mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 02.doc

رفيق الدعوة

ومنذ ذلك الوقت أخذت قريش تتجرأ للنيل من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فكان يقول: ما زالت قريش كاعة عني حتى مات أبو طالب(1) فكان عليه أن يُغير مكانه ويستبدله بمكان أكثر أمناً يستطيع منه نشر رسالته إلى أرجاء أخرى من جزيرة العرب، فأخذ يعرض نفسه على القبائل، وابتدأ أولاً بالطائف وبعد عشرة أيام من مكوثه هناك لم يلق التجاوب المطلوب وقفل عائداً إلى مكة وعلى رغم الأجواء الصعبة في مكة فقد ظلّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يبحث عن منفذ ينطلق منه إلى رحاب الأرض، فانتهز فرصة مواسم الحج فأخذ يعرض نفسه على القبائل وكان يرافقه في هذه المهمة علي ابن أبي طالب كما ينقل المؤرخون فكان دوره هو الحراسة على حياة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ومشاركته في أمر الدعوة.

فعليّ كان مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في الطائف وأخذ معه أيضاً زيد بن حارثة(2).

وعند العودة إلى مكة اصطف الأولاد الصغار والسفهاء صفين وأخذوا يرمون رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بالحجارة فوقف علي وزيد يتلقيان الضربات ويمنعان الصبية عن مواصلة اعتدائهم حتى شجّ رأس زيد بن حارثة أثناء المدافعة.

عاد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مكة بعد تلك التجربة، عاد وهو أمضى عزيمة على الاستمرار ومواصلة الدرب بعرض الدين الجديد على القبائل.

أصبح يتحرك بين القبائل ويبقى أياماً وأسابيع علّه يجد من يلين قلبه للإيمان، هاجر إلى بني شيبان وظلّ هناك ثلاثة عشر يوماً وكان يصحبه في هذه الرحلة علي وأبو بكر(3) وظلّ هكذا حتى فتح الله عليه في سنة إحدى عشرة من البعثة عندما إلتقى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) برهطٍ من الخزرج في موسم الحج عند العقبة، فدعاهم إلى الإسلام وقرأ عليهم القرآن فآمنوا به ثم عادوا إلى وطنهم يثرب فدعوا أبناء قبيلتهم وأبناء قبيلة آوس إلى التصديق بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فانتشر الإسلام وفي السنة القادمة جاء اثنا عشر، اثنان من آوس والبقية من الخزرج فبايعوا الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وطلبوا منه أن يبعث معهم سفيرا، فأرسل مصعب بن عمير، فأخذت حركة الدعوة تتصاعد، وبدأ الإسلام يدخل كل بيت في يثرب وأخذت القلوب تهفو للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وتنتظر ساعة اللقاء به.

وحلّ موسم الحج وحانت الفرصة الذهبية لعقد لقاء مباشر بين طلائع يثرب مع قائدهم.

وخرج المسلمون مع مشركي يثرب قاصدين البيت الحرام في مكة، فالتقى بعضهم بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فطلبوا منه اللقاء فواعدهم في العقبة في أواسط أيام التشريق ليلاً بعد أن يكمل الحجيج مناسكهم. وفي ليلة الميعاد قاموا من رحالهم بهدوء وسكينة حتى لا يستيقظ أحد ممن كان معهم من المشركين الذين جاؤوا معهم.

وأخذوا يتسللون إلى العقبة وقد مضى من الليل ثلثه واجتمعوا في الشِعب عند العقبة، وكان سبعون أو ثلاثة وسبعون وامرأتان وتم اللقاء التأريخي في بيت عبد المطلب وكان إلى جانب الرسول حمزة وعلي والعباس(4) وتمت البيعة على أفضل شكل.

وعلى رغم سرية اللقاء، إذتم انعقاده دون علم أحد حتى من المسلمين، إلا أن انباءه قد بلغت مسامع المشركين، تجمعّوا، فجاؤوا مع أسلحتهم إلى مكان الإجتماع، فخرج حمزة ومعه علي بن أبي طالب بسيفهما فسألوا حمزة عن الإجتماع فأنكر ذلك فرجعوا خائبين، وهم على يقين بأن جمعاً من أهل يثرب قد دخلوا الإسلام، وإن ذلك سيشكل خطراً عليهم لأنه يعني انتشار الإسلام في أنحاء جزيرة العرب، فأسرعوا لإلقاء القبض على الأنصار، فأدركوا سعد بن عبادة فأخذوه وعذبوه وبلغ خبره جبير بن مطعم والحارث بن حرب فأتياه وخلصاه لأنه كان يجير لهما تجارتهما.

وفي هذه الحادثة يتجلى دورعلي بن أبي طالب في ذلك الإجتماع المهم حيث كان وجوده هو وحمزة في ذلك المكان ضروري لأنه سيمنح الأنصار صورة جيدة عن الإسلام وعن حماية بني هاشم للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، كما وأن وجودهما له جانب من الأهمية يتعلق بنوايا قريش وما تخبئه للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث كانت تتوقع هذا اللقاء، فليس مستبعداً توجيه ضربة قاضية للرسالة الإسلامية.

فكان لابد من أخذ الإحتياطات اللازمة.

ومن ناحية أخرى فإن من واجب الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يوفر قدراً من الحماية للضيوف القادمين من يثرب فاستعان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بأشجع بني هاشم حمزة وعليّ وهما اللذان عُرفا بالشجاعة والقوة.

واختلف المؤرخون فيما بينهم حول مشاركة الإمام علي في هذا الإجتماع، فبينما أكد صاحب السيرة الحلبية والسيرة النبوية لدحلان وأعلام الورى وبحار الأنوار هذه القضية تجاهلها بعض المؤرخين الذين جاؤوا على ذكر العباس بدلاً من علي وحمزة بخلاف المتوقع، لأن العباس لازال مُشركاً في ذلك الوقت. وهل من الممكن أن يشترك العباس ولا يشترك حمزة أو علي وهما مسلمان؟

 

ليلة الفداء

تمادى الطغاة في إيذاء المسلمين، وواصل المسلمون مغادرة مكة إلى يثرب بصورة سرية فأحس المشركون بالخطه وخشوا أن يفلت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من أيديهم بعدها لا يستطيعون أن يوقفوا المد الإسلامي، فقرروا القضاء على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فانتدبوا من كل قبيلة شاباً وكلفوه بتطويق بيت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) واغتياله عندما يخرج وعرف رسول الله بالخطة، فقرر أن يهاجر في تلك الليلة التي تقرر فيها إغتياله، ولكي تتم الخطة بنجاح كامل كان لابد من إبقاء من يبيت في مكانه ويرد الأمانات التي كانت في حوزته، ثم يهاجر بالنساء.

فمن يكون ذلك الشخص المستعد للمخاطرة بنفسه، ويبيت في فراش النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ثم يتحمل مسؤولية رد الأمانات، ثم حمل النساء الهاشميات والهجرة معهن إلى يثرب.

إنها حقاً لمسؤولية شاقة ومهمة صعبة أن يُخاطر الإنسان بنفسه وينتظر القتل في أية لحظة أثناء نومه، وعلى فرض الموافقة على المبيت من يجرأ أن يتقبل مسؤولية رد الأمانات وهو لا يعلم بمصيره ولا يعرف هل سيبقى حياً فيكون بمقدوره إعادة الأمانات أم لا.

فمن سيكون لهذه المهمة؟

لم يكن صعباً على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يختار الشخص المناسب للقيام بهذا الدور، فهو قد أعدّ علياً لمثل هذه الأيام العصيبة.

جاء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى علي(عليه السلام) فأخبره بما يعدّه المشركون هذه الليلة.

فبكى علي(عليه السلام) خوفاً على حياة الرسول..

ولما أبلغه بأن المطلوب منه أن يبيت في فراشه، أجابه على الفور:

أو تسلم يا رسول الله إن فديتك بنفسي.

ليس المهم حياته.. ولم يعد يشغله السؤال عن مصيره.. بل كان ما يشغله حياة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، أجابه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

نعم بذلك وعدني ربي(5).

فتغيرت ملامح علي(عليه السلام) وتبدلت تقاطيع وجهه من الحزن إلى الفرح ابتهاجا بهذه المهمة، فقد كانت كل خلية منه تنطق بحب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان علي(عليه السلام) بانتظار أية فرصة يستطيع فيها أن يبرهن لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك الحب الكامن في أعماقه. وها قد جاءت الفرصة المنتظرة.

ها قد حانت لحظة اختيار الحب، ولم يغب ذلك عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فهو يعلم بما في قلب علي من حب وتفان واخلاص لذا لم ينتدب غيره للقيام بهذه المهمة وهو يعرف بماذا سيجيبه علي(عليه السلام) عندما يكلفه بها فلا داعي للقلق طالما أن هنا من يستطيع إتمام الخطة.

وكان رد علي(عليه السلام) كما هو المتوقع دائماً.. لم يقل لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) تنجي بنفسك وترمي بي إلى المهالك، أو على الأقل لم يقل له إعفيني من بقية المهام وهي رد الأمانات ونقل النساء. فالطاعة عند علي (عليه السلام) قيمة حقيقية ترتبط بحجم إيمانه وإخلاصه، والمؤمنون الصادقون تصبح الطاعة لديهم لذة عندما يكون المطاع هو رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي لا يتفوه إلا عبر الوحي، (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى).

ثم إن قيام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بالهجرة لا يعني الرغبة، في النجاة من الأعداء بل هي رحلة أكثر مشقة نحو عالم جديد ومسؤوليات جديدة. فقد كان رسول الله يعد العدة لإقامة دولته المباركة على أرض يثرب والتي ستصبح نقطة انطلاق لنشر الإسلام إلى جزيرة العرب ثم العالم وكل ذلك يتوقف على بقاء رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حياً ثم هجرته إلى يثرب.

فرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يريد الحياة لنفسه بل كان يريدها لكي يواصل الدرب وتتحقق إرادة الله في الأرض.

كل تلك المعاني كانت حية عند علي(عليه السلام) عندما أعلن عن موافقته على اقتراح النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالمبيت في فراشه.

وعندما جاء الليل اتشح علي(عليه السلام) ببردة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) فاضطجع في فراشه، وجاء فتيان قريش وأحاطوا بالبيت فرأوا من شقوق الباب المصنوع من جذوع النخل أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) نائم في مكانه المعتاد فاطمأنت قلوبهم من وجوده ظناً منهم أن الممتد على فراشه هو النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بعينه. فأخذوا يقذفونه بالحجارة لعله يستيقظ ثم يخرج من الدار فيقتلونه لأنهم لم يرغبوا في بادئ الأمر قتله في الدارن لأن مثل هذا العمل يُعتبر منقصة لهم فانتظروا حتى آخر الليل، فعندما لم يستيقظ داهموا البيت وهجموا عليه بسيوفهم وكان في مقدمتهم خالد بن الوليد فوثب علي(عليه السلام) من فراشه، فأخذ منه السيف وشد عليهم فأجفلوا أمامه إجفال الغنم وخرجوا من الدار فأمعنوا النظر إليه، فإذا هو علي بن أبي طالب(6).

وأورد الطبري، أنهم قالوا لعلي أين صاحبك، قال: لا أدري أو رقيباً كنت عليه أمرتموه بالخروج فخرج، فانتهروه وضربوه وأخرجوه إلى المسجد فحبسوه ساعة ثم تركوه(7) وهذا أمر مستبعد إذ أنهم لو كانوا قد تمكنوا من علي لما تركوه بل كانوا يستخدمونه كرهينة للضغط على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

ولم يكن المبيت في فراش النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هو كل المهمة التي أوكلت إلى علي عليه أفضل الصلاة والسلام، بل كانت تلك هي بداية مهام شاقة لم يكن بمقدور أحد القيام بها.

فتلك نساء بني هاشم ينتظرن من يوصلهن إلى يثرب بعد أن خلت مكة من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) والأصحاب وكان فيهن العجائز اللائي لا يطقن السفر الطويل وكان فيهم الأطفال الصغار أيضاً وكان على علي (عليه السلام) أن يتكفل بهن وأن يتعهد بايصالهن إلى يثرب سالمات لم يمسهن السوء.

وما كان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليختار كفيلاً عليهن غير علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فبين النساء بناته وعماته وبنات عماته وبنات أعمامه. فلم يك من اللياقة تركهن لوحدهن أو إيكال الأمر إلى رجل غريب.

وثمة مهمة أخرى اوكلت للامام علي (عليه السلام)، هي إيصال الأمانات المودعة عند النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أصحابها وهم من المشركين بالطبع، فهم قد وثقوا بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لأمانته واخلاصه، وأودعوا عنده الأموال والحلي، ولم يكن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ممن يخل بتعهداته قيد أنملة حتى لو كانت تلك الأمانات لأناس غير مسلمين. وحتى لو كان في ظروف عصيبة إذ كان يتأهب لمغادرة الوطن إلى أرض أخرى، وحيث تحف به الأخطار من كل ناحية.

