المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 22.doc

عرفنا مما تقدم أن الآراء المختلفة لبعض علماء المسلمين على الرغم من إبهامها ترجع إلى جوهر واحد في مبدأ السيادة وشرعية السلطة وهو سيادة الأمة نعم يظهر من كلماتهم أن مبدأ التعيين والوصية من شخص إلى شخص يأخذ صفة الأفضلية عند الجميع فقد صرح ابن حزم بجعله أفضل الوجوه وأصحها كما صرح بذلك الغزالي وقدمه على أهل الحل والعقد أيضاً وكذلك الكمال ابن أبي شريف والإيجي في شرح المواقف في باب الإمامة وحق الاختيار هنا ينحصر في الخليفة فقط دون اعتبار لغيره سواء أكانوا من أهل الحل والعقد أو من غيرهم يقول ابن حزم في هذا المبدأ أولها وأصحها وأفضلها أن يعهد الإمام الميت إلى إنسان يختاره إماماً بعد موته كما في الفصل الملل والأهوال والمحل وليس في هذا النص ما يوحي بأن صحة اختيار الإمام منوطة بأن يستشير أهل الحل والعقد.

ويقول الغزالي في تقرير هذا المبدأ أن ذلك لا يسلم لكل أحد بل لا بد فيه من خاصية وذلك لا يصدر إلا من أحد ثلاثة إما التنصيص من جهة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإما التنصيص من جهة إمام العصر بأن يعين لولاية العهد شخصاً معيناً من أولاده أو من سائر قريش أما الثالث فهو الرجل ذو الشوكة الذي يقتضي انقياده وتفويضه متابعة الآخرين ومبادرتهم إلى المبايعة ومن هنا يأتي أهل الحل والعقد في الرتبة الثالثة من الطرق ونرى الشيخ محمد الشربيني ينص على أنه لا يشترط في الاستخلاف رضا أهل الحل والعقد في حياة الإمام أو بعد موته إذا ظهر له واحد جاز بيعته من غير حضور غيره ولا مشاورة أحد ويجوز العهد إلى الوالد والولد كما يجوز إلى غيرهما وقد جزم به صاحب الأنوار وابن المقري كما في مغني المحتاج وذهب إلى أن أهل الحل والعقد لو اختاروا بعد موت الإمام غير من استخلفه الإمام فليس لهم ذلك قال وإن مات الخليفة وبقي الثلاثة أحياء فيما لو جعل الخليفة ثلاثة أولياء متتابعين للعهد مثلاً وانتصب الأول كان له أن يعهد بها إلى غير الأخيرين لأنها لما انتهت إليه صار أملك بها بخلاف لو مات ولم يعهد إلى أحد فليس لأهل البيعة أن يبايع غير الثاني ويقدم عهد الأول على اختيارهم.

ويقول أبو الحسن الماوردي في هذه المسألة فإذا أراد الإمام أن يعهد بها فعليه أن يجهد رأيه في الأحق بها والأقوم بشروطها فإذا تعين له الاجتهاد في واحد نظر فيه فإن لم يكن ولداً ولا والداً جاز له أن ينفرد بعقد البيعة له وبتفويض العهد إليه وان لم يستشر فيه أحد من أهل الاختيار لكن اختلفوا هل يكون ظهور الرضا منهم شرطاً في انعقاد بيعته أو لا فذهب بعض علماء البصرة إلى أن رضا أهل الاختيار لبيعته شرط في لزوم الأمة لأنه حق يتعلق بهم فلم تلزمهم إلا برضا أهل الاختيار لبيعته والصحيح أن بيعته منعقدة وأن الرضا بها غير معتبر لأن بيعة عمر لم تتوقف على رضا الصحابة ولأن الإمام أحق بها فكان اختياره فيها أمضى وقوله فيها أنفذ وإن كان ولي العهد ولداً أو والداً فقد اختلف في جواز انفراده في عقد البيعة له على ثلاثة مذاهب:

- الأول: لا يجوز أن ينفرد بعقد البيعة لولد ولا لوالد حتى يشاور فيه أهل الاختيار فيرونه أهلاً لها فيصح حينئذ عقد البيعة له لأن ذلك منه تزكية له تجري مجرى الشهادة وتقليده على الأمة يجري مجرى الحكم وهو لا يجوز أن يشهد لوالد أو لولد ولا يحكم لواحد منهما للتهمة العائدة إليه بما جبل من الميل إليه.

- الثاني: يجوز أن ينفرد بعقدها لولد أو والد لأنه أمير الأمة نافذ الأمر لهم وعليهم فغلب حكم المنصب على حكم النسب ولم يجعل للتهمة طريقاً على أمانته ولا سبيلاً إلى معارضته وصار فيها كعهده بها إلى غير ولده ووالده.

- الثالث: يجوز أن يتفرد بعقد البيعة لوالده ولا يجوز أن ينفرد بها لولده لأن الطبع يبعث على ممايلة الولد أكثر مما يبعث على ممايلة الوالد.

فأما عقدها لأخيه ومن قاربه من عصبته ومناسبيه فكعقدها للبعداء الأجانب في جواز تفرده بها كما في الأحكام السلطانية وهذا الكلام ظاهر في الاستحسانات الظنية أيضاً إذ لا يرجع إلى دليل ومستند واضح ومن ناحية أخرى نرى أن العامة يصححون خلافة بني أمية وبني العباس على الرغم من أن هؤلاء كانوا يعهدون إلى أولادهم دون أن يرجعوا إلى أهل الحل والعقد مطلقاً فجعلوا الحكومة وراثية وإذا رجعنا إلى النصوص الواردة في هذه المسألة كما في شرح المقاصد وحجة الله البالغة وحاشية الباجوري على شرح الغزي والمسامرة في مباحث الإمامة ومباحث البغاة نرى أن هؤلاء أطلقوا القول بصحة الاستخلاف من دون أن يذكروا لذلك قيدا أو شرطاً وكيف كان فالظاهر أن هذا الرأي الذي يستند إلى تعيين الإمام السابق لمن بعده من الحكام ينتهي إلى تخطئة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو تكذيب فعل الصحابة وكلاهما لا يلتزمون به وذلك لأنه اعتبر أصح الطرق في شرعية السلطة العهد والنص من الإمام السابق مع أنهم ينفون أن يكون قد فعله النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث أنكروا نصه لعلي أمير المؤمنين (عليه السّلام) في أمر الخلافة فيدور الأمر بين أمور أحدها أن يكون نفيهم لنص النبي صحيح عندهم فيثبت بطلان هذا الرأي لأنه لو كان هذا الطريق هو الأصح من الطرق الأخرى لفعله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

- ثانيها: أن يكون هذا الرأي هو الأصح فعلاً فيثبت لزوم فعل النبي له وحينئذ يمكن أن يسأل هل فعله النبي بالفعل أم لا إن قيل فعله فيثبت صحة ما تقوله الشيعة من نصه (صلى الله عليه وآله وسلم) على علي أمير المؤمنين (عليه السّلام) بالخلافة وبطلان فعل الصحابة في تعيين الخليفة دون الالتزام بنص من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن قيل لم يفعله فيلزم نسبته النقص إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك لرجوع السؤال عن سبب عدم فعله (صلى الله عليه وآله وسلم) له مع أنه أفضل الطرق وأصحها والاحتمالات العقلية فيها عديدة حينئذ إذ تدور بين الجهل والظلم والتشفي والإظلال ونحوها نسبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكلها تتنزه ساحته المقدسة المعصومة عنها.

- ثالثها: أن يكون هذا الرأي عندهم أصح وليس عند النبي فيستلزم إما بطلان هذا الرأي لعدم الدليل عليه بعد ثبوت عدم تصحيح النبي الأعظم له أو يكونوا هم أعلم من النبي وأفهم منه بالصالح والأصلح وهذا واضح البطلان ولعل من مؤيدات ضعف هذا الرأي مخالفته لآراء جمع من الصحابة فضلاً عن بعض أعلامهم حيث التزموا بأن الإمامة والخلافة تكون بالنص والتعيين كما هو مقتضى ارتكازهم العقلائي من حيث الكبرى ولكنهم أنكروه على رسول الله فنسبوا إليه النقص والخروج عن الطرق والموازين الصحيحة وقد حكي أن عالماً من علماء الشيعة مر على جماعة من اهل السنة فأصروا على أن يبيت عندهم ليلاً فأجابهم بشرط أن لا يقع بحث مذهبي فلما تعشوا قال له أحد علمائهم ما رأيك في أبي بكر فقال كان هو مسلماً فاضلاً يصلي ويصوم ويحج ويتصدق ورافق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

قال السني أضف فقال العالم الشيعي وخلاصة الكلام أن أبا بكر كان أفضل وأعقل من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمراتب فتعجب الحاضرون وقالوا كيف تقول هذا قال إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولي المسلمين ثلاث وعشرين سنة ومع ذلك لم يعقل وجوب الاستخلاف ومصالحه وأبو بكر وليهم أقل من ثلاث سنوات وعقل ذلك وفهمه فهو لا محالة كان أعقل منه (صلى الله عليه وآله وسلم) فالتفت الحاضرون إلى عمق نظرية الشيعة في تعيين السلطة والسلطان بالنص الخاص من الله ومن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا من كل أحد وحينما طعن الخليفة الثاني قال له ابنه سمعت الناس يقولون مقالة فآليت أن أقولها لك زعموا إنك غير مستخلف وأنه لو كان راعي إبل أو راعي غنم ثم جاءك وتركها رأيت أنه قد ضيع فرعاية الناس أشد قال فوافقه قولي كما ذكر ذلك صحح مسلم في كتاب الإمارة.

وقالت عائشة لعبد الله بن عمر يا بني أبلغ عمر سلامي وقل له لا تدع أمة محمد بلا راع استخلف عليهم ولا تدعهم بعدك هملاً فإني أخشى عليهم الفتنة وكأن عائشة أدركت ضرر الفتنة ورسول الله لم يدركه ولذا قالوا أنه لم ينص على الخليفة من بعده مع أنهم يروون عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال من مات بدون وصية مات ميتة جاهلية كما قالوا في نزول قوله سبحانه وتعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت الرسالة والله يعصمك من الناس) إنها نزلت في تعيين الخليفة والإمام إذ أنها تنادي بأعلى صوتها بأمر مهم يتمم الرسالة ويحفظها بحيث لو لم يبلغ الرسول خيف من الرسالة ويستفاد من ظاهر الآية أن الناس كانوا مخالفين من الأمر ويعارضونه ولذا عصمه الله سبحانه وتعالى منهم وقد ورد من طرق الفريقين أن هذه الآية نزلت في قصة الغدير منها ما ورد في الدر المنثور للسيوطي أخرج ابن أبي حاتم وابن ماردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) على رسول الله يوم غدير خم في علي بن أبي طالب.

ولعل من المناسب هنا أن ننقل حواراً جرى بين هشام بن الحكم من أصحاب الإمام الصادق (عليه السّلام) وبين عمر بن عبيد المعتزلي البصري لأهميته فيما نحن فيه قال هشام دخلت البصرة يوم الجمعة فأتيت مسجد البصرة فإذا أنا بحلقة كبيرة فيها عمر بن عبيد وعليه شملة سوداء متزر بها من صوف وشملة مرتد بها والناس يسألونه فاستفرجت الناس فأفرجوا لي ثم قعدت في آخر القوم على ركبتي ثم قلت أيها العالم إني رجل غريب تأذن لي في مسألة فقال لي نعم فقلت له ألك عين فقال يا بني أي شيء هذا من السؤال وشيء تراه كيف تسأل عنه فقلت هكذا مسألتي فقال يا بني سل وإن كانت مسألتك حمقاء قلت أجبني فيها قلت سل قال ألك عين قال نعم قلت فما تصنع بها قال أرى بها الألوان والأشخاص قلت فلك أنف قال نعم قلت ما تصنع به قال أشم به الرائحة قلت ألك فم قال نعم قلت فما تصنع به قال أذوق به الطعم قلت فلك أذن قال نعم قلت فما تصنع بها قال أسمع بها الصوت قلت ألك قلب قال نعم قلت فما تصنع به قال أميز به كل ما ورد على هذه الجوارح والحواس قلت أوليس في هذه الجوارح غنى عن القلب فقال لا قلت وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة قال يا بني إن الجوارح إذا شكت في شيء شمته أو رأته أو ذاقته أو سمعته ردته إلى القلب فيستيقن اليقين ويبطل الشك قال هشام فقلت له فإنما أقام الله القلب لشك الجوارح قال نعم قلت لا بد من القلب وإلا لن تستيقن الجوارح قال نعم فقلت له يا أبا مروان فالله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتى جعل لهم إماماً يصحح لها الصحيح ويتيقن به ما شك فيه ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكهم واختلافهم لا يقيم لهم إماماً يردون إليه شكهم وحيرتهم ويقيم لك إماماً لجوارحك ترد إليه حيرتك وشكك قال فسكت ولم يقل لي شيئاً ثم التفت إلي فقال أنت هشام بن الحكم فقلت لا قال أمن جلسائه قلت لا قال فمن أين أنت قال قلت من أهل الكوفة قال فأنت إذاً هو ثم ضمني إليه وأقعدني في مجلسه وزال من مجلسه وما نطق حتى قمت والرواية رواها الكليني (رضوان الله عليه) في كتاب الحجة من الكافي وكيف كان فإن القول بأن الإمامة والسيادة والحاكم يمكن أن يكون بالنص والتعيين من الإمام السابق كما رآه علماء اهل السنة ينبغي أن يسلموا هذا أيضاً بالنسبة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لكنهم سلموا بالمبنى وأنكروا التزام هذا المبنى برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا من المفارقات ولذا أقر جمع من أعلامهم ببطلان ما ذهبوا إليه واعترافهم ببطلان هذه الآراء منهم عبد الكريم الخطيب في كتاب الخلافة والإمامة قال ما نصه وقد عرفنا أن الذين بايعوا أول خليفة للمسلمين أبي بكر لم يتجاوزوا أهل المدينة وربما كان بعض أهل مكة أما المسلمون جميعاً في الجزيرة كلها فلم يشاركوا في هذه البيعة ولم يشهدوها ولم يروا رأيهم فيها وإنما ورد عليهم الخبر بموت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع الخبر باستخلاف أبي بكر فهل هذه البيعة أو هذا الأسلوب في اختيار الحاكم يعتبر معبراً عن إرادة الأمة حقاً وهل يرتفع هذا الأسلوب إلى أنظمة الأساليب الديمقراطية في اختيار الحكام لقد فتح هذا الأسلوب الفريد الذي عرف في المجتمع الإسلامي لاختيار الحاكم فتح أبواباً للجدل فيه والاختلاف عليه كما ذكره في الكتاب المذكور.

ومنهم الشيخ علي عبد الرازق من علماء الجامع الأزهر قال في كتابه الإسلام وأصول الحكم إذا أنت رأيت كيف تمت البيعة لأبي بكر واستقام له الأمر تبين لك أنها كانت بيعة سياسية ملكية عليها طابع الدولة المحدثة وأنها قامت كما تقوم الحكومات على أساس القوة والسيف إلا غير ذلك من الكلمات كما أورده في دراسات في ولاية الفقيه في ص401.

هذا وهناك نظريات وآراء أخرى أعرضنا عنها لوضوح ضعفها وأما الآراء التي ذكرناها فيمكن المناقشة فيها من جهات أما نظرية أهل الحل والعقد فيمكن أن نتساءل انه إذا كان بيعة أهل الحل والعقد كاشفة عن أن من بايعوه هو الإمام عند الله ورسوله فمن الذي جعل لبيعتهم هذا الكشف كما لسنا ندري شيئاً عن المستند التشريعي لعلماء اهل السنة في هذه الدعوى فقد ذكروها في كتبهم دون أن يصحبها أي مستند ونلاحظ أن القول بأنه يعتبر في تعيين الإمام إجماع أهل الحل والعقد في الأمة المسلمة كلهم عليه وإن كان أقرب نظرياتهم إلى القول بأن المرجع في تعيين الإمام هو الأمة المسلمة وهو لهذا أقرب الأقوال في روحه إلى الشورية أو ما يصطلح عليه في الديمقراطية ولكن هذا لم تذهب إليه إلا أقلية ضئيلة منهم وقد كرس الجميع جهوده للرد عليها وأبطال هذا القول ويليه في القرب من روح الشورية القول بأنه يعتبر في تعيين الإمام إجماع من كان في مركز الخلافة من أهل الحل والعقد ولكن هذا القول أيضاً لا يتمتع برضا الكثرة الغالبة منهم والقول الذي تذهب إليه الكثرة العظمى هو القول بكفاية الواحد والاثنين كما عرفته مما تقدم ونسوق هنا بعض النصوص الصريحة في ذلك قال الجرجاني وإذا ثبت خصوص الإمامة بالاختيار والبيعة فاعلم أن ذلك الحصول لا يفتقر إلى الإجماع من أهل الحل والعقد إذ لم يقم على هذا الافتقار دليل من العقل أو السمع بل الواحد والاثنان من أهل الحل والعقد كاف في ثبوت الإمامة ووجوب اتباع الإمام على أهل الإسلام وذلك لعلمنا أن الصحابة مع صلابتهم في الدين وشدة محافظتهم على أمور الشرع كما هو حقها اكتفوا بعقد الإمامة بذلك المذكور من الواحد والاثنين كعقد عمر لأبي بكر وعقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان ولم يشترطوا في عقدها اجتماع من في المدينة من أهل الحل والعقد فضلاً عن إجماع الأمة من علماء أمصار البلاد ومجتهدي جميع أقطارها هذا كما مضى ولم ينكر عليه أحد وعليه أي على الاكتفاء بالواحد والاثنين في عقد الإمامة انطوت الأعصار بعدهم إلى وقتنا هذا كما في شرح المواقف.

وهنا نقف متسائلين هل يستطيع الواحد والاثنان والخمسة والعشرة أن يضمنوا سلامة تنفيذ هذا المبدأ الاجتماعي على الوجه الشرعي والعقلائي الذي يريده الإسلام كما أن الذي يزيد هذه المسألة خطورة هو أن مبدأ تعيين الإمام بواسطة أهل الحل والعقد عند العامة كان جنوحاً عظيماً نحو الفردية وتركيز السلطة في يد واحدة فهم يكتفون لتعيين الإمام ببيعة الواحد والاثنين ولا نرى كيف يتسنى لهذا الواحد أو لهذين أن يتمكن من اختيار أصلح الناس لهذه المهمة الخطيرة وكيف يمكن أن يرضى أهل الحل والعقد بما فعله هذا الواحد أو هذان الاثنان بل كيف يمكن أن يعصم المجتمع من يتمزق شر ممزق بهذا التصرف الذي ليس من الحكمة في شيء وأي سلطة عليا هي التي جمعت في يد هذا الواحد أو هذين الاثنين هذه القوة العظيمة الخطرة ثم ما الذي يؤمننا أن لا ينحرف هذا الواحد أو هذان الاثنان عن الجادة فيسيران وفق هوائهما في تعيين الإمام أهي العصمة وهم ينكرون العصمة حتى بالنسبة للأنبياء فضلاً عن غيرهم من الحكام ومن ناحية أخرى فإذا كان الحذف التعيين راجعاً إلى هذا الواحد فلماذا لا يجعل هذا الواحد نفسه إماماً وإذا لم يكن له أن يجعل نفسه إماماً وإنما له أن يكشف عن الإمام فلماذا لم يكشف الله عنه دون أن يحمل المسلمين هذا اللف والدوران والتأرجح هذا مضافاً إلى ما تقدم فإنه يدل على بطلان هذا الاختيار أمور أحدها إلزامي وهو فعل أبي بكر وعمر حيث يقوم شاهداً على أن هذا الطريق في التعيين طريق لا يلائم المجتمع الإسلامي من قريب أو بعيد ولو أنهما رأيا في هذا الطريق ما يكفل للمسلمين الخير والسلامة في دينهم ودنياهم لما حادا عنه ولكانا خليقين باتباعه ومراعاته ولكنهما حادا عنه إلى التعيين فنرى أبا بكر قد عين عمر ونرى عمر قد عين عثمان بواسطة الشورى والذين ضمتهم الشورى ونص عليهم عمر كانوا كلهم من قريش مع العلم بأن أهل الحل والعقد يومئذ لم يكونوا محصورين في قريش بل كانوا فيها وفي غيرها من سائر المسلمين بل أطلق تصريحات تنم عن بطلان هذا الرأي عن نفسه من قبلهم حيث قال أبو بكر بعد بيعته أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم وقال عمر في بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها فمن دعاكم إلى مثلها فاقتلوه كما ذكره في شرح المقاصد وهذا دليل على أن عمر لم ير في الأسلوب الذي اتبع في استخلاف أبي بكر طريقاً مشروعاً يقره الإسلام ويرضاه المسلمون والقول أن دوافع هذه الكلمة من عمر هي أن خلافة أبي بكر تمت دون أن يستشار فيها جميع أهل الحل والعقد من المسلمين تناقض سافر من قائليه حيث يصرحون بكفاية الواحد والاثنين من أهل الحل والعقد دون أن يعتبروا إجماعهم شرطاً للإمامة ثم أن عمر نفسه عين من دون أن يستشار فيه أهل الحل والعقد وهو الذي وضع نظام الشورى ولم ينتخب له إلا أفراد من قريش ما كان وحدهم أهل الحل والعقد عند المسلمين.

- ثانيها: تاريخي فإن الواقع التاريخي المتفق عليه بين العامة وبين الشيعة ينفي أن يكون المناط في تعيين الإمام هو اجتماع أهل الحل والعقد عليه وإذا هي صنفت بحسب أهميتها كانت قضية جيش أسامة في رأس القائمة وقصة أسامة هي أن النبي عندما رجع من حجة الوداع وشعر بدنو أجله عقد لأسامة بن زيد اللواء بيده وأمره على جيش كان فيه شيوخ المهاجرين والأنصار وأعيانهم وذوي الرأي منهم والمكانة فيهم كأبي بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف وأبي عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص وأسيد بن خضير وبشير بن سعد وغيرهم من الأعلام الذين يقر العلماء بأنهم من ذوي الرأي وكانت وجهة أسامة قبائل قضاعة الضاربين في جهات الشام مما يلي مؤتة لمظاهرتهم الروم على المسلمين في غزوة مؤتة شدد النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) في إنفاذ الجيش ولعن من تخلف عنه وراجعوه في أن أسامة صغير السن ولا يصلح للإمارة فلو ولي عليهم من هو أسن منهم فغضب (صلى الله عليه وآله وسلم) وخطبهم قائلاً: إن كنتم تطعنون في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل وأيم الله إنه كان خليقاً للإمارة وإن ابنه من بعده خليق للإمارة كما ذكره ابن هشام في السيرة النبوية.

والحقيقة التي يجدر بنا أن نشير إليها قبل كل شيء هي أن النبي حين قام بهذا التصرف كان على يقين من دنو أجله فقد صرح مراراً بعد رجوعه من حجة الوداع أنه سيغادر المسلمين وكان يحذرهم من الانشقاق والفتنة والمستفاد منها هو أن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يوكل الأمر اختيار الإمام إلى الأمة وبالتالي لم يكن المرجع في ذلك أهل الحل والعقد.

ويؤيده أنه إذا كان مناط تعيين الإمام هو أهل الحل والعقد فكيف جاز للنبي الأعظم أن يزج بهم في جيش فيه إلى مركز القصي عن مركز الخلافة في الوقت الذي يجب أن يوجدوا في المدينة ليعينوا الإمام الذي سيحكم المسلمين بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فهذا العمل الذي أقدم عليه النبي الأعظم في هذه الظروف مع علمه بقرب وفاته حين أقدم عليه يدل دلالة قاطعة على عدم ضرورة اجتماع أهل الحل والعقد لتعيين الإمام.

- ثالثها: عقلي وينشأ من السؤال عن مدى شرعية رأي أهل الحل والعقد حتى يعطون الشرعية للحاكم والدولة فإن كانت شرعيتهم من جهة كونهم أصحاب النبي كانت الشرعية في الواقع للنبي لا لهم وهذا يثبت صحة ما يقوله الشيعة وإن كانت من أنفسهم ففاقد الشيء لا يعطيه بل ويلزم منه الدور وسلب الشيء عن نفسه بداهة حكومة شرعية الحاكم على أهل الحل والعقد بعد اختيارهم له والقول بأن شرعيته ناشئة من سيادتهم على أنفسهم بمقتضى قانون السلطنة لا ينفع في المطلوب لأن قانون السلطنة من جهة ذاته ومقتضية محدود بحدود الشخص صاحب السلطنة ولا تعميم لها لتشمل نظام الحكم الحاكم على الجميع مضافاً إلى أنه لا ينفي سلطنة الآخرين عن أنفسهم فمن أين جاز إعطاء الشرعية للسلطة على الغير وإن كانت من اجتماعهم فقد صرحوا بعدم لزوم اجتماعهم وكفاية الواحد والاثنين في إعطاء الشرعية وإن كانت من بعضهم فلو خالف البعض الآخر ولم يتفق على اختيارهم وكانوا أيضاً من أهل الحل والعقد فكيف ستكون الشرعية لأن تقديم رأي موافق على البيعة فقد يستلزم الترجيح بلا مرجح وتقديم رأي المخالف يبطل شرعية السلطة فيلزم وجود شرعية أهل الحل والعقد عدمها.

وأما نظرية العهد والشورى الذي أجمع أهل العامة على شرعيته فالسلطة فيه سلطة فردية يجمعها في يديه شخص واحد ويفوضها إلى من يشاء والشورى كما مورست في التاريخ بحسب ما صوره وصاغه عمر في تعيين عثمان فهي مظهر من مظاهر العهد من الإمام السابق وهي وإن بدت من الناحية الشكلية غير فردية لأنها عبارة عن هيئة تجتمع فيها طائفة من أهل الحل والعقد وتنظر في من توليه أمور المسلمين ولكنها في جوهرها لا تخرج عن كونها مظهر من مظاهر حكم الفرد وذلك لأن قرار هذه الطائفة من أهل الحل والعقد إنما يتخذ صفة قانونية محترمة وملزمة بمجرد تعيين الإمام السابق لهم ولولا ذلك لما كان لاجتماعهم أية صفة شرعية قانونية نافذة والمظهر الوحيد للجنة الشورى في التاريخ الإسلامي وما فعله عمر حين فوض أمر النظر فيمن يحكم المسلمين إلى ستة اختارهم وهم علي بن أبي طالب (عليه السّلام) وعثمان بن عفان والزبير بن عوام وطلحة بن عبد الله وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف كما في روايات الفريقين والذي يبدو للباحث من خلال النصوص والحوادث التي رافقت هذه السابقة التشريعية من عمر أنه كان يرغب بعثمان خليفة من بعده ولكنه لم يرد أن يتحمل مسؤولية استخلافه فأوجد هذه الهيئة وفوض إليها أمر تعيين الخليفة من بعده وحدد سبيل التعيين بأن الحق مع أربعة إن خالف اثنان وإذا استوت الكفتان فالحق من فيهم عبد الرحمن بن عوف فكأنه عين عثمان سلفاً ولكنه ألبس هذا التعيين لباس الشورى ولا ندري شيئاً عن الدافع الذي دفع عمر إلى إيجاد هذا الشكل الذي يضمن لعثمان الفوز في هذا المجال وعلى أية حال فربما يرى البعض بأنه كانت لعمر مبرراته التي دفعت به إلى هذا التصرف إلا أنه مع ذلك له آثار سلبية كبيرة كشف عنها معاوية بن أبي سفيان للحصين بن مالك حين أرسل إليه زياد ابن أبيه فقد استدعاه ليلةً فخلا به وقال: له يا ابن حصين قد بلغني أن عندك ذهناً وعقلاً فأخبرني عن شيء أسألك عنه قال سلني عما بدا لك قال: أخبرني ما الذي شتت المسلمين وفرق أهوائهم وخالف بينهم قال: نعم قتل الناس عثمان قال: ما صنعت شيئاً قال: فمسير علي إليك وقتاله إياك قال: ما صنعت شيئاً قال: فمسير طلحة والزبير وعائشة وقتال علي إياهم قال: ما صنعت شيئاً قال: ما عندي غير هذا قال: فأنا أخبرك إنه لم يشتت بين المسلمين ولا فرق أهوائهم إلا الشورى التي جعلها عمر إلى ستة نفر وذلك أن الله بعث محمداً بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون فعمل بما أمر الله به ثم قبضه الله إليه وقد أقام أبا بكر للصلاة فرضوه لأمر دنياهم إذ رضيه رسول الله لأمر دينهم فعمل بسنة رسول الله وسار بسيرته حتى قبضه الله واستخلف عمر فعمل بمثل سيرته ثم جعلها شورى بين ستة نفر فلم يكن رجل منهم إلا رجاها لنفسه ورجاها له قومه وتطلعت إلى ذلك نفسه ولو أن عمر استخلف عليهم كما استخلف أبو بكر ما كان في ذلك اختلاف كما روى هذه الرواية ابن عبد ربه الأندلسي في العقد الفريد فبغض النظر عما ورد فيها من المناقشات فإنها كاشفة عن الأطماع المثارة التي أنتجت الحروب والنزاعات بين المسلمين بسبب الصياغة التي صاغها عمر للخلافة وحرب الجمل لم تكن إلا نتاجاً لها وقد رأت طائفة أخرى أنها ليست دون بعض الشخصيات التي جمعها عمر بالشورى فطمحت بدورها إلى الاستيلاء على الخلافة ومن هؤلاء معاوية بن أبي سفيان الذي بدل الخلافة إلى ملك عضود يقوم على السيف وعلى المال والدم وهذه هي طريقة الشورى في تعيين الإمام وما بنا حاجة إلى فيها فحسبنا هذه الملاحظة التي أفضى بها معاوية في حديثه الآنف.

وأما طريق العهد من الخليفة إلى شخص خاص وهي الطريقة المفضلة عند العامة فهي ترتبط بحق الخليفة في أن يعهد بالحكم إلى من يخلفه دون أن يستشير أحد من المسلمين وإنما يعينه بنظره أجنبي كان أم ولداً أم والداً وثمة شيء آخر وهو أن له أن يعهد إلى أكثر من واحد كما ذكره أعلامهم أيضاً يقول الماوردي ولو عهد الخليفة إلى اثنين أو أكثر ورتب الخلافة فيهم فقال الخليفة بعدي فلان فإن مات فالخليفة بعد موته فلان فإن مات فالخليفة بعده فلان جاز وكانت الخلافة منتقلة إلى الثلاثة على ما رتبها كما ذكره في الأحكام السلطانية.

والسؤال الذي يرد هنا عن الضمانة التي نطمئن عليها في عدم خطأ الخليفة وانحرافه وتحيزه حيث أنهم ينكرون العصمة للأنبياء فضلاً عن غيرهم من الحكام وهذا السؤال كاشف عن عدم شرعية هذه الطريقة في تعيين الحاكم وشرعية نظام الحكم.

وأما نظرية الاستيلاء بالقوة فهي أيضاً بعيدة عن مبادئ الدين لأنه نظام استبدادي يمثل أبشع أنواع الاستبداد والإسلام يعلن حرباً لا هوادة فيها على كل من تحدثه نفسه بالاستئثارعلى الحقوق والواجبات كما وأن مثل هذا الأسلوب خليق بأن يعصف بهذه الحقوق وهذه الواجبات كافة.

وقد يقال في تبرير هذا اللون من الحكم إنه أمر تدعو إلى إقراره الضرورة ولو كان لدى المحكومين الاختيار ما يمكنهم من استبداله لاستبدلوه نقول لمن يقدم هذا التبرير إنه مخطئ في دعواه لأن الشعب إذا لم يتعرف بهذا الحكم وثار عليه تمكن من استخلاص حقه أما أن ندعوه إلى الخنوع والذل والاستكانة ونطلب منه الطاعة لمثل هذا الإمام الذي غلب عليهم بالقوة والسيف فإننا نعطي هذا الحكم صفة القانون والإلزام.

هذه مجموعة الآراء التي يراها علماء اهل السنة أنها أساس ومصدر لشرعية السلطة ونظام الحكم وبعض المناقشات فيها في الجملة وهنا مسائل تتفرع على ما ذكرناه نتعرض إليها في البحث القادم إن شاء الله.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين..عظم صص لم يوكل الامر اختيار الإمام إلى الم