المادة: البلاغة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 026.doc

الحوار الداخلي وأطرافه

إن (النفس) أو (الذات) هي التي تشكل (طرفاً آخر) للتحاور الداخلي،... إلاّ أنّ محاورة الذات أو النّفس تأخذ أشكالاً مختلفة، منها:

1- الحوار المباشر:

وهو أن يتحاور الإنسان مع نفسه مباشرة، مثل قول الكافر يوم القيامة:

(يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً). وهذا النمط من الحوار على مستويات، منها ما هو:

- نفسي: كالنموذج المتقدم، ومنها:

- تعليمي: مثل قوله (عليه السلام): (عجبت لمن يحتمي من الطعام لمضرّته، كيف لا يحتمي من الذنب لمعرّته). فمحادثته (عليه السلام) مع النفس هنا، يستهدف منها تعليم الآخرين.

ومنها:

- ذهني: مثل قوله تعالى: (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) حيث إنّ الهدف من التساؤل هو: معرفة الحقيقة.

2- الحوار غير المباشر:

وهو الحوار الذي يتم بين الشخص وذاته، إلاّ أنّه لا يتمّ مباشرة بل خلال (أقنعة) متنوعة، منها:

- اصطناع طرف يوجّه إليه الخطاب، مثل قوله (عليه السلام):

(إليك عني يا دنيا، فحبلك على غاربك، قد انسللت من مخالبك...) فالدنيا تمثل في واقعها (رمزاً) أو مؤشراً للجانب (الشهوي) من الإنسان، ولذلك يمكن استبدالها بالنفس الشهوانية. وفي الحالتين يظل هذا النمط من الحوار غير مباشر لأنه لا يخاطب النفس مباشرة بل عن وراء قناع فني كما لحظنا.

ومن أمثلته:

حوار السائل: حيث يتمّ التحاور مع النفس من خلال كتابة (رسالة)، كما حَدث للإمام علي (عليه السلام) حينما اقترح على أحدهم ـ وقد اشترى داراً ـ أنْ يكتب في هذا المجال: (هذا ما اشتراه عبدّ ذليل...).

ومنها:

- مخاطبة النفس من خلال (التعجٌّب) مثلاً، إلاّ أنّ المعنيّ هو غيرها، مثل قوله (عليه السلام) أيضاً: (أتمتلئ السائمة من رعيها فتبرك... ويأكل عليّ من زاده فيهجع؟ قرّت ـ إذن ـ عينه!!)... فالإمام (عليه السلام) ـ مع أنه يتحدث مع نفسه إلاّ أنّ المخاطب هو الناس.

وهذا النمط من الخطاب يتخذ عدة أقنعة، منها:

- مخاطبة النفس من خلال تقرير الحقيقة، إلا أنّ المقصود غيرها أيضاً مثل قوله (عليه السلام): (ما أهمني ذنب أمهلت بعده حتى أصلي ركعتين، وأسأل الله العافية)، حيث يستهدف من تقرير هذه الحقيقة لفت نظر الآخرين إلى أهمية التوبة من خلال الصلاة المذكورة.

2- تقسيمات ثانوية:

الحوار - سواء أكان خارجياً أم داخلياً، وسواء أكان ذا طرفين أم أكثر - تنتظمه أشكال متنوعة، نعرض لها وفق ما يلي:

1- الحوار المشترك والانفرادي:

- الحوار المشترك: ويُقصد به الحوار الذي يتمّ من خلال وجود طرفين أو أكثر تشترك في صياغته بحيث يتّجه أحد الأطراف بحديثه إلى طرف آخر، وهذا الطرف يجيبه، وهكذا: مثل محاورة ابني آدم كما لحظنا، حيث قال أحدهما: (لأقتلنك) وحيث أجابه الآخر: (إنما يتقبل الله...).

- الحوار الانفرادي: وهو الحوار الذي (ينفرد) به طرف واحد يتّجه به إلى طرف آخر: دون أنْ يقترن ذلك بجواب من الطرف الآخر،... وهذا من نحو قول بنت شعيب لأبيها: (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ) فالملاحظ هنا أنّ شعيباً لم يرد على ابنته، أو لنقل: إنّ النص لم يبرز الجواب بل اكتفى بإيراد طرف واحد من المحاورة لأنّ المهم هو تقديم الاقتراح (وقد تمت الموافقة على ذلك) دون أنْ تكون هناك ضرورة لإيراد (جواب)، وهذا كما لو اقترح شخص على مدير مؤسسة بتوظيف أحد الأشخاص، حيث يقتنع المدير بذلك فيرسل إليه دون أنْ تكون ثمّة حاجة لأنْ يعلّق على هذا الاقتراح بشيء.

2- الحوار المبهم والمحدّد

- الحوار المبهم: وهو (الحوار) الذي يقوم بين أطراف مبهمة أو مجهولة، حيث (يتحاورون) فيما بينهم، دون أن تعرف هويّة الشخص. وهذا من نحو قوله تعالى:

(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها...).

فالحوار هنا يتم بين نسوة مجهولات لم تتحدد فيها هوية امرأة معينة، لأنّ الهدف هو لفت النظر إلى سلوك النسوة بعامة حيث يطبعهن المكر والثرثرة والفضول... إلخ.

- الحوار المحدد: وهو ما كان على عكس سابقة من حيث التحديد لهوية المتحاورين كشخصيات الأنبياء (عليهم السلام) وغيرهم ممن تتجدد أسماؤهم نظراً لاقترانها بأوصاف تخصّ الشخصيات المشار إليها.

3- الحوار الجمعي والفردي:

- الحوار الجمعي: ويقصد به أنْ يتم الحوار على لسان (مجموعة) تشترك في صفات متماثلة. سواء أكان هذا (المجموع): أشخاصاً معدودين (مثل أصحاب الكهف) أو غير معدودين مثل (نسوة المدينة)، وسواء أكانوا طائفة أو قوماً أو شعباً أو أمّة (مثل: الأقوام البائدة ومحاورتهم مع الأنبياء (عليهم السلام) مثلاً...) والمسوغ الفني لصياغة (الحوار الجمعي) يظل من الوضوح بمكان كبير.

الحوار الفردي: وهو ما يجري على لسان شخص واحد وليس جماعة، وهذا مثل سائر الشخصيات التي وقفنا على نماذج من محاوراتهم مثل ابني آدم... إلخ.

3- تقسيمات فرعية:

ثمة مستويات متنوعة من الحوار، يكتسب كل واحد منها طابعاً خاصّاً له بلاغته، ومن جملتها:

الحوار المزدوج:

وهو نمط من الحوار الذي يتجه به الشخص إلى أكثر من طرف، مثل مخاطبة نوح (عليه السلام) لقومه:

(قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ...) ثم مخاطبته لله تعالى: (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً...)...

فالملاحظ هنا أنّ نوحاً وجّه خطاباً إلى قومه بناءً على طلب من الله تعالى بأنْ يُنذر قومه، وفعلاً أنذرهم بقوله: (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ).

وبعد أن أنهى نوح (عليه السلام) مهمة الإنذار حيث لم يستجب القوم لإنذاره، حينئذٍ اتّجه إلى الله تعالى ليخبره عن الإنذار ونتائجه، فقال: (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلأَفِراراً...إلخ)(1).

والمسوّغ الفني لأمثلة هذا الحوار المزدوج هو: خطورة المهمة الملقاة على نوح من جانب، وكونه لم يُتح له أنْ يعدّل من سلوك قومه من جانب آخر، وكونه قد طلب من الله أن يُهلك هؤلاء الكافرين جميعاً، وحينئذٍ كان لابدّ من أنْ يتوجّه إلى الله تعالى ليُبْرئ ذمته في عمله العبادي، وليخفف من شدة المعاناة التي واجهها، وليسوّغ طلبه بإهلاكهم وإبادتهم...

الحوار المتكرر:

وهو نمط من الحوار الذي يتكرر (من حيث الصياغة اللفظية له)، وهذا من نحو الحوار الذي لحظناه عند نوح ـ وهو يوجّه كلامه إلى الله تعالى: (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً...) ثمّ يستأنف الحوار، من جديد: (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلأَخَساراً) ثم يستأنف أيضاً:

(وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً).

فالملاحظ، أن نوحاً قد وجه كلامه إلى الله تعالى مفصلاً، إلا أنّه قطعه إلى أقسام ثلاثة، استأنف كل قسم منها بأداة التحاور (قال:).

والمسوغ الفني لهذا النمط من الحوار المتكرر أو المستأنف هو: اختلاف الموضوعات من جانب، وطول المدّة الزمنية من جانب آخر... فالموضوع الأوّل كان في صدد توضيح ردود الفعل لدى الكافرين بشكل مطلق،... والموضوع الثاني: كان في صدد التركيز على كونهم قد اتبعوا كبراءهم الذين قالوا لهم لا تدعوا أصنامكم،... والموضوع الثالث: كان في صدد المطالبة بإبادتهم... وهذا من حيث المسوّغ الفني للموضوعات...

أمّا من حيث المسوغ الفني لطول المدة الزمنية: فلأنّ المعروف أنّ نوحاً لبث في قومه قروناً طويلة، وحينئذٍ فإنّ تكرر (المحاورة) يفرضه هذا الطول الزمني، حيث يستشعر القارئ أنّ نوحاً كان بين مدة وأخرى يتّجه بالخطاب إلى الله تعالى، ولذلك جاء الحوار (مستأنفاً) يتناسب والمقاطع الزمنية التي واجهها بالنحو الذي أوضحناه.

 الحوار المسرحي:

وهو نمط من الحوار الذي يخضع لظروف خاصة يمارس فيها المتحاور دوراً تمثيلياً وليس مجرد محاورة مع طرف معين فيسأل أو يجيب، وهذا من نحو (مؤمن آل فرعون) الذي حضر اجتماعاً لفرعون وحاشيته، عندما اقترح فرعون عليهم قتل موسى (عليه السلام): فقال الرجل: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ... إلخ).

وهنا قاطعه فرعون فقال:

(قالَ فِرْعَوْنُ: ما أُرِيكُمْ إِلأَما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلأَسَبِيلَ الرَّشادِ)، واستمرّ مؤمن آل فرعون، فقال (وكأنّه يتجاهل حديث فرعون) مستمراً في خطابه:

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ: يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزابِ... إلخ) وهنا قاطعه فرعون من جديد (وكأنه يسخر من الرجل):

(وَقالَ فِرْعَوْنُ: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً... إلخ)، ولكنّ الرجل استمرّ في حديثه (غير ملتفت لمقاطعة فرعون):

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ: يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ...).

فالملاحظ في هذه (الحوادث) أنّ أحدها وكأنّه لا علاقة له بالآخر، إلا أنّ التأمل الدقيق لها يكشف عن أنّ وقائع الجلسة التي عقدها فرعون لابدّ أن نتصورها على هذا النحو:

يجيء (مؤمن آل فرعون) فينصح القوم بعدم قتل موسى،... إلا أن فرعون يقول لهم بأنّ القتل هو الرأي الصائب... وطبيعياً، ألاّ يروق هذا الكلام مؤمن آل فرعون الذي قاطعه بتعليقه المذكور، وحينئذٍ لابدّ أنْ يواصل (مؤمن آل فرعون) حديثه،... ولكن فرعون ـ لكي يسخر من المؤمن ويصرفه عن مواصلة الكلام ـ نجده يقاطع المؤمن، فيقدم اقتراحاً سخيفاً هو: أن يبني له هامان صرحاً لكي يطلع إلى السماء... ومن الواضح، أن هذا الاقتراح لا علاقة له البتة بحديث المؤمن،... كل ما في الأمر أنّ فرعون يستهدف السخرية من المؤمن، فيقاطع بمثل هذا الكلام السخيف...

إذن: المسوغ الفني لأمثلة هذا الحوار الذي يبدو وكأنه منفصل بعضه عن الآخر، أو مستأنف، أو يتخلله حوار طارئ... المسوغ الفني له: أن طبيعة الجلسة استتلت أمثلة هذا الحوار وصياغته بالنحو المتقدم.

 

 الحوار المنقول:

وهو نوع من الحوار الذي ينقله الشخص عن موقف استدعى المحاورة بين طرفين، وهذا من نحو قوله (عليه السلام):

(وقد قال لي قائل: إنك على هذا الأمر يا بن أبي طالب لحريص، فقلت: بل أنتم والله لأحرص وأبعد).

والمسوغ الفني لمثل هذا الحوار هو: نقل أفكار الناس والردّ عليها من خلال كون (النقل) أشدٌّ تأثيراً من مجرد عرض الحقائق، فبدلاً من أنْ يقول (عليه السلام) بأنّه غير حريص على الخلافة الرسمية، (نقل) ذلك من خلال محاورة البعض لهذا الجانب حتى تتبلور الحقائق بشكل أكثر وضوحاً وتفصيلاً.

 الحوار الفرضي:

الحوارات في مستوياتها المتقدمة: تُجسد حوارات خارجية تجري (بالفعل) بين الأطراف،... وهناك حوارات تجري (بالقوة)، يمكن درج بعضها ضمن ما أسميناه بـ(الحوار الفرضي)، وهو الحوار الذي يجري بين طرفين لم يتحاورا فعلاً بل أنّ الواقع النفسي للمتحاورين يُفصح عن إمكانية الصدور عن أمثلة هذا الحوار،... وهذا من نحو قوله تعالى:

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ: مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ؟

لَيَقُولُنَّ: خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ).

فالحوار هنا لم يقع بالفعل، ولكنه لو قُدّر بأن يسأل محمد (صلى الله عليه وآله) هؤلاء المشككين برسالة الإسلام، لأجابوه بأنّ الله تعالى هو مبدع السماوات والأرض، فما دام الواقع النفسي ينطوي بالضرورة على أمثلة هذا الحوار الذي يحياه الإنسان، حينئذٍ لا يختلف هذا الحوار عن الأشكال السابقة إلاّ في نمط مسوّغاته...

والمسوّغ الفنيّ لهذا النمط هو: طبيعة الواقع الفكري الذي يحياه المشككون برسالة الإسلام، واليوم الآخر، فليس من الضروري أنْ يأتي شخص محدّد ويسأل: (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ)؟ كما أنّه ليس من الضروري أنْ يُجيب الكافر بأنّ الله هو الخالق لهما؛ ما دام مستعداً لأن يُقرّ بذلك لو سُئل بالفعل...

 الحوار الرمزي:

إذا كان (الحوار الفرضي) حواراً (بالقوة) من حيث كونه خاضعاً لحقيقة لو قُدّر لها بأنْ تُبرز إلى الوجود؛ لكانت واقعاً بالفعل، فإنّ هناك نمطاً من الحوار (بالقوة) أيضاً إلاّ أنه يختلف عن سابقه بكونه (رمزاً) لحقيقة وليس هو الحقيقة بذاتها،... وهذا من نحو قوله تعالى:

(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ: هَلِ امْتَلأْتِ؟

وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟).

فالله تعالى لم يقل لجهنم هل امتلأت؟ على نحو واقعي أو عملي، كما أنّ جهنم (عملياً) لم تقل: هل من مزيد؟ بل إنّ (الحوار المذكور) هو (رمز) لحقيقة تستهدف الإشارة إلى أنّ المعصية لن تضرّ الله شيئاً، وأنّ جهنم تستقبل المزيد من العصاة...

والمسوّغ الفني للمحاورات الرمزية يتضح بجلاء إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما سبق أنْ قلناه من: أنّ المعصية لن تضرّ الله شيئاً وأنّ جهنم سوف تحتضن العصاة مهما كثر عددهم.

ــــــــــــــ

الهامش

 (1)- الفارق بين هذا الحوار وبين ما سبق أن عرضنا له وهو (الحوار المتعدد الأطراف) هو أن هذا الأخير تتكافأ فيه الأطراف الثلاثة في المحادثة. أما المزدوج فإن الشخص الواحد يوجه خطابه إلى طرفين كما هو واضح فالملاحظ في الأول أنّ ابنة شعيب وجهت خطابها إلى أبيها، وأبوها وجه خطاباً إلى موسى، وموسى (عليه السلام) وجه خطابه إلى شعيب (عليه السلام). وبذلك يكون الحوار قد تعدد إلى ثلاثة أطراف. أمّا في المزدوج فإن نوحاً (عليه السلام) توجّه بخطابه إلى كل من السماء، وقومه.