ففي تلك اللحظات الحرجة التي ينسى فيها الإنسان كل شيء لم ينس فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) تلك الأمانات وخاطر بحياة ابن عمه(عليه السلام) ليؤكد على خلقية الإسلام.

ووقع الاختيار على علي بن أبي طالب (عليه السلام) أيضاً لأداء هذه المهمة لأنه كان الوحيد الذي يستطيع أن يقوم بالمهمة خير قيام، فهو الأعرف بشؤون النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فهو بسهولة يستطيع أن يتعرف على أماكن المودعين وإيصال أماناتهم، ثلاث مهام شاقة أوكلت إلى علي (عليه السلام)، وهو يتقبلها بكل رحابة صدر فلقد أعده رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) للأوقات الحرجة إذ يفزع الإنسان فيها باحثاً عن ملجأ ومكان يأوي إليه، ففيها لا يصمد إلا الصابرون الشجعان، والقادة الناجحون في الحياة هم الذين يحظون برفقة اولئك الأفذاذ والشجعان، وكان قدر الله أن يولد علي في جنب محمد، لتكتمل أشواط الرسالة الإلهية.

ليصبح محمد نبياً وعليّ وصياً وإماماً.

ليصبح محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) بانياً وعليّ(عليه السلام) مرمماً.

ليكون محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) بادئاً وعليّ مكملاً.

وبزغ فجر اليوم الأول من الهجرة وسحابة من السلام تظلل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) تتبعه خطوة بخطوة نحو الأرض الجديدة.

وانبلج قلب ابن أبي طالب (عليه السلام) مع انبلاج الصبح، فقد مضى الليل الرهيب دون أن يقع أي مكروه واستطاع أن يقوم بالمهمة خير قيام.

فها هو قد انتهى من المهمة الأولى وعليه أن يؤدي المهمة الثانية.

أوصل الأمانات إلى من يعرفه وما تبقى منها، أقام منادياً بالأبطح قائلاً: ألا من كانت له قبل محمد أمانة فليأت لتؤدى إليه أمانته، وبذلك انتهى من المهمة الثانية، وبقيت أمامه المهمة الأخيرة، وهي الرحيل برفقة النساء والأطفال وكان عليه أن ينتظر حتى يأتيه كتاب من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ينبئه بسلامة وصوله ويطلب منه اللحاق به.

ووصل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى قُبا بسلام وأمان وأستقبلته جموع الأنصار، ومن هناك بعث بكتابه إلى علي (عليه السلام) مع أحد أصحابه هو أبو واقد الليثي، وقد قرر البقاء هناك حتى يصل علي (عليه السلام).

وهنا يظهر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) صورة أخرى مفعمة بالحب والتقدير للشاب الشهم الذي أبدى كل استعداد لتحمل الصعاب والمشاق من أجل الرسالة، فكان على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكرم هذا الإنسان، وأي إكرام أعظم من مكوث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أربعة عشر ليلة(8) في قبا ينتظر رفيق دربه وكفيل عياله ووكيله على أمانات الناس.

وصل كتاب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى علي بعد ثلاث ليال كانت من أصعب الليالي عليه حيث فارق فيها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو لم يتعود على مفارقته لحظة واحدة فقد كان لصيقا به كما ذكر الأصحاب لا يغيب عنه، فكم لاق الإثنان خلال هذه المدة من الفراق؟

وبمجرد وصول كتاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) اشترى عليّ(عليه السلام) الركائب وأعد العدة للخروج وأمر من معه من ضعفاء المؤمنين أن يتسللوا ليلاً إلى ذي طوى وخرج هو ومعه الفواطم، فاطمة بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأمه فاطمة بنت أسد وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب وفاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب، وتولى أبو واقد الليثي سوق النياق ولشدة خشيته كان يحث الخطى سريعاً حتى لا يلحق بهم الأعداء.

وصعب على علي (عليه السلام) أن يرى نساء بني هاشم على تلك الحالة من السرعة في الحركة وهن نساء ضعيفات. فطلب من أبي واقد أن يرفق بالنساء وعندما لم ينصاع لأن الموقف كان موقف خوف وهلع يتزلزل فيه حتى الشجعان، إلا علي (عليه السلام) الذي منحه إيمانه العميق بالله هدوءاً وأعصاباً من حديد حتى في أحلك الظروف. وأخذ يسوق بنفسه الرواحل سوقاً رقيقاً وهو ينشد ليبعث الطمأنينة في نفوس من معه بما فيهم أبي واقد.

