات الأساسية للدين ولذا ورد في الرواية انه من الأركان الخمسة للدين وبه يستحكم الدين ويتعالى ويتسامي .

والمستحب منه أيضاً من بواعث تشييد الدين كما قال علي أمير المؤمنين (عليه السلام) فرض الله الحج تقوية للدين وقال (عليه السلام) خير الأعمال ما اصلح الدين وكيف كان فإن الحج منه واجب ومنه مستحب قد تطرأ الحرمة على الحج لأمر خارجي كحج الزوجة بدون أذن زوجها حجاً مستحباً أو كالحج بأموال مغصوبة أو ما أشبه ذلك وفي الحديث عن جعفر بن محمد (عليه السلام) بني الإسلام على خمس دعائم على الصلاة والزكاة والصوم والحج وولاية أمير المؤمنين والأئمة من بعده (عليه السلام) .

 وقد جعل الله الحج تشييدا للدين كما ذكرته الصديقة الطاهرة (عليها السلام) حيث انه بالإضافة إلى جوانبه العبادية والاقتصادية وغيرها يعد مؤتمراً عاماً لكل المسلمين حيث يجتمعون ويتعارفون ويعالج بعضهم مشاكل بعض ويطلع بعضهم على أحوال بعض وتذوب بينهم الفرارق الإقليمية واللونية واللغوية وغيرها من عناصر التفكيك والتفرقة فإن الحج يمهد لتماسك المجتمع وايجاد العناصر الأولية للقوة والرفعة والتقدم من الشورى والحرية والأمة الواحدة والأخوة وتطبيق شرائع الإسلام مشرعة ومنهاجاً إلى غير ذلك من عناصر ومقومات لنهضة المجتمع الإسلامي ولهذا فالجدير بالمسلمين أن يلتزموا بفوائد الحج المتوقعة كما قال سبحانه ( ليشهدوا منافع لهم ) .

وتهيئة الأسباب واستثمار الحج استثماراً مفيداً في خدمة الإسلام وفي خدمة المسلمين حاضراً ومستقبلاً على تفصيل لا يسعنا هنا بيانه وكيف كان فانه من أركان الدين وهو واجب على كل من استجمع الشرائط من الرجال والنساء بالكتاب والسنة والإجماع من جميع المسلمين بل الضرورة ومنكره في سلك الكافرين لما نسب إلى المشهور من أن إنكار الضروري له موضوعية في الكفر لأنه يرجع إلى إنكار الألوهية والرسالة أما بناء على انه لاموضوعية فلا يوجب الكفر الذي له أحكام خاصة وآثار مخصوصة وان كان كفراً من ناحية العمل وليس من ناحية العقيدة إذا لم ينته إلى إنكار ضروري من الدين المنتهي إلى تكذيب الرسول أو تكذيب الرسالة وتارك الحج عملاً مستخفاً به بمنزلتهم وتركه من غير استخفاف يعد من الكبائر.

 ولا يخفى عليك أن الاستخفاف له مراتب الأولى: الإنكار استخفافاً به وهذا يرجع إلى أصل الإنكار بل يكون اشد منه من جهة الاستخفاف.

الثانية: الاستخفاف بالفورية مع الاقرار والاعتقاد بأصل الوجوب ثم الآتيان به ولا دليل على كونه كفراً بل مقتضى الأصل عدمه نعم عدَّ الاستخفاف بالحج من الكبائر كما في الروايات فحينئذ إذا انطبق على الفورية يكون كبيرة بمقتضى الروايات

الثالثة: الاستخفاف بأصل الآتيان مع الاعتراف بالوجوب وعدم الآتيان به ولاريب في كونه من الكبائر وأما كونه موجباً للكفر فمقتضى الأصل وإطلاق مادل على أن الإقرار بالشهادتين إسلام عدم كونه موجباً له.

الرابعة: الاستهزاء ببعض أعماله كالرمي والهرولة والنحر ونحوها أو بأصله مع الآتيان به فمقتضى الأصل والإطلاق عدم كونه موجباً للكفر وان كان ذلك الاستهزاء معصية بل من الكبائر أن شمل الاستخفاف لمثل ذلك ومع الشك فالأصل عدم كونه منها هذا بحسب القاعدة الأولية أما بحسب الأخبار الخاصة فقد أطلق على تارك الحج اليهودي والنصراني فيما ورود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مات ولم يحج فما عليه أن يموت يهودياً أو نصرانيا ومثله غيره فلا اختصاص لها بالاستخفاف بل يشمل مطلق من ترك الحج بلا عذر .

والظاهران أراد من الموت يهودياً أو نصرانيًا انه محكوم بأحكامهم الاحتضارية والقبرية والأخروية في الجملة وإلا فضرورة كونه محكوماً عندنا بحكم المسلمين من الكفن والدفن وقضاء صلاته وحجه ونحوه مسلمة لدى الكل ظاهراً ويؤيد الروايات الشريفة أيضاً وكيف كان فالمراد من الكافر الذي ينكر فرض الحج الذي يرجع إلى إنكار الضروري ففي خبرعلي بن جعفر (عليه السلام) عن أخيه موسى (عليه السلام) قال قلت من لم يحج منا فقد كفر قال (عليه السلام) لا ولكن من قال هذا ليس هكذا فقد كفر ) .

وفي خبر سليمان بن خالد عن أبي عبدالله (عليه السلام) يا سليمان ليس من ترك الحج منهم فقد كفر ولكن من زعم أن هذا ليس هكذا فقد كفر ) وعن القطب الراوندي قال رجل يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من ترك الحج فقد كفر ؟ قال لا ولكن من جحد الحق فقد كفر .

وكذا التارك للواجب استخفافاً ويؤيده صحيح ضرع المحاربي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال من مات ولم يحج حجة الإسلام ولم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به أو مرض لا يطيق فيه الحج أو سلطان يمنعه فليمت يهودياً أو نصرانياً ) وهو ظاهر في تارك الحج من غير عذر وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يا علي تارك الحج وهو مستطيع كافر ويقول الله تبارك وتعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ) ياعلي من سوَّف الحج حتى يموت بعثه الله يوم القيامة يهودياً أونصرانياً)   إلى غير ذلك من الروايات فتركه عن استخفاف كفر أما تركه من غير استخفاف فهو من الكبائر لدلالة جملة من النصوص عليه فعن معاوية بن عمار عن أبي عبدالله (عليه السلام) (قال: قال الله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً قال هذه لمن كان عنده مال وصحة وان كان سوَّفه للتجارة فلا يسعه وان مات على ذلك فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام ) ودلالة هذا الحديث على كون الترك من غير استخفاف كبيرة ظاهر إذ الترك الاستخفافي عبارة عن عدم المبالاة والاعتناء بالشأن بلا عذر والترك لا عن استخفاف مقابله الذي كان له بالترك عذر خارجي ولن لم يكن شرعياً كالتجارة الممثل بها في الرواية ومثله ما عن صباح الكناني عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال قلت له أرايت الرجل التاجر ذا المال حين يسوّف الحج كل عام وليس يشغله عنه إلاّّ التجارة أو الدين فقال لا عذر له بان يسوف الحج أن مات وقد ترك الحج فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام .

 ولا يجب الحج في اصل الشرع الا مرة واحدة في تمام العمر لضرورة المذهب بل الدين وهو المسمى بحجة الإسلام أي الحج الذي بني عليه الإسلام مثل الصلاة والصوم والخمس والزكاة ولايبعد وجوب الحج كفاية على كل أحد في كل عام إذا كان متمكناً بحيث لا تبقى مكة خالية عن الحجاج لجملة من الأخبار الدالةعلى انه لا يجوز تعطيل الكعبة عن الحج والأخبار الدالة على أن على الأمام كما في بعض الروايات وفي بعضها الآخر على الوالي أن يجبر الناس على الحج والمقام في مكة وزيارة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) والمقام عنده .

