المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 60.doc

الفصل الرابع: السياسة الخارجية

وتقوم السياسة الخارجية في الدولة الإسلامية على العلاقات مع المجتمع غير المسلم تارة والمجتمع المسلم الذي لا يخضع إلى حكومة الدولة الإسلامية لموانع وأسباب جغرافية أو سلطوية أو ما أشبه ذلك. وهذه السياسة والعلاقات تقوم على مبادئ عامة تحدد كيفية العلاقات وجوهرها وهي عديدة:

1- حرية الدعوة إلى الإسلام.

2- الاستقلال التام وعدم الخضوع لأي محور دولي وعدم الخضوع أيضاً والتبعية لأي قوة عظمى.

3- السلام وعدم الاعتداء على الغير.

4- التعاون على أساس العدالة والتكافؤ والتكافل.

5- الوفاء بالمعاهدات والمواثيق.

6- رد العدوان.

ومن الواضح أن تكوين العلاقات مع العالم الخارجي بنحويه يمكن أن يكون على أساس المبادئ العادلة وفي بعض الأحيان يمكن أن تتحكم به المبادئ الظالمة والحيف والجور.

ومقتضى أدلة العلوم ونفي السبيل وتسلط الناس على أموالهم وعلى أنفسهم ونحو ذلك من الأدلة تقتضي أن تكون العلاقات مع العالم الخارجي عن الدولة الإسلامية خاضعة لمبادئ الاستقلال والعدالة والتعاون وما أشبه ذلك وأما في غير ذلك فالظاهر أنها من المحرمات المؤكدة وكيف كان فإن الحديث بنحو من الإجمال يقتضي أن نقسم الكلام عن العلاقات مع الخارج غير المسلم والخارج المسلم.

والعالم غير المسلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

- الأول: المحايدون وهم الذين ليسوا في حالة حرب مع المسلمين ولا عقدوا معهم معاهدات سواء كانت لهم علاقات مع المسلمين أو ليست لهم علاقات.

- الثاني: المعاهدون وهم الذين تربطهم مع المسلمين معاهدات ومواثيق.

- الثالث: الأعداء أو المحاربون وهم الذين نصبوا العداء للمسلمين أو دخلوا معهم في حالة حرب بالفعل.

أما القسم الأول وهم المحايدون الذين لا تربطهم بالمسلمين معاهدات وعلاقات ولكن ليس بينهم وبين المسلمين حالة حرب وعداء مؤلم فهؤلاء لهم السلام وعدم الاعتداء ما داموا على حالة الحياد مع انفتاح مسلمين على كل بادرة لإنشاء علاقات صداقة وتعاون على أساس العدالة والتكافؤ وذلك أن الأصل من العلاقات مع الخارج غير المسلم هو السلام والتعاون والبر قال عز وجل: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) وإطلاقها يشمل جميع حالات الحياد فيجوز للدولة الإسلامية أن تحسن وتبر وتقسط مع المجتمع غير المسلم الذي لا يحارب ولا يقاتل ولا يظلم المسلمين وثمة حالة أخرى من حالات الحياد وهي ما إذا كان المسلمون في حالة حرب مع بعض أعدائهم وكان ثمة قوم آخرون لم يدخلوا في هذه الحرب لكن تربطهم بالمحاربين للمسلمين علاقات ولكنهم تجنبوا محاربة المسلمين أو إسناد هؤلاء لمحاربة المسلمين فإنه يجري عليهم حكم الحياد أيضاً وقد بين تبارك وتعالى حكم هذه الحالة في مثل قوله عز وجل مخاطباً الأمة بالتكليف الشرعي يقول عز وجل: (إلا الذين يصلون إلى قوم بينك وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليه سبيلا ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمن قومهم كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئك جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً)

وأما المعاهدون فهم صنفان: الأول أهل الذمة الذين يعيشون بين ظهراني المسلمين في أحد الذمة. الثاني غير الذميين ممن تربطهم بالمسلمين علاقات صداقة أو تعاهد سلام ومصالحة وتفاهم وهؤلاء لهم من المسلمين الوفاء الكامل والسلام الكامل والتعاون على قاعدة المساواة والتكافؤ أيضاً إذ يجب الوفاء للمعاهدين بعهودهم ويحرم نقضها والإخلال بها ما داموا أوفياء من جانبهم فإن الوفاء بالعهود والمواثيق من أعظم الواجبات في الإسلام وقد نهى الله تعالى نهياً صارماً عن نقض العهود حتى إذا كان ذلك لترجيح مصلحة المسلمين على غيرهم قال تعالى: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعدم توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون) ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمة هي أرضى من أمة إن ما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون وعليه فإذا دخل المسلمون في عهد وميثاق مع غير المسلمين وجب على المسلمين الوفاء لهم بما عاهدوهم عليه قال عز وجل: (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين) وقال عز وجل: (كما استقاموا لكم فاستقيموا له إن الله يحب المتقين) وفي الحديث الوارد عنهم (عليهم السلام) المؤمنون عند شروطهم فيجب احترام الكفار الذين دخلوا بمعاهدة مع المسلمين كما يجب الالتزام بشروط عقد الذمة للأقليات التي تقطن البلد الإسلامي بل يجب إعطائهم حقوقهم واحترامهم في الداخل أيضاً في عقيدتهم وأموالهم ودمائهم وأعراضهم وحقوقهم السياسية والإنسانية بشرط أن لا يتجاهروا بالمناكير كما عرفت تفصيله مما تقدم.

