mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 24.doc

بسم الله الرحمن الرحيم  

بدأنا في محاضرتنا السابقة بالحديث عن العمليات التربوية التي تضطلع بتنظيم الدوافع الحيوية عند الإنسان، وبدأنا ذلك بالحديث عن الدافع أو الحاجة إلى النوم وانتهينا من ذلك إلى الحديث عن الأحلام حيث حدثناكم عن التصور الإسلامي والأرضي عن الأحلام وكان حديثنا قد انتهى من ذلك إلى تقسيم ثلاثي للأحلام عبر التصور الإسلامي. وأما الآن فنواصل الحديث عن التصور الإسلامي للأحلام إلا أننا نقف عبر تقسيم آخر هو التقسيم الثنائي لها.

إن الإسلام يتجه فضلاً عما لاحظتموه من التقسيم الثلاثي للرؤيا إلى تقسيم آخر للرؤيا من حيث دلالتها،وهو التقسيم الثنائي الذي يشطر الأحلام إلى ما هو صادق منها وإلى ما هو كاذب؛ فالأول من الأحلام فاعل ومؤثر والآخر عديم الفاعلية، وقد أوضح الإمام الصادق (عليه السلام) هذه الحقيقة عبر ربطها بظاهرة أخرى تتصل بانسحاب الأثر النفسي على عملية التمييز بين نمطي الرؤيا حيث يقول (عليه السلام) عن النمطين المشار إليهما: (فصارت - أي الرؤيا - تصدق أحياناً فينتفع الناس بها في مصلحة يهتدى لها أو مضرة يتحذّر منها وتكذب كثيراً لئلا يعتمد عليها كل الاعتماد).

وفي نص إسلامي آخر يشير الإمام (عليه السلام) إلى تحديد الرؤيا الكاذبة بقوله: (أما الكاذبة المختلة فإن الرجل يراها في أول ليله، وإنما هي شيء يخيل إلى الرجل) هنا تلاحظون أن إشارة المعصوم (عليه السلام) إلى التخيّل تفصح عن تشوّش الأداء الوظيفي لجهاز العقل عند الحالم على نحو ما لاحظتم في الإشارة التي تمت إليها بعض تصورات البحث الأرضي، أي الاتجاه الشرطي لعلم النفس سواء أكان ذلك صادراً من منبه عضوي أو نفسي، والمهم أن التقسيم الثنائي للحلم على النحو المذكور يختصر أكثر من مسافة في تقويم الحلم وتحديد فاعليته وعدم ذلك حيث يتجنب مزالق البحث الأرضي قديمه وحديثه في التأرجح بين الاتجاه المادي الذي لا يرى إلى الحلم بعامة أكثر من أنه مظهر لنشاط عضوي لا فاعلية له، وبين الاتجاه المضاد له وهو الاتجاه المثالي الذي يشدد في فاعليته المتمثلة في كونه مفتاحاً لفهم الشخصية وتعديل سلوكها.

إن الاتجاهين كليهما يبتعدان في الواقع عن أرض الواقع عبر نظرتهما الأحادية الجانب، في حين لاحظتم أن الفرز الإسلامي للنمطين الصادق والكاذب يحسم المشكلة بوضوح، لكننا قبل أن نتجه للخطوط التفصيلية التي تفرزها أهمية الفارق بين الرؤى الصادقة والكاذبة عبر التصور الإسلامي لها لا مناص لنا من طرح أكثر من سؤال في هذا الميدان فيما يظل البحث الأرضي عاجزاً عن الإجابة عليها، وفي مقدمة ذلك السؤال الذاهب إلى طرح واحدٍ من أنماط الرؤى وهو التنبؤ أو الأحلام التي تتنبأ بأحداث المستقبل، إن أمثلة هذه الرؤى حقيقة لا يمكن أن ينكرها أحد حتى في نطاق تجارب العلمانيين المنعزلين عن السماء، فلا الاتجاه المادي بقادر على طرح كلمة حيالها ولا الاتجاه المثالي الذي نسج صمتاً عندها بقادر على أن يتجاوزها أيضاً، وهذا ما يجسّد خللاً علمياً في البحث الأرضي الحديث يقلل دون أدنى شك من قيمة ما يقدمه من آراء في صدد تفسيره لظاهرة الحلم.

إن البحث الأرضي يجهل تماماً المصادر التي تمد الشخصية بالروح وبالدوافع وبالأفكار ومع إقراره بهذا العجز لا يملك حيال المشكلة سوى عرض تجاربه الأرضية التي تحده وسوى الصمت حيال التجارب خارج حدوده، ومع أن هذا الصمت فضيلة علمية في حد ذاته إلا أنه يفقد أية نظرية قيمتها الحق ما دامت مرسومة بطابع العجز الذي لا ينكره أي باحث أرضي.

المهم أن الفاصل بين نمطي الرؤيا الصادقة والكاذبة في ضوء التصور الإسلامي لذلك يحسم مثلما قلنا الظاهرة الحلمية من حيث فاعليتها في تعديل السلوك. فإذا أدركنا أن شطراً من الأحلام لا يعدو كونه أضغاثاً وتخيلاً حينئذٍ فإن الشطر الآخر منها يظل منبهاً من السماء لا أنه مجرّد مثير فسلجي أو نفسي تترتب عليه، وها هن تكمن خطورة ظاهرة الأحلام، تترتب عليه انعكاسات ذات أهمية بالغة المدى في تعديل السلوك، وهذا ما ألمح النص الإسلامي الذي لاحظناه قبل سطور إليه حينما قرر المعصوم (عليه السلام) أن الأحلام صارت تصدق أحياناً فينتفع الناس بها في مصلحة يهتدى لها أو مضرة يتحذّر منها فالإشارة إلى كلّ من الصلاح ومن الضرر تعني الإرشاد أو العلاج الذي يتكفّل بعملية تعديل السلوك.والنص الآتي يحدد بوضوح أشد مهمة الحلم في تعديل الجانب الشاذ من سلوك الشخصية حيث يقول المعصوم (عليه السلام): (إذا كان العبد على معصية الله عز وجل وأراد الله به خيراً أراه في منامه رؤيا ترق فينزجر بها عن تلك المعصية).

وفي ميدان تطبيق للوظائف المذكورة يمكننا على سبيل المثال أن نلحظ فاعلية التعديل متمثلةً في الواقعة الآتية:

تقول إحدى الروايات: (أتى إلى أبي عبد الله (عليه السلام) رجل فقال: يا بن رسول الله رأيت في منامي كأني خارج من مدينة الكوفة في موضع أعرفه وكأن شيخاً من خشب أو رجلاً منحوتاً من خشب على فرس من خشب يلوّح بسيفه وأنا أشاهده فزعاً مذعوراً مرعوباً، فقال (عليه السلام): أنت رجل تريد اغتيال رجل في معيشته)، ثم أوضح الحالم تفصيلات ما كان يعتزمه من إجحاف مالي حيال أحد جيرانه وأقلع عن عزمه المذكور بعد وقوفه على تفسير الإمام (عليه السلام) لرؤياه.

وهذا كله من حيث الفاعلية الفردية للحلم المرتبط بالسماء، أما فاعليته الاجتماعية فيكفي أن نشير إلى حلم الملك الذي عرضه القرآن الكريم في قصة يوسف (عليه السلام) حيث استطاع الحلم أن ينقذ مصر من كارثة اقتصادية تنبه يوسف (عليه السلام) عليها عبر تفسيره لرموز الرؤيا بالنحو الذي نعرفه جميعاً بما لا حاجة إلى أن نعرض ذلك بالتفصيل.

إلى هنا نكون قد انتهينا من البحث عن الأحلام عبر تصوري الأرض والسماء، ولكن بقي عنوان آخر لا بأس من طرحه ألا وهو (صلة الأحلام بالسلوك العصابي أو السوي). فالملاحظ أن بعض الاتجاهات الأرضية تحاول أن تربط بين كثرة الحلم وبين مرض الشخصية، حتى أن هذا الاتجاه وهو الاتجاه التحليلي يعد الحلم أحد أشكال التعبير إن لم يكن أشد أشكاله بروزاً عن مكبوتات الشخصية، وتبعاً لذلك فإن شدة العصاب ترتبط بكثرة الحلم وبالعكس، هذا هو التصور التحليلي للأحلام وعلاقتها بعصاب الشخصية، وأما الإسلام فقد ألمح في الواقع إلى هذا الجانب،أي إلى الجانب الشاذ من سلوك الشخصية ولكن عبر إشارةٍ قد تتفق معها الاتجاهات الأرضية المشار إليه في بعض تصوراتها بطبيعة الحال،نقول:لقد ألمح إلى هذا الجانب الذي اهتدت إليه بعض التصورات في الأرض وربط بين كثافة الأحلام وقلتها وبين إيمان الشخصية وسلامة جهازها النفسي واتزانها وانعكاس ذلك على الحلم وموقعه من الصدق أيضاً. ولا نغفل أن التصور الإسلامي للسلوك لا يفصل بين ما هو نفسي صرف وبين ما هو عبادي كما قلنا في لقاءاتنا السابقة، حيث أوضحنا مفصلاً في إحدى المحاضرات وحدة العصاب الفكري والنفسي عبر التصور الإسلامي للشخصية، وهنا نكرر هذه الحقيقة حينما نلحظ أن الإمام المعصوم (عليه السلام) يقرر ما يلي: (رؤيا المؤمن صحيحة لأن نفسه طيبة ويقينه صحيح). المعصوم (عليه السلام)  حينما يصل عبر هذا النص بين صدق الحلم وسلامة الجهاز النفسي حيث قول (عليه السلام) (نفسه طيبة) وسلامة السلوك العبادي حيث يقول (عليه السلام) (يقينه صحيح) أقول: حينما يصل بين ذلك وبين قلة أو انعدام الرؤيا يقول (عليه السلام)  في نص: (المؤمن إذا رسخ في الإيمان رفع عنه الرؤيا).وفي تقرير عيادي إسلامي آخر يقول المعصوم (عليه السلام): (من أكثر المنام رأى الأحلام) ، ففي هذين النصين تلميح إلى التناسب بين سوية الشخصية وقلة أحلامها وبين مرض الشخصية أو اضطرابها وكثرة أحلامها، ومن الممكن أن يفصح هذان النصان عن دلالات أخرى قد استخلصها المعنيون بهذا الحقل لا تتفق مع استخلاصنا المتقدم.

إلا أن القناعة بما قررناه ستتكيف من حيث انصرافهما إلى الأحلام الكاذبة أو الأضغاث التي تتساوق مع تركيبة الشخصية التي تنأى عن مبادئ السوية الإسلامية، وإلا فإن الشخصية السوية المؤمنة طالما تتعامل مع الحلم، وطالما يظل حلمها متسماً بالصدق حتى أن النبي (عليه السلام) كان يخاطب أصحابه: (هل من مبشّرات؟) وفي نص آخر يقول: (لم يبق من النبوة إلا المبشرات) مما يعني أن الصلة بين إيمان الشخصية وسويتها وبين صدورها عن الرؤيا تظل من الوثاقة بحيث لا يمكن إنكار ذلك، كل ما في الأمر أن الرؤيا الكاذبة أو الأضغاث هما اللذان يرتفعان بحيث لا تجد نفسه الطيبة ويقينه الصحيح كما قرر (عليه السلام) ذلك مكاناً لما هو كذب وأضغاث من الأحلام، بصفة أن الشخصية المضطربة التي تعنى بهموم المتاع الدنيوي هي المرشحة لانعكاسات المدى المذكور بعامة عليها من خلال الأضغاث والأحلام المرضية.

بهذا ننتهي من الحديث عن الأحلام وصلة الأحلام بالنوم وصلة ذلك كله بالحديث عن الدوافع الحيوية والطرائق التربوية في تنظيم هذه الدوافع حيث وقفنا على دافعٍ واحدٍ من هذه الدوافع الحيوية ألا وهو النوم وما يرتبط به من فاعليات متنوعة حدثناكم عنها عبر التصورين الإسلامي والأرضي، أما الآن فنتقدم إلى الحديث عن دافع حيوي آخر هو الجنس وما يرتبط به من العمليات التربوية التي يضطلع التصور الإسلامي بتنظيمها وفق مبادئ متنوّعة سنحدثكم الآن عنها مقارناً بالتصور الأرضي بطبيعة الحال وهذا ما نبدأ به.

 

الدافع الجنسي

يعد الجنس واحداً من الدوافع الحيوية في تركيبة الكائن الآدمي كما هو معروف لدى الجميع، بيد أن ما يميز هذا الدافع عن سواه هو إلحاحية هذا الدافع في السلوك إلى الدرجة التي تلفت الانتباه، مع أنه لا يجسد حاجة أولية في قائمة الدوافع، وتعرفون جيداً أن بعض الدوافع المجسّدة للحاجات الأولية كالحاجة إلى النوم أو الطعام أمثلة هذه الحاجة لا مناص من إشباعها بأية حال بنحو لا يمكن تأجيل ذلك وإلا تعرض الكائن الآدمي إلى التلف عقلياً ومن ثمّ جسمياً، في حين أن الحاجة الجنسية من الممكن ممارسة التأجيل حيالها دون أن يترتب على ذلك انهيار عقلي أو حدوث الموت كما هو شأن دافعي النوم والطعام مثلاً.

ومع ذلك كله نجد أن هذا الدافع يظل أشد إلحاحاً من سائر الدوافع الحيوية من حيث انعكاساته على السلوك، ولعلّه لهذا السبب دفع إلحاح هذه الحاجة بعض الباحثين الأرضيين الذين تحدثنا عنهم جعله يعد هذه الحاجة أحد شطري السلوك الإنساني في أصوله المحرّكة لمختلف أشكاله حتى وإن كان التفسير الجنسي لدى البحث المذكور يتسع ليشمل الأعم من التفسير الجنسي بمعناه الضيق، لكن مع ذلك نجد أن الباحث المشار إليه يخضع الحركة التاريخية كلها لإلحاحية هذا الدافع بمعناه الأوسع وذلك من حيث نشأة العقل الإنساني ومراحل تطوره بدءاً من مراحل ما قبل التاريخ وانتهاء بعصور التقدم الحضاري في المستوى النوعي للإنسان، كما أخضعه للتفسير ذاته في مستوى السلوك الفردي الخاص حيث جعل مختلف مراحل النمو للطفولة والرشد خاضعة للبعد الجنسي المذكور وما يترتب عليه من عقد لا نجد الآن حاجة للحديث عنها وإن كانت دلالة ذلك كما قلنا قد تتجاوز الدلالة الجنسية في نطاقها الخاص الذي نريد أن نتحدث عنه الآن.

طبيعياً إن تصور إلحاحية هذا الدافع بمستوياته التي أشير إليها يظل خطأً علمياً لا حاجة لإعادة الكلام فيه ما دمنا في محاضرة سابقة قد ألمحنا إلى ذلك وما دام كتّاب الأرض، أي العلمانيين أنفسهم قد تكفلوا بالرد على أمثلة هذا التفسير الأسطوري، لكن ذلك كله لا يعني التقليل من أهمية هذا الدافع بقدر ما يعني ذلك خطأ التفسير لجذوره وانعكاسات ذلك على النحو الذي أشير إليه أرضياً، وإلا فإن إلحاحية هذا الدافع قد أشارت النصوص الإسلامية إليه أيضاً، حتى أن بعض النصوص شددت في ذلك بنحوٍ يذهب إلى أن السلاح الشيطاني مثلاً هو المرأة، وأنها هي السلاح الوحيد الذي يستطيع الشيطان أن يستثمره في غواية الكائن الآدمي بعد أن تفشل أسلحته الأخرى في الرواية المذكورة.

إن إشارة النصوص الإسلامية إلى السلاح الجنسي بالنحو المتقدم وأنه أشد قوى الشيطان يعني بوضوح لا نقاش فيه أن الجنس يعد أشد الدوافع البشرية إلحاحاً في سلوك الإنسان بحيث إذا قورن بدوافع أخرى نجد أن كثيراً من تجارب الحياة دفعت أشخاصاً إلى أن يضحّوا بدوافع مهمة في تركيبتهم الشخصية كالبحث عن السيطرة والفوقية والبحث عن التملّك إلى آخر ذلك، دفعت هؤلاء أن يتنازلوا عن كل هذه الدوافع حتى يحققوا إشباعاً لدافعهم الجنسي، بل ترتب على ذلك سقوط الشخصية أساساً في ميدان التقدير الاجتماعي بحيث تعرّض الشخصية إلى نبذ اجتماعي مهين لا يطاق ومع ذلك فإن الدافع الجنسي المشار إليه هو الذي دفع بأمثلة هذه الشخصيات الضعيفة بطبيعة الحال إلى أن تعنى بإشباع هذا الدافع انطلاقاً من إلحاحيته التي أشرنا إليها.