وانه إن لم يكن لهم مال انفق عليهم الوالي من بيت المال منها قول أبي عبدالله (عليه السلام) في الصحيح كان علي (عليه السلام) يقول لولده يا بني انظروا بيت ربكم فلا يخلو منكم فلا تنابوا وأما مادل على الاجبار فقوله (عليه السلام) أيضاً في الصحيح لو عطل الناس الحج لوجب على الأمام أن يجبرهم على الحج أن شاؤوا وان أبوا فإن هذا البيت إنما وضع للحج وعنه (عليه السلام) في الصحيح أيضاً لو أن الناس تركوا الحج لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك على المقام عنده ولو تركوا زيارة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك وعلى المقام عنده فإن لم يكن لهم أموال انفق عليهم من بيت مال المسلمين .

والظاهر إن هذا تكليف للوالي فعليه الزام الناس بهذه الأمور مع عدم أحدها ولو توقف على المال صرف من بيت المال كما أن الجبر لا يختص بأهل الجدة بل يلزم على الوالي الصرف من بيت المال على هذه المصلحة والمراد ببيت المال هنا اعم من الزكاة لما ذكره الفقهاء في باب الزكاة أن من سهم سبيل الله سبحانه وتعالى الحج قال في الجواهر ولعلنا نقول به أي بالجبر والانفاق من بيت المال كما أومأ إليه في الدروس قال فيها ويستحب للحاج وغيرهم زيارة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة استحباباً مؤكدا ويجبر الأمام على ذلك الناس لو تركوه لما فيه من الجفاء المحرم كما يجبرون على الاداء .

وفي المختلف قال الشيخ إذا ترك الحج وجب على الإمام أن يجبرهم على ذلك وكذا إذا تركوا زيارة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان عليه اجبارهم عليها واستدل لذلك بأنه يلزم الجفاء وهو محرم .

وكيف كان فإنه لا خلاف في أن وجوب الحج بعد تحقق الشرائط من البلوغ والعقد والحرية والاستطاعة فوري بمعنى أنه يجب في العام الأول من الاستطاعة فلا يجوز تأخيره عنه فإن تركه فيه ففي العام الثاني وهكذا ويدل عليه جملة من الأخبار ولو أخر مع وجود الشرائط بلا عذر يكون عاصياً بل لا يبعد كونه كبيرة كما صرح به جماعة ويمكن استفادته من جملة من الأخبار كما عرفنا مما تقدم مضافاً إلى الإجماع ففي الشرائع كما عن غير واحد أن التأخير مع الشرائط كبيرة موبقة وعن المنتهى والمدارك أن الوعيد مطلقاً دليل التضييق واختاره في الجواهر أيضاً إلاّّ ان سماحة السيد الشيرازي دام ظله قال في الفقه ام أعثرعلى دليل صالح صريح في كون التأخير كبيرة وفي مهذب الأحكام مقتضي الأصل عدم كون المعصية كبيرة إلاّّ مع دليل يدل عليه سواء كان الفرق بينهما بالشدة والضعف أم بالتباين .

أما على الأول فمعلوم لا صالة البراءة عن ترتب آثار الأكثر كما في جميع موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر وأما على الثاني فلما مرّ في محله من جريان الأصل في الأثر لأنه في أطراف العلم بلا معارض فاصل العصيان معلوم وخصوصية الكبيرة منفية بالأصل نعم لو قيل بان كل معصية كبيرة إلاّّ مادل الدليل على الخلاف تثبت الكبيرة في المقام أيضاً، لكنه مجرد دعوى بلا دليل بل الدليل على خلافه كما بحثه العلماء في باب العدالة .

 وبهذا البيان نكتفي في شرح بعض مطالب الحج ونوكل المسألة إلى الكتب المفصلة حيث لايسعنا المقام لبيانها وشرحها.