وأما إذا نقض الكفار عهودهم مع المسلمين وجب على المسلمين بهذه الحالة أن يعاملوهم بالمثل وإذا اقتضى الأمر قتالهم وجب قتالهم إلى أن يخضعوا قال عز وجل: (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون فإما تسقطنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون وإما تخافن من قوم مخافة فانبذ عليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين) لقد اشتملت الآيات وجوب الوفاء الآنفة الذكر على حكم حالة نقض غير المسلمين لعهودهم ويلاحظ أن الخطاب في جميع الآيات بشأن الالتزام بالعهود والوفاء بها وحرمة نقضها موجه إلى الأمة بنحو عام فهي مكلفة بالوفاء والمسؤولة عنها وأما إبرام العهود والمواثيق فهو من شؤون القيادة العليا لتوقفه على تشخيص الموضوع ومعرفة الأهم والمهم كما أن سلطة إنهاء المواثيق كذلك لتوقفها على ظهور أمارات الخيانة من قبل الكفار وهذه من شؤون القيادة العليا كما أشارت إليه الآية السابقة.

وأما المحاربون فهم الأعداء الذين هم في حالة حرب مع المسلمين فليس لهم عند المسلمين إلا الحرب دفاعاً كما عرفت مما تقدم هذه بعض الملامح العامة التي ينبغي أن تخضع لها سيادة الدولة الإسلامية في علاقاتها الخارجية مع غير المسلمين وأما العلاقات مع المجتمع المسلم الذي لا يخضع لنفوذ الدولة الإسلامية فعلى الرغم من أن الأمة الإسلامية أمة واحدة لكن انفصال المجتمع المسلم للفواصل الجغرافية والحدودية كما عليه الحال الآن حيث تقسيم بلاد المسلمين بواسطة الحدود الجغرافية المصطنعة من قبل الاستعمار يرد البحث في كيفية إقامة العلاقات والروابط معه قال تبارك وتعالى: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آمنوا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير) وقال تبارك وتعالى: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يتصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة) والمستفاد من الآيتين الشريفتين أن العلاقات بين الدولة الإسلامية وبين المسلمين الخارجين عن سلطتها أو الذين لا ينتمون إليها هي علاقات دينية وروحية علاقات الأخوة والأمة الإسلامية وليست علاقات سياسية دائمة بحيث تقتضي التزامات لهم ولأجلهم من قبل الدولة الإسلامية إلا في حالة واحدة وهي ما إذا اعتدي عليهم من قبل غير المسلمين أو تعرضوا إلى فتنة أو ظلم وأمكن الدفاع عنه أو إنقاذهم منها فإنه حينئذ يجب على القادرين إنقاذه ونصرته لما عرفت سابقاً من أن الإسلام لا يحدد الجهات بقيد أو ملة وإنما يقاتل لأجل إعلاء كلمة الله ولأجل إنقاذ المستضعفين فما بالك بالمسلمين نعم يتقيد هذا الوجوب في حالة ما إذا لم يكن بين هؤلاء الخصوم غير المسلمين وبين المجتمع الإسلامي ميثاق يقتض امتناع المسلمين في شن الحرب عليهم وكانوا هؤلاء أوفياء وملتزمين بميثاقهم مع المجتمع المسلم وأما في هذه الحالة فلا يجوز للمجتمع أن ينصر هؤلاء المسلمين غير المنتمين إليه في السكن والعضوية على الكفار المعاهدين والملحوظ في الآية الشريفة الثانية التفريق بين المؤمن المقيم وبين قوم الكفار في حالة عداء وحرب فلا دية له وبين المقيم بين قوم الكفار تربطهم بالمسلمين المواثيق فعلاقات بهم المسلمين خطأ الدية لأهله والكفارة كالمسلم الذي يقتل خطأ في المجتمع الإسلامي والظاهر أن الفرق بينهما من جهة أن المقيم بين المعاهدين يعتبر منتمياً إلى المجتمع الإسلامي لأنه مقيم في مجتمع معترف بهم سياسياً من قبل المسلمين والمقيم بين المحاربين هو عدو لا يعتبر منتمي إلى المجتمع الإسلامي فلا يتمتع بحقوق المواطنة السياسية لكن لا يخفى أن عدم دخول الدولة الإسلامية في الحرب مع من عقد معها المواثيق لا يمنع من أن تتدخل هذه الدولة لإقامة الصلح والتفاهم بين من تحاربه من المسلمين وبينها.

وهنا مسائل:

- المسألة الأولى لا يجوز إقامة العلاقات مع الدول الاستعمارية لأنها توجب سلطنة الكفار على المسلمين وهي منافية لقوله عز وجل: (لن يجعل الله للكافرين على المسلمين سبيلا) ولقاعدة العلو المستفادة من مثل قوله (صلى الله عليه وآله): (الإسلام يعلو ولا يعلى عليه) وقال تبارك وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم) والذين يغضب الله عليهم هم الذين يظلمون الناس ويصادرون أموالهم ويغتصبون حقوقهم وينشرون الفساد في الأرض على تفصيل لسنا بصدده الآن.

- المسألة الثانية: يجوز تكوين العلاقات مع الدول المحايدة وعقد الاتفاقات التجارية والاقتصادية والسياسية ونحوها معها على أن تكون في إطار الاستقلال واحترام الآخر.

- المسألة الثالثة: يجب على المسلم الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام فيما لا يستطيع هناك من إقامة شعائر دينه. قال تبارك وتعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا) وعن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (إني بريء من كل مسلم نزل مع مشرك في دار الحرب). وعنه (صلى الله عليه وآله): (لا ينزل دار الحرب إلا فاسق برئت منه الذمة).

وحيث أن المناط المستنبط في ذلك هو الإسلام يعلو لذكرهم التمكن من إقامة شعائر الإسلام ذكر الفقهاء فروعاً في المسألة منها ما ذكره السيد الشيرازي (قدس سره) في الفقه كتاب الجهاد قال: هل المعيار في وجوب الهجرة الى بلد الكفر أو القطر الكافر، الظاهر بقرينة الآيات والروايات المتقدمة البلد الكافر فإذا كانت مملكة كافرة فيها بلد مسلم يتمكن المسلم فيه من إقامة شعائر الإسلام لم تجب الهجرة ولو انعكس بأن كان القطر مسلماً لكن البلد كان كافراً لم تجب الهجرة فيها إذا تمكن المسلم من إقامة شعائر الإسلام.

هذا وهناك تفاصيل أخرى نكتفي منها بهذا القدر.

هذه بعض المسائل المرتبطة بالسياسة الخارجية للدولة.

 

- الفصل الخامس

فهو يتعلق بالسياسة العامة والنهج العام للدولة إذ ينبغي أن تقوم سياسة الدولة العامة على مبادئ ثلاثة قد تكون من المعايير المهمة في عدالة الدولة وشرعيتها عرفنا جملة من الشروط في المبحث الثالث من شرائط شرعية الدولة والحاكم وأما هنا فنشير إلى النهج العملي الذي ينبغي أن تقوم عليه سياسة الدولة وأهم المبادئ التي يقوم عليها هذا النهج أمور ثلاثة هي:

1- الشورى.

2- المرونة واللاعنف في التعامل العام للدولة.

3- العدالة.

أما الأول والثاني فقد عرفت تفصيل الكلام فيهما فيما تقدم وأما الثالث فالمستفاد من متضافر الآيات والروايات أن المبدأ الأساس الذي يقوم عليه المجتمع الإسلامي وسياسة الدولة العامة في علاقاتها الداخلية والخارجية ورسالتها العالمية هو أن يقوم الناس بالقسط أي أن يكون مبدأ العدالة هو المبدأ الحاكم والمسيطر على الحياة الخاصة والعامة للبشر في المجتمعات السياسية وبينها خاصة.

قال تبارك وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمن شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) وقال عز وجل: (والسماء رفعها ووضع الميزان أن لا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) وهذا المبدأ يجب أن يكون حاكماً على الإنسان في خاصة نفسه في علاقته بربه وعلاقته بمجتمعه وفي أعماله الشخصية فعلى المسلم في جميع الأحوال أن يكون عادلا كما يجب أن يكون حاكماً على الجماعة في علاقاتها مع الأفراد والجماعات الأخرى كما يجب أن يكون حاكماً على المجتمع السياسي في علاقاته الداخلية بين جماعاته وأفراده وبين الحكومة والشعب وبين الشعب والحكومة، وفي علاقاته ومعاملاته الخارجية مع المجتمعات الأخرى.