المهم نستطيع أن نضيف إلى ذلك أن اقتران الدافع المشار إليه بحاجات بشرية أخرى أو بدوافع أخرى كالحاجة الجمالية من جانب والحاجة العاطفية من جانب آخر، وتشابك هذه الدوافع أو الحاجات الثلاث في مظهر واحد هو التعامل الجنسي، لعل لهذا التشابك جانباً من تفسير إلحاحيته التي تقدمت الإشارة إليها.

المهم بعد هذا كله ينبغي أن لا نخلع تلك الأهمية التي ينسجها الشيطان للشخصية في إلحاحية هذا الدافع بقدر ما يمكن أن نتدبّر ونمارس المهارة العقلية التي أودعها الله سبحانه وتعالى في الإنسان، حتى نستطيع من خلال ذلك أن نتدرب على سلوك سوي بحيث ينطفئ لدى الشخصية مثل هذا الدافع في طرقه غير المشروعة.

والمهم بعد هذا أن نتجه إلى ملاحظة كيفية الإشباع للحاجة المذكورة وطريقة تنظيمها تربوياً على المستوى الأرضي والإسلامي حيث أن التصورات الأرضية مع أنها تحاول أن تمارس مبادئ تنظيمية لهذا الدافع إلا أنها في الواقع لا تملك تصوراً متماسكاً لإشباعه، مع أن علماء النفس والطب العقلي والتربوي والاجتماعي أفاضوا في طرح طرائق التنظيم الدافعي للجنس، إلا أنهم لم يتفقوا على طرحٍ جذري يحتجز الكائن الآدمي من وقوعه في المزالق المترتبة على إشباع هذه الحاجة، حتى أن كلاً منهم يقدم حلاً مضاداً للآخر بنحو يزيد المشكلة تعقيداً، بدلاً من حسم الكلمة فيها، وسنرى عند عرضنا عابراً ببعض التصورات الأرضية حيال مختلف الظواهر الجنسية تضاد هذه التصورات من جانب والإقرار بعدم الاطمئنان الكامل بإمكانية نجاح الحلول المقترحة من جانب آخر.

وسر ذلك كما كررنا دائماً يعود إلى عزلة الأرضيين من السماء وطرائق التنظيم التي قدمتها السماء لإشباع هذا الدافع، إذن لندع الأرض ونتجه إلى السماء لنتجه إلى التصور الإسلامي للظاهرة الجنسية في مختلف أبعادها، وفي مقدمة ذلك العنوان الآتي القائل (المهمة الموضوعية للجنس). ضمن هذا العنوان  نحدثكم عن التصورين الإسلامي والأرضي لطبيعة المهمة التي يضطلع بها الجنس في سلوك الإنسان.

نقول مع أن كلاً من التصورين الإسلامي والأرضي يتفقان في الذهاب إلى أن ثمة مهمة موضوعية للجنس أساساً هي استمرارية التناسل البشري؛ وهي المهمة الرئيسة المترتبة على ممارسة الجنس، إلا أن الفارق بين التصورين هو إخضاع الجنس في التصور الإسلامي لهدف عبادي صرف شأنه شأن أية ممارسة من السلوك الهادف، بمعنى عدّه مجرّد وسيلة للهدف العبادي المذكور بما يستتبعه من طرائق خاصة في تنظيم هذا الإشباع، أما التصور الأرضي فإن نظرته إلى الدافع المذكور تتأرجح بين الموضوعية حيناً والذاتية حيناً آخر تبعاً لطبيعة الثقافة التي تطبع هذا المجتمع أو ذاك أو هذا الفرد أو ذاك، فعلماء الأقوام على سبيل المثال أظهروا أن بعض المجتمعات يحصرون ممارسة الزواج في تحقيق الإنجاب فحسب، بحيث إذا لم تقم الزوجة بوظيفتها المحددة يتم الطلاق بل حتى إذا ماتت ولم تنجب مثلاً فإن أختها تعوّض عنها في هذا الصدد، مما يعني أن الإنجاب أو استمرارية التناسل البشري هو الكامن وراء ممارسة أحد مظاهر الدافع المذكور ألا وهو الزواج بين كائنين، وهو كما تعرفون هدف موضوعي صرف مع أن هذه الطوائف أو هذه الجماعات منعزلة عن السماء والباحثون الذين تقدموا لنا بدراسة سلوك هذه الجماعة هم بدورهم منعزلون عن السماء ولكن هذا يدلّ دلالة واضحة على إمكانية أن تسيطر الشخصية على هذا الدافع وأن تنظمه بالنحو الذي يتوافق ومهمة الكائن البشري المتمثلة في استمرارية التناسل حتى تستمر الحياة ذاتها.

على أية حال إن ما نشاهده في غالبية المجتمعات الأرضية عبر ممارستها لأنماط مختلفة من الإشباع الذي لم يعق عملية التناسل مع إقرار الطب النفسي بشذوذ بعضها، بل بإعاقة التناسل أيضاً، يدلنا بأن موضوعية الجنس لا تطبع مجتمعات الأرض بعامة بل تلعب الذاتية أو الإشباع الشهواني دوراً كبيراً في عمليات الإشباع على النحو الذي نحاول أن نتبين بعض جوانبه.

المهم لنتجه الآن إلى التصور الإسلامي لنرى كيفية النظرة التي ينسجها الإسلام حيال الجنس وذلك مما نجده الآن متمثلاً في التقرير العيادي للإمام الصادق (عليه السلام) حيث يقول: (الشبق يقتضي الجماع الذي فيه دوام النسل وبقاؤه، ولو كان إنما يتحرك - أي الكائن - بالرغبة في الولد كان غير بعيد أن يفتر عنه حتى يقلّ النسل فإن من الناس من لا يرغب بالولد ولا يحفل به).

لاحظوا هذا التقرير العيادي للجنس ينطوي على جملة من الحقائق النفسية المتصلة بالدافع المذكور منها: تفسيره أولاً لإلحاحية الجنس بالنحو الذي لا يضاهيه أي إلحاح حيوي آخر إذ لو لم يتسم بهذا الطابع الملح لما أتيح للحقيقة الأخرى التي ألمح التقرير الإسلامي إليها أن تأخذ سمة الثبات والاستمرارية ونقصد بها التناسل البشري، فلو كان الدافع الجنسي متسماً بالضعف أو عدم الإلحاح حينئذٍ فإن مجرد الإنجاب من الممكن أن لا يعنى به إلا القلّة من الآدميين ممن يتعاملون مع الحقائق الدنيوية تعاملاً لا مجال للذاتية فيه، وتظل النتيجة فتوراً عن الممارسة بما يتطلبه الزواج من مسؤوليات متنوعة بنحوٍ يقلّ من خلاله التناسل كما أوضح الإمام الصادق (عليه السلام).

إذن في التصور الإسلامي في الجنس وضخامة إلحاحه تفسير لهدف عبادي هو استمرارية التناسل البشري في غمرة الوظيفة التي أوكلت إلى الآدميين وهي الخلافة في الأرض.

طبيعياً أن إلحاح الجنس يكتسب دلالة ذاتية من الجانب الآخر، ونقصد بها الإشباع الذي لا مناص من تحقيقه للذات الباحثة عنه، فالذات من الممكن أن تكتسب سمة شاذة أو سوية في بحثها عن الإشباع، والبعد السوي هو الذي سيأخذ طرائق متنوعة من الإشباع بحسب التصور الإسلامي وهو تصور سيضع حدوداً فاصلة بينه وبين التصور الأرضي في الطرائق التي ستضع بدورها حدوداً فاصلة بين ما هو سوي وبين ما هو شاذ، مما يستدعي وقوفاً مفصلاً على هذه الطرائق حتى يمكن أن نفرز السوية منها عن الشاذ ما دام هدف الباحث التربوي هو تحقيق الصحة النفسية للشخص.

وفي ضوء هذه الحقيقة يمكننا أن نشطر طرائق التعامل والإشباع الجنسي إلى نمطين؛ أحدهما مطلق التعامل مع الجنسين والآخر التعامل الخاص المتمثل في الزواج.

أما التعامل الأول فيتمثل في مختلف أشكال العلاقة القائمة بين الجنسين كالكلام والمزاح والسلام والمصافحة واللقاء والصداقة وسواها مما نعرض له الآن.. إن أمثلة هذه الممارسة العادية بين الجنسين تبدو وكأنها سلوك لا غبار عليه في التصورات الأرضية، ولم يكد باحث أو مجتمعي يخلع عليها سمة الشذوذ أو المرض، إلا نادراً، في حين نجد أن التصور الإسلامي يعد أمثلة هذه السلوك ظواهر مرضية حيث يحظر ممارستها بنحو تتفاوت درجات الحظر بين التحريم والكراهية، تبعاً لحجم المفارقة المرضية التي ينطوي عليها هذا التعامل أو ذاك. ونتساءل: ما هو السر الكامن وراء إقرار التصورات الأرضية لهذا التعامل بين الجنسين مع أن هذه التصورات حريصة على أن تفرز السلوك المرضي عن السلوك الصحي؟.

في تصورنا أن هناك أكثر من سبب واحد وراء ذلك منه أن بعض التصورات الأرضية تحاول أن تجعل من العرف أو الثقافة التي تطبع هذا المجتمع أو ذاك معياراً للتفرقة بين السلوك الشاذ والسلوك السوي. فمثلاً إذا أقرت المجتمعات تعاملاً بين الجنسين في نطاق نفس السلوك العادي بين أفراد الجنس الواحد كالكلام والمصافحة والنظر والصداقة ونحوها.. حينئذٍ فلا فارق في ممارسة هذا السلوك بين أفراد الجنس الواحد أو الجنسين، ما دام كلاهما ينتسب لنفس خصائص السلوك البشري.

وحتى مع افتراض أن المجتمعات أقامت فاصلاً بين ذينك السلوكين من خلال الأعراض، فإن الباحث النفسي أو التربوي أو الاجتماعي يحاول الصدور عن وجهة نظر تعد صائبة في تصوره ألا وهي انعدام الفارق بين الجنسين في أمثلة هذا السلوك للسبب المتقدم الذاهب إلى أن الجنسين يخضعان لعنصر تركيبي واحد من حيث عمليات التفاعل الاجتماعي وضرورة ذلك في هذا الميدان.

وهناك سبب ثالث وإن لم يطبع كل الباحثين النفسيين والتربويين والاجتماعيين لكنه يقتاد الكثير منهم إلى الصدور عن نزعة ذاتية في تقريرهم العلمي، فبالرغم من أن الباحثين بشكل عام يصدرون عن وجهة نظر موضوعية علمية خالصة إلا أن منهم من لا يتميز عن الرجل العادي في خضوعه للذات وإشباعاتها المضطربة، فالإلحاح الجنسي قد يطبع عالم الجنس بنفس السمة التي تطبع الرجل العادي، مما يقتادهم إلى إقرار أمثلة السلوك المتقدم بين الجنسين، لكن سنفترض أن علماء النفس والتربية والاجتماع بعامة هم معصومون من كل خطأ، حينئذٍ فإن السببين الأولين ونعني بهما الإقرار بالعرف الاجتماعي أو تدخل في هذا العرف حسب وجهة النظر الخاصة التي يصدرون عنها وفقاً لقناعة كاملة، نفس هذين السببين يكفيان في الواقع للرد على تصورات الأرضيين الخاطئة.

فبالنسبة إلى العرف الاجتماعي وجعل ذلك معياراً للفرز بين الصراع والصحة أمر لا يمكن التسليم به علمياً، فإذا افترضنا أن مجتمعاً ما أقر ممارسة الإدمان في تناول الأفراد والجماعات للكحول، حينئذٍ لا يمكن لأي باحث نفساني أو اجتماعي أن ينفي سمة الشذوذ عن هذا المجتمع، لسبب واضح هو أن كل الاتجاهات النفسية والاجتماعية مقتنعة تماماً بالخلفية المرضية للمدمن وإلى أنه منحرف في سلوكه المذكور، وأنه يعد واحداً مظاهر الشخصية المنحرفة أو ما يطلق عليه بالشخصية السيكوباثية.

إذن لا قيمة البتة لأية أعراف اجتماعية في جعلها معياراً للفرز بين سواء السلوك وشذوذه. بعد ذلك يبقى فرض واحد يدفع الباحث الأرضي إلى إقراره بعدم شذوذ السلوك العادي بين الجنسين كالكلام والمصافحة والصداقة ألا وهو انعدام الفارق بين الجنسين في صدورهما عن سلوك اجتماعي تفرضه عمليات التفاعل والتكيف الاجتماعيين، هنا يكمن الفارق بين هذا التصور الأرضي وبين التصور الإسلامي من حيث مراعاة التصور الأخير للفارقية بين الجنسين وانسحابه على أبسط مظاهر السلوك.

إننا سوف نضطر الآن إلى أن نطيل الكلام في مناقشة هذا الاتجاه نظراً لخطورته التي تترتب نتائجها السلبية على الشخصية وهذا ما يدفعنا إلى أن نتقدم بأبسط مثال لمظاهر السلوك الذي لا يقرّه التصور الإسلامي إلا في نطاق موضوعي صرف ألا وهو المحادثة بين الجنسين لملاحظة ما إذا أمكن إفراغها من إفرازات الذات المريضة أم لا. إذن لنتحدث عن عنصر المحادثة بين الجنسين.

ثمة اتفاق بين علماء النفس والتربية والاجتماعي والطب العقلي بأن الغيرية في علاقات الفرد بالآخرين تعد واحداً من معايير السواء، أي إن الذاتية أو الأنانية تعد مظهراً مرضياً مقابل الغيرية أو الإيثار الذي يعد طابعاً أو مظهراً صحياً، بكلمة أخرى إن علاقتنا مع الآخرين تأخذ سمتها السوية بقدر ما نتعامل موضوعياً مع الظاهرة لا بقدر ما تجر إلينا من نفع، ويترتب على ذلك أن التأجيل في إشباع ذواتنا يعد معياراً للسلوك السوي، وإن الإشباع الطليق مؤشر إلى شذوذ السلوك كما كررنا في أحاديث سابقة، إن الجنس بصفته حاجة يعني أن كلاً من الرجل والمرأة يتحرّكان حيال الآخر من خلال الحاجة المذكورة. وهذا ما يفترق تماماً عن العلاقة بين أفراد الجنس الواحد حيث ينطفئ المثير الجنسي فيما بينهم بحيث يمكن تتم التعامل موضوعياً دون أن يكون للدافع أو الحاجة الجنسية دخلٌ في ذلك.

إن كلاً من الجنسين منبّه أو محرّك حيال استجابة الآخر، كما أنه لا ينفصل صوت المرأة مثلاً عن شكلها أو حركتها.. الخ، مما يعني أن المحادثة بينهما بما تستتبعه من صوت أو نظر لا تنفصم عن المثير الجنسي لكلٍّ منهما بحيث يصبح تدخله عاملاً في تكييف الموقف وحثه عما يستلزمه من موضوعية يتطلبها الموقف، فنجد على سبيل المثال أن الموظف أو المدرس أو البائع قد لا تستحثه أية ضرورة على أن يحادث المرأة في دائرته أو قاعته أو محله أو قد يتطلب الموقف بضع كلمات لا أكثر، لكنه يفتعل أكثر من حديث ويطيل الكلام تحت تأثير المنبه الجنسي، في حين ينطفأ لديه مثل هذا المنبه عندما يواجه رجلاً أو امرأة قبيحة على سبيل المثال، كل ذلك يتم من خلال غياب عام لدلالة الإنسان في أمثلة هذا التعامل الذي يستجرّ نفعاً للذات متجسداً في أكثر من مفارقة واحدة في ميدان السلوك، منها ما ينسحب على الآخرين ومنها ما ينسحب على المتحدث، فالآخرون وهم يجدون إهمالاً من الموظف أو المدرس أو البائع قبال الاهتمام الذي يخلع على المرأة سيترك لديهم استجابة مؤلمة تغيب من خلال ذلك دلالة الإنسانية  في أعماقهم وذلك بسبب أن الدلالة الإنسانية يتوقعونها أساساً من تعامل الموظف والمدرس والبائع، لكن ذلك وهو مفقود سينسحب على استجابة حيال القيم التي تشكل المعنى الوحيد لدلالة الإنسان.

وأما ما ينسحب على الشخصية ذاتها فيكفي أنها تسل الشخصية من دائرة إنسانيتها إلى مجرد مخلوق يحوم على ذاته وإشباعها طليقة من أية قيمة بشرية فضلاً عما يستتبعه الانصياع للحاجة الجنسية من تمزق وتوتر نتحدث عنهما في لقاء لاحق إنشاء الله.

ونكتفي بهذا القدر لنعاود الحديث عنه في المحاضرة الآتية بإذن الله تعالى..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..