المادة: البلاغة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 023.doc

5 - الرمز

الرمز: هو إحداث بين طرفين، من خلال حذف أحدهما (وهو الطرف الأوّل) وجعل الطرف الآخر (إشارة) لذلك الطرف المحذوف...

وهذا مثل قوله تعالى:

(يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ) وقوله تعالى: (كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) وقوله (عليه السلام): (آه من قلة الزاد).

فالظلمات إشارة أو رمز لـ(الكفر)، والنور رمز لـ(الإيمان)، والحجارة رمز لـ(القوة)، والحديد رمز لـ(الشدّة)، وقلة الزاد رمز لـ(قلّة الطاعة)...

والفارق بين الرمز وغيره من الصور، أنّ الرمز يتضمّن طرفاً واحداً يرمز إلى طرف محذوف، بينا نجد في الصور الأخرى طرفين مثبتين يقومان على علاقات التشابه أو الإعارة أو التقارب أو التمثيل... إلخ.

دلالة الرمز ومسوّغاته: إنّ معنى (الرمز) هو (الإشارة أو الإيماء: لغوياً)، كما أنّه ـ اصطلاحاً ـ يعني جعل العبارة (مؤشراً) إلى دلالة محذوفة يقوم الرمز نيابة عنها، بصفة أنّه ينطوي على إيحاءات متعدّدة تُكسب الدلالة مزيداً من العمق والتنوّع.

والملاحظ أنّ الاتجاه الأدبي المعاصر يستخدم الرمز بنحو مكثف حتّى ليكاد يتميز بطغيان هذا العنصر على غيره من صور التشبيه والاستعارة ونحوهما. والسِّر في ذلك، أنّ الكلمات بشكل عام محدودة (من حيث عددها) لذلك فإنّ استخدام (العبارة الرمزيّة) تسمح لمزيد من إمكانات التعبير، ما دام الرمز يحمل إيحاءات وتكثيفاً للدلالات في أدقِّ وأشمل مستوياتها... ومن هنا عُرِّف الرمز ـ في اللّغة الأدبية المعاصرة ـ بأنّه (تعبير محدود عن اللاّ محدود) أي: أنّ الرمز (مثل عبارة النور) هو تعبير محدود (كلمة واحدة أو أكثر) ولكنّها تعبّر عن معان ودلالات لا محدودة، متنوّعة مثل: الإيمان، الخير، العطاء، البشارة، النعيم، الحب... إلخ.

وفي ضوء هذه الحقائق ندرك المسوّغات الفنية لاستخدام الرمز وهي: أنّ الدلالات التي يستهدف إبرازها إلى القارئ أو السامع تكون حيناً من التنوّع والعمق والشمول بحيث يتطلّب تفصيلاً وتطويلاً يبعثان الملل في النفوس، مضافاً إلى أنّ كثيراً من هذه الدلالات يمكن أن تحقق الإثارة عند القارئ في حالة ضغطها ولمّها في عبارات مكثّفة ذات إيحاء؛ بحيث يتداعى الذّهن من خلالها إلى أكثر من دلالة، لأنّ الإيحاء يعني أنّك تستخلص وتستنتج وتستوحي من عبارة واحدة عشرات المعاني التي يختزنها ذهن الإنسان. فعبارة النور والظلمات في الآية القرآنيّة المتقدّمة، يمكن أن يستوحي منها القارئ جملة من المعاني التي أشرنا إليها مثل الإسلام، الإيمان، العطاء دنيويّاً وأخرويّاً، وكذلك بالنسبة للإيحاءات التي تبعثها (الظلمات) حيث يتداعى الذهن من خلالها إلى معاني الكفر، والفسق، والشرّ، والانحراف، والصراع والتمزّق... إلخ.

وبما أن كل شخص يمتلك تجربة خاصّة تختلف عن الآخرين، لذلك فإنّ استخدام العبارة الرمزيّة التي ترشح بعدة إيحاءات، تكون أكثر فاعليّة من العبارة غير الرمزيّة، لأن كل شخص يستخلص منها معاني تتناسب مع خبرته الثقافية، وهذا على العكس ممّا لو حدّدنا له لفظاً معيّناً حيث سيجمد القارئ على المعنى اللّغوي لهذا اللّفظ... ولهذا السبب نجد أنّ القرآن الكريم وأهل البيت يستخدمون (الرّمز) في سياقات كثيرة تتطلّب أن يعمل فيها ذهن الإنسان ليستخلص بنفسه ما تتضمّنه من دلالات متنوّعة تتناسب مع تجربة كل شخص، على نحو ما نلحظه لاحقاً.

 مستويات الرمز:

يتخذ الرمز مستويات متنوّعة من الصياغة منها:

1- الصياغة المباشرة: وهي أن يكون الرمز فيها تعبيراً (مباشراً) عن الطرف المحذوف مثل عبارة (النور) التي ترمز مباشرة إلى (الإيمان) دون أن تكون هناك (وسائط) تتخلل الدلالة والرمز الذي يشير إليها.

وهذا النوع من الصياغة على نوعين أيضاً:

- الرمز المفرد: وهو الرمز الذي يتضمّن عبارة واحدة تشير إلى الطرف الآخر مثل النماذج المتقدّمة (النور) (الظلمات)... حيث نواجه عبارة واحدة هي (النور) و(الظلمات).

- الرمز المركّب: وهو الرمز الذي يتركّب من عبارتين فصاعداً (جملة وشبه جملة) أو عبارة واحدة حيناً (كما لو كانت فعل أمر مثلاً)... وهذا مثل قوله تعالى:

(وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إلى الأَرْضِ...)، فعبارة (أَخْلَدَ إلى الأَرْضِ) تشكّل جملة تشير بمجموعها إلى دلالة رمزيّة هي انشداد الإنسان إلى متاع الحياة الدنيا،... فعبارة (أخلد) ترمز إلى من (انشدّ إلى شيء) وعبارة (الأرض) ترمز إلى المتاع الدنيوي، ومجموع الجملة (رمز) لمن يتّجه إلى المتاع الدنيوي العابر.

2- الصياغة غير المباشرة: وهي أن يكون الرمز فيها تعبيراً غير مباشر عن الطرف المحذوف، بحيث تتخلّله (وسائط) تقل أو تكثر، حسب متطلّبات السياق... وهذا مثل قوله تعالى:

(أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ).

حيث إن (الحلية) ترمز إلى المرأة، والمرأة ترمز إلى عدم التّمكن في المخاصمة، فجاء الرمز غير مباشر، أي جاءت (الحلية) واسطة بين المرأة وبين عدم تمكّنها من المخاصمة كما لحظنا.

تركيب الرمز: أنّ الرمز سواء أكان مباشراً أو غير مباشر، يتركّب وفقاً للأشكال التالية:

1- أن يكون التركيب: رمزاً معنوياً عن طرف مادّي مثل قوله تعالى: (وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) حيث يرمز عدم الإبانة (وهو معنوي) إلى (النشأة في الحلية) وهي ماديّة.

2- أن يكون رمزاً ماديّاً عن شيء معنوي مثل قوله تعالى: (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) حيث يرمز تقليب اليد وهو (ماديّ) إلى الندم (وهو معنوي). وقوله (عليه السلام): (رجع قوم على الأعقاب) حيث يرمز الرجوع (وهو مادي) إلى (الارتداد) الديني (وهو معنوي) ومثله قوله (عليه السلام): (آه من قلة الزاد) حيث يرمز الزاد وهو (مادي) إلى التقوى وهي (معنويّة).

3- أن يكون: رمزاً معنويّاً لشيء معنوي مثله، وهذا من نحو قوله تعالى:

(يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ) حيث يرمز (النور) وهو معنوي، إلى (الإيمان) وهو معنوي أيضاً.

4- أن يكون: رمزاً ماديّاً لشيء مادي مثله، وهذا من نحو قوله (عليه السلام) لمن طلب المال وهو لا يستحقه بسبب من عدم مشاركته في الجهاد: (وإلاّ فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم) حيث يرمز جني اليد وهو مادي إلى غنائم الحرب وهو (ماديّة) كما ترمز (لغير أفواههم) وهي ماديّة ـ ترتبط بالأكل ـ إلى المال الذي يستحقّونه وهو مادي أيضاً...

5- وهناك نمط آخر من التركيب يجمع بين ما هو معنوي ومادي، مثل قوله (عليه السلام): (صفاحهم نقيّة) فالوجوه مظهر مادي والنقاء مظهر قد يكون ماديّاً وقد يكون معنويّاً إلأَأنّ كلا الرمزين يشيران إلى شيء معنوي هو نقاء الأعماق.

رموز خاصّة: هناك نمط من الرمز يختص بصفات الله تعالى، من حيث كونه تعالى منزّهاً عن (الحدوث)، كذلك فإنّ استخدام صفاته تعالى؛ من خلال الرمز، يحمل مسوّغاته التي لا مناص منها،... وهذا من نحو قوله تعالى:

(الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) وقوله تعالى: (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ).

فاستوائه على العرش (رمه اللسيطرة والهيمنة... كذلك بالنسبة إلى (اليمين) حيث ترمز إلى القدرة والهيمنة أيضاً كما هو واضح.

طبيعيّاًً، يظل لكل من المستويات التركيبيّة المتقدّمة مسوّغه الفنّي، فالهيمنة التي يتّصف بها الله تعالى تتطلّب رمزاً (حسيّاً) يتمثّله الإنسان في مظاهر الكون التي يشاهدها، لذلك فإنّ انتخاب ظاهرة توحي بامتلاك ناصية الكون مثل (الاستواء على العرش) يفرض مسوغه الفني الذي يبلور مفهوم (الهيمنة) من خلال مظهر حسّي يقرّب إليه هذا المفهوم... وأما الأشكال الأخرى من التركيب، فلكل منها مسوغه الفني أيضاً... فمثلاً نجد أنّ قوله تعالى: (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) يجسّد رمزاً لحالة داخلية خاصّة هي (الندم) الذي تحسّسه صاحب المزرعتين التي أبادهما الله تعالى نتيجة لشكّه، حيث عبّر عن ندمه بتقليب الكف،... وهو مظهر خارجي لمشاعر داخليّة، أي: أنّ الحالات النفسيّة تترك انعكاسها على الجسم في مستويات مختلفة من ردود الفعل، ومنها: تقليب الكف أو عض الأنامل، مثل قوله تعالى: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي) لذلك فإنّ استخدام رمز من نحو (تقليب اليد) أو (عض الأصابع) يجيء متناسباً مع هذا السياق (أي المظهر الجسمي المعبّر عن حالة نفسيّة)، وهذا بخلاف السياقات الأخرى التي تفرض رمزاً لمظهر خارجي مثلاً، وليس لمظهر جسمي، وهذا من نحو قوله تعالى: (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) أو قوله (عليه السلام): (عقول ربّات الحجال) فالمظهر الخارجي (الحلية) أو (الحجال) وهما من مختصّات المرأة قد تطلبته طبيعة السياق الذي يستهدف لفت النظر إلى العجز عن اتّخاذ القرار الناضج أو المشاركة مثلاً في سوح القتال... وحينئذ فإنّ أفضل الرموز التي تحقّق هذا الهدف هو: المظهر الخارجي للمرأة مثل (الحلية) و(الحجال) نظراً لكونهما تعبيراً عن عنايتها بالمظهر الخارجي من حيث كونها تتّسم بالقصور العقلي والنفسي والجسمي.

إذاً، جاء كل تركيب من الرموز المشار إليها مع طبيعة السياق الذي فرض هذا الشكل أو ذاك بالنحو الذي لحظناه.

 الرمز والتداخل:

الصورة الرمزيّة قد تتركّب مع مثلها، أو مع سواها من الصور،... وتركيبها مع مثلها قد يتمّ على نحو التجاور أو التداخل:

فمن النوع الأوّل قوله (عليه السلام): (آه من قلّة الزاد، وبعد الطريق) وقوله (عليه السلام): (صبرت وفي الحلق شجى، وفي العين قذى) حيث تتتابع الرموز واحداً إلى جوار الآخر... ومن النوع الآخر أي: (تداخل الرّمز مع مثله) وهذا من نحو قوله تعالى: (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ... كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها).

ففي هذه الآية رمزان متداخلان هما: (ميتاً) و(فأحييناه) حيث يرمز الأوّل إلى الضلال، ويرمز الآخر إلى الهداية، وقد صيغ كل رمز منهما داخل الآخر في عبارة (أفمن كان ميتاً فأحييناه).

وأمّا تداخل الرمز مع سائر (الصور)، فيمكن ملاحظته في الآية ذاتها، فهناك صورة (تمثيليّة) هي (وجعلنا له نوراً)، وصورة (استعارية) هي: (يمشي به)، وصورة (تشبيهية) هي: (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ)...

إذاً: في الآية المتقدّمة أنواع متعددة من الصور: الرمز، التمثيل، الاستعارة، التشبيه... وقد تداخلت هذه الصور بنحو مدهش، فتداخل رمزان بعضهما مع الآخر (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ)، وتداخل التمثيل مع الاستعارة (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ)،... وتداخلت هذه الصور جميعاً مع التشبيه (حيث شكلت جميعاً طرفاً) هو (المشبه) أي (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً) مقابل الطرف الآخر (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ...).

6 - الاستدلال

الاستدلال: هو إحداث علاقة بين طرفين، من خلال جعل أحدهما (وهو الطرف الآخر) استدلالاً على الطرف الأوّل،... وهذا من نحو قوله (عليه السلام): (الشجرة البرّية أصلب عوداً) مستدلاً بذلك على أنّ تناول القليل من الطعام لا يؤثر على قوى الشخص. ويمكننا توضيح ذلك حين نلحظ السياق الذي ورد فيه هذا الاستدلال الصوري، وهو قوله (عليه السلام): (وكأني بقائلكم يقول: إذا كان هذا قوت علي بن أبي طالب، فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان. ألا وإن الشجرة البرية أصلب عوداً، والروائع الخضرة أرقّ جلوداً، والنباتات البدوية أقوى وقوداً وأبطأ خموداً.).

إذن: جاء هذا الاستدلال تعقيباً على من يتخيل بأنّ قلة الطعام تمنع البطل من مقاتلة العدو، فاستدل على بطلان ذلك بأنّ الشجرة البرية ـ وهي الشجرة التي لم يتعهّدها الإنسان بالرعاية من حيث السقي والحرث وغيرهما ـ أصلب عوداً من الشجرة التي تنبت في المكان المصحوب بالتعهد وبالرعاية وبكثرة السقي ونحوه،...

الاستدلال والتشبيه: وفي ضوء الحقائق المشار إليها، يمكننا أن ندرك الفارق بين الاستدلال والتشبيه، فقد كان بالإمكان أن يشبّه الإمام علي (عليه السلام) قلة الطعام وأثره بالشجرة البرية، ولكنه ما دام في موقف يتحاور من خلاله مع الآخرين (وكأني بقائل) حينئذٍ فإن طبيعة الحوار تقوم على توجيه الخطاب إلى الآخرين واستثارتهم مباشرة من خلال تقديم نماذج حسيّة يضعها أمامهم، ممّا لا تتسق مع أداة تشبيه بل تتسق مع تقديم نموذج يضعه أمام أنظارهم لا أن يشبه هذا النموذج به، حتى يكون تأثيره أشدّ... يُضاف إلى ذلك، أنّ الاستدلال هو محاكمة عقليّة تجعل القناعة بالشيء أشدّ مما لو يُساق الكلام بغير استدلال... كما أنّ الاستدلال ـ في الغالب ـ يقترن بـ(الحكمة) حيث تجيء غالبية الصور الاستدلالية مقرونة بالحكمة، مثل قوله (عليه السلام): (من سلك الطريق الواضح ورد الماء).

ومن الواضح أنّ الحكمة تستثير الإنسان أكثر ممّا تستثيره اللّغة الخالية منها...

طبيعياً، أن السياق هو الذي يتطلب (الحكمة) و(الاستدلال) حيناً، ويتطلب التشبيه والاستعارة أو الرمز حيناً آخر،... ففي النموذج الذي قدّمناه يكشف عن أنّ الموقف يتطلب استدلالاً، ويتطلب تقديم (حكمة) بالنسبة إلى ظاهرة الطعام، فالكثير من الناس يُخيل إليه بأنّ تناول القليل من الطعام يؤثّر على قواه، وحينئذٍ لا بد من تقديم استدلال يدحض هذه المقولة فكان هذا وحده كافياً لأن يكون مسوِّغاً لهذا النمط من التركيب الصوري.

الاستدلال والرمز: هنا ينبغي أن نُشير أيضاً إلى الفارق بين الاستدلال والرمز (ليس من حيث مسوِّغاتهما) بل من حيث تركيبهما الفنِّي، فالاستدلال يقوم على طرفين موجودين هما ـ في النموذج الذي قدمناه ـ (قلة الطعام) و(الشجرة البرية). أمّا في الرمز فإنّ الطرف الأوّل (يُحذف) فيه، فيكون الفارق بينهما وجود الطرف الأوّل أو حذفه، فإذا وجد فنحن أمام (استدلال)، وإذا حُذِفَ فنحن أمام (رمز)...

 مستويات الاستدلال:

يأخذ الاستدلال مستويات متنوعة من التركيب:

1- الاستدلال التقريري: وهو أن يتمّ الاستدلال بأسلوب تقريري خال من عنصر المحاكمة العقلية (أي المقدمات والنتائج) وهذا مثل قوله تعالى: (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) حيث يستدل بهذه الصورة أنّ المستقبل يكشف عن مصائر الخلق، فيكون (استقرار النبأ) استدلالاً على ما يكشف عنه المستقبل الدنيوي أو الأخروي...

وأمّا إذا كان الاستدلال يعتمد (المحاكمة العقلية) فيأخذ المستويات التالية:

2- أن يتم من خلال طرف واحدة مثل (الشجرة البرية أصلب عوداً) حيث تُشير الصورة إلى أنّ الشجرة البرية أصلبُ عوداً من غيرها بمعنى أنّها تتوكأ على طرف استدلالي هو (صلابة العود).

3- أن يتمً من خلال أكثر من طرف مثل قوله تعالى: (وَما يَسْتَوِي الأَحْياءُ وَلأَالأَمْواتُ...) (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ). حيث أنّ الجملة الأخيرة مترتبة على ما سبقها.

والملاحظ أنّ هذه المستويات الثلاثة تأخذ صيغاً مختلفة من الطرح، منها:

4- الاستدلال الفرضي: مثل قوله تعالى: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) حيث يفترض النص إمكانية أن يأكل الإنسان لحم أخيه ميتاً (حيث لا يتحقق عمليّاً مثل هذا الأكل).

5- الاستدلال المقارن: وهو أن يتم من خلال المقارنة بين شيئين مثل (وَما يَسْتَوِي الأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلأَالظُّلُماتُ وَلأَالنُّورُ).

6- أن يتمّ وفق صياغة شرطية مثل قوله (عليه السلام): (من وثق بماء لم يظمأ).

7- أن يتمً وفق صياغة تقوم على التساؤل، مثل قوله (عليه السلام): (كيف يراعي النبأة من أصمّته الصيحة).

8 - الاستدلال القصصي: وهو الاستدلال الذي يتوكأ على عنصر حكائي أو قصصي مثل قوله تعالى: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ...).

والمسوّغ الفنّي لأمثلة هذه المستويات هو طبيعة السياق الذي يفرض هذا النمط أو ذاك... فالاستدلال القصصي فرضته طبيعة الإنفاق ومعطياته الدنيوية والأخروية، حيث أنّ أهميته لا تقف عند مجرد كونه عملاً عبادياً يُثاب عليه الإنسان فحسب بل أنّ له انعكاسات في الدنيا (من حيث نموّه وتعويضه بأضعاف ذلك).

فمثلاً لو وقفنا عند الاستدلال الذي يتضمّن طرفاً واحداً مقابل الاستدلال الذي يتضمن طرفين من المحاكمة العقلية لوجدنا أن طبيعة الاستدلال الأول (الشجرة البرية أصلب عوداً) جاء في سياق قلة الأكل التي لا تؤثر على قوى الإنسان، فكان من الطبيعي أن تُصاغ له صورة تُقابل قلّة الطعام وهي كون الشجرة البرية أصلب عوداً... ولا يتطلب المقام أكثر من هذه المقابلة.

لكن عندما نقف مع الصورة التي تتضمن طرفين (وَما يَسْتَوِي الأَعْمى وَالْبَصِيرُ * وَلأَالظُّلُماتُ وَلأَالنُّورُ... وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) لوجدنا أنّ النص كان في سياق المقارنة بين من يملك استعداداً لأن يتقبّل الهداية ومن يأبى ذلك... وبما أنّ النمط الأخير قد اقترن الحديث عنه بحرص النبي (صلى الله عليه وآله) على إرشاده، حينئذ كانَ لابدَّ من لفت نظره (صلى الله عليه وآله) بأنّ الميت لا يسمع، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات... فطبيعة المقارنة بين نمطين من الناس، ثم اقتران ذلك بعدم إمكانية، تعديل السلوك لأحد الطرفين، تتطلب جملة صور لتوضيح الدلالة المذكورة.

والأمر نفسه بالنسبة إلى الاستدلالات الأخرى، مثل تنويع صيغها القائمة على التساؤل أو الشرط ونحوهما،... ففي الاستدلال الشرطي نجد نموذجين أحدهما تتقدمه أداة الشرط، (من وثق بماء لم يظمأ) والنموذج الآخر على العكس من ذلك (كيف يراعي النبأة من أصمّته الصيحة). والسر في ذلك أنّ تقديم أداة الشرط قد اقترن باليقين بالله (وهفاحهف له قيمته أساساً)، وأمّا تقديم الجزاء في النموذج الآخر (كيف يراعي النبأة) فقد جاء متناسباً مع الأهمية التي يمنحها المشرّع للظاهرة.

7- التضمين:

هو إحداث علاقة بين طرفين من خلال جعل أحدهما مقتبساً أو متضمّناً لدلالة الآخر، متمثلة في متن مقروء أو مسموع مثل: آية قرآنية أو حديث أو مثلٍ أو شعر أو حادثة... إلخ.

فمن النموذج الذي يتضمن آية قرآنية قوله (عليه السلام):

(ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشراً بأمر أخرج به منها ملكاً) تضميناً للآيات التي تحدثت عن إخراج الشيطان من الجنة. وقوله (عليه السلام): (ولا من الذين تبوّأوا الدار والإيمان) تضميناً للآيات تحدّثت عن المهاجرين...

ومن النموذج الذي يتضمن حقيقة تأريخيّة قوله (عليه السلام) لمن طلب منه أن يبايعه بعض الناس: (إنها: كف يهودية)، تضميناً لحقيقة كون اليهود معروفين بالغدر تأريخياً.

ومن النموذج الذي يتضمن حقائق شخصية قوله (عليه السلام): (فحبسا نساءهما في بيوتهما وأبرزا حبيس رسول الله) تضميناً لمن ساهم في معركة الجمل بتحريض من الآخرين...

التضمين والتورية: هناك شكل من أشكال التضمين يطلق عليه البلاغيّون مصطلح (التورية) وهو إحداث علاقة بين شيئين أحدهما يتضمن دلالة بعيدة، والآخر دلالة قريبة، إلاّ أنّ النص يستهدف ما هو بعيد من العلاقة...

ومن نماذجها قوله تعالى: (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) فالمعنى القريب أو اللغوي هو انبعاث الموتى، إلا أنّ النص يستهدف دلالة أخرى رمزية هي: (الغافلين) بصفة أنّ (الميت) رمز للشخصية الغافلة أو غير الواعية،...