وهذا المبدأ الأساس يميز المجتمع السياسي المسلم عن المجتمعات الأخرى القديمة والحديثة فهذه المجتمعات والحضارات منها ما كان يقوم على مبدأ الاستبداد ومنها ما كان يقوم على مبدأ الحرية اللامحدودة ومبدأ الاستبداد كان هو الغالب على المجتمعات السياسية القديمة، ومبدأ الحرية هو الغالب على المجتمعات السياسية الحديثة خصوصاً في الدول الكبرى ولكن التشريع الإسلامي عارض ورفض هذين المبدأين في تكوين المجتمع السياسي والدولة والنظام السياسي، لأن الإسلام دين الوسطية فلا استبداد فيه ولا حرية مطلقة فرفض مبدأ الاستبداد رفضاً مطلقاً لأنه يؤدي إلى الظلم والطغيان والسيطرة على الناس من دون رضى منهم، كما رفض مبدأ الحرية المطلقة باعتباره أساساً يقوم عليه المجتمع السياسي وإن اعترف به باعتباره حقاً للأفراد والجماعات في حدود النظام التشريعي للفرد والجماعة والمجتمع.

ومن هنا ربما يتفرع السؤال يقول هل أن الأصل في السياسة الإسلامية الحرية أم الأصل العدالة؟ وهذا يرجع إلى ملاحظة النسبة المنطقية بينهما وفي تحديد هذه النسبة آراء ثلاثة:

- الأول: يرى نسبة التساوي فالحرية والعدالة متغايران مفهوماً متحدان مصداقاً وهذا ما قامت عليه السياسة الغربية.

- الثاني: يرى العدالة أعم مطلقاً من الحرية فإن ولاية الحاكم على الشعب وولاية الوالد على الولد وما أشبه تكون خلاف الحرية لكنها في نفس الوقت عدل لأنها تحفظ المصالح العامة.

- الرأي الثالث: يرى النسبة العموم من وجه فإن نظام الولايات هو مورد افتراق العدالة عن الحرية، والفساد الذي تسببه الحرية اللامسؤولة هو مورد افتراقها عن العدالة والظاهر أن هذا الرأي هو الأقوى، لكن في التطبيق فإن العدل هو المطلوب لأنه مطلوب لذاته، ولأنه بهذا المعنى يمنح الحرية لأن العدل يحول من الاستبداد والعدوان عليها بخلاف الحرية المطلقة فإنها توجد الظلم أيضاً.

وعليه فإن بين الحرية والعدالة أحياناً يكون عدالة وحرية وأحياناً يكون حرية لا عدالة وأحياناً يكون عدالة لا حرية، والمعيار الذي يستفاد من الأدلة في سياسة الإسلام هو ملاحظة العدالة أولاً، وعلة ذلك ربما يعود إلى أن إقامة المجتمع السياسي على مبدأ الحرية يجعل العدالة في خطر، بل كثيراً ما يلغي العدالة ويؤدي إلى الظلم.

ومن هنا نلاحظ أن الدول التي تلتزم بالحرية المطلقة وقعت في مهاوي الاستعمار والاستثمار والظلم والتعدي على الناس فقد أثبتت جميع تجارب التاريخ أن الحرية لا تضمن العدالة والمجتمعات الحديثة التي اعتمدت مبدأ الحرية أدى بها ذلك إلى شيوع الظلم الاجتماعي والسياسي فيها، كما أدى ذلك إلى الحروب الدائمة التي تسببها الحضارة الغربية الحديثة للمجتمعات الإنسانية بينما نجد أن إقامة المجتمع السياسي على مبدأ العدالة يصون الحرية ويحميها من العدوان فالعدالة تصلح ضماناً للحرية بينما الحرية لا تصلح ضماناً للعدالة، ومن الواضح أن إقامة المجتمع المسلم على مبدأ العدالة يلقي على هذا المجتمع وعلى نظامه السياسي وعلى حكومته مهمة تطبيق هذه العدالة وصيانتها من الانتهاك والتعدي من قبل الاعتداءات الداخلية والخارجية وهذه المهمة ليست مهمة وعظية ونظرية وإنما هي مهمة عملية لا يمكن القيام بها على وجهها الصحيح من دون امتلاك وسائل تنفيذها على من يتعدى عليها أو يهم بالتعدي.

ولذا فيجب أن يمتلك المجتمع المسلم وسائل وأداة تنفيذ العدالة وحمايتها من الانتهاك والتعدي وهذا ما أومأت إليه الآيات المختلفة الدالة على لزوم الاستعداد بالقوة والآيات الدالة على لزوم الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مضافاً إلى أدلة الحسبة وما أشبه ذلك، على تفصيل لا يسعنا المجال لبيانه هنا.

هذه مجمل المسائل المتعلقة بسياسات الدولة الإسلامية وبه ننهي الحديث عن المبحث الخامس والأخير.

بقي الكلام في الخاتمة وهي تتضمن أموراً:

- الأمر الأول: يجب على المسلمين مقاومة الحكومات الجائرة سواء كانت إسلامية في الشكل أو غير إسلامية فإن الظلم بذاته قبيح عقلاً وحرام شرعاً ويجب ردعه مهما أمكن فإن كل حكومة لا تعمل بأحكام الله سبحانه فهي جائرة، وإذا كانت الحكومة حرة وتحترم آراء الشعب وما يعبر عنها بالديمقراطية لكنها لا تعمل بأحكام الله سبحانه، فهي موضوعاً تعد ظالمة ويجب العمل لأجل تطبيق أحكام الله سبحانه وتعالى، ومن هنا فإن المقاومة للحكومات الجائرة تنقسم إلى قسمين: مقاومة إيجابية وأخرى سلبية، أما الإيجابية فهي أن يدخل المقاوم في الحكم لأجل الإحسان إلى المسلمين والحد من نشاط الجائرين ورفع الجور عن المظلوم مهما أمكن، وهذا لا يجوز إلا لبعض القادرين على إنجاز هذه المهمة. ولكن بإذن الإمام المعصوم (عليه السلام) في زمن الحضور وبإذن الفقيه الجامع للشرائط في زمن الغيبة، وهذا ما جرت عليه سيرة الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) كما دخل يوسف (عليه السلام) وعمران والد موسى (عليه السلام) ومؤمن آل فرعون في أحكام الجائرين كما دخل أيضاً الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) والحسنان وسلمان وأبو ذر وعمار في أحكام الثلاثة في الجملة.

كما دخل علي بن يقطين في وزارة هارون وكذلك داوود الزربي وكان من ثقاة موسى بن جعفر (عليه السلام) ومحمد بن إسماعيل بن بزيع دخل في الوزارة وكان من ثقاة الكاظم والرضا وكان عبد الله بن سنان خازناً للمنصور والمهدي والهادي وهارون العباسي وكان ثقة من أصحاب الصادق، وكان عبد الله النجاشي والياً على الأهواز من قبل المنصور وهو ثقة كتب إليه الإمام الصادق رسالة معروفة وهي مستند في جملة من الأحكام، وكان علي بن عيسى ومحمد بن علي ولده أميرين بقم من قبل السلطان وهما ثقتان من ثقاة الهادي (عليه السلام) إلى غير ذلك من الموارد، كما دخل الإمام الرضا (عليه السلام) حكم المأمون.

ويرى السيد الشيرازي (قدس سره) في كتابه الحكم في الإسلام في ص242 أن دخوله (عليه السلام) لم يكن خوفاً من القتل فإن القتل لهم عادة بل كان لأجل هدم حكم المأمون وإظهار اغتصابه وبيان جهله وعدم استحقاقه للخلافة ولذا شرط على المأمون أن لا يأمر ولا ينهى ولا يفتي ولا يقضي ولا يولي أحداً ولا يعزل ولا يغير شيئا مما هو قائم مما كان معناه انه (عليه السلام) لا يرتبط بالحكم فالإمام جمع بين تعززه أولاً على الدخول لئلا يقال أنه حريص وليملي عليه هذه الشروط، وبين دخوله ثانية ليهدم الحكم من داخله كما فعل مثل ذلك الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فإنه تعزز أولاً عن قبول الإمارة لئلا يتهم بالحرص على الحكم وليظهر أنه إنما كان يطلب الحكم في زمن الثلاثة لأجل إقامة الحق لا حرصاً.

والشواهد في ذلك كثيرة ومتضافرة.

هذا وقد جمع العلامة الطوسي (رضوان الله عليه) الأوقاف والعلماء والكتب حول نفسه باسم التنجيم في زمن التتار فحفظ بذلك الأوقاف عن النهب والعلماء عن القتل والكتب عن الحرق، كما يجد المتتبع تفصيل ذلك في التواريخ، والتهجم على الطوسي وعلماء زمن الصفوية بأنهم كانوا من علماء البلاد اتهام مغرض وباطل يصدر عادة من وعاظ السلاطين والتابعين للسياسات المستبدة هؤلاء الذين يمدحون مثل خالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي بأن الأول اشترك في حروب الردة والثاني أنقذ المسلمين من الصليبيين، وكلا الأمر باعثه الجهل أو التجاهل على ما تثبته حقائق التاريخ فقد عرفت سابقاً أن حروب الردة لم تكن حروباً للردة في الواقع وإنما كانت اعتراضية على خلافة الأول، وأما صلاح الدين فهو السبب لبقاء الصليبين في فلسطين، وإليه يعود الكثير من التأخر في بلاد المسلمين اليوم فإنه أولاً سبب تفتيت الدولة الإسلامية حيث فصل سوريا عن مصر مما ضعف الدولة أمام الصليبيين وثانياً بدلاً من أن يحارب الصليبيين حارب المسلمين في حرب طائفية بشعة فقتل مئات الألوف من المسلمين الشيعة وشرّد علماؤهم وأحرق مكتباتهم ومن الواضح أن مثل هذه الحرب الطائفية الأهلية كما تضعف الدولة من مقاومة الصليبيين تسبب الهزيمة أيضاً. وثالثا لما حضرته الوفاة قسم البلاد بين أبناءه وكأنها إرث وذلك بدوره أضعف الدولة ضعفاً متزايداً ولذا بقي الصليبيون في بلاد الإسلام يعيثون كل فساد إلى عشرات السنوات من بعده على ما تذكره التواريخ الصحيحة.

وكيف كان فإنه لو شخص الفقيه الجامع للشرائط صحة المقاومة الإيجابية وجب ذلك بإذنه ولو كانت الظروف تتطلب المقاومة السلبية فتجب أيضاً بإذنه لما تحكم به الأدلة الأربعة من وجوب مقاومة الظلم وردع العدوان وهو ما قامت عليه السيرة العقلائية والمتشرعية بل وسيرة المعصومين (عليهم السلام) والتواريخ المدونة متضافرة بمقاومة أمير المؤمنين (عليه السلام) والصديقة الطاهرة (عليها السلام) والحسنين لغاصبي الخلافة وهو شيء معروف ومشهور، كما أن من الواضح مقاومة الحسين (عليه السلام) ليزيد ومقاومة سائر الأئمة الطاهرين لملوك بني أمية وبني العباس، كما قاومهم من أولاد الأئمة (عليهم السلام) وأولياءهم المختار والتوابون وزيد بن علي ويحيى بن زيد والحسين صاحب فخ ويحيى بن عبد الله ومحمد بن إبراهيم وغيرهم ممن يجدهم المتتبع في التواريخ، ولا يخفى أن الأنبياء والأئمة ومن حذى حذوهم قد نجحوا نجاحاً باهراً في تحطيم عروش الظالمين وإقامة العدل وتأسيس الحكومات الصالحة والحكومات التي كانت أقل منهم في أدنى التقادير وبعض العدل الذي نراه في جملة من بلاد العالم اليوم إنما هو ثورة كفاح أولئك الصفوة الطيبة.

نعم للمقاومة السلبية طرق وأساليب متعددة فيجب على القائمين بها دراسة الظروف والإمكانات والأهداف والوسائل لوضع الطرق الصحيحة للعمل والمنطبقة مع موازين الإسلام الذي يؤمن باللاعنف والسلام مهما أمكن لأن الغاية لا تبرر الوسيلة كما أن المقاومة ينبغي أن تهدف الإصلاح، ولذا يجب أن تراعي ما يحقق الهدف وإلا كان نقضاً للغرض وهو باطل عقلاً وشرعاً، وربما تبدأ مراتب المقاومة بالنصيحة للحاكم عسى أن يعود عن غيه، وثانياً بعدم التعاون مع الحاكم الجائر، وثالثاً عدم الانصياع لأوامره ورابعاً القيام عليه بالإضرابات والمظاهرات والمؤتمرات والإعلام فإذا لم يمكن كل ذلك يمكن القيام عليه بالسيف بإذن الفقيه الجامع للشرائط.

ويتفرع على ذلك مسائل:

- الأولى: حرمة اعتراف المسلم أو الدولة الإسلامية بدولة أخرى غير إسلامية سواء كانت غير إسلامية من جهة كفرها أو من جهة عدم عملها بقوانين الإسلام وذلك لحرمة تأييد الظالم كما عرفت.

- الثانية: يجب على المسلمين دولاً وأفراداً السعي لاسترداد الأراضي الإسلامية التي أخذها الكفار من أراضي المسلمين كالهند وبلاد المسلمين في الصين وروسيا وأوروبا وإسبانيا وغيرها وكذلك فلسطين وغيرها إذ الغصب بطول المدة لا يصبح يد الغاصب عليها شرعية كما أن من الواجب شرعاً إيصال مظالم الكفار على المسلمين في داخل بلاد الكفر إلى سمع العالم حتى يكون ذلك مقدمة لإنقاذهم فإن إنقاذ المسلم المضطهد واجب بالأدلة الأربعة.

- المسألة الثالثة: يحرم على المسلمين ربط البلاد بالاستعمار العسكري كما يحرم عليهم ربطها بالاستعمار الفكري والاقتصادي والسياسي وغيرها.. ويجب على كل مسلم أن يجاهد لإنقاذ البلاد من الاستعمار بأشكاله المختلفة فإن كل إضرار بالمسلمين محرم، وكل سبب من أسباب علو الكافر على المسلم حرام وإذا ربطت الكافر بنوع من أنواع الاستعمار يجب على كل مسلم العمل لاستعادة الحقوق المغصوبة إلى المسلمين وليس الواجب على أهل ذلك القطر المستعمر فقط بل وواجب على كل مسلم لأن الجهاد واجب على عموم المسلمين وقد ورد في قوله عز وجل ما يشير إلى ذلك: (أشداء على الكفار رحماء بينهم) وفي الحديث: (من نادى يا للمسلمين فلم يجيبوه فليسوا بمسلمين) ولا يخص الإنقاذ بأهل لغته ونحو ذلك فإن المسلم أخو المسلم من غير فرق بين الألوان والأقطار واللغات والقوميات.

- المسألة الرابعة: لا يجوز للمسلم قتل الثوار المسلمين المطالبين بحقوقهم إذا ثاروا على دولة يعيشون فيها وهي غير إسلامية كما إذا ادعت العراق بالقومية العربية فثار الأكراد يطالبون بالحقوق المشروعة لهم من تساويهم بسائر إخوانهم فيما جعل الإسلام المسلمين فيه متساوين، فإنه لا يجوز للمواطن العراقي العربي أن يقتل المواطن الكردي بل اللازم إعطائهم الحقوق المشروعة ولا اضطرار في قتلهم إذ لا تقية للدماء وقد نقل الشيخ المرتضى الأنصاري (رضوان الله عليه) في المكاسب الإجماع على ذلك وهو ما اختاره السيد الشيرازي (رضوان الله عليه) في الحكم في الإسلام.

نعم إذا كانت دولة إسلامية شرعية وثارت فئة يطالبون بشيء غير مشروع كانوا داخلين موضوعاً في البغاة الذين يقاتلون حتى تفيء إلى أمر الله على الموازين المذكورة في كتاب الجهاد، ومما ذكرنا يظهر أنه لا يجوز هجوم مسلمي دولة إلى مسلمي دولة أخرى إلا إذا كان الهجوم تحت شرائط الإسلام ولأجل سبيل الله أو إنقاذ المستضعفين.

الأمر الثاني: كثر الكلام فيما تقدم من مباحث حول العناوين الأولية والثانوية، وهذا ما قد يستدعي بيانها بعض الشيء فنقول:

العنوان المأخوذ في الموضوع قد يكون عنواناً ثابتاً له مع قطع النظر عن العوارض والطوارئ التي يتغير الأحكام بها، فيسمى حينئذٍ عنواناً أولياً وأخرى يكون من العوارض والطوارئ التي قد يلحقها ويتغير بها حكمه فيسمّى عنواناً ثانوياً، فمثلاً لحم الميتة حرام ذاتاً بما أنها ميتة ولكن عروض عنوان الاضطرار إلى أكلها بسبب الجوع الشديد المشرف على الموت أو معالجة المرض المتوقّف علاجه عليه يوجب تخيير حكم حرمة الميتة مؤقتاً ثم بعد زوال الاضطرار يرجع إلى ما كان عليه بحسب الحكم الأولي، وكذا الكلام بالنسبة إلى حرمة الكذب وإباحته أحياناً بما فيه من إصلاح ذات البين فالكذب عنوان ثابت أولي للحرمة لا يتغير من هذه الناحية ولكن عنوان إصلاح ذات البين أمر عارضي مؤقت يوجب إباحته فعلاً وتبقى الإباحة بحيث بقاء المصلحة. وهكذا في سائر الأحكام.

هذا والظاهر أن العناوين الطارئة لا تنحصر بالضرورة والاضطرار بل لها حالات أخرى ولعل المشهور منها ما يلي:

1- عنوان الضرورة والاضطرار، وهو ما ورد في مثل قوله عز وجل: (وما لكم أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) وفي رواية أبي بصير عن الصادق (عليه السلام): (وليس شيء مما حرم الله إلا وقد أحله لمن اضطر إليه) وفي رواية سماعة مثلها أيضاً وظاهرها عام يشمل جميع الأحكام.

2- عنوان الضرر والضرار وهو أيضاً وارد في الكتاب العزيز في موارد خاصة كالرضا والنفقة ونحوها إلا أنه ورد بنحو عام في حديث لا ضرر المعروف بين الفريقين والذي هو العمدة في عموم الحكم وقد فصلنا الحديث عنه في بحث مستقل تبعاً لجمع من الفقهاء.

3- عنوان العسر والحرج وقد ورد أيضاً في كتاب الله عز وجل في مثل قوله: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) ويدل عليه الروايات الكثيرة المستفيضة التي لعلها تبلغ حد التواتر.

4- عنوان التقية بما لها من الأقسام: التقية في حالة الخوف أو التقية التحبيبية أو التقية المقابلة للإشاعة وإذاعة الأسرار بناء على كونها قسماً ثالثاً كما مال إليه البعض. وعلى كل حال يدل على أصل هذا العنوان الأدلة الأربعة أيضاً على تفصيل لا يسعنا المجال لبيانها، لكن هذا العنوان قد يوجب تحليل الحرام أو تحريم الحلال بعنوان حكم مؤقت عارضي.

5- مقدمة الواجب أو الحرام بناء على ما ربما يقال بوجوب مقدمة الواجب وحرمة مقدمة الحرام وهذا العنوان هو الدليل الوحيد أو الدليل العمدة على بعض المسائل المشهورة في الفقه مثل وجوب المكاسب والحرف التي يتوقف عليها حفظ النظام، فإن حفظ النظام واجب قطعاً ويمكن الاستدلال عليه بالأدلة الأربعة أيضاً بل العلة في تشريع كثير من الأحكام لا سيما مثل الحدود والتعزيرات هو هذا.

وقد عرفت فيما تقدم أن جملة من أحكام الدولة الإسلامية تقوم على مقدمة الواجب أيضاً.

6- قاعدة الأهم والمهم عند التزاحم، ويدل عليها العقل والشرع بل يمكن إقامة الأدلة الأربعة عليها كما لا يخفى على الخبير ومما لا بد من التأكيد التام عليه هو أن معرفة المصالح والمفاسد والأهم من غير الأهم لابد أن يكون بحسب مذاق الشرع وما عرفنا من لسان أدلته من اهتمام الشارع المقدس ببعض الأمور أكثر من بعض، لا بحسب مذاقنا وما يبدو في أذهاننا من استحسانات ولذا فإن معرفة مصاديق هذه القاعدة إنما هو إلى الفقيه العالم بلسان الشرع لا أنه موكول إلى كل أحد من المسلمين.

هذا وهناك عناوين أخرى يمكن أن ينطبق عليها العنوان الثانوي نكتفي نحن بهذا القدر الذي بيناه.

هذا وينبغي الالتفات إلى أمرين في العمل بالأدلة الثانوية:

- الأول: تقدمها على العناوين الأولية مؤقت ومنحصر بالحالة الطارئة التي تسمى بالضرورة فإذا زالت الحال رجع الحكم إلى مقتضاه الأولي بحسب الدليل الأولي.

- الثاني: بعض العناوين الثانوية موكول العمل بها إلى المكلف نفسه لكن فيما نحن فيه وهو تشخيص المصالح والمفاسد في الدولة والحكومة فإنه لا يجوز الرجوع فيه إلى الشخص نفسه وإنما يرجع فيها إلى الفقهاء جامعي الشرائط وكذا الخبراء لتشخيص موضوعات الأحكام الثانوية خصوصاً تلك التي ترتبط بإدارة الدولة والمجتمع والمصالح العامة كما ينبغي مراعاة الدقة والحذر في تطبيق الأحكام الثانوية إذ يجب الاحتياط في كشف مصاديقها والأخذ بما هو مقتضى الحزم لأن الأمر هنا صعب مستصعب وقد خفي على بعض من لا خبرة له بالفقه حتى جعل من أحكام الله سبحانه وتعالى تابعاً للميول خصوصاً في الدول المستبدة التي ليس لها رقابة حرة.

هذا ولا يخفى أن النسبة بين العناوين الأولية والعناوين الثانوية هو قد تكون بالحكومة كما في أدلة لا ضرر والاضطرار وقد تكون مقدمة عليها من جهة الرجحان في الملاك عند تزاحم الواجبين أو المحرمين كما في عنوان الأهم والمهم، وربما يكون التقديم من قبيل تقديم ما فيه الاقتضاء على ما ليس فيه الاقتضاء كوجوب الأمر المباح إذا كان مقدمة للواجب، وكحرمته إذا كان مقدمة للحرام، بناءً على حرمة مقدمة الحرام فإن وجوب المقدمة عقلية لا معنى لجريان الحكومة فيه وإنما تقدم على أدلة المباحات لأنها ليس فيها اقتضاء وملاك للوجوب أو الحرمة لكنه حينما صار مقدمة للواجب أو مقدمة للحرام كان فيها اقتضاء بذلك كما ربما لا يخفى على الخبير.

وعليه فإن الأصل الأصيل هو تقدم الأدلة الثانوية على الأولية عند التعارض أو التزاحم ولا توجد هناك جهة واحدة للتقدم بل ينبغي ملاحظة كل دليل بحسبه.

هذا آخر ما أردنا إيراده في بحث الفقه الدولة بما يناسب مع المرحلة الدراسية الثانية في الجامعة. ونرجئ التفاصيل الأخرى إلى الكتب المفصلة في هذا المجال والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين..