المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 58.doc

- المسألة الثالثة: يجب على الدولة السعي للتنمية الاقتصادية فكراً وعملاً لأنه من مصاديق علو الإسلام والمسلمين، ونفي السبيل عنهم كما أنه من مصاديق القوة التي أمرنا بالاستعداد والتهيئة لإيجادها في المجتمع المسلم فضلاً عما يترتب عليه من امتثال للأحكام الواجبة من قبيل وجوب حفظ النفوس والإنفاق على العيال، وتحقيق الكرامة والاحترام بين الناس وتتمكن الدولة من تحقيق ذلك إذا هيئت الفرص الكافية للشباب والطاقات المفكرة من دراسة الفكر الاقتصادي والحث عليه في المدارس والجامعات ومراكز الدراسات وإيجاد التطلعات نحو بناء نظام المجتمع والدولة على الاقتصاد الحر من جهة، ووضعت خططاً عملية مدروسة للمضي في اتجاه التنمية والاكتفاء الذاتي في المجالات الزراعية والصناعية والتجارية وغيرها، ويجب في مثلها الرجوع إلى أهل الخبرة كما هو الشأن في كل موضوع مستنبط أو خفي وهذا بحث طويل لا يسعنا بيانه هنا.

لكن يمكن لمن أراد التفاصيل أن يرجع إلى الكتب المفصلة في هذا المجال من قبيل الفقه الاقتصاد والفقه طريق النجاة للمرحوم السيد الشيرازي (قدس سره) والاقتصاد الإسلامي للمرحوم السيد حسن الشيرازي (رضوان الله عليه) وكتاب اقتصادنا وكذلك البنك اللاربوي للمرحوم السيد الصدر (رضوان الله عليه) وغيرها..

هذا فضلاً عن كتب الفقه المعهودة التي ألف فيها فقهاء الإسلام أبواباً متعددة مستنبطة من الأدلة الأربعة من أمثال كتاب التجارة والإجارة والرهن والمبارزة والمزارعة والمساقاة والقرض والهبة والصلح والعارية والشركة والضمان والحوالة والوكالة والكفالة وغير ذلك مما يرتبط بإدارة العقود الاجتماعية التي تقوض الاقتصاد في البلد.

وعليه فإن البحث في تفاصيل الاقتصاد مما يستدعي دورة دراسية كاملة لكننا يمكن الاشارة إلى بعض المبادئ الأولية التي لها أهميتها في التنمية وعليه فإنه يجب على الدولة أن تسعى للتنمية الاقتصادية وتتوقف التنمية الاقتصادية على أمور:

- الأول: عمارة الأرض وإحياؤها فإن الإنسان مأمور من قبل الباري عز وجل بعمارة الأرض وإصلاحها وإحيائها من دون أن يمنعه مانع حيث قال عز وجل: (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) والاستعمار هنا بالمعنى اللغوي أي العمارة وعن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث أنه قال: (أن معايش الخلق خمسة: الإمارة والعمارة والتجارة والإجارة والصدقات.. إلى أن قال وأما وجه العمارة فقوله تعالى: (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) فأعلمنا سبحانه أنه قد أمرهم بالعمارة ليكون ذلك سبباً لمعايشهم بما يخرج من الأرض).

- الثاني: العمل حيث دعا الإسلام إلى الكد والكدح والعمل دعوة أكيدة وحثّ عليها بل وأبغض الكسل والتكاسل كما في متظافر الأخبار فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ملعون من ألقى كله على الناس) وقد عرفت سابقاً أن اللعنة ظاهرة في الحرمة، وفي الحديث الشريف المروي عن الإمام الباقر (عليه السلام): (إني لأجدني أمقت الرجل يتعذّر عليه المكاسب فيستلقي على قفاه ويقول اللهم ارزقني ويدعو ان ينتشر في الأرض ويلتمس من فضل الله والذرة - أي النمل - تخرج من حجرها تلتمس الرزق) وفي حديث عن الصادق (عليه السلام): (لا تكسلوا في طلب معايشكم فإن آباءنا قد كانوا يركضون فيها ويطلبونها).

هذا وقد حث الإسلام على التجارة بشكل كبير، وفي الأخبار أن ثلثي الربح في التجارة وقد ندب إلى العمل والسعي والاشتغال لكل ما يفيد ذلك، فعن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): (العبادة سبعون جزء أفضلها طلب الحلال) وعنه (صلى الله عليه وآله): (اتجروا بارك الله لكم) وروي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما أقبل من غزوة تبوك استقبله سعد الأنصاري فصافحه النبي (صلى الله عليه وآله) ثم قال له: (ما هذا الذي أكبت يديك - أي أخشنها -؟ قال: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أضرب المر والمسحاة فأنفقه على عيالي. فقبل يده رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال: (هذه يد لا تمسها النار) كما رواها في أسد الغابة في الجزء الثاني ص269.

ومن لطائف ما يجده المتتبع في الآيات والروايات في هذا المجال هو محبوبية الغنى شرعاً في الدنيا، وجعله طريقاً إلى الدين في الآخرة، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (نعم العون على تقوى الله الغنى) وعن مولانا الصادق (عليه السلام): (نعم العون الدنيا على الآخرة) وهذا ما قامت عليه سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) فقد كان مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) يخرج في الهاجرة أي وقت الظهر في الحاجة قد كفيها يريد أن يراه الله يتعب نفسه في طلب الحلال، وعن مولانا الصادق (عليه السلام): (كان أمير المؤمنين يحتطب ويستقي ويكنس وكانت فاطمة تطحن وتعجن وتخبز) وعنه (عليه السلام): (الكاد على عياله من حلال كالمجاهد في سبيل الله) وعنه أيضاً: (إصلاح المال من الإيمان) وعن الفضل بن أبي قرة قال: دخلنا على أبي عبد الله الصادق وهو يعمل في حائط له فقلنا جعلنا الله فداك دعنا نعمل لك أو تعمله الغلمان أي لا تتعب نفسك ودع الآخرين يعملون، فقال (عليه السلام): (لا دعوني فإني أشتهي أن يراني الله عز وجل أعمل بيدي وأطلب الحلال في أذى نفسي).

وعن الحسن بن علي بن أبي حمزة عن أبيه قال: رأيت أبا الحسن الكاظم (عليه السلام) يعمل في أرض له وقد استنقعت قدماه في العرق فقلت له: جعلت فداك أين الرجال؟ أي يساعدونك ويقومون مقامك في العمل؟ فقال (عليه السلام): يا علي عمل باليد من هو خير مني ومن أبي في أرضه، فقلت من هو؟ فقال: رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) وآبائي (عليهم السلام) كلهم قد عملوا بأيديهم وهو من عمل النبيين المرسلين والصالحين كما أورد الرواية الشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) في من لا يحضره الفقيه في ج3 ص98.

هذا وقد ورد في الأخبار ما يدل على استحباب الزراعة أيضاً ولعلها لأنها تتكفل أهم حاجات الإنسان في الطعام ولا تتوقف على رأس المال الكثير كما أنها تعد أهم خطوة في اتجاهات التنمية والاكتفاء الذاتي لعدم قدرة الدول القوية التلاعب في اقتصادها من ناحية السوق أو من ناحية النقد، كما أنها تعين الدولة على التحرر من الضغوطات السياسية التي تمارسها الدول أيضاً القوية، وعليه فإن الزراعة تعد من أهم وسائل التنمية والاكتفاء الذاتي والملحوظ في تشريعات الإسلام أن الباري عز وجل قد خلق الأرض للإنسان وجعل ما فيها له أيضاً كما في آيات شريفة، وفي نفس الوقت أباح إحياء الأرض وحيازة المباحات فيها، وندب إلى الزراعة، فعن مولانا الصادق (عليه السلام): (ازرعوا واغرسوا فلا والله ما عمل الناس عملاً أحل ولا أطيب منه)، وعنه (عليه السلام): (الزارعون كنوز الأنام يزرعون طيباً أخرجه الله عز وجل وهم يوم القيامة أحسن الناس مقاماً وأقربهم منزلة يدعون المباركين).

ولعلّ أجمع ما ورد حول تشجيع الزراعة والصناعة والعناية بالاقتصاد بنحو عام ما في كتاب مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده المعروف للأشتر النخعي حينما ولاه مصر، إذ ورد فيه قوله (عليه السلام): (وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير العمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلاً فإن شكوا ثقلاً أو علةً أو انقطاع شربٍ أو بالة أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك).

ثم يقول (عليه السلام): (ثم استوصي بالتجار وذوي الصناعات وأوصي بهم خيراً المقيم منهم والمضطرب بباله، والمترفق ببدنه فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق وجلابهم من المنافع والمطارح في برك وبحرك وسهلك وجبلك، وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكماً في البياعات وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة فامنع من الاحتكار فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) منع منه وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدلٍ وأسعارٍ لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكل به وعاقبه من غير إسراف) إلى غير ذلك من الروايات والأدلة الوافرة الدالة في مجموعها على محبوبية العمل واحترام العامل في أي مجال من مجالات الاقتصاد الاجتماعي.

- الثالث: التنافس، وفضلاً عن الفوائد الكبيرة التي يحققها مبدأ التنافس في العمل فإنه مندوب شرعاً والمتنافس مثاب في تنافسه كما هو المستفاد من مثل قوله سبحانه: (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) وقوله سبحانه: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) بعد تعميم الدلالة للماديات أي بند وحدة الملاك.

هذا مضافاً إلى الإجماع في المسألة بل هو ما قامت عليه سيرة العقلاء غير المردوعة بل المعترضة بسيرة المتشرعة فضلاً عن سيرة المعصومين (عليهم السلام) والظاهر أن استحباب التنافس في بعض مراتبه ووجوبه في المراتب الأخرى قد يعد من الضرورات التي قياساتها معها بما يغنينا عن مزيد البيان فيها.

ومن الواضح أن التنافس يوجب تفتح المواهب ويحرّك القابليات التي من شأنها تقديم الاقتصاد وازدهار الحياة ولذلك فإن الإسلام أيضاً فتح المجالات أمام المتنافسين لأجل التنافس فهو يقرّ كل ملكية حاصلة عن سبب مشروع كائناً من كان صاحبها، ثم شرع قانون من سبق وأعطى الملكية أو الحق أو الأولوية على حسب الخلاف بين الفقهاء في المستفاد من أدلة من سبق، التي مفادها من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو أحق به، فإن مثل هذه الأدلة تدلّ على أن الإنسان المسلم إذا سبق إلى المشتركات العامة والمباحات الأصلية كالأراضي الموات والمعادن والفلزات والغابات والصيد ونحوها فإن أسبقيته لحيازة هذه الموارد أو لإحيائها وإعمارها تعطيه الحق في التصرف فيها بمقدار ما حازه أو أحياه أو عمّره ولا يجوز لغيره حينئذ التصرف فيه إلا بإذنه ورضاه على تفصيل ذكره الفقهاء في كتاب إحياء الموات من الفقه.

- الرابع: الحرية، وقد عرفت ما يكفي عن ذلك في المباحث المتقدمة فلا نعيد.

- الخامس: العدالة الاجتماعية، ومن الواضح أنها من الأصول الأساسية التي تعد مطلوبة أولاً وبالذات في سياسة كل دولة وهي الهدف الأسمى والمطلب الأعلى في الاقتصاد الإسلامي وهو أصل حاكم على كل برامجه ومقرراته وتعاليمه كما أنها نقطة جوهرية يختلف فيها الإسلام مع سائر الأنظمة الاقتصادية الأخرى في العالم، فإن الرأسمالية المعقودة تمركز الثروة عند طبقة خاصة وتكدّسها عند جماعة معدودة وأضرارها كبيرة جداً، ولذا تعد مرفوضة في الإسلام بل محرمة لأنها تتنافى مع أصالة العدالة التي يسعى الإسلام إلى إقامتها في المجتمع.

وبذلك يظهر مفاسد الاقتصادات الأخرى سواء كانت تنتمي إلى الرأسمالية بشكل أو بآخر أو تنتمي إلى الاشتراكية، وعليه فإنه يجب على الحاكم الإسلامي أن يخطط للاقتصاد تخطيطاً يضمن تداول الثروة بين جميع أبناء الأمة بصورة عادلة ويحول دون تداولها بين الأغنياء خاصة كما يدل على ذلك القرآن الكريم حيث قال عز وجل: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) هذا مضافاً إلى لزوم رعاية حرية الأعمال والاكتساب والتجارات والصناعات وما أشبه.

ولتحقيق هذه العدالة الاجتماعية المتوخاة يرفض الإسلام أي تميز واستثناء بين أفراد الأمة الإسلامية ومن هنا لا تختص المنابع الطبيعية التي أباحها الله سبحانه للناس وشجعهم على العمل والكدح والتسابق إليها، في مثل الأنفال والأرض مثلاً هذه جميعاً لا تختص بفئة دون فئة أو فرد دون فرد أو طبقة دون أخرى بل بالدولة الإسلامية المحكومة بشورى الفقهاء أو الفقيه الجامع للشرائط حق النظارة وأولوية الاستفادة منها وصرف عائداتها في مصالح الشعب بلا تمييز ولا استثناء أو لأفراد الشعب القيام بأنفسهم باستثمار تلك المنابع بحسب الضوابط الشرعية والموازين الخاصة التي فصلها الفقهاء في باب إحياء الموات والأراضي وما أشبه، لكن ينبغي أن يكون التشخيص في مثل هذه الصورة بمعنى اختيار الدولة لإباحة هذه التصرفات للأفراد أو إقدام الدولة على التصرف هي بنفسها ثم بعد ذلك تنطلق الفوائد على المجتمع. ينبغي أن يرجع فيه إلى أهل الخبرة لتشخيص المصلحة الأهم من المهم.

- السادس: الوسطية والاعتدال في الإنفاق والصرف وما أشبه، فإن من الواضح أن تحقيق العدالة الاقتصادية لا يتم إلا إذا اجتنبت الدولة والمجتمع عن الإسراف والتبذير لأنهما يوجبان إهدار الطاقات وتضييع حقوق الآخرين، ولذا نهى الباري عز وجل عن التبذير بقوله عز وجل: (ولا تبذر تبذيراً إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) كما نهى عن الإسراف في مثل قوله عز وجل: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين).

إلى غير ذلك من الأدلة المتضافرة إذ من الواضح أن الإسراف والتبذير يمنعان من تطبيق العدالة.

- السابع: المعنوية، بمعنى أن الإسلام يعتبر العامل الأخلاقي خير وسيلة لتحرير الإنسان من الشهوة وطغيانها أولاً ثم تحقيق العدالة الاجتماعية التي ينشدها ثانياً.

وتعزى أكثر الانحرافات الاقتصادية في العالم مضافاً إلى الاختلاف الفكري والبنى الاعتقادية تعزى إلى انعدام الأخلاق الفاضلة والسجايا الإنسانية ومن الواضح أن كلا النهجين الرأسمالي والاشتراكي يجتهدان لتحقيق أهداف ثلاثة في الاقتصاد عادة ولا شيء وراءها، لكن في مجموع هذه الأهداف الثلاثة نجد الخواء والفراغ والبؤس والشقاء:

الأمر الأول: كثرة الإنتاج.

الأمر الثاني: وسائل الإنتاج.

الأمر الثالث: التوزيع للإنتاج.

وأفضل نظام اقتصادي في نظر أصحاب هذين النظامين هو الذي يقدر على ضمان هذه الأمور الثلاثة، وإعطاء الخطط الكاملة في هذا المجال، وأما لو سأل السائل ما هو الهدف الأصلي من تحقيق هذه الأهداف الثلاثة؟ فالظاهر أنه لا يجد جواباً كافياً عن هذا الجواب في هذه الأنظمة، ويمكن أن يقال أن الإجابة على هذا السؤال ليست من اختصاص النظام الاقتصادي، بل هو من مسؤولية العالم الفلسفي وشؤونه، بيد أننا عندما نراجع العالم المادي الذي يستند إليه هذان النظامان لا نجد جواباً واقعياً يسد الثغرات، من هنا لابد وأن نعترف أن هذه الأهداف الثلاثة هي مثلث الضياع والعبث والحيرة، فإن الذي يلاحظ هذه الأهداف الثلاثة يجد الحاصل هكذا:

زيادة الإنتاج تتوقف على مزيد العمل إذا لابد من العمل أولاً، فإذا سألنا العمل.. لأجل ماذا؟ لأجل الأكل ثم الأكل... لماذا؟ لأجل البقاء ثم البقاء لماذا؟ لأجل الأكل أيضاً، ويمكن القول أيضاً بأن مزيد العمل لأجل مزيد الإنتاج ومزيد الإنتاج لأجل البقاء الأفضل والبقاء الأفضل لأجل المزيد من الأكل أو الأكل الأفضل.

ونلاحظ أن هذه حلقات تدور على نفسها بما ينفي مبرر وجود تلك الأنظمة لبطلانها عقلاً فضلاً عن قصورها عن إسعاد الإنسان، وعليه فهي لا تحتوي سوى العبث واللاهدفية والضياع، لأن الذين يلخصون الحياة في الهدف المادي لا يصلون إلى شاطئ الأمن والسلام والسعادة وهذه أهداف معنوية وليست مادية، والذي يحققها هو إنسانية الاقتصاد وأخرويته وضميره الحر المحسن، ولذا نلاحظ أن الإسلام يعالج هذه المسائل معالجة منطقية واقعية، فهو من جهة يعتبر الدنيا مقدمة للآخرة ومزرعة له. ومن جهة على الإنسان أن لا يقصر اهتمامه في هذه الحياة العابرة لأنه مسافر فيها وعليه أن يسعى للآخرة، ولكن حيث أنه الدنيا أيضاً مخلوقة لأجل العمارة ولأجل الإحياء ورفاه الإنسان وتنعمه لكون هذه جميعاً وسائل توصل إلى سعادة الآخرة فإن على الإنسان أن يسعى لنيل نصيبه من الدنيا أيضاً.

وهذا ما ربما أشارت إليه الآية الشريفة في قوله عز وجل: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغي الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) وقد أشارت الآية إلى أمور ثلاثة يتوقف عليه حسن الاقتصاد والتنمية المادية المقترنة بالمعنوية حيث بين التسلسل الرتبي بين طلب الدنيا وطلب الآخرة في أمور ثلاثة:

- الأول: وجوب السعي والعمل طلباً للسعادة ولكن حيث أن السعادة دنيوية وأخروية ذكرت التسلسل الرتبي بينهما، إذ بين الباري عز وجل بقوله (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة) أن طلب الدنيا يجب أن يكون لأجل الآخرة فتكون الآخرة هي المقصد والغاية، وأما الدنيا فطريق، ولكن حيث أمكن أن يتوهم متوهم بأن الإسلام يدعو إلى الاعتزال وترك الدنيا والانشغال بالمعنويات فقط استدركته الآية بقوله عز وجل: (ولا تنس نصيبك من الدنيا) ولا يخفى على المتأمل لطافة التعبير ودقته بقوله عز وجل: (ولا تنس نصيبك من الدنيا) وحيث أن الذين يطلبون الآخرة ولشدة اهتمامهم بها ولعلوّ همتهم وسموّ نفوسهم ينسون الدنيا قال عز وجل: (لا تنس) مع أن النسيان عادة حالة غير اختيارية فلا يقع محلاً للتأكيد إلا أنه بالنسبة لأهل الآخرة حالة اختيارية لأن المراد منه هو عدم الالتفات إلى الدنيا باختيارهم، فيمكنهم الالتفات لأخذ نصيبهم منها بعد توجههم إلى الآخرة.

كما أن قوله عز وجل (نصيبك) يشير إلى أن الدنيا والتنعم بها حق للإنسان في بدنه وروحه وعقله فما في الدنيا من خيرات ونعم للإنسان فيها نصيب ومن هنا يتفرع وجوب المطالبة بهذا الحق لو ضيّع كما يجب عليه الحفاظ عليه لو امتلكه، ومن دقة التعبير هنا أن الآية تخاطب الإنسان بغض النظر عن دينه ومعتقده فتدلّ على أن جميع البشر بما هم بشر بغض النظر عن انتماءاتهم وعناصرهم لهم حقوق في الدنيا لا يجوز مصادرتها أو الاعتداء عليها.

- الثاني: وجوب الإحسان جزاء لإحسان الباري عز وجل حيث قال عز وجل: (وأحسن كما أحسن الله إليك) فإن من الواضح أن الباري عز وجل خلق الإنسان وأوجده وأعطاه النعم ابتداءً تفضلاً منه وبلا استحقاق من الإنسان كما أنه عز وجل لم يطالبه بالمقابل لأنه غني وغير محتاج، لكن أمره بالتخلق بأخلاقه سبحانه والإحسان إلى الغير وبلا مقابل، كما أحسن الله إليه هذا من جهة الغير، كما أمره بالإحسان إلى نفسه أيضاً وذلك بأداء ما افترض الله عليه من حقوق والقيام بما ندبه إليه من واجبات اجتماعية، وإطلاق الإحسان يشمل الاثنين معاً.

- الثالث: تجنب الفساد في الأرض كما في قوله عز وجل: (ولا تبغي الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) ومن الواضح أن الذي ينال نصيباً من الدنيا لأن القوة والمال يغرران بالإنسان كما قال عز وجل: (إن الله ليطغى إن رآه استغنى) ولذا يقوم بإفساد نفسه وإفساد الآخرين، ومن هنا عليه أن لا يبغي الفساد في الأرض ومن أوليات ذلك هو ترشيد الإنفاق فلا يجوز للإنسان أن ينفق في الباطل أو يصرف أو يبذر كما لا يجوز له أن يعبث أو يصرف مال الله في لهوٍ أو فساد، بل عليه أن يصرفه في جوانب الخير ومجالات الإحسان.

- التاسع: الاكتفاء الذاتي، فإن البلد النامي والمتطور هو الذي يعمل كل حاجاته بنفسه سواء الحاجات الأولية كالمأكل والمشرب والملبس أو الثانوية كالصنائع ونحوها، وذلك لأن الاعتماد على الغير يوجب مفاسد كبيرة تنتهي بالبلد إلى التراجع والسقوط منها بقاء الأيادي العاملة عاطلة ومنها اضطرار البلد ببيع النفائس كالنفط وغيره بثمن بخس لأجل شراء المواد المستوردة لتغطية احتياجاتها وبأسعار باهظة، وقد ورد في بعض التقارير أن سعر برميل النفط الواحد بحسب التكلفة الواقعية هو مائتا دولار بينما البلاد المصدرة للنفط وخصوصاً البلاد الإسلامية لا تبيع كل برميل حتى بأربعين دولاراً كما أن بعض البضائع التي تستوردها البلاد الإسلامية من منتوجات النفط مصنّعة في الغرب أيضاً.

ويغالي الغرب في قيمتها إلى أربعين ضعف أحياناً كما ذكره المرحوم السيد الشيرازي (رضوان الله عليه) في كتابه الفقه الاقتصاد الجزء الثاني ص131.

ومنها أنه يوجب الهيمنة الأجنبية على المسلمين لأن الاحتياج طبيعة الاستعمار فإذا شاء الاستعمار الضغط على البلاد بقطع التجارة أو عدم إرسال قطع الغيار أو المواد الغذائية أو ما أشبه لأجل تحصيل امتيازات سياسية أو اقتصادية أو عسكرية تمكّن من ذلك فيخضع الدولة قهراً إلى هيمنته والى سياسته. ومن هنا قال مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام):احتج إلى من شئت تكن أسيره.

ومنها التخلف لأن تقدم البلد يتوقف على العلم والدين والأخلاق، ومن الواضح أن العلم إنما يتقدم بالتجربة، إذ في التجارب علم مستأنف والتجربة إنما تكون بالعمل فتتشكل عندنا معادلة تقول أن العمل يوسّع التجربة والتجربة توسّع العلم، والعلم يقود إلى التطور، ومن الواضح أن جميعها تتوقف على الحرية كما أن استيراد البضائع يرافقه عادةً استيراد الدين والأخلاق والعادات الأجنبية لصيرورة الأقوى والأفضل أسوة للأضعف كما أثبت التلازم بينها علم الاجتماع، ومنها هدر الطاقات فإن الطاقات الطبيعية دورية على ما يقوله علماء الطبيعة، وكل طاقة في موسمها تغاير الطاقة في الموسم الثاني فإذا أهدرت في الموسم الأول تكون قد هدرت، ولا تعود ثانية فمثلاً البلد الذي أرضه تنتج القمح في كل عام بكل احتياجات الأهالي مثلاً في الزراعة فإذا لم يزرع الأهالي أرضهم ذهبت تلك الطاقة هدراً لأن الطاقة لا تبقى وإنما لكل عامل طاقة نفسه على تفصيل ذكروه في مورده.

ومنها إدخال الأجانب أموالهم لاستثمارها في البلد المحتاج إليهم ومن المعلوم أن رأس المال الأجنبي يعود بأبشع الأضرار على البلاد وعلى المجتمع إلى غير ذلك من المفاسد المترتبة على استيراد البضائع الأجنبية، وكل ذلك من أشد المحرمات الشرعية على ما عرفته مما تقدم.

وفي هذا المبحث تفاصيل عديدة لا يسعنا المجال لبيانها.

- العاشر: التقشف وذلك لتوفق إنقاذ البلد في البعد الإيجابي عليه وذلك يتحقق بأمرين عادةً:

­- الأول: اتباع سياسة التقشف وتقوم على جانبين سلبي وإيجابي؛ أما السلبي فلمقاطعة استيراد البضائع الأجنبية مهما احتاجت إليها البلد وأما البعد الإيجابي فاتباع البساطة في المعيشة والاكتفاء بالمنتوجات الداخلية ولو كانت أردأ كيفاً.

- الثاني: تشغيل الأيدي العاطلة واستخراج موارد البلاد والانتفاع بها والاهتمام لارتفاع مستوى العلم والصناعة حتى تصبح البلاد صناعية وتكون الكفاءة ذاتية، ومن الواضح أن كل هذا واجب لتوقّف الواجب عليه فإنما يتوقف عليه الواجب واجب.

- المسألة الرابعة: يجب على الدولة أن تبني سياستها على المبادئ الشرعية العامة فيما يتعلق بالمال والاقتصاد والتجارة في بعديها الخاص والعام، وهي كثيرة ففي بعد الاقتصاد الفردي عليها أن تقوم بما يلي:

1- حماية الملكية الخاصة الحاصلة من الطرق المشروعة كالتجارة والبيع والزراعة ونحوها.

2- حرية العمل والسوق وحرية الإنتاج وحرية التعاطي.

3- وجوب الوفاء بالعقود واحترام الالتزامات المعاملية.

4- احترام العامل بإعطائه أجرته لأصالة مقابلة العمل بالأجر فلو اتفق العامل وصاحب العمل على أجرٍ معين عمل بمقتضى الاتفاق، ولو لم يتفقا يؤخذ بأجرة المثل ولا يجوز تأخير أجرة العامل أو عدم إعطاءه إلا برضاه.

هذا وقد وضعت الشريعة قيوداً وضوابط على الأنشطة المالية الاقتصادية من تجارة وصناعة وزراعة وخدمات وغيرها.. بعضها بحسب العناوين الأولية وبعضها بحسب العناوين الثانوية كالضرر والأهم والمهم وما أشبه ذلك، وقد حددت الشريعة طائفة من الممنوعات التي لا يجوز التعامل بها منها:

1- تحريم بعض الأعمال أو الأنشطة التي قام الدليل على حرمتها.

2- ومنها تحريم تداول بعض المواد والسلع على تفصيل ذكره الفقهاء في باب المكاسب المحرمة من الفقه ولا يسعنا المجال لبيانها هنا.

3- تحريم الربا في كل أنحاءه وفي أي معاملة كان.

4- تحريم الاحتكار.

هذا بعض ما يتعلق بالملكية الخاصة، والأنشطة التابعة لها، وأما الملكية العامة وما يعبّر عنها بالمنافع المشتركة كالأراضي الموات والمياه والمراعي والغابات والمعادن والبحار وغيرها، فهي بيد السلطة الشرعية المشخّصة بالنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) أو الإمام (عليه السلام) بزمان الحضور، أو الراجعة لشورى الفقهاء أو الفقيه الجامع للشرائط في زمن الغيبة، وفي مثلها يمكن للحاكم الشرعي أن يقنن كيفية الاستفادة والاستثمار من المنافع المشتركة بما يبسط العدل بين الناس بحسب قانون العدل، كما يمكن أن يبيح إلى عموم الناس الاستفادة منها بالمعروف على تفصيل ذكره الفقهاء في باب إحياء الموات ولا يسعنا المجال لبيانه هنا.

والملحوظ أن الموقف العام للشريعة الإسلامية يتقوّى بالمشتركات العامة بمبدأ حرية الاقتصاد في حدود القيود المذكورة ولا يجوز للحكومة التدخل في شؤون الناس للاستفادة من هذه الموارد إلا بالحد الأدنى لحماية الحدود المذكورة.

هذا من ناحية المبدأ وبالعنوان الأولي، وأما في الحالات الطارئة وبالعنوان الثانوي كما في حالات الكوارث أو الحروب أو شحة المياه وما أشبه فللأمة سلطات واسعة لحماية نفسها بواسطة الدولة الشرعية وغيرها من مؤسسات المجتمع الإسلامي التي عرفت بعضها فلها أن تتخذ الإجراءات أمام الكوارث الاقتصادية والاجتماعية على حسب الموازين التي قررناها سابقاً، هذا ويظهر من السيرة فيما يتعلق بالسياسة الاقتصادية في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) أنه يتفق مع هذه المبادئ التي تقوم على حرية الاقتصاد والتملك والإنتاج والاستهلاك ولكن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) لم يترك النشاط الاقتصادي من دون مراقبة وضبط ويظهر من الحديث والسيرة تدخل الإدارة الاجتماعية في المجال الاقتصادي في أمرين:

الأول: مراقبة السوق.

الثاني: منع الاحتكار.

وذلك من الواضحات بداهة أن للحاكم الإشراف على تطبيق القوانين الإسلامية، من باب النهي عن المنكر والأمر بالمعروف والدعوة إلى الخير ومنع الظلم والحيف وما أشبه ذلك من عناوين توجب على الدولة الإشراف لكن ينبغي أن نميز بين المراقبة والإشراف وبين تدخل الدولة والتسلّط على كل الأمور وإحكام قبضتها عليها، فإنما أباحه الشارع وأجازه بل وفي بعض الموارد أوجبه هو المراقبة والإشراف لمنع الحيف ورفع المنكر لو وقع، وليس الاستبداد والتسلط والإمساك بكل الأمور للحؤول دون حريات الناس وتسلطهم على أموالهم وأنفسهم.

ويبدو من بعض النصوص أن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) كان يشرف بنفسه في بعض الحالات وكذا مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) كما عرفته مما تقدم، وقد روي أن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) مرّ على جرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال يا صاحب الطعام ما هذا أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس ثم قال: من غش فليس منا.

وروى أرباب السير أن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) جعل بعض الصحابة على أسواق المدينة وجعل بعضهم على سوق مكة أيضاً وفي بعض الروايات أن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) ولّى امرأة شيئاً من السوق، كما ذكروه بالنسبة إلى الشفاء أم سليمان ابن أبي حكمة والظاهر أنه (صلى الله عليه وآله) كان يعهد إلى بعض النساء أن يتولين مراقبة النساء البائعات ومسلكهن في السوق الذي عادة ما يختلط فيه النساء بالرجال. وقد يحصل نتيجة لذلك بعض ما يخالف الشرع والآداب العامة مما توجب على الحاكم الشرعي أن يرفع المنكر ويحول دون الفساد والمستفهم من هذه النصوص أن السوق كانت تخضع لإشراف الحكومة، لكن الهدف منها هو التزام الناس والمجتمع والسوق بحدود الشرع في التعامل، وردع المخالفين عن التعدي وتأديبهم فيما إذا أرادوا الفساد أو وقعوا فيه، وليس مهمة الدولة هو التدخل في شؤون الناس.

ولعل هذا ما يتطابق مع مفهوم الحسبة الذي تعرضنا إليه سابقاً، هذا ويظهر من الأخبار المتظافرة الواردة عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين في المنع من الاحتكار وذمّ والنهي عنه ولعن المحتكرين أن ظاهرة الاحتكار كانت شائعة حتى قبل الإسلام وأنها تكررت في عهد النبي مرات عدة ويترتب في الأخبار اسم بعض التجار للحنطة الذين كانوا يحتكرونها من قبيل حكيم بن خزام.

وقد ورد ذلك في روايات عدة منها ما قاله الإمام أمير المؤمنين في عهده إلى الأشتر: (فامنع من الاحتكار فإن رسول الله منع منه وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكل به وعاقبه من غير إسراف) والمستفاد منه جواز اتخاذ الدولة بعض العقوبات للمحتكرين، لكن بلا إفراط أو تفريط، وهل يجوز للدولة أن تضع تسعيرة للأسواق تلزم البائعين بها هذا ما نتعرض إليه في البحث القادم إنشاء الله.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين..