الباحث: خليل باستان
تصنیف البحث: علوم القرآن
من صفحة: 148
إلى صفحة: 173
النص الكامل للبحث: PDF icon 4-8.pdf
خلاصة البحث:

إن من أهم ضروريات الحياة الدعاء، فهو يدفع البلاء، وينفذ في الأعداء كالسنان، ومن أحب الأعمال إلى الله سبحانه على الأرض، وهو سلاح المؤمن، وبه يرد القضاء المبرم وأعجز الناس من عجز عن الدعاء، وبناءاً على ما تقدم فان القرآن الكريم اشتملت ساحته المقدسة على أنواع الأدعية للأنبياء والأولياء والصالحين و... وذلك لأن القرآن الكريم حياة للبشر، وسعادة للأمة، ونجاة للفرد المحاط به البلاء من كل مكان، ما جاء في الخبر فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة، للبلاء أسرع إلى المؤمن من انحدار السيل من أعلى التعلة إلى أسفلها، وكذلك المجتمع الإسلامي محاط بالشرور الاقتصادية والسياسية والثقافية و... فالدعاء من أبرز عوامل الانتصار على الأعداء والأشرار ويسوق المجتمع إلى ساحل الأمن والأمان.

البحث:

 

المقدمة

إن من أهم ضروريات الحياة الدعاء، فهو يدفع البلاء، وينفذ في الأعداء كالسنان، ومن أحب الأعمال إلى الله سبحانه على الأرض، وهو سلاح المؤمن، وبه يرد القضاء المبرم وأعجز الناس من عجز عن الدعاء، وبناءاً على ما تقدم فان القرآن الكريم اشتملت ساحته المقدسة على أنواع الأدعية للأنبياء والأولياء والصالحين و... وذلك لأن القرآن الكريم حياة للبشر، وسعادة للأمة، ونجاة للفرد المحاط به البلاء من كل مكان، ما جاء في الخبر فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة، للبلاء أسرع إلى المؤمن من انحدار السيل من أعلى التعلة إلى أسفلها، وكذلك المجتمع الإسلامي محاط بالشرور الاقتصادية والسياسية والثقافية و... فالدعاء من أبرز عوامل الانتصار على الأعداء والأشرار ويسوق المجتمع إلى ساحل الأمن والأمان. والمثل الأعلى في هذا المجال هو القرآن الكريم حيث تناثر الدعاء على أرجائه، فلنجعله أسوة في حياتنا، ونعمل به كما أمرتنا السنة النبوية، وهنا نشير إلى بعض ما توصلنا إليه من الدراسة حول نظرية الدعاء القرآنية آملين الاكمال في المستقبل إن شاء الله.

مفتاح الكلمات: القرآن الكريم، التفسير، الدعاء، الأنبياء.,

موضوعات عامة

1-1- أول دعاء وآخر دعاء في القرآن الكريم

عند ما نتدبّر هذا الكتاب العظيم فنرى أول دعاء ذُكر فيه جاء على لسان النبيّ إبراهيم (عليه السلام) في سورة البقرة: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ ...[1]}، فالأمن والرفاهية في العيش لأهل الإيمان من الأدعية ذات الصيغة السياسية – الاقتصادية، فعلى المؤمنين السعي لتحقيق الأمن والاستقرار الاقتصاد الإسلامي في العالم، فمن أجل أن يعيش المؤمنون أحراراً آمنين في بلادهم معتمدين على أنفسهم مستقلين عن الآخرين رافعين لواء العبودية لله سبحانه في الأرضين، ندعو بدعاء النبي إبراهيم (عليه السلام) بها استجيبت دعوته (عليه السلام).

وكذلك نرى آخر دعاء جاء في القرآن الحكيم على لسان نوح(عليه السلام)الذي يطلب به من الله تعالى الغفران والرحمة له ولأبويه وللمؤمنين والمؤمنات حيث يقول:{ربّ اغفر لي ولوالديّ ولمن دخل بيتي مؤمناً[2]}

فما اشدّنا احتياجاً (الأمة الإسلامية) أن ندعو ربّنا ونطلب منه الأمن والعيش الرغيد في الحياة الدنيا، ونرجو منه الغفران والرحمة والفوز بالرضوان والدخول في الجنان يوم القيامة.

1-2- في رحاب القرآن الكريم

يتمكن الإنسان أن يتصل مباشرةً بربّه الكريم بلا واسطة، ومتى شاء وأينما كان، فلا حجاب ولا حاجب، ولا حرس، ولا نوم ولا سنة، ولا حاجز ولا موانع ولا فواصل مكانية ولا مواعيد مقررة من قبل {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب[3]}ولا أيّ شيءٍ آخر من الموانع التي نراها في حياتنا اليومية، فكلّما ازدادت الاتصالات تقدّماً وانتشرت وسائل الإعلام ازدادت العقبات، فحاشى للساحة الربوبية من هذه العراقيل، فعليك أيّها الإنسان المسلم أن تتجه نحو البارئ بقلب سليم ونية خالصة، وتطلب حوائجك من الربّ الجليل كما فعل الأنبياء (عليهم السلام) عبر الدعاء، ولأجل أن نوضّح هذا المعنى نذكر هنا حوارين من حوارات الأنبياء العظام، وحوار لأحدى النساء العظيمات.

1. النبيّ زكريا(عليه السلام)؛انظر كيف يصوّره القرآن الكريم:

قال: { قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا # وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا # يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا }، فجاء النداء مشفوعاً بالإجابة الفورية: { يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا #

قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا #

قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا #

قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً

قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا [4]}

ما أعظمه من حوار، حيث يخاطب الإنسان ربّّه العزيز بلا مانع ولا راع ولا خوف، وبكلّ بساطة وارتياح خاطر، ثم يطلب منه العظيم والمستحيل (الإنجاب بعد العقيم) فتشمله العناية الإلهية وتُستجاب له الدعوة مباشرة وعلى الفور كما يستفاد من النص والحوار، فلا تجد حروف عطف ولا فواصل كلامية، واعلم كلّما كان المطلوب عزيزاً كان على الله هيناً بسيطاً، لأنّه القادر على كلّ شيءٍ وبيده الأمور كلها فسبحان ربّنا القادر المتعال.

2. النبيّ نوح(عليه السلام):

{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا #...

وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا #

ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا # ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا #...

قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا #...

وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا #...

رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا # [5]}

وهذا هو شيخ المرسلين يخاطب ربّ العالمين ويبث له شكواه عن قومه الكافرين ثم يذكر نهضته وما قام به من عمل دؤوب، ليلاً ونهاراً، سراً وإعلانا، يجاهد في سبيل الله لا يخاف لومة لائم، ولكن لم يصل إلى النتيجة المطلوبة، فدعا عليهم بالفناء. فإنّك لترى الحوار الدعائي بسيط جداً وتتجلّى فيه الأمور التالية:

1. الاتصال بالله مباشرة بلا أية واسطة.

2. الاستجابة مباشرة وفورية.

3. الكلام عادي وبسيط وليس فيه ارتعاش وخوف.

4. وفي نهاية المطاف فيه طلب الغفران.

هكذا تصنع الأدعية عند ما تُسدّ الأبواب في وجوه العباد.

3. امرأة عمران؛ ويبدأ بالحوار كما يلي:

{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا [6]}

ما أروع هذا الكلام، البساطة تغمر العبارات، الجمل ليست فيها ذبذبات للخوف، والكلام آخذ مجراه الطبيعي، ثم انظر على هذا الإنسان الضعيف كيف يخاطب الربّ العظيم من دون تعتع في الكلام، وكأنّه يخاطب صديقاً حميماً، بل هو أرحم الراحمين، ولكن أين القلوب الواعية والأسماع المصغية، فما أحوجنا اليوم إلى الأذن والقلوب الواعية حتى نصنع بها معاجز عصرنا الحاضر وتبقى خالدة مدى العصور والأزمان والأجيال القادمة.

1-3- الإجابة السريعة:

اعلم أنّ الله نعم المجيب، وهو الربّ الجليل،{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ[7]} فهو المالك لكل شيءٍ وبيده الخير، فلا تأخير ولا تأجيل في الإجابة، وانه الجواد الكريم، إذ هو صاحب خزائن السموات والأرضين،فلنعم الربّ، ربّنا الغفور الشكور. وهو كذلك سريع الإجابة كما صرّحت الآيات التالية:

1. {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ[8]}

2. {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ # فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ[9]}

3. {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ... # فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى[10]}

فانك لترى بوضوح أنّ الاستجابة جاءت مع نوح (عليه السلام) مقرونة بالنجاة، ومع أيوب(عليه السلام) اقترنت بكشف الضرّ، ومع زكريا(عليه السلام) بالهبة، فما أحلى هذه الاستجابات، إذ هي من أكبر العبر لنا، وما أحرنا أن نقتدي بأسوتنا هؤلاء الكرام من الأنبياء العظام.

ومن جهة ثانية أن الله العزيز لن يهمل ولن يترك البشر بل توجهت العناية السماوية إليهم كما اتجهت نحو الأنبياء(عليهم السلام) حيث يخاطب الله تعالى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلاً: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ[11]}.فالربّ العظيم ينظر الدعوة من عبده، فهو أقرب إليه من الآخرين وسريع الإجابة كما كان يستجيب دعاء المرسلين، وثمّ أمرنا أن ندعوه حيث قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[12]} فالإجابة مضمونة يقيناً بلا أدنى شكّ وترديد، الهي وربّي أدعوك كما أمرتني فاستجب لي كما وعدتني.

1-4- صفات المدعو في القرآن:

إنّما يستحق الدعاء حس نظرية القرآن الكريم الذي يمتلك الصفات التالية:

1- القدرة والقوة والاستطاعة،عندما يصاب البشر بشرٍّ، فعلى العاقل أن يبحث عمّن هو أقوى منه قدرةً فيستعين به على عدوه حتى يُنجيه من الهلاك، وأما الناصر الضعيف المستكين فيزيد الطين بلّة، إذن فالاستطاعة في القدرة من إحدى صفات الناصر الذي يقول الله تعالى عنها: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ [13]} فالمستحق للدعاء هو الذي يمتلك الاقتدار وخاصة لو كانت غير محددة والتي تتجلّى في عظمة البارئ حيث يقول: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْر[14]ِ}.

2- الخلق: والصفة البارزة الأخرى هي الخلق والإنشاء والإبداع فالذي لا يستطيع الخلق فهو مخلوق، كيف يكون قادراً على أداء الطلبات؟ علماً بأنّه لا يستطيع أن يخلق ذباباً أو بعوضة، فعلى الداعي الجوء إلى الخالق دون المخلوق.

3- السمع: فالأطرش والأبكم الذي لايسمع الأصوات ولا يدرك المعاني والدعوات كيف يستجيب لنداء الآخرين؟ وهل غير الله سبحانه وتعالى إلاّ بكم كما داء في الآية الشريفة: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ[15]}.

إذن فاقطع يقيناً إنّ الذي لايسمع فلا يجيب كما يقول العزيز: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ[16]}.

4- التملك: فالمالك له حقّ التصرّف في ملكه عقلاً وعرفاً وشرعاً وفاقد الملك كيف يتصرّف في ملك غيره؟ وهل يجوز له ذلك؟ حيث يقول البارئ في هذا الصدد: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ[17]}.

5- النفع والضرر، فالذي يستحق أن ندعوه يجب أن يكون قادراً على دفع الضرر وجلب المنفعة، وهل غير الله أحد يكشف الضرّ عنّا؟ {قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ[18]} وكذلك يقول البارئ: { قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا[19]}.

6- العدل: من صفات المدعو أن يكون قاضياً بالحقّ والعدل، حتى تسير الأمور في مجراها وإلاّ فسيكون الظلم والفساد كما قال الله تعالى: { وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ[20]}.

7- صاحب الشفاعة: فالمالك للشفاعة يُستوجب له الدعاء ولا شفاعة إلاّ بإذنه حيث يقول: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ[21]}.

8- الأسماء الحسنى: فصاحب الأسماء الحسنى يستحق الدعاء كما قال تعالى: { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [22]} والحسنى مؤنث الأحسن، فأسماءه تعالى الرحمن الرحيم والحيّ القيوم والسميع البصير والخالق الرازق والمحي المميت و... حيث جاء في الخبر... حيث جاء في الخبر: ((إنّ لله سبحانه وتعالى تسعة وتسعين أسماً مائة إلا واحدة، من أحصاها دخل الجنّة، إنّه وترٌ يحبّ الوتر[23]))، وتجد في الآية الشريفة الآنفة الذكر ما يفيد الحصر من قوله تعالى (ولله) وما يُفيد العموم في قوله تعالى (الأسماء) حيث (آل) تدل على العموم، ثم قوله تعالى (فادعوه بها) أما من الدعوة بمعنى التسمية أو بمعنى النداء أو العبادة وقد أشارنا إليها سابقاً.

1-5- طوائف الداعين

اعلم أنّ السالك الأول في هذا الطريق هو العزيز الجليل، حيث يقول ربّ العالمين: {وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَم[24]ِ} فهو السلام ويدعو الشعب إلى دار الخلد، وثم يدعو الأمم ليحط من ذنوبهم وليرضى عنهم حيث يقول عزّ من قائل: { قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ [25]}، فهو المقتدى في هذا السبيل والقائد لأصحاب الرسالات وأهل الإيمان إلى هذا الطريق، وأمّا الطائفة الأخرى فهم الأماثل والأفاضل من أهل الدين والتقوى عباد الله المخلصين، قادة الشعوب إلى ساحل الأمن، والحكّام على القلوب، الهداة للحقّ، وأصحاب اليقين، قدوة للصالحين والعاملين، عبّاد زهّاد في الدنيا، أصحاب الجاه العظيم عند الربّ الكريم الأوهم الانبياء والصالحين عليهم آلاف التحية والسلام. فالدعوة إلى الحقّ تجلّت في خاتم أنبيائه ورسله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وكانت فيها:

أولاً: الحياة، حيث قال تعالى في حقّ رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم): {اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ [26]}.

ثانياً: الإيمان، قال تعالى: { وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ[27]}.

ثالثاً: الهدى، قال عزّ وجلّ: { وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ[28]} فالدعوة إلى الصراط هو طلب الهداية، والهداية من لوازم قيّ الإيمان حتى يصل الإنسان إلى رضوانه تعالى. ولكن ترى من جانب آخر انّ هذه الأمور ليست هيّنة، فهناك أناس يقفون سداً أمام الأنبياء (عليهم السلام) والمصلحين، ويفضلون حياة الجهل والذّلّ والظلم والشرك على دعوة الأنبياء، ويصعب على الظالمين تلبية نداء السماء والرضوخ للأنبياء(عليهم السلام) كما عبّر عنهم الخالق قائلاً: { كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [29]}.

موضوعات خاصة

المبحث الأول أدعية الأنبياء والمرسلين(عليهم السلام):

فهي كثيرة ونشير إلى بعضها:

أدعية الرسول محمد(صلى الله عليه وآله وسلم): فطلبات الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) من الله تعالى تحدّدها المواقف المختلفة من سياسية وفردية واجتماعية و...

أولاً: الأدعية السياسية، وهي أيضاً تُحددها الأدوار الزمنية المختلفة التي عاصرت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)ومنها قوله تعالى: { وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا[30] }، قال الزمخشري ]إدخاله فيما حمّله من عظيم الأمر – وهو النبوة – وإخراجه منه مؤدياً لما كلّفه من غير تفريط[31][، فالاستعانة بالله لأداء حقّ الرسالة لعظم شأنها ونشرها بين الجماهير ما هي إلا حركة سياسية عقائدية تقوم على أسس ومبادئ التوحيد والإيمان ونفي الشرك بين الشعوب. ويذكر صاحب مجمع البيان في هذا الصدد قائلاً: ] اختلف المفسرون في معنى أدخلني... (وانني أرى هذا المعنى يناسب الآية أكثر) حيث يقول: أي أعني على الوحي والرسالة، والدليل على ذلك ما قام بشرحه في القسم الثاني من الآية، واجعل لي عزاً امتنع به ممّن يحاول صدي عن إقامة فرائضك وقوة تنصرني بها على من عاداني فيك[32][، فطلب التصدي لأعداء الدين من المشركين والضالين والتحدي لهم ما هي إلا حركة إصلاحية سياسية وليس من ورائها إلا إقامة التوحيد ونشر الإيمان بين الأمم.

ومن تلك الدعوات السياسية الاجتناب عن الطواغيت: ففي موطن من القرآن الكريم يقول البارئ تعالى عن لسان نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم): {رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[33] }، فالرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) يتبرأ من أصحاب الظلم والشرك ويطلب من الله سبحانه أن يُنجيه من الظالمين ومقاطعتهم، وما هذه الحركة إلا حركة ونشاط سياسي آخر للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم).

ثانياً: الطلبات الفردية، منها طلب الزيادة في العلم، حتى يكون الإنسان على بيّنة من أمره، فالعلم مصباح لأهل الإيمان وأساس لأهل اليقين حيث يقول العزيز مخاطباً نبيّه الكريم: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا[34]}، ومنها الاستعاذة بالله العظيم من الشيطان الرجيم الذي يغوي الناس أجمعين ثم يتبرأ منهم أمام رب العالمين يوم الدين، فالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يعلم الأخطار التي يقوم بها هذا اللعين من الاغواء والتمرد والفساد ونشر الشرك بين الشعوب فإنّه يستعذ بالله منه قائلاً: {رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ [35]}.

ومنها الشكوى لربّ العباد من قومه الذين تركوا القرآن العظيم وراء ظهورهم وعدم الاعتناء به حيث تركوا العمل بأحكامه وجروا وراء أهوانهم الضالة حيث يحكي الله عن لسان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) {يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا[36]}.

ومنها طلب الغفران والرحمة، فبهما تنال السعادة الأبدية من الربّ، واعلم ان لم تكن المغفرة من قبل الجليل فما ستكون عواقب العاصين؟ فالعفو بيد الغفور الرحيم يتجاوز عن المذنبين بين الحين والحين، بل يتداركهم بالرحمة والشفقة، لأنّه كتب على نفسه الرحمة، وأرسل لنا رسول الرحمة، وأنزل علينا كتاب الرحمة، فنحن في رحمة الله الواسعة غارقون، وفي ظل الرحمة سائرون، وإليها راغبون، ومن أجل هذا نرى الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) يطالب الربّ العزيز قائلاً:{رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ[37]}.

دعاء النبي آدم وحوّاء(عليهما السلام):

الدعاء قرين الإنسان منذ الأزل وإلى يومنا هذا وإلى الأبد، فهو من أعظم المساند لظهر البشر، ومن أقوى الأسلحة لأهل الإيمان، به تتسامى الأعمال الصالحة، ويصل الناس إلى الكرامة والعزّة، فهذا أبونا آدم(عليه السلام) وهذه أمّنا حواء قالا لربّ العظمة والكبرياء، {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [38]} فالاعتراف بالذنب فضيلة، فلا بدّ لنا أن نقرّ بالأخطاء لربّ العباد ونعترف بالذنوب أمامه، فالندم المرحلة الأولى للتوبة وثمّ نطالب الكريم أن يتجاوز عن الذنب العظيم، فهو السميع المجيب، ومن ثمّ نرجو من الله الرحمة كما صنع أبونا آدم(عليه السلام)، فلابدّ أن نشير هنا أن الرحمة ملازمة للغفران فلا ننس ذلك.

أدعية نوح (عليه السلام):

نوح(عليه السلام) شيخ المرسلين عاش سنين ومضى في سبيل ربّه مبلغاً رسالاته لاقياً المصائب الكثيرة من المعاندين و... فجاءت أدعيته(عليه السلام) في القرآن الكريم على محاور عديدة منها:

1. الأدعية السياسية: حيثُ يطالب الله العزيز بالنصر القريب قائلاً: { أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ[39]}، فطلب الانتصار على الأعداء ودحر الخصماء وإزاحتهم عن المجتمع الإنساني وتطهير الأرض من المشركين وإقامة شعائر الدين ما هو إلاّ دعاء سياسي، وتراه (عليه السلام) في موطن آخر يقول: { رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ [40]}، فالانتصار على كيد الأعداء الذين اتهموه بالكذب والافتراء، حيث لم يجدوا طريقاً لضرب الرسالة السماوية إلاّ عن طريق التهمة ليحطّوا من مقامه(عليه السلام) في أنظار الناس فبادر حينئذ بطلب الانتصار على أعداء الدين، فكانت دعوته سياسية أيضاً.

2. الأدعية الاجتماعية: مازال الانسان يعيش مع الآخرين جنباً إلى جنب، ولا يستغني الانسان في حياته عن بني نوعه...

فلابدّ أن تتوثق الا واصر الاجتماعية فيمابينهم، وأفضل طريق في هذا المجال هو الدعاء، حيث قام بهذه المهمة نوع(عليه السلام) عند ما قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا[41]}. فالدعاء، هذا وأمثاله سيزيد م الروابط والعلاقات الاجتماعية فيمابين أهل التقوى والدين، وسيمضي المجتمع نحو الاصلاح والرقي، وستكون العاقبة للمؤمنين، ومنها ماجاءت بصورة شكوى عن قومه الجهّال حيث يخاطب البارئ تعالى بقوله:{ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا [42]} أو يقول: {رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ [43] } فالانسان فطرياتً بحاجة إلى من يشكو له آلامه حتى يسكن روحه ولبّه، ومَن أفضل من الله معيناً؟

3. الأدعية الفردية: من أجل اصلاح النفس الأمارة بالسوء، ومن أجل التغلب على الوساوس الشيطانية ومن أجل حطّ الذنوب عن النفس، يجب علينا التوسل إلى الله تعالى كما فعل نوح(عليه السلام) قائلاً: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ [44]}فطلب المغفرة المقرونة بالرحمة ما هي الا من سعادة البشر.

ونراه عندما يريد الهبوط على الأرض من بعد الطوفان يسأل ربّه قائلاً: {رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ [45]}

4. الدعاء ضد الأعداء: وان كان هذا العنوان يشعر بالجانب السياسي الا انّنا آثرنا على أن نفرد له بحثاً خاصاً حتى نقف على أهمية هذه الدعوة التي يقول فيها: {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا # إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [46]}.فالطلب بابادة الكفار ومحوهم من على وجه الأرض لأنّهم بؤرة الفساد بين العباد، ولا رجاء فيهم ولا في نسلهم القادم، فالدعاء هذا يدل على وقوف نوح(عليه السلام) على ذات وماهية هؤلاء القوم حيث توارث فيهم الكفر والإلحاد ولا أمل عنده في إصلاحهم وإصلاح ذريتهم فدعا عليهم بالويل والثبور والفناء.

أدعية النبي ابراهيم(عليه السلام):

يعدّ النبيّ ابراهيم (عليه السلام) أول من وضع الحجر الأساسي للتوحيد في العالم، وبناءاً على هذا ذكر القرآن الكريم أدعية كثيرة عن لسانه(عليه السلام) وذلك بما كان يواجهه من المشاكل الصعاب من قبل الكفر والشرك والطغيان، فاتخذ أكثر دعائه(عليه السلام) الطابع السياسي كما يُرينا ذلك القرآن الكريم حيث يقول: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ...[47]} فالدعاء هذا منطلقه سياسي طلب(عليه السلام) من الله تعالى الأمن والأمان لبيته الحرام وعطف عليه طالباً إيّاه الرزق الحلال لأهل الايمان، فالأمن والاقتصاد عاملان أساسيان لبقاء الحكومة كما نرى ذلك مشهوداً اليوم. وأدعيته (عليه السلام) تسير على المدارات التالية:

1. إقامة الصلاة:

فالسمة السياسية البارزة لأهل التوحيد والإيمان هي إقامة الصلاة بين العباد على الأرض حيث قال الله تعالى: { الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ [48]} فالتمكن السياسي والاجتماعي والاقتصادي و... يتجلّى في اقامة الصلاة، وان ابراهيم (عليه السلام) سيّد رسل الله تعالى كان واقفاً على أهمية الصلاة فطلب من الله تعالى أن يكون هو وذريته من الذين يقيمون الصلاة حيث يعبر البارئ عن دعائه (عليه السلام) قائلاً: { رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي [49]}.

2. الذرية الصالحة:

من سعادة المرء أن يورثه الله أولاداً صالحين من أهل الايمان واليقين ولا يتأتى ذلك الا بالدعاء والطلب من الرحمن كما طلب ابراهيم (عليه السلام): { رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ # فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ [50]} فعلينا ان نتأسى بالنبيّ ابراهيم (عليه السلام) ونرجو من الله تعالى أن يرزقنا أولاداً صالحين لإقامة شعائر الدين، واعلم ان الاستجابة هنا جاءت عن طريق البشارة له (عليه السلام).

3. القضاء والالحاق بالصالحين:

أراد إبراهيم (عليه السلام) من الله القضاء الذي يتجلّى مع القانون والنبوة كما عبّر عن ذلك الله سبحانه قائلاً: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ [51] } حتى يحكم بين الناس بالعدل والحقّ، ومن المعلوم اليوم أنّ من أحد الأركان المهمة في الحكومة هو القضاء، فقال: { رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [52]} فاستجاب له قائلاً: { وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [53] }، أي أعطاه القضاء وزيادة على ذلك الا وهو الاعتدال في القضاء وادخاله إيّاه يومالقيامة في زمرة الأناس الصالحين الذين يرضى الله عنهم ثمّ يأمل من الله العزيز الحكيم أن يجعل ذكره حسناً عند الأجيال القادمة، ويرجو منه أن يكون من أصحاب جنة النعيم، وثمّ يطلب الغفران لنفسه ولأبيه وأخيراً أراه دعا بدعاء قيّم (وان كانت جميع الأدعية قيمة) وذلك بعدم الفضيحة يوم الدين وعلى رؤوس الأشهاد فالأولى بنا أن ندعو كما دعا ابراهيم (عليه السلام).

4. الاعجاز:

علينا عند الدعاء أن نطلب منه سبحانه بما يعجز عنه الآخرون، وان يكون مطلوبنا عظيم وليس في قدرة الناس، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، حيث طلب ابراهيم (عليه السلام)قائلاً: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى [54] } فطلب منه احياء الأموات، والعمل هذا ليس بهيّن بل انّه عظيم وليس باستطاعة أحد الناس أن يقوم بهذا العمل الاّ الله ربّ العالمين، فبناءاً على هذا يا أخي المسلم عليك بالدعاء وطلب الإعجاز من الله سبحانه.

5. الغفران:

ما أرى الهدف من وراء الدعاء الا الغفران والرضوان ومحو السيئات والدخول في الجنان، فإنّك لترى هذا المعنى بوضوح في الآيات البينات وفي مختلف نواحي القرآن، ومنها ما جاء على لسان إبراهيم (عليه السلام) قائلاً: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [55]}، حيث يطلب من الله سبحانه أن يتغاضى عن ذنوب أهل الإيمان يوم القيامة وبذلك يحرز الإنسان الفوز بالجنة ان شاء الله تعالى.

6. التسليم:

من أبرز مظاهر العبودية هو التسليم لربّ العالمين في جميع الأمور تسليماً محضاً بلا تعلل ولا تبرير، فلا حيدان عن الحقّ بل مطيعين ومنقادين له ولا نعبد الا اياه، وكما خاطب الجليل السّموات والأرضين: { فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [56]}، والأمر المشكل هو أن الإنسان الذي يملك العقل والاختيار لن يستسلم بسهولة ولن يرضخ لربّ العالمين ببساطة حتى يكتشف ويجرّب الأمور بيده، وفي النهاية أما ان يستسلم واما أن يطغى، فعليه نرجو منه العون والمساعدة على ذلك حتى نرتقي سُلّم الإيمان والسعادة.

7. ارسال الأنبياء(عليهم السلام):

ان نعم الله على الناس كثيرة، { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا [57] } ومن أكبر النعم على البشر جميعاً، هو ارسال الأنبياء لنجاة الانسان من الجهل والكفر والشرك إلى الإيمان والتقوى، ثم تزكيةالنفوس وتطهير القلوب من الأرجاس كما طلب ابراهيم(عليه السلام): {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [58]}. فما أحوج الشعوب في عالم اليوم إلى المصلحين السائرين على نهج الأنبياء الطاهرين وذلك بعد ما تلوثت الانسانية بالشرّ والشرك والكفر والطغيان من جراء أعمال المستعمرين والصهاينة المردة الذين افسدوا البلاد والعباد، فاليوم الحاجة ماسة للمسلمين أن يظهر فيهم رجلاً عظيماً كالامام الخميني الكير(رحمه الله) وان ربّنا لنعم المجيب.

8. أدعية متنوعة:

وانك لتجد في مطاوي القرآن الكريم أدعية أخرى جاءت على لسان ابراهيم (عليه السلام) فمنها الاقرار والاعتراف بعلم ربّ العباد الذي ليس له مثيل حيث يقول: { رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ [59]}، وهذا الكلام يعد بمثابة مدح في مقدمة الدعاء ومنها اظهار الشكوى من أصحاب الأصنام حيث تراه يقول(عليه السلام):{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ[60]}، وأخيراً نختم كلامنا حول إبراهيم(عليه السلام) حيث يقول: {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء [61]}.

دعاء لوط النبي (عليه السلام):

وأما لو نظرنا إلى أدعية لوط (عليه السلام)فما نجد فيها إلاّ الصبغة السياسية، فهو يطالب ربّ العزة النجاة من الظالمين ومن أعمالهم الفاسدة التي تجلّت في عمل اللواط القبيح وما سبقهم أحد من العالمين في ارتكاب هذا الذنب العظيم، وكذلك ينتظر الانتصار عليهم من قبل ربّ السموات والأرضين حيث يقول(عليه السلام):{رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ[62]} فالإجابة تجلّت في نجاته وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين، وأمطرت عليهم السماء مطر المنذرين فابادتهم أجمعين جزاءاً لكفرهم وانتصاراً للوط(عليه السلام).

وهناك آية أخرى تؤيد ما أشرنا إليه (من حملها الصبغة السياسية) فإنّه (عليه السلام) يطلب من الرحمن النصرة على الأعداء الذين هم من أهل الفسق والفجور، فطلب النجاة من الظالمين والانتصار على المعتدين وما هو الا حرب ضد المشركين والكافرين، وما هو في دعائه (عليه السلام) يُمثل سياسة أهل التوحيد بشكل واضح.

أدعية النبي موسى (عليه السلام):

إنّ موسى (عليه السلام) يعدّ من أئمة الثوار ضد الطغاة حيث شغلت مآثره أرجاء القرآن، نبيّ كريم من أصحاب أولي العزم، ابتُلي بقوم عصاة طغاة مردة من اليهود الذين لم يكن لهم مثيل في التاريخ، بهم تضرب الأمثال في العصيان ولهم تُذكر الشواهد من سوؤ الأعمال في القرآن الكريم، عبرة لأولي الأبصار، فجاءت أدعيته (عليه السلام) مطابقة لما لاقاه من اليهود الجبناء الذين عاصرهم وتحمّل ما تحمّل من آذاهم، وكانت دعواته (عليه السلام) كما يلي:

1. الادارة السياسية:

لمّا وُظف النبيّ موسى (عليه السلام) بأمر الرسالة من قبل السماء في طور سيناء وجاءه البلاغ الرسمي ]النبوة[ من قبل الله تعالى، كان (عليه السلام) محيطاً وعالماً بزمانه ومكانه وموقعه الاستراتيجي لدى الأمة فالتفت نحو السماء رافعاً يديه إلى الله طالباً منه الاستعانة للمنصب الجديد وان يوفّر له قسطاً من العوامل الادارية السياسية التي يحتاج إليها كلّ قائد محنك منها:

‌أ. سعة الصدر: وذلك حين قال موسى: (عليه السلام){ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [63]} حتى يتحمل كل المصاعب والآلام، فمن ضاق صدره في ادارة شؤون البلاد ليس بمستوى المدير، ولا يليق بهكذا انسان أن يتصدى لمقام النبوة، وذلك لما في الناس من افراط وتفريط في الأعمال ولما عند بعضهم من اطماع و... فمن صفات القائد اللائق الذي يُدير شؤون البلاد والعباد أن يمتلك سعة صدر تكون بمساحة بلاده، وأن يتجلى فيه الصبر والحلم، والا سيكون الخسران حليفه.

‌ب. تسهيل الأمر: حيث قال (عليه السلام) { وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [64]}: أي أمر الرسالة، فانّها من أعظم الأمور السياسية، وليس بالهين، فأمر النبوة ثقيل، ومن يتحمّل العبء الثقيل على عاتقه لابدّ أن تتداركه الرحمة الالهية.

‌ج. فهم الخطاب: لابدّ للنبيّ أن يتصل بالشعب عن طريق لغة التفاهم والتخاطب، ويبلّغ رسالته عبر الكلام ويُبيّن مقاصده وآراءه عبر اللسان، فمن أجل ادراك الحقائق بسرعة طلب موسى (عليه السلام) من ربه السبحان أن يُحلّ عقدة لسانه حتى يدركه القوم كاملاً ويصل إلى أهدافه المنشودة بلا نقص في بيان.

‌د. الوزير من آل البيت: بما ان الرسالة النبوية ذات عبء ثقيل على كاهل الأنبياء والمرسلين، طلب موسى (عليه السلام) من الله تعالى أن يُعينه بشخص من أهل بيته ومن أقربائه، عالماً بالأمور واثقاً به، معتمداً لديه، الا وهو هارون (عليه السلام) أخوه، حتى يشدّ موسى به ظهره ويبذل له الجهد حتى يقيما حدود الله في الأرض، وكذلك طلب من الجليل أن يُشاركه في النبوة حتى يكون أحرص على معاضدته ولم يُقصر في النشر، باذلاً نفسه في رسالته، فأصبح الأمر على ما يرام من بعد أن استجيب دعاء موسى (عليه السلام) في حقّ أخيه.

2. طلب المغفرة والرحمة:

إنّنا رأينا مسبقاً أن الأنبياء (عليهم السلام) أكثرم طلبوا من الله الغفران والرحمة فهذا موسى (عليه السلام) سائر في المنهج القويم ويطلب من الجليل: { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [65]} وتارة أخرى يدعوا حسبما يتطلبه الموقف قائلاً: { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ [66] } فانك لتجد الإجابة السريعة في الكلام، فعلينا في حياتنا أن نقتدي بهؤلاء العظام لطلب المغفرة من الرب ّ الكريم.

3. الاقتصاد:

طلب الرزق من احدى متطلبات العصر، ودول العالم تسعى اليوم للحصول على اقتصاد أفضل بل وحتى تكافح الفقر أحياناً وتحاول أن ترفع المستوى المعاشي للشعب حتى يُصبح بمكانة عالمية مرموقة، وأصبح الاقتصاد من أبرز سمات الحضارة في القرن الواحد والعشرين، فالأمم اليوم مجبرة على السير قدماً وفق المناهج الاقتصادي المرسوم لها والا فسيكون السقوط حليفها، وموسى (عليه السلام) يقول في هذا المجال: { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [67]} فطلبه هذا من السماء ونزول الخير إلأيه ما هو إلاّ الرزق الحلال حتى يُنفقه في حياته ويرفق المستوى المعاشي واكتساب الوجه السياسي.

4. مقاطعة الظالمين:

لابدّ للمؤمنين من الاستعانة بالرب العظيم للقضاء على الظالمين وكذلك لابدّ للمؤمنين عدم الارتكان عليهم في الأمور مهما كلّف الأمر، حيث قال موسى (عليه السلام)في هذا افشأن: {رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [68]} {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ [69]} فالجزاء الحسن والشكر على النعم الربانية تستوجب عدم الاستناد إلى الظالمين في جميع الأمور، حتى تسقط دولتهم.

5. الدعاء ضد المجرمين:

لا شك انّ اصحاب الرسالة هم الذين تُستجاب دعواتهم ضد الكفار والمنافقين، وهو يدعو لأجل ابادة المشركين من على وجه المعمورة، فجاءت دعوتان لموسى (عليه السلام) في هذا المجال الأولى: { فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ [70]} والثانية؛ جاءت ضد الطاغية فرعون حيث يقول: { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} (الدحر الاقتصادي والفشل السياسي حتى لا تبقى لهم حكومة قائمة على وجه الأرض) وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (اندحار العاطفة وانقطاع العلاقات والروابط الاجتماعية بين الناس) {فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ [71]} فمتى شئت أيها المؤمن ادعُ كما دعا الأنبياء (عليه السلام) فسترى المعاجز والاجابة السريعة.

دعاء زكريا النبي (عليه السلام):

من أبرز سمات الدعاء عند زكريا (عليه السلام) هو طلب الاعجاز، فطلب من الله سبحانه أن يرزقه أولاداً صالحين ومرضيين، فالذرية الطاهرة تُحيي ذكرى صاحبها والذرية الطالحة تمحوها، زكريا (عليه السلام) بعد الأياس وعقر زوجته وهب الله له ذرية طيبة كما أراد هو، حيث يقول (عليه السلام): { رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [72] } وكذلك طلب من الله سبحانه أن تكون هذه الذرية مرضية، حيث يقول (عليه السلام): { وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [73]} فاستجاب له السماء قائلة: { يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى [74]} فانظر إلى اعجاز ربّك الذي يقول { قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء [75]} فمن أراد الاعجاز فعليه بالدعاء.

أدعية النبي سليمان (عليه السلام):

توالت النعم على سليمان (عليه السلام) من كلّ جانب، فطلب من البارئ العون على اسداء الشكر على جميع هذه النعم التي أحاطتْ به وبأبيه (عليه السلام) فكان دعائه (عليه السلام) يسير وفقاً لمتطلبات عصره وعلى المحاور التالية:

1. الشكر على النعم: فهو (عليه السلام) يطلب من الله تعالى مراراً أن يوفقه للشكر على ما أنزل عليه من النعم، حيث يقول (عليه السلام):{ رَبِّ أَوْزِعْنِي (الهمني) أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ [76]} فالشكر على النعم يضاعف النعمة، ولما تتوفر النعم يزداد الاقتصاد رونقاً ويعمّ الانبساط بين طبقات الناس، ومن جهة أخرى سيفرض التوحيد كلمته سياسياً في العالم.

2. التوفيق للعمل: ان من أبرز صفات المؤمن العمل الصالح، خلافاً للآخرين من أصحاب الأقاويل، فسليمان (عليه السلام) يرجو من الله أن يُعينه على العمل الصالح وأن يكون ذلك العمل مرضياً له، ومن ثمّ يُثاب عليه، حيث يقول (عليه السلام): { وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [77]}.

3. اصلاح الذرية: دأب الأنبياء(عليهم السلام) أن يطالبوا السماء بالذرية الطاهرة واصلاحها، من أمثال ابراهيم (عليه السلام) وزكريا (عليه السلام) وكذلك سليمان (عليه السلام)الذي يقول: { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي [78]} فما أجدر بنا أن نقتدي بهؤلاء الكرام الأسوة العظام في طلب اصلاح الذرلية وجعلها طاهرة مرضية

4. الاعجاز: لم يتولّ من الأنبياء الحكومة السياسية الا اثنان وهما يوسف (عليه السلام) وسليمان (عليه السلام)، على ما يقصّه القرآن الكريم.

لقد أشرنا من قبل أن علينا بالدعاء وأن نطلب من السماء بما لا يُطيقه البشر، وبعبارة أخرى لابدّ أن نطلب المعجزة في الدعاء كما فعل سليمان (عليه السلام) وغيره من الأنبياء، وإنك تراه بعد ما طلب الغفران من الربّ السبحان قال (عليه السلام):{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي [79] }، فعجيبٌ لهذه الرؤية العظيمة الواسعة المفتوحة كلّ الانفتاح على العالم جميعاً، خلافاً للأنظار الضيقة من العباد الذين يرون الحاجات الآنية فليكتفون بها، فيجب أن نعتبر بهذه الرؤية العظيمة وندعو الله بالنصر والفوز لأهل الإيمان في مشارق الأرض ومغاربها بثورة عارمة يقودها إمامنا المنتظر المهدي (عجل الله تعالى فرجه)، وأن يهب له ما وهب لسليمان(عليه السلام) بل وأكثر من ذلك.

دعاء يوسف النبي (عليه السلام):

ابتُلي يوسف (عليه السلام) بشرّ ابتلاء من قبل امرأة على ما يحكيه القرآن، ولكن العناية الربانية وإرادته القوية أنجته من براثين الضلال والظلام بعد ما التجأ نحو السماء داعياً ربه بإخلاص، فالإرادة والدعاء صنعت من يوسف (عليه السلام) بطلاً يُقتدى به في الأخلاق، فحبّذا لعيش في السجن على دعوة الضلال، وانتصر أخيراً بعغزم الارادة حيث يقول (عليه السلام): {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ... # فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[80]} فإنك لترى النصر كان حليفه ونجى أخيراً من تلك الفتنة، عالي الرأس، راضياً عنه الربّ، محمود الذكر، والعاقبة على خير، فما أحرى بنا اليوم ان نقتدي بهذا البطل العظيم ونسير على خطاه حتى لا تزلّ أقدامنا ويطهر مجتمعنا من المفاسد الأخلاقية.

دعاء يونس النبي (عليه السلام):

يعاني الإنسان في حياته مشاكل عديدة ومصائب شديدة بحيث تغلق في وجهه جميع الأبواب والآمال، ويقف الإنسان حيران مكتوف اليدين وليست له القدرة على تغيير شيء، حيث الارادة مسلوبة، والطاقة ضعيفة، فلا طرق للحلّ، ولا أفكار منجية، ولا أسانيد ولا.. فيصبح اليأس ثوباً يرتديه الإنسان، مقهوراً إلى الوراء، محكوماً عليه بالسجن المؤبد أو الاعدام، تكاد حياته تندحر، هذا وان لله تعالى جزاءاً وعقاباً ينتقم به من أعدائه وأحياناُ يُؤدّب به أوليائه، وان حادثة يونس بن متى (عليه السلام) تظلّ وتبقى درساُ وعبرة خالدة لمن يخشرى ربّه، فقصته معجزة، حيث بقى حياً في بطن الحوت ولم يمت، ودعائه (عليه السلام) بعد ما اعترف بالظلم على نفسه فانجاه الله من الكرب العظيم وهو أيضاً القادر على نجاة المؤمنين عند الشدة والمصائب، حيث يقول البارئ في هذا المجال: { وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ # فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ [81]} دخل يونس (عليه السلام) انفرادية وليس له حول ولا قوة ولا سير ولا حركة الا الدعاء الساحر، فما أشدّ ما لاقاه من مصيبة وما أعظمه من جزاء، فلو لم يكن من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يُبعثون، فكن يا أخي المؤمن من الذاكرين ولا تكن من الغافلين، وهذا إعجاز آخر للدعاء فاعتبروا يا أولي الأبصار.

دعاء النبي عيسى (عليه السلام):

لقد رأينا الإعجاز في كثير من الأدعية التي جاءت على لسان الأنبياء(عليهم السلام): من مثل إبراهيم ويونس وزكريا وعيسى وسليمان (عليه السلام)، فلدعاء أثر عظيم في نفوس الداعين فما بالك لو حصل الاعجاز من وراء ذلك.

فيا اخوتي في سوح الايمان والجهاد و... علينا السير قُدماً نحو الله تبارك وتعالى الذي يقول: { مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ [82]} فمن أراد الاعجاز فعليه بالدعاء ومن أراد الانتصار على الأعداء فعليه بالدعاء ومن أراد أولاداً صالحين فعليه بالدعاء، فمن أراد... وهذا نبيّ الله عيسى بن مريم (عليه السلام) يحدّثنا القرآن عنه لما طلب من السماء أن تُنزل عليه وعلى أصحابه مائدة من الطعام فاستُجيبت دعوته حينما قال: { اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [83]} فما أحل هذا الدعاء وما أعذب الإجابة والإعجاز.

المبحث الثاني: أدعية أصحاب الإيمان:

وإلى جانب هذه الأدعية العظيمة من قبل الأنبياء(عليهم السلام) فهناك أدعية أخرى زيّنت ساحة القرآن الكريم من قبل عباد الله المؤمنين ونشير هنا إليها حسب استطاعتنا:

دعاء الراسخين في العلم:

جاء في الخبر: ]أولُ العلم معرفة الجبار وآخر العلم تفويض الأمر إليه[، فبالعلم يُطاع الله ويُعبد، وبالعلم قامت السموات والأرض، وبالعلم نكشف الحقائق ونبتعد عن الجهل....

فالعلم مصدر نور وهداية وفي الوقت نفسه مصدر ضلال وعماية إذا تعرّى عن الإيمان والأخلاق، فلابدّ للراسخين في العلم أن يرجوا من الله سبحانه وتعالى الاستقامة والثبات ومواصلة الطريق على معرفته وعدم الميلان لغيره، وأحياناً يُصادف الإنسان بالفشل أثناء الطريق وينحرف عن المسير، فلأجل البلوغ إلى الكمال والرشاد يطلب الراسخون في العلم من الله الثبات على الإيمان والهداية والمواصلة حتى النهاية وتراهم يقولون: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ [84]}.

دعاء أصحاب الجنة:

لأصحاب لأصحاب الجنة دعوتان الأولى التسبيح حيث يقول العزيز: { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ [85] } والثانية التحميد حيث قال: { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [86]}، وبمعنى آخر انّهم يبتدئون دعاءهم بتعظيم الله وتنزيهه ويختمونه بشكره والثناء عليه، فكلّ من التنزيه والتحميد ويعدّ دعاءاً براسه.

أدعية النساء:

أفردنا هذا العنوان لما رأينا من الآيات ما تشير إلى هذا الجانب وتعتني بها والذي يقوله ربّ العزّة إنّي اجيب دعوة الداع، سواءاً كانت امرأة أو رجلاً فأوّل دعاء جاء في القرآن على لسان امرأة عمران أمّ مريم(عليهما السلام) حيث تقول: { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ # فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ [87]}. والدعاء الآخر لآسية زوجة فرعون {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ[88]} وكذلك نُشير هنا إلى اعتراف بلقيس بظلم نفسها وأخيراً الاستسلام لربّ العالمين قائلة: { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [89]}. واعلم ان الله مجيب الدعوات وماحي السيئات وغافر الذنوب جميعاً،أنّه تعالى لا يُضيّع عمل عامل من ذكر كان أو أُنثى.

أدعية المؤمنين:

هم الزبدة من الخلق، وهم الطلائق الربانية، وهم المهتدون ولهم جاءت الرسل، وإليهم يتوجه الخطاب الرحماني ولأجلهم أرسلت الشرائع وبهم ينتشر الإيمان والهدى وماعساني أن أقول فيهم؟ فهم هم، لأنّهم أولياء الله وخلفائه على الأرض فما كانت طلباتهم من الله تعالى؟

فسنجد بعضها مشتركة مع الأنبياء(عليهم السلام) الذين هم سادات المؤمنين، والأخرى خاصة بهم فأمّا الأدعية المشتركة مع الأنبياء(عليهم السلام):

1. استجابة الدعاء: فدعاء أصحاب الإيمان مستجاب كدعاء الأنبياء(عليهم السلام) وذلك لأنّهم يجاهدون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وينشرون الدعوة الربانية بين الناس، فهم يطلبون من الرحمن النصرة على الأعداء كما عبر عنهم تعالى بقوله: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ (متتابعين)[90]}، ويقول في موطن آخر: { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ [91]}، والاستجابة هي العطية على موافقة الطلب.

2. طلب الغفران والرحمة: هذا ما صنعه الأنبياء(عليهم السلام) وبهم يقتدي أصحاب الإيمان، فإنّهم يطلبون العفو والمغفرة وادخالهم الجنة حيث يعبّر عنهم ربّ العالمين قائلاً: { وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ [92]}، وهم ايضاً يطالبون من الرحمن الغفران من أجل الإيمان كما تشير الآية الكريمة إلى ذلك: { رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [93]} أو يقول في موطن آخر: { الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [94]}، أو اقرأ هذه الآية: {ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا [95]}، وأخيراً يقول عنهم البارئ: { رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [96]} وهم بذلك يطلبون الرحمة من عند الله لا من عند غيره كما قال العزيز: { رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [97]} فتراهم طامعين في المغفرة الالهية حيث يقول: { إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا [98]} وكذلك يطلبون الغفران للسابقين من أهل الإيمان: { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ[99]}، فلا تجد عندهم ذرة من الأنانية.

وبالمناسبة ]قيل طاف أعرابي بالبيت ثم صلّى ركعتين ونهض، فقيل له مالك حاجة إلى الله؟ قال: بلى وقد سألته. قيل: وما قلت؟ قال: قُلتُ اللهم إنّك قد أحصيت ذنوبي فاغفرها، وعلمت حاجتي فاقضها[ [100]، فيا ربّي غفران، ربّنا رحمتك، ربّنا عفوك.

3. مقاطعة الظالمين: وهو هدف من أهداف الأنبياء(عليهم السلام)، فأصحاب الإيمان يقتدون بهم حيث يقول البارئ: { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا [101]} أو نراهم في هذه الآية يقولون: { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [102]} فالابتعاد عن الظالم وطلب النجاة منهم ماهي إلا مقاطعة سياسية عمل بها الأنبياء(عليهم السلام) وسار عليها أصحاب الإيمان.

4. الدرية الصالحة:بما أنّ الأنبياء(عليهم السلام) طلبوا من الله عزّ وجلّ أن يرزقهم أولاداً صالحين، فإنّ المؤمنين كذلك طلبوا هذه العطية من ربّهم قائلين: { هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [103]}.

وأمّا الأدعية الخاصة بالمؤمنين فهي:

1. الإنقاذ من النار: من أكبر أهداف أهل الإيمان الدخول في الجنان والفوز بالرضوان والنجاة من النار التي أُعدّت للكافرين، فأصحاب الإيمان يطلبون من الرحمن أن ينقذهم من عذاب النار كما تبيّن لنا هذه الآية الكريمة: { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [104]} لأنّ الخزي والعار يوم القيامة للذين يدخلون النار صعب جداً، وهم كذلك مصرون على صرف عذاب نار جهنم عنهم حيث يقولون: { رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ [105]}.

2. الفوز بالجنة: فما أعظمه من هدف وما أسماه من غاية وما أحلاه من ثمرة، على أصحاب الإيمان أن يكتسبوا الجنان بالتقوى والعمل الصالح وهم يدعون ربّهم قائلين: { وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم [106]}.

3. مع الشاهدين: يرغب أصحاب الإيمان واليقين أن يكونوا مع الشاهدين وذلك لما أعدّه الله لهم من الأجر والثواب الجزيل

، والفوز بالدرجات العالية والوصول إلى الكرامة الالهية، وقد صرّح الزمخشري والطبرسي في تفسيرهما للآية الشريفة هذه: { فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [107]}. ان المقصود بـ (مع الشاهدين) أي مع أمة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكفانا فخراً وعزاً بأنّنا من أمته ومن أتباعه وأنصاره إن شاء الله.

4. مع الأبرار: الأبرارُ هم أهل الفضل والإحسان حيث أثنى عليهم السبحان قائلاً: { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ [108]} فما من صفة حميدة إلا ويتمنّاها أصحاب الإيمان أن تكون لهم في الدنيا حتى يحرزوا بها المقام الرفيق في الآخرة، وهم يرجون من الله تعالى في آخر لحظات حياتهم أنْ يفارقوا الدنيا وهم جنباً إلى جنب أصحاب الفضل والبرّ كما عبّر عنهم القرآن قائلاً: { وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ [109]}، وكذلك وكذلك يقول عنهم: { وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [110]}

5, تطهير القلوب: من الصفات البارزة لأهل الإيمان أن يدلّ ظاهرهم على باطهنم، فلا تظاهر في السلوك، ولا نفاق في القول والعمل، وإنّه من المعروف أنّ القلب مركز للأحقاد والأضغان والعداوات، فهم يطلبون تطهير هذا المركز من كلّ رجس كما تصرح الآية؛ { وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا [111]}.

6. نفي سلطة الكفر: ما جعل الله سبيلاً لحكومة الكفر على أصحاب الإيمان، وإنّه جعل الولاية له ولرسوله وللمؤمنين، وبناءاً على هذا القانون يرجوا أهل الإيمان ألا يكونهوا ضحية للكافرين، ويتجلّى هذا الأمر في كلامهم: { رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا [112]}.

7. الصبر: الصبر والإيمان توأمان كما صرحت بذلك الأخبار عن العترة الأطهار، فالمؤمن المجاهد في سبيل الله بأمس الحاجة إلى الصبر حتى يستقيم في الطريق ويقاوم الظملم والشرك، ويستمر في نشر التوحيد، ويحتاج في هذا المجال إلى افراغ الصبر عليه كما يفرغ الماء من الاناء، فالمؤمن ومن يستعين بالله قائلاً: { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [113]}.

8. النصر والفتح: كل مؤمن مجاهد عامل في سوح الإيمان بعد التوكل على الله يتمنّى من السماء النصر على الأعداء ويرجو الفتح القريب المظفّر من الله حيث يقول: { رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [114]}.

9. عدم العقاب في حالتي النسيان والخطأ: المؤمن ليس بمعصوم والشيطان ليس بمأمون فهو المترصد له في زوايا الحياة ينتظر الغفلة والنسيان من الإنسان حتى يغويه ويضلّه، فالمؤمن يطلب من الربّ القدير أن يتجاوز عن نسيانه وخطائه الصادر منه بلا عمد حيث يقول: { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا[115]}.

10. ردّ ما لا يطاق: ان الله لا يكلّف نفساً إلا وسعها، ولكن حينما يعصي الإنسان فينتقم الربّ منه ويُحرمه من الطيبات ويحمّله ما لا طاقة له عقاباً له، فالمؤمنون يرجون من الله ان لا يحمّلهم ا لا طاقة لهم عقاباً على أعمالهم بل يقولون: { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا[116]}.

11. حسنة الدنيا والآخرة: روي عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) انّه قال: ]من أوتي قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً وزوجة مؤمنة تعينه على أمر دنياه وأخراه، فقد أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ووُقي عذاب النار[117][. جاء هذا الحديث في ذيل تفسير قوله9 تعالى { وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [118]}

دعاء الإبن:

من أحد وظائف الأبناء هو الدعاء للوالدين حين الحياة أو الممات كما قال الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) برّهما حيّين أو ميّتين، ويطلب الأبناء لهما الرحمة والغفران من الله تعالى، كما يعلّمنا القرآن الكريم قائلاً: { وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [119]}.

أدعية الناس:

الناس بصورة عامة ينظرون بمنظار ضيق على ما هو كائن حولهم فهم يشعرون باللذة الموقتة، والأرباح الطائلة والمنافع الآنية فهم يلمسون ظواهر الأشياء بشكل جيّد، فيظنون ان السعادة محيطة بهم وانْ أصابهم شرّ يحسبون أنّ القيامة قد قامت، وأنّ البلاء لاشك نازل عليهم، فطائفة من الناس في هذه الحالة لا يهدءون لحظة عن الدعاء بل يدعون ربّهم ماشين أو جالسين أو قائمين، بل يدعونه ليلاً ونهاراً فهم في الشدة يعرفون الله حقّ معرفته ولهذا عبّر عنهم القرآن الكريم قائلاً: { وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ [120]}، أي انّه يطيل في دعائه لربّه، وطائفة من الناس في هذه الحالة سيكونون آيسين من رحمة الله كما يُعبر عنهم القرآن قائلاً: { وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ [121]}، وطائفة ثالثة في مثل هذه الحالة يستسلمون لربّ العالمين مادام البلاء قائماً والخوف باقياً والضرر جليّا، فإذا ذهب عنهم الخوف والضرر عادوا على ماكنوا عليه من قبل، فقد ذمّ الله هذه الفرقة قائلاً: { دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [122]}، أو كما يقول الله عنهم في موضع آخر: { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ[123]}، فهذا يدلّ على أن الإنسان يبطر ويطغى ويستغني عن ربّه زمن الرخاء، وفي الشدة والحاجة يلتجأ إليه. وهناك طائفة رابعة أثنى الله عليهم لأنهم يتجهون نحوه في حالتيْ الشدة والرخاء واليسر والعسر يدعون ربّهم رغبة في ثوابه (الجنة) وخوفاً من عقابه (النار)، لأنّهم أيقنوا أنّ ربّهم ذو عقاب شديد وذو رحمة واسعة ويشير البارئ إلى هذه الحالة بين الناس قائلاً: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا[124]}.

المبحث الثالث: أدعية المنحرفين

أدعية أصحاب النار:

المتدبر في القرآن يرى أدعية أهل النار تتجلّى في الأماني والاعتراف بالذنوب، فما أصبرهم على النار، ولات حين مندم، وإليك أمانيهم:

1- الخروج من النار: يتمنّى أصحاب النار الخروج منها وهم مستعدون لدفع الضمان ]الاعتراف بالذنوب[ حيث تشير الآية إلى هذا المعنى: { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [125]}

2- العودة إلى الدنيا: إن العصاة المردة يتمنون الرجعة إلى الدنيا حتى يُسدّوا العجز والنقصان ويعملون صالحاً بعد ما رأوا العذاب الأليم وذاقوا طعم المرّ الشديد، ويحدّثنا الله تعالى عنهم قائلاً: { رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [126]}، فيكون الجواب رادعاً لهم بـ(كلا) وليس لهم مفراً من عقاب الله وعذابه.

3- كشف العذاب: الظاهر من الآيات القرآنية أنّ العذاب في الآخرة لهو أشدّ من الدنيا، حيث يشير الله تعالى إلى ذلك أنّ لهم ثياب قُطعت من النار ويسقون الماء الحميم...

فأصحاب النار يتمنّون زوال العذاب كما كانت الحالة في الدنيا، بل فاتهم أنّ العذاب في الآخرة باقٍ ما بقى الله سبحانه حيث الخلود والبقاء الأبدي، لذا نراهم يطلبون من الله قائلين: { رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ [127]} كلا والف كلا.

4- ضعف العذاب: أصحاب النار يرجون العذاب الضعف لكبرائهم والمسؤولون عن أضلالهم حيث يقولون: { رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ[128]} وجاء في موضع آخر: { رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا [129]}، وكذلك جاء في قوله تعالى: { قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ[130]} وأخيراً يتمنى أصحاب النار سحق رؤوسهم قاداتهم بالأقدام كما يقول الله سبحانه: { رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا [131]} واختم كلامي هنا بقول الشاعر:

مـــا كلّ ما تمناه المرء يدركه تجــــري الرياح بما لا تشتهي السفن

الاعتراف بالذنوب:

لن ينكر أحدٌ (كان من كان) ذنبه يوم القيامة، فالكلّ آخذ كتابه أمّا بيمينه أو بشماله، وما أصعب شيئاً على الإنسان أنْ يأخذ كتابه بشماله فسوف يحاسب عسيراً ويصلى سعيرً وذلك بعد ما يعترف بجرائمه وذنوبه حيث يقولون: { فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ [132]} وفي موضع آخر يقول ربّ العزة والعظمة:{ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [133]}، ففيها اعتراف ضمني لذنوبهم، أو تراهم يقولون: { قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا [134]}، ويرى أصحاب النار أن أضلالهم من قبل كُبرائهم ورؤسائهم حيث يقولون معترفين: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [135]}.

طلب الكفار والمنافقين: فالطائفة الأولى ليس في دعائهم إلاّ الضلال والظلام والتيه في الأوهام والخيال كما قال العلام: { قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ [136]}، وأما الطائفة الثانية، تتمنى المستحيل وما هو إلاّ من الأوهام حيث يقول العزيز: { فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ [137]} أو انظر إلى قوله تعالى: { حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [138]}، فلما تيقن الموت تمنى المحال والرجوع إلى الدنيا، فالتأخير في الأجل القريب والصدقة على الفقراء والمساكين والإخلاص في العمل والرجعة إلى الدنيا ما هي إلا أماني المنافقين وهي من المستحيل.

طلبان للشيطان الرجيم:

واعلم أنّ الشيطان طامع في رحمة الله غير آيس منه وله طلبان الأول: الانتظار إلى يوم القيامة حيث قال تعالى: {رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [139]}، فاعطاه الله ذلك ثواباً لعباداته قبل الطرد، فهو حيّ حتى تقوم الساعة فالحذر الحذر منه لأنّه صاحب أنصار واتباع وجنود من الجنّ والأنس ويدعوهم إلى النار كما يقول الجبار: { إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [140]}.

والطلب الثاني، تهديد الإنسان، وهو له بالمرصاد، يتحيّن الفرص للانقضاض على البشر حتى يغويه ويضلّه عن الصراط، كما يقول الربّ عنه: {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ[141]}، فستجير بالله العظيم من كيد الشيطان الرجيم.

المصادر:

1- القرآن الكريم.

2- الراغب الاصبهاني، حسين، محاضرات الأدباء،

3- الزمخشري، جار الله، الكشاف، بيروت مكتب الاعلام الاسلامي، 1416هـ.

4- الطرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان، بيروت – دار احياء التراث العربي، 1379هـ.

5- عبد الباقي، محمد فؤاد – المعجم المفهرس – القاهرة، دار الكتب المصرية – 1364هـ.

الهوامش

 


 

[1]- البقرة / 126.

[2]- نوح / 28.

[3]- البقرة / 186

[4]- مريم / 3 -10.

[5]- نوح/ 5 -28.

[6]- آل عمران / 35, 37.

[7]- الصافات/75.

[8]- الأنبياء/76.

[9]- الأنبياء/84.

[10]- الأنبياء/ 90.

[11]- البقرة / 186.

[12]- غافر/60.

[13]- الأعراف / 197.

[14]- الأنعام/ 63.

[15]- الشعراء / 72.

[16]- الأحقاف / 5.

[17]- قطمير: القشرة الخفيفة التي تحيط بنواة التمر، فاطر / 13.

[18]- الزمر/ 38.

[19]- الأنعام/ 71.

[20]- غافر / 20.

[21]- زخرف / 86.

[22]- الأعراف / 18.

[23]- الطبرسي – مجمع البيان ج 1: 503/31 – الزمخشري جار الله ج688:2.

[24]- يونس/ 25.

[25]- ابراهيم / 10.

[26]- الأنفال/ 34.

[27]- الحديد / 8.

[28]- المؤمنون / 73.

[29]- الشورى / 13.

[30]- الأسراء/ 80.

[31]- الزمخشري جار الله ج 688:2.

[32]- الطبرسي – مجمع البيان ج 435:3.

[33]- المؤمنون / 94.

[34]- طه /14.

[35]- المؤمنون / 97.

[36]- الفرقان/ 3.

[37]- المؤمنون/88.

[38]- الأعراف/23

[39]- القمر/10

[40]- المؤمنون/26

[41]- نوح / 28.

[42]- نوح/21.

[43]- الشعراء/117.

[44]- هود/47.

[45]- المؤمنون/29.

[46]- نوح/27 -26.

[47]- البقرة / 126.

[48]- الحج / 41.

[49]- ابراهيم / 40.

[50]- الصافات/101 – 100.

[51]- الانعام/ 89.

[52]- الشعراء/83.

[53]- البقرة / 130.

[54]- البقرة / 260.

[55]- إبراهيم/41.

[56]- فصلت/11.

[57]- ابراهيم / 34.

[58]- البقرة / 129.

[59]- ابراهيم / 38.

[60]- ابراهيم / 36.

[61]- ابراهيم / 40.

[62]- الشعراء/169.

[63]- طه/25.

[64]- طه/26.

[65]- الأعراف/151.

[66]- القصص 16.

[67]- القصص/24.

[68]- القصص/21.

[69]- القصص/17.

[70]- الدخان/22.

[71]- يونس/88.

[72]- آل عمران/38.

[73]- مريم/6.

[74]- مريم/2.

[75]- آل عمران/ 40.

[76]- النمل / 19.

[77]- النمل/19.

[78]- الأحقاف / 15.

[79]- ص/36.

[80]- يوسف/34.

[81]- الأنبياء/88-87.

[82]- الفرقان/ 77.

[83]- المائدة/114.

[84]- آل عمران/8.

[85]- يونس/10.

[86]- يونس/10.

[87]- آل عمران / 36-37.

[88]- التحريم/11.

[89]- النمل/44.

[90]- الأنفال/9.

[91]- آل عمران/ 195.

[92]- البقرة / 286.

[93]- المؤمنون/109.

[94]- آل عمران/16.

[95]- آلعمران / 147.

[96]- التحريم/8.

[97]- الكهف/10.

[98]- الشعراء/51.

[99]- الحشر/10.

[100]- الراغب الأصبهاني – محاضرات الأدباء ج2: 472.

[101]- النساء/75.

[102]- الأعراف/47.

[103]- الفرقان/74.

[104]- آل عمران/191.

[105]- الفرقان/65.

[106]- غافر / 8.

[107]- آل عمران / 53.

[108]- الإنفطار/13.

[109]- آل عمران/193.

[110]- الأعراف/126.

[111]- الحشر/ 10.

[112]- الممتحنة / 15.

[113]- الأعراف/126.

[114]- الأعراف/89.

[115]- البقرة / 286.

[116]- البقرة / 286.

[117]- الطبرسي – مجمع البيان ج1: 298.

[118]- البقرة/201

[119]- الإسراء/24.

[120]- فصلت/51.

[121]- فصلت/49.

[122]- يونس/22.

[123]- يوسف / 12.

[124]- الأنبياء/90.

[125]- المؤمنون/107.

[126]- السجدة/12.

[127]- الدخان/12

[128]- الأعراف / 38.

[129]- الأحزاب/68.

[130]- ص/61.

[131]- فصلت / 29.

[132]- الصافات/31.

[133]- فاطر / 37.

[134]- غافر / 11.

[135]- الأحزاب/67.

[136]- غافر/50.

[137]- المنافقون/10.

[138]- المؤمنون/99.

[139]- ص/79.

[140]- فاطر/6.

[141]- الحجر / 39.