السادس من الواجبات الاجتماعية التصدي للأمور

الحسبية في المجتمع والبحث فيها من جهات:

الجهة الأولى في معنى لفظ الحسبة وهو بمعنى الأجر أي ما يرجى من إتيانه الأجر والثواب عند الله تعالى ومنه الحديث (من أذن إيماناً واحتسابا غفر له ) أي أذن طلباً للثواب من الله تبارك وتعالى وكذا ( من صام يوماً من شعبان إيماناً واحتسابا ) فالأمور الحسبية وهي ما يصح أن يطلب في آتيانها الأجر والثواب من الله تبارك وتعالى سواءً كانت من الأمور النوعية كالحكومة والإصلاح بين الناس ورفع الخصومات والمنازعات أو في الأمور الشخصية كتجهيز جنازة مسلم لا ولي ولا وارث معروف له وما أشبه ذلك، أو تطهير مسجد أو مصحف أو رعاية المقدسات الدينية أو المذهبية أو الاهتمام بشؤون الأيتام والفقراء والقصر الذين لا ولي لهم وما أشبه ذلك من أمور يؤديها المجتمع لبعضهم البعض احتساباً لله تعالى ورجاء للثواب .

ومنه يعلم أن موضوعا لابد أن يكون برضا الشارع والأذن فيه فما هو مرجوع سواء كان مكروها أو محرماً لا يعد من أفراد الحسبة لعدم صحة التقرب إلى الله سبحانه وتعالى به.

الثانية: ما كان مرضياً لله تعالى ومأذوناً من قبله أما أن يكون مشروطاً بقيام شخص خاص به متصفاً بصفة خاصة ويعبر عنه با لقضاوة وعمن يقوم به بالقاضي والحاكم الشرعي وهو منشأ الحكم والفتوى ويحرم نقض حكمه وغير ذلك من الآثار مما بينه الفقهاء في كتاب القضاء أو لا يعتبر فيه ذلك بل المناط كله هو القيام بالعمل على طبق الموازين الشرعية جامعاً للشرائط وفاقداً للموائع اجتهاداً صحيحاً أو تقليداً فلا موضوع للحكم أصلاً حتى يجب إنفاذه كما يحرم نقضه أيضاً نعم في موارد انطباق الحسبة مع الحكم وكل قضاوة شرعية حسبية دون العكس فالنسبة المنطقية بينهما هي العموم المطلق

الثالثة : موارد الحسبة يمكن أن يكون واجباً كفائيا كتجهيز الميت مثلاً والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة جميع الواجبات النظامية أو واجباً عينياً كنفس ما تقدم من الأمثلة في صورة انحصارها في شخص أو أشخاص أو مندوبا كإقامة جميع قضاء الحوائج مع عدم الاقتران بالنهي أو مباحاً كجملة من المباحاة النظامية مع عدم منع شرعي في البين ولا يصح كونه مكروهاً فضلا عن كونه محرماً لأنه موضوعها متقوم بما يحتسب فيه الأجر من الله سبحانه وتعالى على ما عرفت .

الرابعة: يكفي في الدليل على الحسبة عموم قول قوله تعالى فاستبقوا الخيرات وقوله تعالى و سارعوا إلى مغفرة من ربكم فضلاً عن السنة المتواترة كقوله (عليه السلام) عونك الضعيف من افضل الصدقة وقوله (عليه السلام) الله في عدن العبد ما دام العبد في عون أخيه ) وهذه الأدلة باطلاقها تكفي في الإذن بالتصدي فلا يحتاج مع ذلك لاذن من الحاكم الشرعي نعم أذن الحاكم الشرعي يكون طريقاً لإتيان ولتشخيص الموضوع لا انه شرط للعمل وتظهر الثمرة في انه لو آتى بالعمل جامعا للشرائط يصح ، بناء على عدم شرطية الأذن إلاّّ في مقام الآثبات فقط

الخامسة: الذين يتولون الأمور الحسبية في المجتمع فيه قولان

 القول الأول: هو عدول المؤمنين إذ ينبغي أن يرعى المؤمنون العدول مصالح المجتمع التي ذكرناها مثل الأيتام ورعاية مصالحهم أو الأموات وتجهيزاتهم وتكفينهم وما أشبه ذلك إذا لم يكن لهم والي أو إقامة الشعائر وتنظيف المقدسات ورعاية المساجد أو القضاء وحل الخصومات بين الناس وهذا القول عليه جمع من الفقهاء لأن العدالة عندهم له موضوعية خاصة .

وهناك قول آخر يقول ينبغي أن يقوم به عموم الناس لبعضهم البعض بلا شرط للعدالة لان البناء القيام بالعمل وإتيانه مطابقا للموازين الشرعية سواء كان العامل عادلاً أو لم يكن عادلاً وسواءً كانت ولاية أو لم تكن له ولاية لعموم الأذن الشرعي للعمل لأنه المدار رعاية المصالح وما دام الإنسان ثقة يرعى هذه المصالح أو صاحب خبرة فيكفي في رعايتها مراعاة المصلحة وإن لم يكن في نفسه عادلا

السادس: اختلفت الكلمة في أن الحسبة مؤخرة عن ولاية الحاكم الشرعي رتبة بمعنى إنها لا تصل النوبة إلى عموم الناس في رعاية مصالح المجتمع مع وجود الحاكم الشرعي وإمكان الاستئذان منه اختلفت الكلمة إلى قولين

 قول : يقول أن ولاية الحسبة أو الأمور الحسبية لا تصح إلاّّ بعد ولاية الحاكم الشرعي وعدم القدرة للوصول إليه أما مع وجوده فلا مجال للحسبة إلاّّ بعد الاستئذان منه والظاهر أن القول الأول هو الأقرب ويؤيده السيرة المستمرة من زمان المعصومين (عليهم السلام) إلى يومنا هذا فلو وجد ميت لا ولي له ويمكن الاستئذان في تجهيزاته من الحاكم فتصدى لها شخص من للمجتمع بدون استئذان الحاكم وكان تصديه مطابقا للقوانين الشرعية من كل جهة  لا يقال بوجوب النبش وأجراء التجهيزات عليه ثانيا بأذن الحاكم الشرعي الظاهر انه لا مجال للالتزام به ولو احتكر الملاك الطعام عن الناس ووقع الناس في المضيقة وقام شخص من المجتمع مع إمكان الاستئذان من الحاكم الشرعي إلاّّ انه لم يستأذن منه وباع الطعام بسعر الوقت مع مراعاة جميع الجهات الشرعية من الغبن والغرر وما أشبه ذلك فهل يقال ببطلان هذه البيوع ، الظاهران الالتزام به أيضاً من الموارد الصعبة.

 وكما أن من راعى شؤون اليتامى في أموالهم أو في مصالحهم من دون أن يستأذن من الحاكم الشرعي وقد طبق في ذلك الموازين الشرعية لا يقال أن الحكم ببطلان تصرفاته التي كانت في مصالحهم ما دام لم يستأذن من الحاكم الشرعي والالتزام به صعب .

ويدل على ذلك قوله تعالى (  ولا تقربوا مال اليتيم إلاّّ بالتي هي احسن )  فإن ظاهر الاستثناء  أن القرب إذا كان حسنا جائز وليس الخطاب للحكام خاصة بل هو للعموم وإذا ثبت ذلك في مال اليتيم ثبت في غيره بالأولوية وبعدم القول بالفصل أيضاً ويدل عليه أيضاً قوله تعالى ( وتعاونوا على البر والتقوى ) ولا أشكال في أن التصدي للأمور الاجتماعية العامة من رعاية مصالح المجتمع من مصاديق التعاون على البر وعلى التقوى مضافا إلى الأخبار الخاصة كالخبر الوارد في باب الوصية من مات ولم يعين وصيه قال (عليه السلام) ما معناه إذا قام رجل ثقة وباشر ذلك فلا باس به فإذا جاز هذا الأمر في باب الوصية الجارية في مختلف شؤون الميت يثبت في غيرها أيضاً بلا فرق .

وفي العناوين ادعى السيد المراغي قدس سره ظهور إجماع الأصحاب على الجواز من دون نكير ولا يخفى عليك أن من أهم الأمور التي تزيد تماسك المجتمع وتحل مشاكله وتجعله متكاتفا متراصا متكا فلا هو التصدي لمسائل الأمور الحسبية التي تجعل بعض الناس راعيا للبعض الآخر وراعيا لمصالحه على تفصيلات ذكرها الفقهاء في باب القضاء لا يسعنا المجال للتعرض إليها فنو كلها إلى محلها