المادة: العقائد
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 015.doc

كيف نعرف الله؟!

لمّا كان التصديق بموجود أي شيء متفرعاً على تصوّره، فإن سؤالاً يفرض نفسه هنا، وهو أنه هل يمكن للبشر أن يتصوّر الله حتى يعتقد به؟

قد يقال: أن تصوّر الله مستحيل، لأن التصوّر عبارة عن نوع من الإحاطة العلمية بالشيء، والذات الإلهية لا يُحاط بها ولا يعرف كنهها لا في الذهن ولا في الخارج، وذلك لأن الباري تعالى مطلق، وكلّ ما يرد في ذهن البشر محدود.ومن هنا ذهب (المعطلة) إلى إنكار معرفة ذات الله، وعدم إمكان الوصول إلى كنهه بواسطة العقل... والمعرفة العليا في هذا المجال هي عقيدة البسطاء والسذّج، تلك التي نقلت بصورة (عليكم بدين العجائز)(1).

وربما نجد في  كلمات الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ما يفهم منه للوهلة الأولى عجز العقل الإنساني عن معرفة ذات الله، فمن لك قوله في الخطبة الأولى من نهج البلاغة:

((الذي لا يدركه بُعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن)) ويقول في الخطبة (89): ((وإنك أنت الله الذي لم تتناه في العقول فتكون في مهبّ فكرها مكّيفاً، ولا في روّيات خواطرها فتكون محدوداً مصرّفاً).

في ذات الوقت نجده - وهو رائد الطريق إلى الله - يوضح حقيقة كبرى تسدّ الطريق على المعطّلة، وهي أن ما تقدّم لا يعني أن معرفة الله مستحيلة، بل القدرة العقلية محدودة في هذا المجال، فيقول في الخطبة رقم (49):

(لم يطلع العقول على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته).

وإذا كان العقل قاصراً عن الوصول إلى كنه ذات الله تعالى، فهناك مقدار واجب من المعرفة لابدّ منه.

أما تصوّرنا للمطلق فمن الواضح أنه لا يتم حسب إدراكنا العادي، لأننا في حياتنا المادّية محاطون بسلسلة من الظواهر الجسمانية والقيود الزمانية والمكانية، وما دامت أفكارنا مأسورة لهذا النوع من التفكير يستحيل علينا إدراك موجود خال من قيد أو شرط.

لكن ينبغي أن لا نعتقد بإمكان تصوّر المقّيد مجرداً عن المطلق، ذلك أن كلّ مقيد عبارة عن مجموعة من المفاهيم المطلقة التي اجتمعت فيما بينها لتكّون مفهوماً مفيداً فمثلاً قولنا:

(الإنسان العالم الأسمر) مفهوم مقيد تكون من اجتماع ثلاثة مفاهيم كلّ منها مطلق هي (إنسان عالم أسمر)، وهذا يدلّنا على أننا أدركنا المطلق وتصورناه ولكن في ضمن القيود.

من أجل ذلك إذا سمعنا مطلقاً فإننا - بحكم الألفة والاستئناس - نتصوّر له قيوداً، كما يسمع

القروي الذي يجهل كل شيء عن العالم الخارجي بأن في النصف الثاني من الكرة الأرضية مدينة كبيرة باسم (نيويورك) فتجسّم في ذهنه صورة قوية كبيرة تزيد على قريته هو بمائة مرّة على أكثر التقادير -  ولكنا إذا أردنا أن نصحّح تصوره فإنّا نقول له:

(نيويورك مدينة ولكنها ليست من هذه المدن) كما نخاطب عطاراً ساذجاً بقولنا:

(في الوقت الحاضر يزنون المواد لحدّ تسعة أرقام عشرية ولكن بميزان ليس من قبيل هذه الموازين).                                                                           

   نستنتج من ذلك أننا نستطيع المحافظة على إطلاق مفهوم بواسطة السلب، ونحن أحوج ما نكون إلى السلب بالنسبة إلى الله تعالى فنقول:

(الله موجود ولكن ليس كهذه الموجودات، وهو عالم قادر حي ولكن ليس من سنخ العلم والقدرة والحياة التي تعوّدنا إدراكها في عالمنا المادي المحدود(2).

وقد عبّر الفاضل المقداد عن هذا الموضوع بجملة موجزة حيث قال:

(وفي الحقيقة المعقول لنا من صفاته ليس إلا السلوب والإضافات، وأما كنه ذاته وصفاته فمحجوب عن نظر العقول ولا يعلم ما هو إلا هو) (3).

قال الشاعر الإيراني (سعدي):

يا من سَموتَ عن الخيال***ووهم أقيسة العقول

وعن الذي كنا قرأنا***عنك من ضافي الفصول

قد تمّ مجلسنا ووافى***العمر منزلة الأفول

وكما بدأنا لم نزل***ببداية الوصف الجميل(4).

ــــــــــــــ

الهامش

(1)- قد يتصور أن الجملة الآنفة الذكر مستندة إلى النبي (صلى الله عليه وآله)، ولكن ذلك غير ثابت. يتعرض الميرزا القمي في (قوانين الاصول) إلى مبحث جواز التقليد في اصول الدين وعدمه، ويعتبر الجملة المذكورة من أدلة القائلين بجواز التقليد والمدافعين عن لزوم التعبد ف يالعقائد. ولكنه يقول: لم يثبت عندنا كون هذه الجملة حديثاً، بل يقال أنها من كلام (سفيان الثوري) الفقيه والصوفي المعروف. ويقال أن (عمرو بن عبيد المعتزلي) كان يتحدث عن عقيدة المعتزلة حول (المنزلة بين المنزلتين)، فردّت عليه عجوزة بتلاوة آية من القرآن، فقال سفيان الثوري ـ وكان حاضراً في المجلس - (عليكم بدين العجائز).

 (2)- هذا التصوير في إدراك المطلق مقتبس من العلامة الطباطبائي في (أصول فلسفة وروش رئاليسم) ج5، ص100-106.

 (3)- النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر، ص21.

 (4)- أورد الأستاذ (محمد الفراتي) مترجم (روضةالورد) لسعدي الشيرازي:

لم نزل بنهاية الوصف الجميل.

ومن الواضح أن ذلك سهو، والصحيح ما أوردناه في المتن.