   ليس إلا الله فأرفع ظنكا*****يكفيك رب الناس ما أهمكا(9)

واستمر على هدوئه حتى وصل إلى مقربة من قرية في الطريق تسمى ضجنان وهناك أدركته القوة المرسلة من قبل قريش لاعادته إلى مكة بعد أن بلغها خبر رحيله هو و النساء.

وكانت القوة تتكون من ثمانية فرسان ملثمين معهم مولى لحرب بن أمية اسمه جناح فقال علي (عليه السلام) لأيمن وأبي واقد أنيخا الإبل واعقلاها وتقدم فأنزل النسوة واقترب منه الفرسان فاستقبلهم علي (عليه السلام) لوحده، فقالوا له.. ظننت انك يا غدار ناجٍ بالنسوة ارجع لا أباً لك.

لم يخف علي (عليه السلام) ولم يرتبك بل قال لهم بهدوئه المعتاد:

فإن لم أفعل.

فامتلأوا غيظاً من هذا الكلام.

وقالوا متحدين: لترجعّن راغماً أو لنرجعنّ بأكثرك شعراً وأهون بك من هالك واقترب بعضهم نحو النياق وأرادوا أن يفزعوها حتى يدخلوا الرعب إلى قلوب النساء والأطفال فمنعهم علي (عليه السلام) من مواصلة ذلك، فأسرع نحوه جناح قائد الكتيبة وأراد ضربه بالسيف لكن الإمام سارعه بضربة على عاتقه فقسمه نصفين حتى وصل السيف إلى كتف فرسه ثم شدّ على القوم ولم يمنحهم فرصة ثانية ليردوا فيها على مقتل رئيسهمن ففروا من بين يديه فزعين خائفين قائلين له.

احبس نفسك عنا يا ابن أبي طالب.

فقال لهم الإمام فإني منطلق إلى أخي وابن عمي رسول الله فمن سره أن أفري لحمه وأريق دمه فليدن منى(10) فارتعد الفرسان ورودوا على أدبارهم خائبين فواصل علي(عليه السلام) السير حتى وصل القرية ضجنان فمكث فيها ليلة أو ليلتين ثم أنطلق إلى قبا وكان يسير الليل ويرقد في النهار اتقاء حرارة الشمس إذ كان الفصل هو فصل الصيف والشهر هو تموز كما هو واضح من الروايات.

ومن فرط المشي تفطرت قدماه (عليه السلام) حتى إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما شاهده على تلك الحالة بكى عليه

وتفل في يديه ومرّ بهما على قدميه، فلم يشكهما بعد ذلك(11)

 

مشاركة في بناء الدولة

استأنف رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مهمة بناء الدولة الإسلامية من لحظة وصوله إلى المدينة فشرع في بناء المسجد كقاعدة رصينة للحكومة المركزية ثم شرع بإرساء الأواصر الإجتماعية في الكيان الإسلامي، وانطلق من مفهوم الأخوة الإسلامية لتعضيد الرابطة الإجتماعية، فآخى بين المهاجرين والأنصار، والمتبقين من المهاجرين آخى فيما بينهم لأن عدد المهاجرين يناهز عدد الأنصار بمائة نفر بينما مجموع الأنصار لا يتجاوز الخمسين، ولم يستثن من قاعدة الأخوة أحد حتى نفسه الشريفة حيث أسس عقد الأخوة بينه وبين ابن عمه علي (عليه السلام)، ذلك لأن الأخوة كانت استراتيجية عريضة تشمل ميادين عديدة من العلاقة فبالإضافة إلى مراميها الإجتماعية والإقتصادية تتضمن معاني حركية، فعبر جسر الأخوة تتمتن العلاقة العملية بين المسلمين فكان تآخي النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مع اب عمه علي(عليه السلام) ذا مدلولات عديدة، وهو يكشف عن طبيعة العلاقة العملية التي كانت بين النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وبين علي (عليه السلام).

فعلي(عليه السلام) هو الوحيد من بين الأصحاب من يستطيع الدخول على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في أي وقت يشاء حتى لو كان عند نسائه.

وهذه رواية ينقلها عبد الله بن مسعود فيقول:

خرج رسول الله من بيت زينب بنت جحش حتى أتى بيت أم سلمة فجاء داق فدق الباب فقال(صلى الله عليه وآله وسلم) يا أم سلمة قومي فافتحي له.

قال: ومن هذا يا رسول الله الذي بلغ من خطره أن أفتح له الباب وأتلقاه بمعاصمي(12) وقد نزلت فيّ بالأمس آيات من كتاب الله.

فقال(صلى الله عليه وآله وسلم) يا أم سلمة إن طاعة الرسول طاعة الله وإن معصية الرسول معصية الله عز وجل وإن بالباب رجلاً ليس بنزق ولا خرق وما كان ليدخل منزلاً حتى لا يسمع حساً وهو يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله.

قالت ففتحت الباب فأخذ بعضادتي الباب ثم جئت حتى دخلت الخدر فلما أن لم يسمع وطئي دخل ثم سلم على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ثم قال يا أم سلمة وأنا من وراء الخدر أتعرفين هذا.

قلت نعم هذا علي بن أبي طالب(13).

وعلى ما يبدو من الرواية أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان على موعد مع علي في تلك الساعة فليس هناك أحد يجرؤ أن يأتية في مثل تلك الساعة إلا ابن عمه علي (عليه السلام) لأنه منه وهو منه.

وبالطبع لم يكن مجيء علي (عليه السلام) في تلك الساعة عبثاً وبلا سبب بل كان بالتأكيد هناك أمور لا يمكن تأخيرها، وهي تستوجب مثل هذا اللقاء، وهي قضايا تتعلق بشؤون الدولة الإسلامية ومصير الدعوة.

وقال سليم بن قيس الهلالي في كتابه عن علي (عليه السلام).

وكنت أدخل على رسول الله في كل يوم دخلة وكل ليلة دخلة فيخليني فيها أدور معه حيث دار وقد علم أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إنه لم يكن يصنع ذلك بأحد غيري وربما كان ذلك في منزلي فإذا دخلت عليه في بعض منازله خلا بي وأقام نساءه فلم يبق غيري وغيره(14).

وذكر النسائي في الخصائص عن أبي يحيى قال: قال علي رضي الله عنه كان لي من النبي مدخلان مدخل بالليل ومدخل بالنهار(15).

وإذا ما عرفنا إن مثل هذه اللقاءات كانت تتكرر حتى في أوقات متأخرة من الليل لكنا قد أدركنا طبيعة الواجب الخطير الذي كان ملقى على عاتق أمير المؤمنين والذي كانت يتطلب منه لقاءات مكثفة وسرية مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في أوقات خاصة لصرف النظر عما كان يدور في مثل هذه اللقاءات.

فقد ذكر أحمد بن حنبل في مسنده عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: كانت لي من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) منزلة لم تكن لأحد من الخلايق.

كنت آتيه في كل سحر فأسلم عليه.

وفي قول ثان.

فأستأذن عليه فإن كان في صلاة سبح وإن كان في غير صلاة أذن لي.

فمن المؤكد أن اللقاء الذي يتم بين رئيس الدولة ومن هو بمنزلة الوزير في الساعات الأخيرة من الليل لهو لقاء هام وذو علاقة بأوضاع الدولة وشؤونها.

هكذا كانت العلاقة بين محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي(عليه السلام) علاقة تتجاوز القرابة وتتجاوز حتى الرابطة الأخوية بل هي علاقة بين رجلين مسؤولين على اقامة أول صرح للإسلام فكان لقاءهما المتواصل أمراً طبيعياً تفرضه أوضاع الدولة وحاجات المجتمع ومتطلبات الدعوة الإسلامية.

 

أولاً: القائد المتميّز

منذ أن وطأت قدماه مدينة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بدأ علي بن أبي طالب (عليه السلام) العمل جنباً إلى جنب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في تأسيس الدولة الإسلامية فلم يترك ثغرة إلا وسد فرجها، فكان في كل الميادين سباقاً إلى العمل وإلى تثبيت دعائم الإسلام مندفعا بطاقة ذاتية هائلة لا توازيها طاقة مجموعة كبيرة من الأفراد، وهذا هو أكبر ما يميزه لنا التاريخ عن غيره، فعلي بشجاعته كان يوازي جيشاً جراراً وفي ادارته لشؤون المسلمين يعادل جهازاً كبيراً مترامي الأطراف وفي تتبعه لأمور الولاة وأمور القضاة وما يجري على الناس، وفي علمه كان بحراً زاخراً تنتهي إليه علوم الناس.

فقد ذكر أن علوم الناس تنتهي إلى ثلاثة أبو الدرداء وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس، وقالوا أيضاً إن أبا الدرداء كان يعود إلى ابن مسعود، وابن مسعود كان يعود إلى ابن عباس وابن عباس كان يعود إلى علي بن أبي طالب، فكان علي (عليه السلام) المنبع الزاخر بالعلم والذي كان يمدّ القنوات الأخرى كإبن عباس وغيره بالعلم المعرفة ولا غرو في ذلك أليس هو باب مدينة العلم بنص كلام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) "أنا مدينة العلم وعليّ بابها".

واطلاله على  سيرة علي (عليه السلام) خلال السنوات العشر الأولى من تأسيس الدولة الإسلامية تكشف لنا عن خصائص شخصية الإمام علي (عليه السلام). فقد كان السباق دائماً إلى اقتحام الصعاب وكانت الفترة الأولى من الدعوة الإسلامية بحاجة الى من يستهين بالحياة الدنيا ويرمي بنفسه في المخاطر ليعلّم الآخرين الجرأة والإقدام وعلي كان من هذا النوع النادر من الناس الذين يضعون أنفسهم في المقدمة ويسبقون الآخرين إلى العمل فقد كانت التحديات تحيط بالمسلمين من كل جانب ومكان وتطوّق الكيان الإسلامي الناشئ من كل أطرافه فكان لابد من نفوس عالية تقارع المخاطر بشجاعة وجرأة حتى يستطيع هذا الكيان أن يشق طريقه وتتماسك أركانه. ففي كل معارك الإسلام سيما المعارك الأولى لم يمهل المنادي بالمجالدة أن يكمل كلامه حتى كان قباله يركز رمحه في الأرض ويرفع سيفه في السماء ويطلق لصوته العنان ليزمجر في وجه الطغاة المستكبرين.

وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فرحاً مطمئناً على حياة الرسالة لأنه كان يجد بين أصحابه الذخيرة التي يستطيع بها الوقوف قبال المشركين مهما تفاقم الأمر وتكاثر الخطب، فوجود علي (عليه السلام) كان مبعثاً للطمأنينة على الدول الإسلامية، كما كان بالأمس وجود أبيه أبي طالب يبعث في نفسه الطمأنينة على الدعوة الإسلامية.

كما وإن وجود علي(عليه السلام) في المقدمة يربي الآخرين على التضحية ويعلمهم الإقدام ويدفعهم إلى الإقتداء، والأعمال الكبيرة في كل القوى العسكرية تتوقف في العادة على من يبادر على اقتحام الصعاب وعلى أثره ينطلق أفراد الجيش.

وبالإضافة إلى هذا الدور كان علي (عليه السلام) بحكمته ورويته يشكل الاحتياطي الأكبر في تعزيز الكيان الإسلامي وترتيب البيت الإسلامي، فمع كل مشكلة كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يستعين بعلي(عليه السلام) فقد استبدله بسعد بن عبادة في فتح مكة عندما قال مقالته التي كادت تشعل حريقاً واسعاً في مكة بخلاف الإستراتيجية التي وضعها الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم).

وأرسله إلى جذيمة وانتدبه إلى اليمن عندما كانت تستفحل فيها المشكلات فكان استتباب الوضع بحاجة إلى رجل حكيم وشجاع ويستطيع أن يدبر الأمر ويحل حبائل المشكلات المعقدة.

 

الهوامش:

1- الأمين سيد محسن أعيان الشعية 1/235.

2- ابن أبي الحديد المعتزلي 1/ 127 عن المدائني.

3- ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة 4/ 126.

4- الحلبي السيرة الحلبية 2/ 16.

5- الحسني سيرة المصطفى248.

6- الحسني سيرة المصطفى249.

7- تاريخ الطبري 2/ 101.

8- الأمين أعيان الشيعة 1/ 238.

9- الأمين أعيان الشيعة 1/ 238.

10- الأمين أعيان الشيعة 1/ 238.

11- الأمين أعيان الشيعة 1/ 238.

12- معاصمي موضع السوار من الساعة.

13- كشف الغمة في معرفة الأئمة 1/ 122 الأربلي.

14- كتاب سليم بن قيس63.

15- النسائي خصائص أمير المؤمنين ص30.