mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 29.doc

بسم الله الرحمن الرحيم    

انتهينا في محاضرتنا السابقة من الحديث عن التربية العقلية والتربية المعرفية أو ما أطلقنا عليه مصطلح السمات الذهنية أو العقلية والعمليات التربوية التي ينبغي أن تسلك حيالها من خلال التصور الإسلامي مقارناً بالتصور الأرضي لهذا الجانب، وكان من المفروض أن نبدأ الآن ونتحدث عن التربية الشعائرية بصفة أننا إذا انتهينا من التربية الذهنية انتهينا من ذلك إلى أن التصور الإسلامي للعمليات الذهنية أو المعرفية بشكل عام تتميز عن التصور الأرضي لهذا الجانب وذلك لكونها توظف أساساً من أجل المعرفة الشرعية فحسب، وما عداها فتظل مجرد معرفة وسيلية توظف من أجل المعرفة الشرعية، لذلك فإن من الأجدر أن نتحدث عن المعرفة الشرعية متمثلة في السمات الشعائرية أو التربية الشعائرية وكذلك سائر أنماط التربية الشرعية من تربية أسرية واقتصادية وسياسية وو.. الخ، لكننا سنؤجل الحديث عن ذلك كله ونتحدث بموجب ما ورد في الكتاب المقرر دراسياً وهو (دراسات علم النفس الإسلامي) الجزء الثاني حيث بدأنا في الحديث عن السمات العقلية، أما الآن فننتقل إلى الحديث عن السمات المزاجية.

السمات المزاجية

إذن لدينا الآن عنوان جديد هو (السمات المزاجية)، ونقصد بالسمات المزاجية الخصائص العامة التي تطبع الشخصية سواء أكانت ذات طابع تكويني من حيث الصلة بين السمة النفسية وصلتها بالجسم أم كانت ذات طابع عام بغض النظر عن الصلة المشار إليها، وتبعاً لذلك نحاول في هذا الحقل أن نعرض لهذين النمطين من السمات، أي السمات التكوينية من جانب والسمات العامة من جانب آخر، ونبدأ ذلك بالحديث عن السمات التكوينية فنقول:

نعني بالسمات التكوينية ما يطلق عليه علماء النفس مصطلح النمط أو الطراز الذي يسم الشخصية من حيث العلاقة المتبادلة بين الجسم والمزاج، ومن البيّن أن دراسة الشخصية من حيث صلة الجهاز النفسي بالبنية الجسمية لها تظل من الدراسات المبكرة التي عرفها الأغارقة كما أن علماء النفس والبحثيين مثل بلشمر وبافلوف حاولوا بدورهم أن يدرسوا الشخصية وفقاً للتركيبة المذكورة، أي الصلة بين النفس والجسم.

علم النفس الإسلامي أو التربية الإسلامية بدورها تدرس الشخصية في واحد من تصوراتها المتنوعة لها في ضوء السمة المزاجية التي تطبع الجنس البشري، حيث يشطرها المشرع الإسلامي إلى سمتين، حارة وباردة، ويجعل التوازن بين هاتين السمتين هي الطابع السوي للشخصية، أما إذا طغت إحدى هاتين السمتين على الأخرى حينئذٍ تتحول الشخصية إلى شخصية مرضية على النحو الذي يوضحه الإمام الصادق (عليه السلام) بقوله عن الإنسان: (وقد تجري فيه النفس وهي حارة وتجري فيه وهي باردة فإذا حلت به الحرارة أشد بطر وقتل وسفك واستبشر وزنى وبذخ، وإذا كانت باردة كن وحزن واستكان وذبل وو..) فالإمام الصادق (عليه السلام) في هذا النص العيادي أشار إلى نمطي المرض المذكورين بالنحو الذي نلاحظه أيضاً في بحوث علم النفس المرضي، من حيث التصنيف للأمراض المرضية ومنها الذهان، حيث شطرته الأبحاث الأرضية إلى مرض الهوس والاكتئاب، كما هو المصطلح الذي يستخدمه علماء النفس الأرضيين، حيث يتميز المريض في الحالة الأولى، أي الهوس بحالات غير عادية من المرح والنشاط والهياج العام، وبعكسه يتميز المريض في الحالة الأخرى بسمات الركود والانسحاب والكآبة وما إلى ذلك..

وتترتب على طغيان أحد النمطين المذكورين جملة من أشكال السلوك المرضي منها ما يتصل بالسمات النفسية، ومنها ما يتصل بالسمات الذهنية، وقد ألمح الإمام (عليه السلام) إلى أحد أنماط الشخصية التي يطلق علماء النفس على اسمها اسم (الشخصية السيكوباثية) وهي الشخصية المنحرفة التي ينعدم عندها الحس بالمسؤولية، ألمح الإمام (عليه السلام) إلى بعض سماتها مثل سمة القتل والسرقة والفجور وهي أنماط من السلوك المنحرف الذي يسم الشخصية المطبوعة بالحالة الأولى، علماً بأن علماء النفس في بعض تصنيفاتهم للأشكال المرضية يفرزون مثل هذه الشخصية عن أشكال أخرى من المرض أي العصاب والذهان والتخلف العقلي.. الخ، ويفردون في حقل أمراض الشخصية أي إن هذا الحقل أو أمراض الشخصية تظل أمراضاً متصلة بما هو منحرف أخلاقياً عن الشخصية دون أن يسحب ذلك خلل ملحوظ في الجهاز العقلي للشخصية، إلا أن اتجاهات نفسية أخرى تردم أمثلة هذه الفوارق وتدرجها جميعاً ضمن الاضطراب الذي يسم الشخصية بشكلٍ عام، ويعنينا من ذلك أن نعرض لوجهة النظر الإسلامية التي تفرز كلاً مايسمى بالمرض في حقل مستقل بذاته، إلا أنها تصل أيضاً بين مجموعة الاضطرابات التي تطبع الشخصية من جانب آخر، وهذا الملحق الأخير يمكننا أن نتبينه في الملاحظة العيادية للإمام (عليه السلام) حين وصل بين الشخصية الهوسية والشخصية المنحرفة، فجعل الأخيرة جزء من جملة إفرازات الشخصية الأولى، وإلا فإن الشخصية المنحرفة أي السيكوباثية كما لاحظ ذلك جمع من علماء النفس تظل ذات طابع مستقل في نوع الاضطراب الذي تنتسب إليه، وهذا ما سيحدده بوضوح التصور الإسلامي للشخصية من حيث السمات الفكرية التي سنعرض لها في حقل لاحق إنشاء الله، وهي سمات يتناولها المشرع الإسلامي من زاوية الحاجة مرتباً عليها آثار العقاب.

وأما فيما يتصل بالنمط الآخر من الشخصية، أي الشخصية المكتئبة فقد ألمح الإمام (عليه السلام) إلى سمة ذات بعد ذهني وهي النسيان، ومن الواضح أن النسيان يظل واحداً من سمات الذهاني مما يعني أن الكآبة وهي أحد شكليها المنتسب إلى الذهان تفرز جملة من الأعراض منها ظاهرة النسيان حسب إشارات الطب النفسي في هذا الموضوع.

أخيراً ثمة سمة جسمية ألمح الإمام الصادق (عليه السلام) عليها أيضاً فيما يتصل بالشخصية المكتئبة وهي نقصان وزنه وهو أمر أيضاً أشار الطب النفسي إلى أن المكتئب ذهانياً يتعرّض لنقصان الوزن بسبب قلة تناول الطعام وهو أساساً ناجم عن انسحاب المريض إلى داخل ذاته، أي انسحاب المريض من الحياة واهتماماتها في هذا الميدان.

المهم أن الإمام الصادق (عليه السلام) في الملاحظة العيادية المذكورة أومأ إلى جملة من السمات النفسية والعقلية والجسمية فيما يتصل بنمطي المزاج للشخصية، كما أوضح تداخل أكثر من مرض فيها بالنحو الذي لاحظناه، إلا أن السؤال هو هل إن الأعراض التي ألمح التصور الإسلامي لها هي ذات طابع ذهاني أم عصابي؟ أي طابع يتسم بالجنون أم طابع يتصل بالمرض النفسي؟!.

لو عدنا إلى علم النفس المرضي وتصوراته في هذا الصدد للاحظنا أن الأعراض التي أشار الإمام (عليه السلام) إليها تنتسب في الغالب إلى الذهان أي الجنون، فالنسيان ونقصان الوزن مثلاً ينجمان عن الحالة الذهانية، في حين أن المريض عصابياً يظل محتفظاً بذاكرته ووزنه الاعتيادي أو على الأقل لا ينقص منهما إلا مقداراً ضئيلاً، وفي تصورنا نحن أن ملاحظة الإمام (عليه السلام) ناظرة إلى أن المرض كليهما فما دمنا نعرف أن التخوم الفاصلة بين الذهان والعصاب ليست بالنحو الحاسم بقدر ما هي حائمة على الدرجة وليس النوع، وهذا ما يقرره أيضاً بعض علماء الطب النفسي، إلا أننا مع ذلك يمكننا أن نذهب إلى أن طغيان أحد النمطين من الممكن أن يصل إلى درجة الذهان، بحيث يرفض المريض طابع التمييز بين الواقع والخيال وقد لا يصل إلى ذلك، ولعل صمت الإمام (عليه السلام) حيال الفارق بين نمطي الذهان والعصاب يكشف عن إمكانية شمول الملاحظة لكليهما بخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن جملة من الأعراض التي أشار إليها (عليه السلام) كالسرقة والقتل والفجور تظل أعراضاً للشخصية المنحرفة، أي السيكوباثية التي تحتفظ بقواها العقلية وتحتفظ بقدراتها على التمييز الأمر الذي يعزز بنا إلى أن ملاحظة الإمام (عليه السلام) العيادية إنما هي ناظرة إلى مطلق السلوك ذهانياً كان أم عصابياً.

إن ما يمكن الآن أن نستخلصه من الملاحظة العيادية المتقدمة للإمام (عليه السلام) هي أن الشخصية الإسلامية السوية يتوازن داخلها كل من نمطي المزاج، فلا تجنح إلى المرح ولا تجنح إلى الكآبة، لأنهما خروج عن حدّ الاعتدال الذي يسم التركيبة البشرية، إن المرح يقتاد الشخصية إلى أن تمنح الواقع بعداً أكثر مما يحتمله أي تعويل الواقع وإكساب الواقع دلالات لا وجود لها، هذا فيما يتصل بالمرح، وأما الكآبة فعكس ذلك تماماً، فإنها هروب من الواقع وانسحاب إلى أسوار الذات وتعطيل لفاعلية الشخصية، وقد سبق أن أوضحنا في المحاضرة المتقدمة أن تقبل الواقع يجسد عند جميع الاتجاهات التربوية والنفسية واحداً من معايير السواء، بينما يعد المرح الزائد استجابة شاذة، أي استجابة خارجة عن الواقع، وذلك من خلال تحميل الواقع ما هو خارج عن نطاقه، كما تعد الكآبة استجابة شاذة حيال الواقع وذلك من خلال الانسحاب منه، أو الهروب منه، وليس تحميله أكثر مما هو.

على أية حال إننا سوف نلقي مزيداً من الإنارات على هذا الجانب عندما نعرض للسمات الذاتية التي يجيء المرح أو الحزن واحداً من مفرداتها، بيد أن هدفنا في هذا الحقل الآن، أي الحقل المتصل بالسمة المزاجية أن نعرض لسمة لها علاقة دنيوية بالشخصية، وانسحابها على مجمل سلوكها فيما تتمثل حيناً في ذهان يخل الشخصية تماماً عن ممارسة وظيفتها للحياة، وحيناً تتمثل في عصاب يحتجز الشخصية من ممارسة وظيفتها بالشكل المطلوب، وإلا فإنها تمارس وظيفتها بشكل أو بآخر.

بقي أن نشير إلى موقع هذه الملاحظة العيادية للإمام (عليه السلام) من التكييف الإسلامي لها، أي في ضوء الموقف الفلسفي للإنسان في تكييف المزاج المذكور.

إن الإمام الصادق (عليه السلام) يعقب على ملاحظته العيادية التي تحدثنا عنها بقوله: (ولا يكون أقل من ذلك - أي طغيان نمطي الهوس والكآبة - إلا بخطيئة عملها) طبعاً إذا دققنا النظر في التعقيب المذكور، أي القول بأن ذلك يتم من خلال خطيئة يمارسها الإنسان نقول حينئذ فإن الملاحظة هنا تأخذ طابعاً دراسياً آخر هو أسباب المرض وليس مجرد تشخيص المرض، هنا نجد أن علم النفس الأرضي يخلع على هذه الظاهرة سبباً وراثياً، أي أن الشخصية ترث بنية خاصة تجعلها ذات استعداد لاكتساب هذه السمة أو تلك، لكن إذا تجاوزنا الاتجاه النفسي أو الطبي الذي يصل بين البنية وبين المزاج إلى مطلق الوراثة العامة، فإن هذا الاتجاه بدوره يتجه إلى أن يوصل بيننا وبين الجذر الوراثي أيضاً إلا أنه لا ينفي أهمية المحيط بخاصة إذا كانت السمة عصابية وليست ذهانية.

وأما التصور الإسلامي بصفته تصوراً يصل بين السلوك وبين الهدف العبادي للوجود الإنساني على الأرض فإنه يمتلك تفسيراً عبادياً لهذه الظاهرة حيث لاحظتم كيف أن الإمام (عليه السلام) وصلها بممارسة الخطيئة أي العمل المحظور إسلامياً، وسواء أكانت هذه الظاهرة وراثية أم بيئية فإن تكييفها يجري في الحالة الأولى وفقاً لمعرفة السماء صلة بما ستسلكه الشخصية من ممارسات لاحقة، أي مع فرضية أن الشخصية سوف تسلك سلوكاً انحرافياً عندما تصل مرحلة البلوغ، حينئذ فإن معرفة السماء ومعرفة الله تعالى لما ستسلكه هذه الشخصية من ممارسات لاحقة فإن ذلك يتم تكييفها بالنحو الذي يجسد عقاباً للشخصية. كما يتم في الحالة الثانية وفقاً لممارسات فعلية تترتب عليها آثار العقاب لاحقاً، ولكن في الحالتين فإن التصور الإسلامي لا يفصل أية ظاهرة مرضية عن البعد العبادي لها، وهو أمر نقف على تفصيلاته بشكل أكثر تحديداً إنشاء الله حينما نعرض لسائر أنماط السلوك عند الشخصية.

بهذا ينتهي حديثنا عن السمات التكوينية ونتجه بعد ذلك إلى الحديث عن السمات كما أشرنا إلى ذلك في مقدمة هذه المحاضرة. ونتساءل أولاً ما المقصود بالسمات العامة؟!.

السمات

السمة العامة هي سمات نفسية لا ترتبط بالبعد التكويني أي الجسمي الذي لاحظناه قبل قليل بقدر ما ترتبط بالجهاز العام للشخصية من حيث سلامته أو اضطرابه، أي سلامة الجهاز أو اضطراب الجهاز بغض النظر عن درجة ذلك، وفي هذا السياق يمكننا أن نستشهد بجملة من السمات العامة التي وردت في قائمة الإمام الصادق (عليه السلام) التصنيفية أي التي صنفت السلوك أو السمات إلى خمس وسبعين مفردة لاحظتموها في محاضرات متقدمة واستشهدنا بها في جملة محاضرات ونستشهد بها من الآن أيضاً فصاعداً لأنها تمثل في الواقع وثيقة للسلوك البشري وهي وثيقة تتناول السمات العامة والمزاجية والعقلية والاجتماعية وو.. الخ. لأنها سمات تتكفل برصد جميع ما توصف به الشخصية من ملامح.

على أية حال نتقدم الآن بجملة سمات عامة وردت في قائمة الإمام الصادق (عليه السلام) ونعالج ذلك في ضوء التصور الإسلامي مقارناً بالتصور الأرضي لها، من ذلك مصطلحا السلامة ومقابلها البلاء، هذان المصطلحان من الممكن أن يشيرا إلى الجهاز النفسي للشخصية من حيث سلامتها أو اضطرابها، أي إن الشخصية السوية بشكل عام وما يقابلها من الشخصية العصابية أو الذهانية تدرج ضمن هذه السمة التي نريد أن نتحدث عنها إسلامياً، بمعنى أنه من الممكن أن يكون المشرع الإسلامي قد أورد هذه السمة بصفتها في قائمة الإمام الصادق (عليه السلام) في مرادفات العقل أو الجهل على نحو من الإشارة إلى أن من سمات العقل هو أن تحتفظ الشخصية ببناء عصبي سليم مقابلاً للشخصية المضطربة عقلياً أو نفسياً بسبب من تلف عضوي أو خلل وظيفي فيها.

إن التوصيات الإسلامية طالما تشير في كثير من النصوص إلى أن المؤمن، أي الشخصية الإسلامية الملتزمة لا تصاب بأية عاهة عقلية أو دينية، مما يعني أن الاضطراب عصاباً أم ذهاناً لا يتوافق البتة مع بناء الشخصية الإسلامية لسبب بسيط هو أن ممارسة الوظيفة العبادية المرتبطة أساساً بقمة ما يمكن تصوره من السمات السوية، أي أن درجة السواء تستكمل السمات بقدر ما تستكمل الشخصية من سمات عبادية، وتتعرض إلى السلوك بقدر ما تنسلخ من التزاماتها العبادية، وقد سبق وكررنامفصلاً على قائمة السلوك التي عرضها الإمام علي (عليه السلام) حيث أوضح أن صلة الانحرافات العبادية بالانحرافات النفسية من أمثلة الشك والعدوان ونحو ذلك على الشكل الذي عرضنا له في القسم الأول من محاضراتنا.

هذا فيما يتصل بمصطلحي السلامة مقابل البلاء، إذن السلامة ويقابلها البلاء تعني سلامة الجهاز النفسي للشخصية مقابل عدم سلامة هذا الجهاز النفسي أي الإصابة بالاضطراب العام الذي يسم الشخصية، وهنا نواجه مصطلحين آخرين يكادان يتماثلان مع المصطلحين السابقين، المصطلحان اللذان نتعرض لهما الآن هما العافية والبلاء، والمصطلحان السابقان هما السلامة والبلاء، ولعلّ تماثل البلاء مع البلوى مثلاً من جانب وتماثل العافية مع السلامة من حيث التعبير اللغوي من جانب آخر لعل التماثل بين هذين النمطين المصطلحين يوحيان إلى الطالب وكأنها بمعنى واحد، إلا أن دقة التصنيف العيادي للإمام الصادق (عليه السلام) تشير إلى وجود فارق بينهما على النحو الذي سنبدأ بتوضيحه الآن.

العافية والبلوى كعنوان جديد لسمات الشخصية العامة، فنقول:

الفارق بين السلامة وبين العافية هي أن السلامة تظل متصلة بالجهاز الوظيفي أي النفسي، أما العافية فتتصل بسمة اخرى هي سلامة السلوك من المفارقات العبادية المنهية عنه، بكلمة أخرى أن المقصود بالعافية هنا هي العافية الدينية، وأما المقصود بالسلامة هنا هي السلامة النفسية، ونظراً لارتباط كل من السلامة النفسية والعبادية بعضها بالآخر حينئذٍ نلحظ أن مرور السمتين المذكورتين في قائمة واحدة تعني ما سبق أن كررناه من أهمية الملاحظة بين وحدة المرض النفسي والعبادي، ومع أن خلل النفس من الممكن أن نفصله عن المفهوم العبادي مثلاً كأن نتصور شخصية إسلامية فاسقة غير ملتزمة يسمها الطابع المرضي المذكور، وبالعكس كأن نتصور شخصية غير إسلامية ولكنها سالمة من أعراض المرض العقلي، أقول بالرغم من أن أحدهما منفصل عن الآخر تبعاً للتصور الإسلامي الذي يفصل بين السمة  النفسية والعبادية حيناً ويرسم العلاج لهذا المرض النفسي أو ذاك إلا أنه ينبغي التأكيد على وحدة السلوكين في الآن ذاته كما كررنا.

ما زلنا في صدد أن نقدم مفهوماً شاملاً من معايير السواء والمرض في التصور الإسلامي، بحيث يتميز عن المفهوم الأرضي الذي لا يعرف إلا نمطاً واحداً منه هو الخلل العقلي أو النفسي منفصلاً عن الموقف الفلسفي للمريض.

المهم أننا لا نمل من تكرار هذه الحقيقة الإسلامية في تصورها لوحدة السلوك النفسي والعبادي من جانب، وانفصال كل منهما من جانب آخر تبعاً لما يتطلبه الموقف من فصل، فكما لاحظتم فإن من السمات العامة وردت سمة السلامة مقابل البلاء، حيث تشير هذه المفردة (السلامة) إلى الجهاز النفسي مقابل البلاء الذي يشير أيضاً إلى الجهاز النفسي إلا أن السلامة تعني اتسام الجهاز بالسلامة والبلاء يعني اتسام الجهاز بالخلل، وهذا هو تشخيص نفسي صرف يقابله تشخيص عبادي صرف أيضاً هو العافية والبلوى، أي العافية الدينية مقابل البلوى الدينية، أي العافية متمثلة في اتسام الشخصية بالسلوك العبادي المطلوب مقابل البلوى التي تعني عدم اتسام الشخصية بالالتزام العبادي المطلوب.

إذن في قائمة الإمام الصادق (عليه السلام) لاحظنا نمطين لحد الآن من السلوك أحدهما يتصل بالسلوك النفسي الصرف، والثاني يتصل بالسلوك العبادي الصرف ولكن بما أن الإمام (عليه السلام) وضع ذلك في قائمة واحدة فهذا يعني أن كلاً من السلامة النفسية والسلامة الدينية يرتبط بالآخر بحيث يعد كل خلل نفسي هو خلل عام وكل خلل عبادي هو خلل عام أيضاً، وهذا ما كررنا الحديث عنه وسنلاحظ مزيداً من أمثلة هذه الملاحظات في متابعتنا الآن للسمات العامة الأخرى ومنها السمات الآتية التي تكاد تتماثل مع السمات التي حدثناكم عنها قبل قليل، وهذه السمات هي الراحة ويقابلها التعب والسعادة ويقابلها الشقاء والفرح ويقابله الحزن، وسنتحدث عن هذه المصطلحات التي تتماثل مع سابقاتها حيث أن الراحة والسعادة والفرح والسلامة والعافية تتماثل مدلولاتها كما أن البلوى والبلاء والتعب والشقاء والحزن تتماثل مستويات دلالاتها، إلا أن ثمة فوارق بسيطة جداً يحرص المشرع الإسلامي على رصدها جميعاً بالنحو الذي نبدأ الآن فنتابع الحديث عنه.

إذن العنوان الجديد الذي نقف عنه هو (الوقوف عند ثلاثة مصطلحات: 1- الراحة ويقابلها التعب 2- السعادة ويقابلها الشقاء 3- الفرح ويقابله الحزن) إذن لنتحدث عن هذه المستويات من الظواهر المتصلة بالسمات العامة لدى الشخصية. وما ينبغي أن يسلك حيالها من العمليات التربوية حتى يتم انتظامها بالشكل المطلوب.

لابد وأن تتذكروا القائمة التي قدمها الإمام الصادق (عليه السلام) حيث نواجه في هذه القائمة فضلاً عن ما واجهناه سابقاً نواجه مفردات ثلاثة من السلوك المتصل بالسمات العامة على ما هو ملحوظ في العنوان المتقدم، ويبدو أن هذه المفردات تتمثل كما أشرنا لأول وهلة في دلالتها إلا أن التدقيق في كل منها تقودنا إلى ملاحظة جملة من الفوارق بين السمات المتقدمة، فالفرح ويقابله الحزن مثلاً يمكننا بأن نعرفه بأنه إحساس بالسرور والبشر مقابلاً للإحساس بالكآبة، وقد لاحظنا عند حديثنا عن الكآبة في ضوء التصورين الإسلامي والأرضي أنها تعني انسحاب الشخصية إلى داخلها مصحوباً بالغم والحزن والهم ونحو ذلك.. ويقابلها في هذا المجال إحساس بالفرح والسرور والبشر ولكن في نطاق من الاعتدال بطبيعة الحال، وإلا فإن مجاوزة الاعتدال يحول الظاهرة إلى مرح زائد عن الحد الطبيعي، أي يحوّله إلى مرض بدلاً من الصحة، وبكلمة أكثر وضوحاً يمكننا أن نفرّق بين المرح وهو صفة مرضية كما لاحظتم في موقع سابق من هذه المحاضرة وبين الفرح وهو صفة سوية بأن المرح استجابة خارجة عن المنحني المتوسط وبأن الثانية وهي الفرح تجسيد للمنحني المذكور، ولذلك لاحظنا أن علماء النفس وضعوا مصطلح المرح قبال الكآبة، ولاحظنا أن الإسلام وضع مصطلحات من نحو الارتياح والاستبشار مقابل الهم والحزن، ومع أن الارتياح قد يعني نفس مصطلح الراحة الذي يضعه الإمام الصادق (عليه السلام) سمة سوية مقابل التعب الذي يجسد سمة مرضية، كما هو ملحوظ في العنوان المتقدم إلا أننا ينبغي أن نفسر الفارق بينهما في نطاق الدرجة والمرض. بمعنى أن السمة السوي تتجسد في قدر من الإحساس بالراحة بمستوى الحد المتوسط، فإذا تجاوزه تحول إلى سمة مرضية هي المرح.

إذن الفرح في دلالته المتوسطة هو سمة إيجابية، فإذا تجاوز الحد المتوسط الذي هو الارتياح أو المرح حينئذ تحول إلى سمة مرضية حسب مصطلح اللغة النفسية وتبعاً لذلك يمكننا أن نقرر بأن المقصود من الفرح ويقابله الحزن هو السمة المعتدلة في هذا المجال، ونستطيع بكلمة ثالثة أكثر وضوحاً أن نقول أن الراحة هنا تعني التوازن أو الإحساس بعدم الاضطراب داخل الشخصية ولذلك فالراحة هنا في الواقع سمة استيائية تجسد التوازن اوالإحساس بعدم الإفراط ويقابلها التعب الذي هو إحساس بتعب الشخصية حيال أية ظاهرة تواجهها، والتعب هو في الواقع سمة يستطيع أن نطلق عليه بمصطلح كما ورد في قائمة علم النفس المرضي وهو الضعف أو الوهن العصبي الذي يتحسسه المريض أي يتحسس مثله دائماً وهو متعب جسمياً ونفسياً وروحياً وليس مجرد الإحساس النفسي بل وحتى الإحساس الجسدي يقترن بالإحساس النفسي.

المهم يمكننا أن نستخلص من هذا كله أن الفرح والحزن يجسدان سمة متقابلة، الأولى هي السمة الإيجابية والثانية هي السمة السلبية، ولكن ينبغي أن نلفت الانتباه أيضاً إلى أن الحزن هنا ينبغي أن نحمله على دلالة خاصة تختلف عن الدلالة التي ينسحب عليها مصطلح الحزن أيضاً عبر التصور الإسلامي لمفهوم الحزن في سياق آخر وهو ما سنحدثكم عنه بعد قليل إنشاء الله.

المهم ونحن نتحدث عن الفرح ويقابله الحزن نتجه بعد ذلك إلى الفارقية بين الراحة وما يقابلها من التعب، لذلك يمكننا أن نستخلص من خلال كل من التعب والحزن أن التعب قد يعني الإحساس العام بمشاعر البؤس والضيق والمرض بغض النظر عن المنبهات الخارجية أو الداخلية التي يستجيب لها الشخص في حين أن الحزن يمثل استجابة محددة ملفعة بنظرة سوداء حيال مظاهر الحياة، بكلمة بديلة التعب هو إحساس بالضعف النفسي وبالعجز عن مواجهة الحياة بالإضافة إلى التعب الجسمي الذي أشرنا إليه في حينه عنصر الكآبة إحساس بهم المحبة يشابه مثلاً المفجوع بفقد عزيز عليه، بينما يشاهد التعب إحساس المرهق جسمياً بأعباء يقال عليه أو إحساس المرهق نفسياً للأعباء المشار إليها.

وأما الظاهرة الثالثة وهي السعادة ويقابلها الشقاء، فيمكن أن نتناولهما من عدة زوايا منها أنها تتناول البعد العبادي من الشخصية، أي ليس السعادة بمعناها النفسي وهو الإحساس بالتوازن الداخلي للشخصية، مقابل الشقاء الذي هو إحساس بالتمزق والاضطراب بل نتصور أن هذه المفردة الواردة في قائمة الإمام الصادق (عليه السلام) إنما تعني المعنى العبادي للظاهرة وكما لاحظتم مثلاً بالنسبة إلى السلامة والبلاء وبالنسبة إلى العافية والبلوى حيث قلنا أن السلامة والبلاء تتصلان بالجانب النفسي وأن العافية والبلوى تتصلان بالجانب العبادي مع أنهما لغوياً يتماثلان حيث أن السلامة والعافية يتماثلان كما أن البلاء والبلوى يتماثلان بنحو أشد وضوحاً.

وكذلك بالنسبة إلى ما نحن بصدده الآن حيث لاحظتم أن الراحة مثلاً ويقابلها التعب، أو الفرح ويقابله الحزن تتصل هذه المفردات الأربع بما هو نفسي، بينما نجد أن السعادة والشقاء هنا في سياق خاص وارد في قائمة الإمام الصادق (عليه السلام) يخيل إلينا أو نكاد نجزم بأن المقصود من ذلك هو السعادة أو الشقاء بمعناهما العباديين، وهذا ما يمكن أن نلقي عليه مزيداً من الضوء حينما نتابع تعليقنا على هذا الجانب فنقول:

طالما نلاحظ في نصوص شرعية متنوعة بعضها يتصل بخاصة في نصوص دعائية متنوعة تشير إلى سعادة الإنسان وإلى شقائه مما ترمز هذه المصطلحات بوضوح في سياقاتها الخاصة إلى المعنى العبادي بمعنى أن السعادة هي العافية العبادية أو هي التوثيق العبادي أو هو نجاح الشخصية في ممارستها لعمل عبادي بالنحو المطلوب مقابل الشقي الذي يكون على الضد من ذلك تماماً، أي الذي لم يوفق إلى الالتزام بمبادئ الشريعة الإسلامية، ومن ذلك مثلاً الحديث الوارد بالنسبة إلى موقع الشقي والسعيد من العبادة وما يترتب على هذه المقولة العيادية من تفسير خاص لسنا بصدده الآن بقدر ما نحن بصدد أن نقول أن السعادة والشقاء يرتبطان بالمعنى العبادي في هذه القائمة الواردة عن الإمام الصادق (عليه السلام).

ويمكننا أن ننتهي من ذلك كله إلى الإشارة إلى أن الراحة وهي الظاهرة الأولى التي حدثناكم عنها تجسد إحساس الشخصية بكونها متوازنة نفسياً بشكل عام وأما الفرح وهي الظاهرة الثانية فتجسد استجابة لمنبهات حادة وحين ننقل كلاً من ظاهرتي الفرح والراحة إلى الصعيد العبادي حينئذ ينبغي أن نفسر التوصيات الإسلامية التي تنهى عن الاستجابة الفرحة وفق تصور آخر ينحو عن الدلالة النفسية التي لاحظناها الآن.

وهنا نلفت نظركم إلى ملاحظة توصيات إسلامية متنوعة تطالب الشخصية بأن تكون حزينة مثلاً، بينما لاحظنا أن الحزن بنفسه سمة سلبية،إذن كيف نوفق بين النصوص الإسلامية الواردة والمفسرة للحزن بسمة إيجابية حيناً والمفسرة للحزن بسمة سلبية حيناً آخر؟!!.

الإجابة عن هذا السؤال نؤجل الحديث عنها إلى محاضرة لاحقة إنشاء الله، وهنا نستودعكم الله سبحانه وتعالى..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..