المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 46.doc

الأمر الثالث: معرفة ضوابط تطبيق الأحكام الأولية والثانوية على موضوعاتها بداهة أن الأحكام تتبع العناوين ولا تخلو واقعة من الوقائع من حكم إلهي واقعي أو تعبّدي لكن بين العناوين المأخوذة من لسان الأدلة هناك ترتب طولي فلا يجوز تطبيق العنوان الثانوي في صورة تمامية الموضوع للعنوان الأولي ومنجزية الحكم فيه مع عدم المانع من تطبيقه، كما لا يجوز تطبيق العنوان الأولي في صورة منجزية الحكم الثانوي ووجود المانع من الأولي فإن لكل واحد من الحكمين موضوعه ومورده والتقدم الرتبي بينهما يمنع مِن تطبيق أحدهما في موضع الآخر، والنسبة بينهما في مواقع الاجتماع هي الحكومة لتقدم العناوين الثانوية على العناوين الأولية في صورة التعارض، وذلك لأنها ضرورات وهي استثناءات تقدر بقدرها فلا مجال لتقديم العنوان الأولي على الثانوي في صورة التعارض لاستلزامه لغوية الثانوي بخلافه في صورة تقديمه كما قرر في الأصول.

وعليه فإنه يجب على الحاكم أن يكون مطّلعاً على كيفية تطبيق الأحكام على عناوينها الأولية والثانوية وإلا سقط عن الأهلية وذلك لأن التطبيق المعكوس للأحكام ينشأ عادةً من احتمالات ثلاث:

- أحدها: الجهل.

- ثانيها: العمد.

- ثالثها: الاشتباه.

والفرق بينها أن الأول يختص بالجهل البسيط والثاني بالعلم مع تعمد التطبيق الخاطئ والثالث يختص بالجهل المركب، فإن كان التطبيق الخاطئ ناشئاً من الاحتمال الأول يسقط الحاكم عن الأهلية لما عرفت من شرطية العلم والخبرة وإن كان من الثاني يسقط أيضاً للفسق من جهة إقدامه على التشريع المحرم بالأدلة الأربعة وقد عرفت شرطية العدالة فيه، وإن كان من الثالث فإنه لا يسقط عن الأهلية إلا بعد الإلفات والتعليم ومشاورة أهل الخبرة وإصراره على الخطأ بعد ذلك لدخوله موضوعاً في القسم الثاني حينئذٍ.

وبذلك يظهر أن التقسيم الثلاثي للأحكام الشامل للاثنين المتقدمين مضافاً إلى الحكم الولائي الناشئ من سلطة الحاكم وولايته غير تام إذا أريد من الثالث أنه حكم مستقل عن الحكمين الأولين، ولبيان ذلك نقول:

إن الفقهاء من متأخر المتأخرين والمعاصرين قسموا الأحكام الشرعية إلى ثلاثة أقسام هي:

- 1- أحكام أولية.

- 2- أحكام ثانوية.

- 3- أحكام ولائية.

وقالوا أن الحاكم غير مقيد بالأخذ بالأحكام الأولية والثانوية بل له حكم مستقل ينشأ من ولايته وسلطنته وهذا الحكم في عرض الأحكام الأولية والثانوية لكونه يتكوّن من المزج بين الأحكام التشريعية والإجرائية والفرق بينها أن الأحكام الأولية مثل وجوب الصلاة والزكاة والجهاد والثانوية مثل نفي الضرر والحرج والأهم والمهم ولزوم حفظ النظام ونحوها، فإنها أحكام كلية إلهية وقوانين عامة شرعية تنطبق على موضوعاتها في ظروفها الخاصة، ولذا هي بيد الفقهاء جامعي الشرائط بخلاف الحكم الولائي فهو حكم جزئي من ناحية الحاكم ويقع أمره بيده أيضاً يحصل من تطبيق القوانين الكلية على مصاديقها الجزئية ولا يختلف الحال فيه بين المعصوم وغير المعصوم مثلاً ما حصل في فتوى المجدد الشيرازي (رضوان الله عليه) في تحريم استعمال التنباك لإلغاء اتفاقية الحكومة الإيرانية مع بريطانيا، وعده للاستعمال في عداد محاربة الإمام صاحب العصر والزمان (عج) لم ينشأ هذا التحريم من الحكم الشرعي الأولي أو الثانوي لأن الأولي منه هو الحلية المستفادة من أصالة الحل لعدم قيام الدليل على الحرمة، والثانوي منه غير محرز بداهة أنه ينحصر في مثل الضرر والحرج ونحوها وهي تختص بالشؤون الشخصية الخاصة ولا تجري في الأمور العامة على ما ذهب إليه البعض، وإنما كان هذا الحكم ولائيا ناشئا من ولايته العامة (قدس سره) ومقام نيابته عن الإمام المعصوم (عليه السلام) في رعاية شؤون المسلمين وحفظهم من الأخطار الخارجية.

ومثل هذا مستفاد من مسألة سمرة بن جندب حينما رفض الاستئذان في دخوله بستان الرجل الأنصاري بحجة وجود نخلته فيها، كما رفض المقايضة بنخل آخر في موضع آخر يعطيه له رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكذا رفض استبدالها بما عرضه عليه النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) من إعطاءه نخلاً في الجنة قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) للأنصاري حينما وجد أن سمرة يعاند في قبول المصالحة ورفع الخصومة قال للأنصاري: اذهب واقلعها وارمي بها إليه فإنه رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام. حيث قالوا أن هذا الحكم لم يكن ناشئاً عن تشريع في نفي الضرر وإنما هو حكم ولائي ناشئ من سلطنه النبي ولزوم حل الخصومات الواقعة بين المسلمين على الحاكم.

وهكذا والثمرة الفقهية المترتبة على ذلك كثيرة منها أن الحكم الولائي خاص وجزئي ولا يجب فيه الاقتداء والتأسّي وإن وجب الطاعة له في حينه لكونه يرجع إلى كل مسألة مسألة وظروفها وملابساتها، كما أنه شأن الحاكم لا غير، بخلاف الحكمين الأولي والثانوي وحيث أن المقام لا يسمح لنا للدخول في تفصيل ذلك نوكله إلى محله من الأصول ونكتفي بالحاصل الذي ذهب إليه الأعلام ممن صنفوا الأحكام إلى ثلاثة، هذا ولكن الظاهر أن التقسيم المذكور لا يرجع إلى حاصل بداهة إمكان رجوع الحكم الولائي إلى أحد الحكمين الأولين لأن كل حكم ولائي لا بد وأن يرجع إلى عنوان كلي ينطبق عليه والمثالان المذكوران رجع الأول منهما إلى حكم كلي وهو أن كل شيء يوجب تضعيف المسلمين وكسر شوكتهم ويسبب هيمنة الأعداء عليهم يعد حكماً من المحاربة لمولانا صاحب العصر الزمان (عج) واستعمال التنباك في تلك الظروف كان بنظر الفقيه الجامع للشرائط من مصاديق ذلك فيحكم بهذا الحكم الولائي باتاً.

فإذا ارتفعت العلة الموجبة له يحكم بجوازه وذلك ليس لمقام الولاية والسلطة بل لتبدل موضوع الحكم كما وقع كلاهما للسيد الأكبر الميرزا الشيرازي (قدس سره)، وكذا الكلام فيما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقطع النخلة فإنه (صلى الله عليه وآله) أمر بقطعها لكونه صغرى دليل لا ضرر الذي علل القلع بها الظاهر في أنه عنوان كلي وانطبق المورد عليه وكذا الكلام في حكم الفقيه برؤية الهلال ولزوم الصيام أو الإفطار فإنه ينشأ من الأخذ بالشهادة وتطبيق أدلة حجيتها على مصداق خاص.

وهكذا إعلام يوم الموقف بعرفات ويوم العيد الأضحى لنظم مناسك الحج الذي يوجب موافقة القوم أحيانا مع اختلاف النظر في إثبات الهلال فإنه إما يدخل من باب الأهم والمهم أو دفع المفاسد أو اختلال النظام أو التقية وما أشبه، ومثله حكم الفقيه الولائي بلزوم إعداد القوة وأخذ الاستعداد وأخذ مقداراً من الأموال زيادة عن الحقوق الشرعية في برهة من الزمن لغرض الدفاع أو مجاهدة الأعداء أو تطوير البلد فإن الحكم الكلي في جميع هذه المقامات معلوم وهو قوله تعالى: (واعدوا لهم ما استطعتم من قوة) أو وجوب مقدمة الواجب أو لا ضرر أو الأهم والمهم وما أشبه ذلك من أدلة وعناوين يطبقها الفقيه على مواردها حينما يرى تحقق الموضوع في الخارج ويحرض الناس عليه بمقتضى وظيفته وتكليفه.

والشواهد الفقهية لما ذكرنا منتشرة في أبواب الفقه المختلفة فمن القسم الولائي ما يدخل فيه نصب أمراء الجيوش والقضاة والموظفين في دائرة الحكومة فإنها أحكام إنشائية في مواردها وتحصل من تعيين الحاكم لمن توفرت فيه الصفات المعتبرة في هذه المناصب وأحياناً يطبق الفقيه الأحكام الخاصة المتفرعة عن كبرياتها الكلية من الأحكام الأولية كالأمر بجباية الزكاة والأخماس ووضعها في مواضعها وإعداد القوى لحرب الأعداء وتعيين زمان الحرب والصلح إلى غير ذلك من الموارد.

وتارة ثالثة يطبق أحكاما خاصة حاصلة من تطبيق كبريات الأحكام الثانوية على مواردها كإيجاب العمل بما يقتضي النظام في أمر عبور السيارات في الشوارع داخل البلاد وخارجها فإنها وإن كانت تتنافى مع سلطنة الناس على أنفسهم لكن مقدمة الواجب الناشئة من لزوم حفظ النفوس والدماء وأمن السبل وما أشبه ذلك تجيز للفقيه أن يطبق عليهم النظام وان خالف السلطنة فيه ما دامت المصلحة الأخرى أهم، وكتحريم بعض التجارات مع الأجانب أو إيجاد بعض الزراعات في برهة من الزمن لكسر شوكة المعاندين أو الاكتفاء الذاتي أو لمنع تدخل الأعداء في سوق المسلمين وحفظا على نظام أرزاق الناس والقيام بدفع غلاء الاسعار وقحط الأرزاق مما يكون تركه مضرة للناس لا سيما الفقراء ونحوهم. وقسم منها يكون لدفع ظلم الظالمين واعتداء بعض الناس على بعض كالأمر بفتح مخازن المحتكرين في زمان المخمسة ونحوه وبيع ما فيها على الناس وتعيين الأسعار فيما يحتاج إليه المجتمع عند وقوع الإجحاف من قبل التجار وذوي الصناعات والحرف في التسعير وما أشبه ذلك.

وقد ورد الإشارة إلى كثير من هذه الأقسام في عهد مولانا أمير المؤمنين الذي كتبه إلى مالك الأشتر حين ولاه مصر، كما له نظائر من بعض الجهات في العهود التي عهدها رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى بعض أمراءه حينما أرسلهم إلى بعض البلاد، ولكن كل هذه الأحكام تدور في فلك الأحكام الكلية الإلهية التي وردت في الكتاب والسنة من الأحكام الكلية والثانوية، ولا يخرج التطبيق عن أحد هذين الحكمين فليس للوالي حكم خاص في عرض الأحكام الإلهية يسمى بالحكم الولائي، بل له أحكام إجرائية في طولها ولعل مراد من صنف الأحكام إلى أولية وثانوية وأضافت ثالثاً هو الأحكام الولائية أراد ذلك منه لكنه ميز الحكم الولائي بالذكر لأهميته أو للقيد التوضيحي لا الاحترازي إذ ليس للحاكم حتى الفقيه التشريع وجعل الأحكام الكلية مما لم يرد في الشرع منه دليل لكونه اجتهادا في مقابل النص بل وليس للرسول والإمام المعصومين (عليهم السلام) ذلك بل كل ما يقولونه هو من وحي الله وإذنه كما قال سبحانه: (وما ينطق عن الهوى ان هو إلا وحي يوحى) وقال تبارك وتعالى: (ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين) فدلت الأدلة على أن الله سبحانه وتعالى قد أكمل دينه ولم يبق شيء إلا وقد أنزل الله فيه حكماً حتى ارش الخدش.

كما لا توجد واقعة ليس فيها حكم إلهي وفي الروايات الشريفة: (ما من شيء يقربكم إلى الجنة ويبعدكم عن النار إلا وقد أمرتكم به وما من شيء يقربكم إلى النار ويبعدكم عن الجنة إلا وقد نهيتكم عنه) كما في الاحاديث المتضافرة.

ومما ذكرناه يظهر لكم عدم الفرق الجوهري بين الحكم الولائي والأحكام التشريعية الأولية والثانوية إذ الأحكام الولائية في الغالب ترجع إلى الأحكام الثانوية لكون المسائل الراجعة إلى الأحكام الولائية ترجع في الواقع إلى تشخيص الموضوع لما عرفت من أنها تقع في طريق إجراء الأحكام الكلية الإلهية بخلاف الأحكام الكلية فوظيفة الفقيه بما انه مفتي ومجتهد استنباط هذا القسم من الأحكام من الكتاب والسنة وفروعها من الأدلة، ولكن بما أنه وال وحاكم فمهمته تفريع الكليات وتطبيق الكليات على مواردها، وهذا ليس بحكم جديد غير الحكمين الأولين.

وعليه فإن الأحكام الولائية إنما تقع في طول الأحكام الشرعية الأولية والثانوية لا في عرضها لكونها في رتبة الموضوع بينما تلك في رتبة الحكم ومن الواضح أن تشخيص الموضوع ليس بحكم شرعي حتى يصنف الحكم الجامع للأصناف الثلاثة وإنما الحاكم يشخّص الموضوع بحكم سلطانه وولايته بحسب موازين الشورى والرجوع إلى أهل الخبرة وما أشبه ذلك ثم ينظر إلى الأحكام الكلية الإلهية ويرى أن هذا الموضوع أي من الأحكام ينطبق عليه، وفي الجميع ينبغي أن يكون الحاكم عالماً وعارفاً بكيفية تطبيق الأحكام في مواردها فلا يخرج عن ضوابطها وقوانينها فيطبق الحكم الأولي في موقع الثانوي وبالعكس لأنه بذلك يخرج عن الأهلية.

وبذلك يظهر أيضاً رجوع القرارات الإدارية التي تصدرها الدولة وأحكامها بتفاصيلها إلى الحكمين الأولين أيضاً وليست هي حكماً رابعاً غير الولائي يقع في عرض الحكم الأولي أو الثانوي كما قد يظهر من كلمات البعض، فإن كل ذلك يدخل تحت الكبريات الكلية في العناوين الأولية أو الثانوية، وعليه فإنه كما أن مثل صنع الخمر وبيعه محرمان في أصل الشريعة فإذا أصدرت السلطة الإدارية في الدولة تعميماً إدارياً يمنع من صنع الخمر وبيعها واتخذت إجراءات وتدبيرات في سبيل تنفيذ ذلك فإنه يدخل تحت العناوين الأولية من باب تطبيق النص الدال على الحرمة الشامل هذا النص حتى لمثل بيعها أو يدخل في باب تعليم الجاهل أو في باب النهي عن المنكر وما أشبه.

فكذلك إذا ألزمت مؤسسات الدولة وإداراتها مزارعي العنب بأن يجفوا منه مقداراً معيناً مثلاً، أو ألزمتهم بأن يصدروا أو لا يصدروا العنب إلى الخارج فهذان أمر ونهي إداريان لكنهما يدخلان تحت العناوين الأولية من وجوب حفظ النفوس أو التنافس على الخير أو التجارة أو التوسعة على الناس أو نحو ذلك، أو يدخل تحت العناوين الثانوية من الأهم والمهم أو دفع الضرر الناشئ من عدم التجفيف أو ما أشبه ذلك.

هذا في مجال ما يقيد من سلطة الإنسان على نفسه وماله في قرارات الدولة وكذا الكلام بالنسبة إلى قرارات الدولة في شأن الطبيعة فإنه يظهر في الإجراءات التي تتخذها الإدارات بالنسبة إلى الطبيعة ذات الملكية العامة وما يسمى عادة بالمباحات الأصلية من قبيل الأراضي والمياه الجوفية والسطحية والغابات والمناجم والحياة البرية والأنهار والفضاء، كما لو وضعت نظماً وقيوداً لاستعمالها وكيفية الاستعمال أو حدوده أو الانتفاع به فإن كل ذلك لا يخلو من رجوعه إلى أحد الحكمين المذكورين.

وعليه فإنه ربما يتوهم أو يتصوّر من كلمات بعض من الفقهاء من وجود أحكام ولائية وأخرى إدارية فغير تام وإنما الأحكام لا تخلو من صنفين إما أولية وإما ثانوية وهذا ما ينبغي على الحاكم للدولة الإسلامية معرفته حتى يكون مؤهلاً لتولي هذا المقام.

هذا بعض ما يرتبط بشروط الحاكم بشخصيته الحقيقية والحقوقية بنحوها وهناك جملة من الشروط الأخرى ترجع في مجملها إلى واحدة من الشروط المتقدمة ولا يسعنا المجال لبيانها هنا.

 

- المبحث الرابع: وهو في آليات ممارسة السلطة وتفصيل الكلام فيه يتم عبر تمهيد وفصول

أما التمهيد فهو في الأدلة التي ربما تقام على وجوب اتخاذ آليات لممارسة السلطة فإن الظاهر أنه لا توجد نصوص خاصة تعين أسلوباً خاصاً في ممارسة السلطة سوى بعض العموميات أو الإطلاقات أو الأدلة اللبية القائمة على لزوم إقامة النظم وحفظ النظام وتولي الشؤون والمصالح العامة بأدلة الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأهم والمهم ودفع الضرر ونحو ذلك من عناوين أولية أو ثانوية.

وأما تعيين الصغريات وتحديد الطرق والأساليب التي تمارس بها هذه الأحكام فالظاهر أنه موكول إلى العرف والعقلاء أو أهل الخبرة كما هو الشأن في تحديد سائر الموضوعات العامة أو الخاصة وهذا ما يحكم به العقل والشرع، ويمكن الاستدلال لذلك من وجوه:

- الأول: حكم العقل بلابدية اتخاذ الوسائل والأسباب لممارسة السلطة بداهة عدم قدرة الحاكم عقلاً أو عادةً على القيام بمهام السلطة بمفرده، كما أن تركها قبيح وحرام لأنه يؤدي إلى تضييع المسؤولية وإبطال الحقوق والفوضى واختلال النظام فيتعين عليه اتخاذ الآليات لوجود ما لا يتم الواجب إلا به هذا ما يحكم به العقل.

وأما الشرع فهنا يتبع حكم العقل أيضاً إما لجهة قاعدة الملازمة بينما يحكم به العقل ويحكم به الشرع أو لجهة استلزام المحذور العقلي بالتناقض فيما لو أراد الشرع أن يحكم بالمنع مما يحكم به العقل وهو خلاف الحكمة.

هذا وقد عرفت طائفة من الأدلة النقلية والعقلية على ذلكم بما قد يغني عن مزيد البيان.

هذا من ناحية أصل الدليل وعلى فرض الشك لعدم صحة الأدلة المتقدمة أو لعدم تماميتها فإن القاعدة العملية التي ينبغي التمسك بها حينئذ هو أصالة الإباحة في الأشياء الجارية في كل ما لم يرد فيه دليل على المنع أو الإلزام وهي تقضي فيما نحن فيه بجواز اتخاذ ما تراه الأمة أسلوباً ناجحاً في ممارسة السلطة سواء كان ما اختارته هو المصداق الفاضل أو الأفضل أو أحدها.

نعم يخرج من ذلك ما قام الدليل على وجوبه كما لو كان هو الأسلوب أو المصداق المنحصر بداهة حكومة اللابدية العقلية على الأصل المذكور لكون العقل أمارة والاباحة أصل والامارة حاكمة على الأصل على مبنى قول من الأصوليين أو واردة عليه على مبنى آخرين وهو الحق فيما نحن فيه بداهة أن أصالة الحل والإباحة يجري في كل ما لا يعلم أو لم يرد فيه البيان وحكم العقل فيما نحن فيه بيان ومعه لا يبقى موضوع للابيان ولا لعدم العلم.

هذا فيما قام الدليل على الوجوب، وربما يقوم الدليل على الحرمة كاتخاذ الأعداء أو الملحدين أو الأحزاب المحاربة للدين أو الوزراء والمدراء من غير الثقاة أو الطابور الخامس أو ما أشبه ذلك، فأنه لو اتخذت مثل هذه الفئات آلات لممارسة السلطة فإن أدلة الحرمة في مثلها تمنع من الأصل المذكور على ما ربما ستعرفه، وكيف كان فإنه ربما يمكن القول بأن طرق ممارسة السلطة وآلياتها ترجع إلى اختيار الأمة بنحو مباشر والى ممثليها كالحاكم أو المجلس أو أهل الحل والعقد بنحو غير مباشر فما اختارته الأمة بالنحوين يعد مشروعاً والذي ينبغي العمل به شرعاً وعقلاً كما هو مقتضى أدلة العقل والاختيار وعلى فرض الشك فإن اصل الحاكم في كل ما لا دليل عليه هو الإباحة مما يعطي لحكومة حرية اختيار ما تراه مناسبا من آليات ممارسة السلطة.

- الوجه الثاني: وهو ما يستفاد من الأدلة العقلية والنقلية القائمة على ضرورة وجود الدولة والسلطة فإنها تدل بالدلالة الالتزامية أو التضمنية أو بدلالة الاقتضاء ونحوها على وجوب اتخاذ الوسائل والأسباب لممارسة السلطة، حيث أن من اللوازم الضرورية البينة لتكوين الدولة ممارسة جملة من السلطات ذات الصلة الحيوية بشؤون المجتمع العامة كالطرق والمواصلات والاتصالات والصحة والتعليم وشؤون البيئة والمواد الغذائية وتنظيم استهلاك المواد الطبيعية والسلع والمياه وغير ذلك.. ومن الواضح أنه كلما ازداد المجتمع تنوعاً ونفوساً واتساعاً وتمدناً وارتباطاً بغيره من المجتمعات الأخرى ازدادت الحاجة إلى تنظيم حياته وأنشطته والتنسيق بينها، وهذا يستدعي مزيد من الآليات والسلطات ولا يمكن أن تتكون دولة متماسكة قادرة على الاستمرار والتقدم دون أن تنشأ فيها هيئات وقنوات تمارس السلطة في هذا المجال على المواطنين.

ولا شك في أن الدليل على الذي دل على مشروعية تكوين الدولة ونصب الحكومة يدل على مشروعية تكوين هذه الآليات والأجندة كما أن هذا الدليل يدل على شرعية سلطة من يتولى هذه المهام التي تقتضيها ممارستهم لمهمتهم الإدارية في المجتمع دفعاً لمحذور اللغوية والتناقض إذ لا دولة ولا سلطة للحكومة من دون تنظيم المجتمع ولا يمكن أن يوجد تنظيم من دون سلطات تمارسها هيئات أو جماعات أو قنوات أو أشخاص في مجالات متنوعة على المجتمع بنحو عام، فيتعين القول حفظاً لدليل مشروعية إقامة الدولة ونصب الحكومة عن اللغوية أو العبثية أو التناقض عن أدلة الشرعية بأن ممارسة السلطة الإدارية على الإنسان وعلى بيئته الخاصة والعامة كالطبيعة مثلاً في المجتمع مشروعة وأن الأوامر والنواهي والتطبيقات التي تصدرها وتتخذها الهيئات الحاكمة المنصوبة لتولي مهمات الإدارة والتنظيم في المجتمع هذه كلها شرعية في الجملة ويجب طاعتها ويحرم معصيتها أيضاً في الجملة.

- الوجه الثالث: هو حكم العقل بوجوب الأخذ بالمقدمات إذا خيف فوات الواجب بسبب الترك وهو ما يعبر عنه في مصطلح الفقهاء في المقدمات المفوتة ومن الواضح أن العقل بعد حكومته في وجوب إنشاء الإدارة ووجوب ممارسة السلطة لحفظ الأنفس والأعراض والأموال والحقوق ونحوها يحكم بوجوب اتخاذ ما يقع في طريق الواجب أيضاً، كما يدل على تقييد الأصول الأولية القاضية بعدم ولاية أحد على أحد بين الناس والأصول العملية القاضية بالحلم والإباحة في البيئة والطبيعة.

هذا وتفترق المقومات المفوضة عن المقدمة الواجب بوجوه لا يسعنا المجال لبيانها وقد فصلت في علم الأصول هذا ومن المعلوم أن إدراك العقل وحكمه غير قابل للتقييد والتخصيص لما ثبت في محله أن القاعدة العقلية لا تقبل التخصيص فلا يمكن رفع اليد عن دليل وجوب المقدمات المفوتة بالنسبة إلى ما نحن فيه بل لا بد من الالتزام بالوجوب فيه كسائر موارد الواجبات الشرعية التي تتوقف على شروط ومقدمات وحيث أن الآليات والوسائل من مقدمات الواجب أيضاً يحرم تفويتها ويجب الالتزام بها.

- الوجه الرابع: هو وجوب حفظ النظام العام في المجتمع فإن من التكاليف الشرعية القطعية هو وجوب حفظ النظام العام كما عرفته غير مرة وحرمة الإخلال به وهو واجب كفائي إذا قام به البعض من المكلفين المؤهلين له من أبناء المجتمع سقط عن الباقي وإن لم يقم به أحد بمقدار الكفاية أثم الجميع كما هو الشأن في رابطة الواجبات الكفائية ومن الواضح أن حفظ النظام يتوقف على إدارة شؤون المجتمع على نحو يجعل حاجاته المادية والمعنوية ميسرة بقدر الإمكان بحيث تنتظم العلاقات والتكافل الاجتماعي ويمتنع العدوان ولو في الجملة ويدفع عن الناس خطر الفوضى وقد درج الفقهاء على ذكر كل ما يتوقف عليه انتظام الحياة العامة في المجتمع بما يتناسب مع محيط كل منهم بحسب عصره وظروفه وصرحوا بوجوب القيام بالأعمال التي يقتضيها حفظ النظام العام في هذا الشأن أو ذاك من شؤون الحياة العامة ولعل الباحث في الكتب الفقهية المفصلة يجد أن الفقهاء تعرضوا في كثير من أبواب الفقه لهذه الأمور، كما أن جانباً كبيراً مما كتب في المصنفات المخصصة لبحث القضاء وإحياء الموات والحدود والتعزيرات قد بحثت في هذه الأمور تفصيلاً أو بالجملة وأكثر هذه الأمور التي يتوقف حفظ النظام عليها لا تتوقف على إذن أحد وذلك لأن الأمر بها تكليف شرعي مباشر موجه إلى المكلفين وإلى أفراد المجتمع المؤهلين وإذا كان بعض هذه الأمور يتوقف القيام به على إذن الفقيه الجامع للشرائط فقد صرح الفقهاء في موارد كثيرة من أبواب الفقه بأنه في حالة فقد الفقيه أو تعذر الوصول إليه أو تعذر تصديه بثبوت الولاية لعدول المؤمنين من ذوي الأهلية بل حتى فساقهم من ذوي الأهلية أيضاً على القيام بهذا العمل أو ذاك مما تقتضيه حاجات وضرورات الحياة في المجتمع وذلك لأن الفوضى والهرج والمرج واختلال النظام من أعظم الملاكات الهامة التي تقوم عليها دين الناس ودنياهم مما لا يمكن التساهل أو التفريط فيها مطلقاً.

هذا والظاهر أنه في الشريعة ما يلزم بأن تبقى هذه الأمور في عهدة الأفراد على نحو التطوع أو حصرها في صنف خاص بل يمكن للمجتمع أن ينظمها ويقسم العمل فيها ويكلف هيئات وأشخاص للقيام بالأعمال اللازمة في المجالات المتنوعة ومراقبة الأنشطة المختلفة مما يعود بشكل أو بآخر من انتظام الحياة العامة في المجتمع من قبيل جلب الأغذية والأدوية والآلات ونظم الأسواق وتوزيع المواد الغذائية ونحوها فيها وتوفير المياه وتيسير سبل التعليم والتربية بشتى مستوياتهما وتزويد المجتمع بالخبرات العلمية اللازمة لحفظه وتقدمه من أطباء ومهندسين وصيادلة وخبراء زراعيين وغيرهم وحرفيين في شتى المجالات والعناية بالنظافة والصحة العامة والدفاع المدني والإسعافات في المدن وغيرها من التجمعات السكانية وغيرها.

وهذه الهيئات من قبيل المجالس البلدية والنقابات ومجالس إدارة المصالح العامة من قبيل الكهرباء والمحروقات والمياه والصحة والتعليم وغير ذلك ومن الواضح أن القيام بهذه الأمور كلها على وجهها الصحيح الذي يحفظ النظام العام يتوقف على القرارات الملزمة وعلى اتخاذ الإجراءات والتدابير التي يتوقف حفظ النظام العام على احترامها والالتزام بها وهذا يقتضي وجوب امتثالها وترتب مسؤوليات على عصيانها ومخالفتها.

فإذاً دليل وجوب حفظ النظام يدل على مشروعية تكوين الإدارة من قبل الحكومة وعلى شرعية ممارسة السلطة الإدارية ووجوب امتثال أوامرها ونواهيها وإجراءاتها من قبل الموظفين إذ ليس النظام الذي يجب حفظه على الجميع مطلقاً ليس إلا المهمة الكبرى التي تقوم بها الدولة عبر هيئاتها وإداراتها كسلطة إذ يمكن استفادة شرعية ممارسة السلطة مما ورد في باب الحسبة التي هي أحد مظاهر ولاية الأمة على نفسها وللفقيه ولاية في بعض مواردها.

وقد استدل الفقهاء على وجوب القيام بالأمور الحسبية بعموميات من الكتاب والسنة والإجماع وبضرورة العقل الحاكم بوجوب حفظ النظام أو حفظ النواميس والأعراض وما أشبه، ومورد الحسبة هو كل معروف علم من الشريعة إرادة وجوده في الخارج شرعاً من غير موجب معين ولا يخفى علينا أن المقصود من المعروف هنا ليس ما يراد به من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن المعروف والمنكر في ذاك الباب المقصود منه الواجبات والمحرمات الشرعية.

وأما المقصود من المعروف فيما نحن فيه هو الأمور التي يتوقف عليها انتظام حياة المجتمع بحيث يعم أثرها إذا وجدت كما يعم ضررها إذا فقدت ولم يتوجه التكليف بها إلى شخص معين أو جماعة معينة وإنما كلف بالقيام بها كل قادر عليها ومؤهل من الأمة ولو فقد القادرون والمؤهلون في ذلك لوجب على الأمة إعدادهم وتأهيلهم من باب الحسبة ومن باب وجوب حفظ النظام أيضاً وعليه فإنه يظهر بأن الحسبة والمؤهلون من الذين يقومون بهذه الشؤون هم أيضاً آلة من آليات ممارسة السلطة والحكم ولهم الولاية في ممارسة هذه الشؤون ولكن هل هذه الولاية في عرض ولاية الفقيه أم في طولها ومتأخرة عنها رتبة.

الفقهاء فيها على ثلاثة أقوال:

- الأول: أنها في طول ولاية الفقيه ولذا يشترط في التصدي لها إذن الفقيه في صورة تعذر تصديه ويسقط هذا الشرط في صورة عدم وجود الفقيه.

- والثاني: أنها ولاية مستقلة في أصل الشرط وتقع في موازاة ولاية الفقيه وفي عرضها وهذا ما ربما يستفاد من كلمات جمع.

- الثالث: التفصيل بين الأمور الشخصية والعامة بحمل الأولى على الطولية والثانية على العرضية بداهة أن موارد الحسبة يمكن تقسيمها إلى قسمين:

- أحدهما: ما يتعلق بقضايا الأشخاص من قبيل القاصرين باليتم والجنون وما أشبه أو الغائب والممتنع.

- ثانيهما: ما يتعلق بقضايا النظام العام في المجتمع والمصالح العامة والشؤون الإدارية للسلطة والحكم تتعلق بهذا القسم.

في القسم الأول عين الشارع للقيام به ولايات مخصوصة هي ولاية الأب والجد وفي طولها ولاية الإمام وفي طولها متفرعة عنها ولاية الفقيه ضمن الشروط التي عرفت بعضها وتأتي في طول ولاية الفقيه عند فقدانه أو تعذره ولاية عدول المؤمنين بل وفساقهم على قولهم.

- القسم الثاني: جعله الشارع من جملة موارد ولاية الأمة على نفسها وهي ثابتة من حيث المبدأ حتى مع وجود المعصوم إلا أنها معلقة لأنه الحاكم السياسي الفعلي وهو الولي.

وأما في عصر الغيبة فهي فعلية بصرف النظر عن وجود الفقيه وعدمه وعليه فولاية عدول المؤمنين المؤهلين ومع فقدهم وعدم كفايتهم الولاية للفساق المؤهلين في هذا القسم من أمور الحسبة وهي من الولايات الأصلية غير المتفرعة عن ولاية أحد على هذا القول وهي كما ذكروه أنها أحد مجالات ولاية الأمة على نفسها في عصر الغيبة وربما سيمر عليك المزيد عن ذلك مع اختيار القول الأفضل من هذه الثلاثة.

وكيف كان فإن إدارة شؤون المجتمع بما يحفظ مصالحه ويجلب إليه المنافع التي يحتاجها ويمنع من حدوث الفوضى فيه من أعظم موارد الحسبة أهمية في نظر الشارع المقدس فتكون مشمولة لأدلتها ويتعين حينئذ اتخاذ الوسائل والأسباب لممارستها هذا من حيث الدليل والأصل ولكن من حيث الاستقراء الخارجي فالظاهر أن هناك عدة آليات قامت عليها أنظمة الحكم في مختلف دول العالم كما أن هناك آليات أخرى انفردت بها الدولة الإسلامية على ما يستفاد من بعض الأدلة مضافاً إلى السيرة في الجملة يمكن جعلها قواعد أساسية للممارسة السلطة والحكم بعد تهذيبها وتطبيقها مع الموازين الشرعية وقواعد الإسلام على ما ستعرفه.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين..