mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 034.doc

فالسياسة التي اتبعها الرسول (صلى الله عليه وآله) في مكة  قامت على جذب المؤلفه قلوبهم إلى صف الاسلام فمن ناحية أكدّ على مكانتهم عندما اعلن بأن من يدخل دار أبي سفيان فهو آمن اما ولاية مكة فقد منحها لواحد من بني أمية هو عتّاب بن أسيد وأيضاً أبقى مالك بن عوف على زعامة قبيلته وهذا يؤكد بأن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يشأ احداث تغيير يشّم منه المكيون رائحة الخطر فقد طمأنهم النبي (صلى الله عليه وآله) بتلك الخطوات التي قام بها بعد ذلك بذل عليهم المال السخي من أجل أن يضمن ولائهم، في نفس الوقت عمل رسول الله على دمجهم بالمجتمع الاسلامي على رغم صعوبات ذلك لأن بعض هؤلاء المؤلفة قلوبهم من حَسُن ايمانه مثل كهيل بن عمرو فقد أثمرت محاولات النبي (صلى الله عليه وآله) في تغييره حتى أصبح يقول والله لا أدع موقفاً وقفته مع المشركين إلا وقفت مع المسلمين مثله ولا نفقة أنفقتها مع المشركين إلا انفقت على المسلمين مثلها، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يطيل معه اللقاء فقد نقل إلينا سهيل بن عمرو جملة من الروايات منها هذا الحديث سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: مقام أحدكم في سبيل الله ساعة من عمره خير من عمله عمرة في أهله.

وكان لسهيل دور بارز في الوقوف بوجه الردّة في مكة بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) فقد خطب في أهل مكة وطالبهم الاستمرار في ولائهم للاسلام وبعد أن استقرت الاوضاع ذهب سهيل بن عمرو إلى الشام وهو يقول أرابط حتى أموت ولا أرجع إلى مكة. فكم بلغ التحول في هذا الرجل الذي بدأ حياته ضمن مجموعة المؤلفة قلوبهم ليؤكد بأن ليس كل الذين كانوا ضمن هذه المجموعة بقوا ضعيفي الايمان.

فهناك من بقي على حاله كأبي سفيان ومعاوية الذين ظلا على حالهما.

وعلى الرغم من أن المؤلفة قلوبهم لم يظهروا بصورة كيان سياسي إلا انهم بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) أخذوا يخططون للتسلل إلى السلطة، فتمكنوا في عهد الخليفتين عمر وعثمان أن يحققوا خطتهم فأصبح معاوية والياً على الشام فمهّد الطريق للاستيلاء على الحكم وتحويل الحكم الاسلامي إلى ملكية.

فقد لعب المؤلفة قلوبهم دوراً خطيراً في تاريخ الاسلام وتسبببوا في تحريف الدولة الإسلامية عن النهج الرسالي من خلال النظام الذي أوجدوه خلال فترة حكمهم.

فلقد بذل رسول الله (صلى الله عليه وآله) جهداً كبيراً من أجل دمج هذه الشريحة الاجتماعية في المجتمع الاسلامي وتذويبها في العقيدة الإسلامية لكن البعض من هؤلاء كان يحمل في قلبه وسادة تمنع من دخول الايمان واستقراره من أمثال أبي سفيان ومعاوية وكان وجودهم يشكل خطراً على الاسلام ، فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعمل على تفهيم الأمة بحقيقتهم لدرء مخاطرهم فقد ذكر الطبري أن النبي (صلى الله عليه وآله) رأى أبي سفيان مقبلاً على حمار، معاوية يقود به ويزيد ابنه يسوق به فقال: لعن الله القائد والراكب والسائق (1).

وعن أبي سعيد الحذري وعبد الله بن مسعود قال رسول الله: إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه (2).. فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخشى أن يقوى هذا التيار فيصبح قادراً على تحريف المسيرة الإسلامية وهو الذي حدث فعلاً عقب فترة من وفاته، صلى الله عليه و آله.

السياسة الخارجية للدولة الإسلامية

لم تقم الدولة الإسلامية في محيط منعزل ومنفصل عن شعوب العالم ولم يكن الرسول (صلى الله عليه وآله) ينوي اقامة دعوته بمعزل عن تلك الشعوب مثل اليهودية فهو يحمل رسالة عالمية لكل الشعوب فكان لا بد من اختيار المكان المناسب لهذه الدعوة وكانت المدينة أفضل مكان لنشر الدعوة إلى الآفاق إذ كان في المدينة تجمعات فكرية تنتمي إلى اليهودية والنصرانية وهي ايضاً تعتبر جسراً لامتدادات الشعوب القاطنة حول جزيرة العرب.

وكان واضحاً لدى النبي (صلى الله عليه وآله) انه ذاهب إلى مكان يشتمل على اتجاهات سياسية مختلفة فكان عليه أن يضع خطوط سياسته أزاء تلك الأقوام التي لا يجد بُداً من التعامل معها سلباً أو ايجاباً.

ومع أول قدومه للمدينة بدأ يرسم معالم سياستها الخارجية التي تناولت في الوهلة الاولى التجمعات اليهودية ثم بعد ذلك أخذت تتكامل هذه السياسة مع اتساع روابط الدولة الإسلامية مع التجمعات الاخرى ومع قيام صيغة جديدة في العلاقة بين الكيان الاسلامي والكيانات الأخرى. وإذا تعمقنا في النهج السياسي الذي سلكه النبي في علاقاته الخارجية نجد إن هذا النهج يقوم على عدة أهداف مركزية هي:

1- نشر الدعوة الإسلامية.. فبداية العلاقة بين الاسلام والأديان الاخرى كانت علاقة حوار استهدفت التأثير في المنتمين إلى الديانات الاخرى. ويذكر لنا التاريخ أن عدداً من أحبار اليهود ورهبان النصارى قد آمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله) وحتى في مراحل الصراع المسلح كانت الغاية هي نشر الاسلام وايصال تعاليمه إلى الشعوب الاخرى وسنأتي إلى ذكر هذه الأمور في فصول قادمة.

2-كسب وضع أفضل للدولة الإسلامية: فقد أرسى النبي (صلى الله عليه وآله) سياسته الخارجية سواء مع اليهود أو مع قريش سواء كانت سياسته السلمية أو الحربية لتحقيق هذه الغاية. فقد كانت الدولة الإسلامية دولة ناشئة يحيط بها الأعداء من كل جانب ومكان ولم يكن أمام انطلاق المسلمين إلا كسر القيود التي كانت من حولهم بايجاد أوضاع أفضل تتمكن من خلالها الدولة الإسلامية من التحرك بحرية كافية في جزيرة العرب وخارجها.

فالاتفاق الذي أبرمه النبي (صلى الله عليه وآله) مع اليهود في بداية تشكيل الدولة الإسلامية كان ضرورياً من أجل بناء البيت الداخلي للمسلمين. ثم أن اخراج القبائل اليهودية من المدينة بعد نكثها للاتفاقية كان قد أوجد لدى الرسول (صلى الله عليه وآله) فرصة لفرض السيادة التامة على المدينة. وإن الحرب او السلم مع قريش كان لتحقيق نفس هذه الغاية. ولو شئنا التدقيق في معالم أهداف كل خطوة خطاها النبي (صلى الله عليه وآله) لوجدنا أن وراء كل خطوة قراراً حكيماً وإن نتائج كل خطوة كانت لصالح الدولة الإسلامية مما يؤكد بأن هناك هدفاً مركزياً كان يسعى اليه النبي (صلى الله عليه وآله) من وراء سياسته وهو ايجاد وضع أفضل للدولة الإسلامية.

3- تحاشي الاقتتال.. وكان من بين الأهداف الرئيسية التي سعى إليها النبي (صلى الله عليه وآله) هو تحاشي الاقتتال والتوسل بأية وسيلة يمكن بها ضمان تحقيق أهدافه دون السلاح. فكان من بين الوسائل التي اختارها عقد الاتفاقيات وابرام المعاهدات وارسال الرسل وتبادل الرسائل. فقد تحاشى الصدام مع اليهود عند وصوله إلى المدينة فعقد معهم الاتفاقية التي وردت بنودها في الصحيفة ونفس الشيء بالنسبة إلى نصارى نجران فقد عقد معهم اتفاقية يعطون على اساسها مقداراً من المال في قبال توفير الحماية لهم على أن يبقوا على دينهم وممارسة طقوسهم ونجده ايضاً (صلى الله عليه وآله) ينتهج هذا النهج حتى مع قريش فهو يجد نفسه من أجل أن يسلك طريقاً لا يؤدي إلى اراقة الدماء. ومعظم اتفاقيات الصلح التي أبرمها النبي لم تكن بسبب الضعف العسكري بل وراءها جميعاً غايات نبيلة كان النبي (صلى الله عليه وآله) يسعى إليها دون اراقة الدماء. ولم يكن النبي (صلى الله عليه وآله) ليرفع السلاح إلا عند الاضطرار وفي حالات الدفاع عن النفس.

4- تحقيق العدالة بين الشعوب.. فالإسلام دين عدالة وقوانينه هي لانقاذ البشرية من التخلف والاضطهاد وكان من واجب كل مسلم تطبيق قوانين الاسلام لتحقيق العدالة بين الشعوب حتى غير المسلمة فقد لا يشترط عليها الامتثال لقانون العدالة التي جاء بها الاسلام والذي يضمن لها الخير والسعادة وهذا هو هدف مركزي سعى اليه النبي (صلى الله عليه وآله) عندما عقد مع القبائل معاهدات يفرض عليها الالتزام بقوانين العدالة مع انه لا يفرض عليها العقيدة الإسلامية.

وأول معاهدة عقدها النبي (صلى الله عليه وآله) مع اليهود كانت تتضمن هذا المعنى، فقد اشترطت الصحيفة أن تحال القضايا المتنازع عليها إلى النبي (صلى الله عليه وآله) باعتباره المنفّذ للعدالة.

عندما وقعت حادثة زنا قام بها يهودي محصّن اضطروا امتثالاً لبنود الاتفاقية أن يرفعوا القضية إلى النبي (صلى الله عليه وآله) لكن أحبارهم قالوا لهم إن حَكَمَ بالرجم فارفضوا وإن كان بغيره فاقبلوا فرفض النبي (صلى الله عليه وآله) أن يحكم بغير الرجم. من هنا ندرك أن النبي (صلى الله عليه وآله) رضي أن يبقى اليهود على دينهم لكنه لم يقبل اي تنازل عن قوانين الاسلام لأنها قوانين عادلة من شأنها اسعاد الانسان ووضعه على طريق الخير.

فإذا لم تُجبر الدولة الإسلامية ارباب الديانات على اعتناق الإسلام فإن عليها أن تعمل من أجل سيادة العدالة وسيادة القوانين الالهية على كافة الشعوب الإسلامية وغير الإسلامية وهو هدف لا يمكن التساهل عليه بأي وجه.

  •  جبهة عريضة للموحدين.

من الاهداف التي عمل من أجلها النبي (صلى الله عليه وآله) في بداية تشكيل الدولة الإسلامية هو اقامة جبهة عريضة بين المؤمنين بالديانات الثلاثة الاسلام واليهودية والنصرانية في قبال العدو المشترك وهو الوثنية.

فمرحلياً كان لا بد من السعي لتطهير جزيرة العرب من براثن الشرك المستشري في صفوف المجتمع والذي كان السبب وراء كل مظاهر التخلف والعجز والانحطاط في ذلك المجتمع. فقد رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) اشراك أصحاب الديانات التوحيدية الاخرى في هذه المهمة أن تكون تصفية الوثنية مهمة خاصة به.

فكانت أول خطوة على طريق تنفيذ هذا المشروع هو عقد الاتفاقية مع اليهود وكانت من أهداف الاتفاقية رص الصفين الاسلامي واليهودي في قبال قريش التي كانت تمثل الكيان السياسي للشرك.

وخطى الرسول (صلى الله عليه وآله) خطوة أخرى باجراء الاتصالات مع نصارى نجران وفتح أبواب الحوار المباشر مع قادة وعلماء النصارى فقد أرسل أهالي نجران وفتح أبواب الحوار المباشر مع قادة وعلماء النصارى فقد أرسل أهالي نجران وفداً من ستين راكباً بعد تلقيهم رسالة من النبي (صلى الله عليه وآله) يصف فيها القواعد التي يمكن على أساسها قيام التفاهم بين المسلمين والنصارى. واجتمعت الاديان الثلاثة على مائدة الحوار الفكري فدعاهم رسول الله  صلى الله عليه و آله، إلى الالتزام بالحدود المشتركة من العقائد الثلاثة قائلاً لهم: (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فان تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون).

وتشكّل هذه الآية الكريمة قاعدة راسخة في التفاهم العقائدي فهي قدمت لأصحاب الديانتين عروض مغرية فأعلنت المساواة بين المؤمنين بهذه الاديان الثلاثة أن يكون محور اللقاء هو التوحيد وعدم الاشراك بالله وأن يصبح الحق هو معيار السلوك.

وعندما سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن هوية العقيدة الإسلامية قال لهم: آمنا بالله وما أنزل إلى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. ثم بيّن لهم النبي (صلى الله عليه وآله) موقف المسلمين من عيسى بن مريم منكراً على النصارى عقيدتهم في التثليث واقرارهم بألوهية عيسى قائلاً لهم أن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون.

وكانت الغاية من هذا القاء هو تصحيح معتقداتهم وكشف جوانب التحريف في اليهودية والمسيحية. ووقع الاختلاف الشديد بين اليهود والنصارى إذ قالت النصارى ليست اليهود على شيء، وقال اليهود ليست النصارى على شيء. ودار نقاش ساخن وجدال عنيف أدلى كل منهم بما عنده.

فأنكر اليهود رسالة عيسى (عليه السلام) ورسالة النبي محمد (صلى الله عليه وآله) معتقدين بأن الرسل يجب أن يكونوا من بني اسرائيل وزعموا أن عزير هو ابن الله وانجر الحوار إلى جدل غير مجدي إلى تعصب المسيحيين عند رأيهم فلم يبق أمام رسول الله سوى دعوتهم إلى المباهلة: (فمن حاجك من بعد ما جاء من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) وذكرت كتب السير أن النبي (صلى الله عليه وآله) جاء ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين للمباهلة. وعندما رأوا الجدية على محيا النبي (صلى الله عليه وآله) انسحبوا خوف افتضاح أمرهم واجتمعوا للتشاور فيما بينهم فالتفوا حول كبيرهم أبي حارثة العاقب فقالوا يا عبد المسيح ماذا ترى فقال والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً نبي مرسل ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم ما لآعنَ قوم نبياً قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم.

فأجمعوا عند رأ ي واحد هو أن ينسحبوا من المباراة فأتوا الرسول (صلى الله عليه وآله) قائلين له يا أبا القاسم: قد رأينا ألا نلاعنك وأن نتركك على دينك ونرجع على ديننا، ولكن ابعث رجلاً معنا من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء قد اختلفنا فيها من أموالنا فانكم عندنا رضا.

وباءت محاولات النبي (صلى الله عليه وآله) في توحيد الديانات الثلاثة بالفشل أمام تعنت اليهود وصلفهم ورفضهم للأسس المشتركة بينهم وبين الاسلام وبينهم وبين المسيحية.

فقد ظلوا مصرين على انحرافهم الفكري رافضين أية دعوة لتصحيح معتقداتهم وظلّ الرسول (صلى الله عليه وآله) ولمدة وهو يناقشهم في أفكارهم بهدف تصحيحها فلو كان اليهود قد صححوا أفكارهم لكانوا قد قبلوا بعروض النبي (صلى الله عليه وآله) ولوافقوه على رسالته لأنهم يجدونه في كتابهم المقدس الا أن عنادهم وعنصريتهم العمياء جعلتهم يستبعدوا أي تقارب فكري مع المسلمين واي تعاون مع النبي محمد (صلى الله عليه وآله).

ـــــــــــ

الهامش

1)- تاريخ الطبري: ج11ص357.

2)- السيوطي، اللآلي المصنوعة: ج11ص 424- 452.