المادة: أصول الفقه 2
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon asol 26.doc

والتقابل بين العموم والخصوص تقابل الملكة وعدمها، ذلك أنّ التخصيص لا يدخل إلا الشي‏ء الذي له صفة الشموليّة.

وإلى هذا يلمح الآمدي في (الأحكام)(1) بقوله: وإذ عرف معنى تخصيص العموم فاعلم أنّ كلّ خطاب لا يتصوّر فيه معنى الشمول، كقوله(صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي بردة: (تجزئك ولا تجزي‏ء أحدا بعدك).

فلا يتصوّر تخصيصه، لأنّ التخصيص على ما عرف: صرف اللفظ عن جهة العموم إلى جهة الخصوص، وما لا عموم له لا يتصوّر فيه هذا الصرف.

وأمّا ما يتصوّر فيه الشمول والعموم فيتصوّر فيه التخصيص، وسواء كان خطابا أو لم يكن خطابا كالعلّة الشاملة، لإمكان صرفه عن جهة عمومه إلى جهة خصوصه.

أساليب التخصيص:

يراد بها الأساليب اللغوية لتركيب جملة العامّ المخصّص بالخاص المتّصل.

وأعلى عدد لهذه الأساليب وصل إليه بعضهم هو خمسة أساليب، وهي:

1- الاستثناء.

2- الشرط.

3- الصفة.

4- الغاية.

5- البدل.

وقد ذكر السيّد المرتضى في (الذريعة) اُسلوبين من هذه الخمسة وهما: الاستثناء والتقييد بالصفة، وناقش في ثالث وهو الشرط.

قال: فصل في ذكر جمل الأدلّة التي يعلم بها خصوص العموم: إعلم أنّ الأدلّة الدالّة على التخصيص على ضربين: متّصل بالكلام ومنفصل عنه.

والمتصل قد يكون استثناء أو تقييدا بصفة.

وقد ألحق قوم بذلك الشرط، وهذا غلط، لأنّ الشرط لا يؤثّر في زيادة ولا نقصان.

وذكر الآمدي في (الأحكام)(2) أربعة منها، قال: في الأدلّة المتّصلة، وهي أربعة أنواع: الاستثناء والشرط والصفة والغاية.

وبيانات ودلالات هذه الأساليب الخمسة هي:

(الاستثناء):

نحو قوله تعالى: (ومن يفعل ذلك يلق آثاما. يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلّد فيها مهانا، إلا من تاب).

وقوله: (كلّ شي‏ء هالك إلا وجهه).

وقوله: (من كفر باللَّه من بعد إيمانه إلا من اُكره وقلبه مطمئن بالإيمان).

ويعرّف الآمدي في (الأحكام)(3) الاستثناء الاُصولي بأنّه عبارة عن لفظ متّصل بجملة، لا يستقلّ بنفسه، دالّ بحرف (إلا) أو (إحدى) أخواتها على انّ مدلوله غير مراد ممّا اتّصل به، ليس بشرط ولا صفة ولا غاية.

ووقع الخلاف بين الاُصوليين في الاستثناء بمعناه الاُصولي: هل يختص بالاستثناء المتصل، وهو الذي يكون فيه المستثنى من جنس المستثنى منه، والذي عبّر عنه الآمدي في (الأحكام)(4) بالاستثناء من الجنس.

أو أنّه يعمّ حتّى الاستثناء المنقطع، وهو الذي يكون فيه المستثنى من غير جنس المستثنى منه، والمعبّر عنه في (أحكام الآمدي) بالاستثناء من غير الجنس.

أو قل: إنّهم اختلفوا في صحّة الاستثناء من غير الجنس، يقول الآمدي في (الأحكام)(5):اختلف العلماء في صحّة الاستثناء من غير الجنس:

فجوّزه أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والقاضي أبو بكر، وجماعة من المتكلّمين والنحّاة.

ومنع منه الأكثرون.

وفي (التصوّر اللغوي عند الاُصوليين)(6): ذهب بعض الاُصوليين إلى صحّة الاستثناء المنقطع، ولكن بالنظر إلى ما يقع من الاشتراك في المعنى بينهما، كما قال الشافعي: إنّه لو قال القائل: (لفلان عليّ مائة درهم إلا ثوبا) فإنّه يصحّ، ويكون معناه (إلا قيمة الثوب) لاشتراكهما في ثبوت صفة القيمة لهما، وكما قال أبو حنيفة في استثناء المكيل من الموزون وبالعكس.

وقد أطال الآمدي في كتابه (الأحكام في اُصول الأحكام) في تبيان وجوه القول في المسألة وحجج القوم نفاة ومثبتين، وفي مناقشتها إبراما ونقضا.

ورأيي أنّ المسألة لا تتحمّل أكثر من أن يقال فيها: إنّ هذا اللون من التعبير يرجع في صحته وصحّة الأخذ به والاعتماد عليه إلى المتعارف عليه في المجتمعات، ففي بعض المجتمعات لا يوجد شي‏ء من هذا التعبير، وفي مجتمعات اُخرى يوجد شي‏ء منه مع الاختلاف في لون الصياغة من مجتمع لآخر.

ومجال الإفتقار لهذا هو المعاملات والمرافعات.

أمّا في النصوص الصادرة في عصر التشريع فحسابها حساب ما كان متعارفا عليه اجتماعيّا آنذاك لأنّ المشرّع المقدّس لم يبتدع له طريقة خاصة في عبائره الشرعيّة.

والطريق إلى هذا هو دراسة اللغة الاجتماعيّة لذلك العصر في تركيباتها ودلالاتها.

- الاستثناء بعد جمل متعدّدة:

ومن المسائل التي اُثيرت هنا مسألة (تعقيب الاستثناء لجمل متعدّدة) وذلك لأنّه قد ترد عمومات متعدّدة في كلام واحد ثمّ يتعقبّها استثناء في آخرها فيشكّ حينئذٍ في رجوع الاستثناء لخصوص الجملة الأخيرة أو لجميع الجمل.

مثاله: قوله تعالى: (والذين يرمون المحصّنات ثمّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا اُولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا).

فإنّه يحتمل أن يكون هذا الاستثناء من الحكم الأخير فقط وهو فسق هؤلاء.

ويحتمل أن يكون استثناء منه ومن الحكم بعدم قبول شهادتهم والحكم بجلدهم الثمانين(7).

وقد ذكر الآمدي ثلاثة آراء في المسألة، قال: الجمل المتعاقبة بالواو إذا تعقّبها الاستثناء رجع:

- إلى جميعها عند أصحاب الشافعي (رضي الله عنه).

- وإلى الجملة الأخيرة عند أصحاب أبي حنيفة.

- وقال القاضي عبدالجبّار وأبو الحسين البصري وجماعة من المعتزلة: إن كان الشروع في الجملة الثانية إضرابا عن الاُولى، ولا يضمر فيها شي‏ء ممّا في الاُولى، فالاستثناء مختص بالجملة الأخيرة، لأنّ الظاهر أنّه لم ينتقل عن الجملة الاُولى، مع استقلالها بنفسها إلى غيرها، إلا وقد تمّ مقصوده منها(8).

وعدّها شيخنا المظفّر أربعة آراء، قال: واختلف العلماء في ذلك على أربعة أقوال:

1- ظهور الكلام في رجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة الأخيرة.

2- ظهوره في رجوعه إلى جميع الجمل.

3- عدم ظهوره في واحد منها، وإن كان رجوعه إلى الأخيرة متيقّنا على كلّ حال.

4- التفصيل:

- بين ما إذا كان الموضوع واحدا للجمل المتعاقبة لم يتكرّر ذكره، وقد ذكر في صدر الكلام مثل قولك: (أحسن إلى الناس واحترمهم واقض حوائجهم إلا الفاسقين).

- وبين ما إذا كان الموضوع متكرّرا ذكره لكلّ جملة كالآية الكريمة المتقدّمة، وإن كان الموضوع في المعنى واحدا في الجميع.

فإن كان من قبيل الأوّل فهو ظاهر في الرجوع إلى الجميع، لأنّ الاستثناء إنّما هو من الموضوع باعتبار الحكم، والموضوع لم يذكر إلا في صدر الكلام فقط، فلابدّ من رجوع الاستثناء إليه، فيرجع إلى الجميع.

وإن كان من قبيل الثاني فهو ظاهر في الرجوع إلى الأخيرة، لأنّ الموضوع قد ذكر فيها مستقلا فقد أخذ الاستثناء محلّه(9).

ثمّ رجّح الرأي الرابع، قال: وهذا القول الرابع: هو أرجح الأقوال، وبه يكون الجمع بين كلمات العلماء.

فمن ذهب إلى القول برجوعه إلى خصوص الأخيرة، فلعلّه كان ناظرا إلى مثل الآية المباركة التي تكرّر فيها الموضوع.

ومن ذهب إلى القول برجوعه إلى الجميع، فلعلّه كان ناظرا إلى الجمل التي لم يذكر فيها الموضوع إلا في صدر الكلام.

وذهب الشريف المرتضى إلى أنّ رجوع الاستثناء إلى كلّ واحدة من الجمل التي تعقبها هو من نوع المشترك اللفظي الذي يحتاج في تعيين المراد منه إلى القرينة المعيّنة، قال في (الذريعة):والذي أذهب إليه أنّ الاستثناء إذا تعقّب جملا ويصحّ رجوعه إلى كلّ واحدة منها لو إنفردت، فالواجب تجويز رجوعه إلى جميع الجمل كما قال الشافعي، وتجويز رجوعه إلى ما يليه على ما قال أبو حنيفة، وأن لا يقطع على ذلك إلا بدليل منفصل أو عادة أو أمارة.

وفي الجملة: لا يجوز القطع على ذلك لشي‏ء يرجع إلى اللفظ.

والذي يدلّ على صحّة ما ذهبنا إليه أنّ القائل إذا قال لغيره (اضرب غلماني والق أصدقائي إلا واحدا) يجوز أن يستفهمه المخاطب: هل أردت استثناء الواحد من جملتين أو من جملة واحدة؟

والاستفهام لا يحسن إلا مع احتمال اللفظ واشتراكه.

وإلى هذا أشار الآمدي في (الأحكام)(10) بقوله: وذهب المرتضى من الشيعة إلى القول بالإشتراك.

ثمّ ذكر أعني الآمدي) رأيا آخر قال: وذهب القاضي أبو بكر والغزالي وجماعة من الأصحاب إلى الوقف.

والذي يظهر من الغزالي في (المستصفى)(11) الميل إلى الوقف، قال: حجّة الواقفيّة (يعني القائلين بالوقف) أنّه إذا بطل التعميم والتخصيص لأنّ كلّ واحد تحكم، ورأينا العرب تستعمل كلّ واحد منهما، ولا يمكن الحكم بأنّ أحدهما حقيقة والآخر مجاز فيجب التوقف لا محالة، إلا أن يثبت نقل متواتر من أهل اللغة أنّه حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر، وهذا هو الأحقّ.

وإن لم يكن بدّ من رفع التوقّف فمذهب المعمّمين أولى، لأنّ الواو ظاهرة في العطف، وذلك يوجب نوعا من الاتحاد بين المعطوف والمعطوف عليه، لكن الواو محتمل أيضا للابتداء كقوله تعالى (لنبيّن لكم ونقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمّى)، وقوله عزّوجلّ: (فإن يشأ اللَّه يختم على قلبك ويمحُ اللَّه الباطل).

والذي يدلّ على أنّ التوقّف أولى أنّه ورد في القرآن الأقسام كلّها من الشمول والاقتصار على الأخير والرجوع إلى بعض الجمل السابقة، كقوله تعالى (فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا واُولئك هم الفاسقون، إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فانّ اللَّه غفور رحيم) فقوله تعالى (إلا الذين تابوا) لا يرجع إلى الجلد، ويرجع إلى الفسق، وهل يرجع إلى الشهادة؟ فيه خلاف.

وقوله تعالى: (فتحرير رقبة مؤمنة وديّة مسلمة إلى أهله إلا أن يصدّقوا)، يرجع إلى الأخير، وهو الديّة، لأنّ التصدّق لا يؤثّر في الإعتاق.

وقوله تعالى: (فكفّارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيّام) فقوله (فمن لم يجد) يرجع إلى الخصال الثلاثة.

وقوله تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردّوه إلى الرسول وإلى اُولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل اللَّه عليكم ورحمته لاتّبعتم الشيطان إلا قليلا)، فهذا يبعد حمله على الذي يليه لأنّه يؤدّي إلى أنّ لا يتّبع الشيطان بعض من لم يشمله فضل اللَّه ورحمته، فقيل: إنّه محمول على قوله: (لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا) لتقصير وإهمال وغلط، وقيل: إنّه يرجع إلى قوله: (أذاعوا به)، ولا يبعد أن يرجع إلى الأخير، ومعناه: لولا فضل اللَّه عليكم ورحمته ببعثة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) لاتّبعتم الشيطان إلا قليلا.

ويسلّمنا ما ذكره الغزالي من الاختلاف في دلالات هذه النصوص التي ذكرها بسبب القرائن المصاحبة لها مقالا أو حالا إلى أنّ الوقف هو الأرجح، بمعنى محاولة إلتماس القرينة، وعلى هدي منها تقرّر دلالة النصّ.

ولعلّه هذا هو الذي عناه السيّد المرتضى، ولكنّه عبّر عنه بالاشتراك تسامحا.

(الشرط):

أشهر تعريف للشرط التعريف الفلسفي القائل بأنّه الذي يلزم عند إنتفائه إنتفاء المشروط ولا يلزم من وجوده وجود المشروط.

ومنه شاعت على ألسنة القوم العبارة المعروفة: (المشروط عدم عند عدم شرطه).

يقول الغزالي في (المستصفى)(12):إعلم أنّ الشرط عبارة عمّا لايوجد المشروط مع عدمه، لكن لا يلزم أن يوجد عند وجوده.

والفرق بين علاقة المعلول بالعلّة وعلاقة المشروط بالشرط هو انّ المعلول يلزم من وجوده وجود العلّة، ومن عدمه عدمها.

بينما لا يلزم من وجود الشرط وجود المشروط، ولكن يلزم من عدمه، عدمه.

وللشرط - كما هو معلوم - أدوات تقوم بوظيفة التعليق بين الشرط والمشروط.

وتنقسم هذه الأدوات إلى أسماء وحروف:

والحرف هو (إن) مكسورة الهمزة ساكنة النون.

أمّا الأسماء فكثيرة، منها: مَنْ، ما، مهما، حيثما، أينما، إذ ما، الخ.

واُمّ هذه الصيغ (إن) لأنّها حرف وما عداها من أدوات الشرط أسماء، والأصل في إفادة المعاني للأسماء إنّما هي الحروف، ولأنّها تستعمل في جميع صور الشرط بخلاف أخواتها فانّ كلّ واحدة منها تختص بمعنى لا تجري في غيره، فـ(مَنْ) لمن يعقل و (ما) لما لا يعقل و (إذا) لما لابدّ من وقوعه، كقولك: (إذا احمر البسر فإتنا) ونحو ذلك(13).

كان الإستثناء - فيما تقدّم من أمثلته - يختصّ بالتخصيص بالإفراد، بينما الشرط يختصّ بتخصيص الأحوال.

يقول الشريف المرتضى في (الذريعة): (إعلم أنّ الشرط - وان لم يكن مؤثّرا في نقصان تعدّد المشروط كالإستثناء - فإنّه يخصّص المشروط من وجه آخر، لأنّه إذا قال: (اضرب القوم إن دخلوا الدار)، فالشرط لا يؤثّر في تقليل عدد القوم، وإنّما يخصّص الضرب بهذا الحال لأنّه لو أطلق لتناول الأمر بالضرب على كلّ حال فتخصّص بالشرط.

ومن أمثلته:

- قوله تعالى: (وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمّموا صعيدا طيّبا).

- وقوله تعالى: (والذين يظاهرون من نسائهم ثمّ يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسّا ذلكم توعظون به واللَّه بما تعملون خبير. فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسّا فمن لم يستطع فإطعام ستّين مسكينا).

وقوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصيّة للوالدين والأقربين).

 

الهوامش:

(1)- 2/409-410.

(2)- 2/416.

(3)- 2/418.

(4)- 2/ ص419.

(5)- 2/ ص 224-225.

(6)- ص 85.

(7)- اُصول المظفر 1/141- 142.

(8)- الأحكام 2/438، واُنظر: المعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري 1/245- 248.

(9)- اُصول الفقه 1/142.

(10)- 2/440.

(11)- 2/177- 180.

(12)- 2/180.

(13)- أحكام الآمدي 2/453.