المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 48.doc

قد عرفت مما تقدم أن الحزب موضوع من الموضوعات فلا يخلو من أحد الأحكام التكليفية الخمسة، والظاهر أنه تارة يكون واجباً وأخرى حراماً وثالثة مستحباً ورابعة مكروهاً، كما ربما يكون مباحاً أيضاً إذ ربما يجب العمل الحزبي إذا كان مقدمة وجودية للدولة الإسلامية أو لتطبيق الأحكام الإسلامية أو إقامة الدين أو كان مصداقاً للدعوة إلى الخير أو التعاون على البر والتقوى أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو إرشاد الجاهل وتنبيه الغافل أو كان من مصاديق إعلاء الإسلام والمسلمين أو الدفاع عن الحقوق العامة أو الخاصة.

هذا وقد قامت على كل واحد من العناوين المذكورة الأدلة العقلية والنقلية المعتبرة، وقد عرفت مما تقدم وجوب إقامة الدولة الإسلامية والتصدي لها فلو توقف على ذلك إنشاء الأحزاب أو ممارسة العمل الحزبي لوجب لحكومة العقل بوجوب ما لا يتم الواجب إلا به، وكذا الكلام لو توقف تطبيق الأحكام الإسلامية وإقامة الدين على الأحزاب دفعاً لمحذور اللغوية ونقض الغرض وامتثالاً لمثل قوله سبحانه وتعالى: (وأن أقيموا الدين) وهكذا بالنسبة للأمر بالمعروف والدعوة إلى الخير وإرشاد الجاهل وتنبيه الغافل قال سبحانه وتعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) بداهة أن العمل الحزبي من أجلى مصاديق ذلك لما عرفت من ممارسته لدور الرقابة والإرشاد والتعليم والتربية والانتقاء للأصلح وغير ذلك من ممارسات سياسية وإدارية تمارسها الأحزاب لتقويم السلطة وربطها بالناس والتعاون معهم في سبيل الصالح العام.

هذا فضلاً عن كونه من مصاديق التعاون على البر والتقوى الذين أمرنا بهما في مثل قوله سبحانه: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) هذا مضافاً إلى ما يوجبه الأحزاب من علو الاسلام والمسلمين ورفع هيمنة الكفار عنهم التي هي من الملاكات الواجبة حيث قال سبحانه: (ولن يجعل الله للكافرين على المسلمين سبيلا) بناءً على عمومية السبيل لكلّ ما يوجب العلو والغلبة الشامل للحجة والعقيدة والأحكام والسيطرة، كما هو المستفاد أيضاً من الدليل المعتبر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (الإسلام يعلو ولا يعلى عليه) وحيث أن الآية والرواية في مقام الإنشاء فيدلان على وجوب رفع السبيل عن المسلمين في العقد السلبي ووجوب القيام بكل ما يوجب علو الإسلام وارتفاع المسلمين في العقد الإيجابي.

ويمكن الاستدلال بهما على حرمة جعل السبيل بالتخلي عن أسباب العلو والرفعة أو السكوت عن خطط الأعداء والقبول بسيطرتهم وذلك من جهة الملازمة بين الأحكام تارة كما قد يراه بعضهم أو من جهة أدلة الضد تارة كما قد يراه آخرون أو من جهة القيام بما ينافي الغرض المولوي ثالثا، وكلها ملاكات كافية في إثبات الحرمة.

وكيف كان فإن تضافر الأدلة المتقدمة تدل على وجوب الأحزاب إما من جهة المقدمية أو المصداقية سوى أنه لو كان المصداق المنحصر أو الأفضل مطلقة كان واجباً تعيينياً ولو كان أحد المصاديق أو المصداق الفاضل كان تخييرياً وعلى كلا الحالين فإنه من الواجبات الكفائية وبذلك يظهر وجه الاستحباب فيه، نعم ينبغي أن يكون العمل الحزبي بإذن الفقيه الجامع للشرائط أو تحت إشراف شورى الفقهاء المراجع وإلا سقط عن الشرعية لما عرفته من أدلة الولاية كما ينبغي أن يحظى بأكثرية الأمة أو رضاها فيما لو أراد التصدي لتشكيل الحكومة وتولي الرئاسة.

هذا من حيث الوجوب والاستحباب وأما من حيث الحرمة أو الكراهة في العمل الحزبي فربما يقال في ما إذا كان مقدمة للحرام بناء على رأي قوم أو الجميع لكونه من المسائل المتعلقة بالنواميس الخمسة والملاكات المهمّة المتفق على حرمتها المؤكدة كما لو كان العمل الحزبي مقدمة لمجلس لا يعمل بالموازين الشرعية أو كان مقدمة لتنصيب رئيس لا تنطبق عليه الشروط المتقدمة، أو كان بنفسه من مصاديق المعاونة على الإثم كما لو كان الحزب يؤمن بمبادئ منحرفة عن الإسلام أو تدعو الناس للرذيلة وإشاعة الفاحشة وما أشبه، أو كانت سياسته موجبة لهيمنة الكفار قال تبارك وتعالى: (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) وبين الإثم والعدوان عرفاً النسبة هي العموم من وجه لافتراق الإثم عن العدوان بالمعاصي النفسية كالكذب وشرب الخمرة ونحوهما، وافتراق العدوتان عنه بالظلم والجور واجتماعهما في مثل الزنا والقتل ونحوهما فإنهما إثم نفسي وعدوان على الغير.

وربما تكون النسبة هي العموم المطلق بداهة أن كل عدوان إثم وليس كل إثم عدوان بالمعنى العرفي، هذا وتشتد الحرمة فيما لو سبب الإثم انتهاك الأعراض والأنفس والأموال والحقوق فضلاً عن الدين والعقيدة كما يحرم الحزب لو لم يحظ بإذن الفقيه الجامع للشرائط لكونه من قبيل الاجتهاد في مقابل النص، ولكونه من مصاديق الرد على الفقيه في زمن الغيبة وهو بمنزلة الرد على الإمام المعصوم (عليه السلام) والذي هو الآخر رد على الله ورسوله كما عرفته من قوله (عليه السلام): (والراد عليهم كالراد علينا والراد علينا بمنزلة الشرك بالله) كما عرفته في أدلة ولاية الفقيه.

هذه بعض وجوه الحرمة في الأحزاب وربما يحرم الحزب أيضاً لو كان سبباً للاستبداد وتسليط من لا ترتضيه الأمة ولو بنحو الأكثرية حتى ولو سلّط الفقيه العادل لما عرفت مما تقدم من أن رضا الأمة شرط في شرعية الحكومة وتنصيب الحاكم مضافاً إلى رضا الله عز وجل ومن الواضح أن الاستبداد أو المستبد لا يحظى بأي شرعية منهما فضلاً عما يسببه الاستبداد من دمار وخراب وفساد وتضييع للحقوق وهدر للكرامات وغيرها من الملاكات شديدة الحرمة والفساد، وقد ورد عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): (من استبد برأيه هلك) ومنه يعرف وجه الحرمة في أنظمة الحزب الواحد وحرمة استفراد حزب واحد بالأمور ومنع غيره من التنافس أو التعاون معه في السلطة، وبذلك يعرف وجه الكراهة في بعض الأحزاب الأخرى هذا من حيث الوجوب والاستحباب والحرمة والكراهة.

وهل تصدق الإباحة في الأحزاب أم لا؟ احتمالان في المسألة الأول الايجاب وهو فيما لم ينطبق عليه دليل وجوب التصدي بمعناه الأعم ولا حرمته بمعناه الأعم كما لو تساوت مصلحته ومفسدته وحيث لا رجحان تتعين الإباحة عقلاً أو شرعاً لجهة الأصل العملي بعد الشك في الحرمة والوجوب لقولهم (عليهم السلام):(كل شيء فيه حلال وحرام هو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه).

الاحتمال الثاني النفي بداهة خطورة العمل السياسي والحكومة ولا يمكن أن يتصور عمل فيه مفسدة مضاهية للمصلحة من دون رجحان لأحديهما إذ لأهل الخبرة تشخيص ما كانت مصلحته ملزمة فيحكم بوجوبه، أو راجحة فيحكم باستحبابه وما كانت مفسدته ملزمة فيحكم بحرمته أو راجحة بكراهته ولا مجال للأخذ بالتساوي من حيث الوقوع الخارجي وإن كان له فرض عقلي تصوري.

ومن الواضح أن الإمكان العقلي الذاتي غير الوقوع الخارجي ومنه يعرف أن ذلك ليس لجهة عدم المقتضي بل لوجود المانع و ذلك للزوم اللغوية من تكوين حزب لم تحرز فيه المصلحة الراجحة بنحويها، هذا والمسألة بعد قابلة للتأمل لعدم العثور على من تعرض لها من الفقهاء.

وهنا مسائل:

- المسألة الأولى: عرفت مما تقدم أن الأحزاب السياسية ليست مقبولة في الإسلام بشكل كلي وعام كما أنها ليست مرفوضة بشكل كلي وعام بل بعض الأحزاب يؤيدها الإسلام ويعتبرها واجباً من الواجبات الشرعية فيما لو تحقق موضوعها، وبعضها الآخر ليس له أن يؤيدها بل يحرمها ويعتبرها من الممارسات الخارجة عن الشريعة، والمعيار الصحيح الذي يمكن أن نرجع إليه في تشخيص الأحزاب المشروعة عن غيرها يتم بدارسة أمور ثلاثة:

الأول: المنطلقات

الثاني: الأهداف.

الثالث: الوسائل.

ولكل واحدة من هذه الأمور الثلاثة ضوابط وأصول يمكن الرجوع إليها في تشريع قانون الأحزاب وأهم الأمور الشرعية التي ينبغي مراعاتها لدى القيام بأي عمل أو نشاط حزبي أصلان:

- الأصل الأول: أن تكون منطلقات الحزب وأهدافه ووسائله في إطار الشريعة وحسب موازين الإسلام بداهة أن الوسيلة لا تبرر الغاية والقول بأنها تبرر يخالفه بديهة الفطرة والوجدان والعقل، كما يحكم الشرع بالمنع منه.

- الثاني: فيما إذا لم يكن منطلقات الحزب في إطار الشريعة فإنه لا بد وأن تكون ضمن الاهداف والمنطلقات والأخلاق الإنسانية، ولا يخفى أنه على الرغم من التطابق بين المبادئ الإسلامية والمبادئ الإنسانية لكونهما وجهين لحقيقة واحدة، ولكن ربما تختلف من حيث الأهداف إذ ليس بالضرورة أن يكون الحزب الذي ينطلق من منطلقات إنسانية أن يكون من ضمن أهدافه تطبيق سياسة الإسلام في السلطة وإن كان يحترمها في ذاته كبعض الأحزاب الوطنية النزيهة، فإنها تتوخى خدمة الناس والوطن عادة بغض النظر عن كون الحكومة التي تتطلع إليها حكومة إسلامية أو وطنية، بعكس الأحزاب الإسلامية فإنها تهدف عادةً إلى تكوين حكومة إسلامية كاملة، فكل حزب سياسي يريد أن يعمل في البلاد الإسلامية لا بد له وأن يجمع مقومات وجوده وكيانه ومن أهم المقومات ما عرفته من الأصلين، ومن دونهما لا يحظى بأدنى مرتبة من شرعية الوجود ولا البقاء.

وبذلك يبدو واضحاً أن الحزب السياسي الذي له حق ممارسة الحكم أو العمل السياسي والذي ربما يكون في بعض مراتبه من الواجبات الشرعية على الناس هو الذي يكون منطلقه وهدفه ووسائله لذلك الهدف هو الإسلام والإنسان، وهذا الوجوب الشرعي نابع من عدة قواعد وأدلة كما عرفت بعضها مما تقدم.

وبذلك يظهر أيضاً الأحزاب السياسية التي لا تتمتع بالشرعية الإسلامية، بل وتعتبر محرمة الوجود والنشاط لأنها تقع مقدمة للحرام أو معينة على الإثم والعدوان ونحوها من ملاكات الحرمة.

ويتحصل مما تقدم أن الأحزاب السياسية التي يؤيدها الإسلام ويمنحها حق العمل السياسي وممارسة السلطة قسمان:

1- الأحزاب الإسلامية التي تهدف تطبيق الإسلام بالشروط الخاصة من إذن الفقيه ونحوه.

2- الأحزاب الوطنية التي تتطلع إلى خدمة الإنسان والمبادئ الإنسانية.

وكل حزب آخر لا يحظى بأحد هذين يعد محرماً ومحظوراً كسائر المحظورات الشرعية الأخرى ومن الواضح أن هذا ليس كبتاً للحريات ولا تضييقاً في دائرة العمل بل هو قطع لدابر الظلم والتعدي والانحراف الفكري والعلمي إذ من الواضح أن الأحزاب الملحدة أو المنحرفة عقيدياً أو تلك التي ترتبط بالدوائر الاستعمارية تهدف إلى تضليل الناس وتجهيلهم وسلب حقوقهم وخيراتهم وصبها في جيب الاستعمار أو صبها في خدمة الجهل والخرافة أو الرذيلة، وهذا ما يستقل العقل بقبحه والشرع بحرمته لما ستعرفه أيضاً من أن إجازة مثل هذه الأحزاب يدخل موضوعاً في الفوضى واختلال النظام.

- المسألة الثانية: عرفت مما تقدم بعض الوظائف الحيوية التي تؤديها الأحزاب في العمل السياسي وهناك فوائد ومعطيات كبيرة تحققها الأحزاب للناس وبغض النظر عما يتصور من مساوئ أو أضرار للعمل الحزبي وهي جديرة بالملاحظة والعلاج، فقد ذكرت فوائد جمة له أيضاً ويمكن الإشارة إلى بعضها كالتالي:

- الفائدة الأولى: أن الحزب السياسي هو الصيغة الأفضل لتطبيق المنافسة والانتخاب والشورى فإن الانتخابات التي تحظى بالنجاح والنزاهة غالباً تلك التي تشارك فيه التكتلات والأحزاب المتعددة، حيث أنهم أهل خبرة في تحديد الأصلح لإدارة الدين والدنيا بين البدائل المتعددة كما أنها تتنافس في وضع الخطط والبرامج لإدارة الدولة فتعطي الناس فرصاً أكبر وأفضل لاختيار صاحب البرنامج الأفضل والأكمل كما هو الملحوظ في الواقع الخارجي لبعض الدول التي تتمتع ببعض الحرية والمنافسة النسبية.

- الفائدة الثانية: أن الأفراد بما هم أفراد قوى مبعثرة لا يقدرون على تشخيص الأفضل غالباً كما لا يقدرون على تنفيذ آرائهم بالنسبة لمصير أنفسهم فضلاً عن مصير الدولة والحكم، فكان لابد من وجود جماعة من الزعماء وأهل الخبرة يعرفون الأمور السياسية حق معرفتها فيستقون من المجتمع بواسطة التجمعات الصغيرة الاتجاهات والأفكار والآراء ويجمعون الآمال والطموحات و يلاحظون القدرات والطاقات والظروف المحيطة ويوصلون إلى المجتمع بتلك الوسائط آرائهم حول الأمور، وبذلك تتجمع القدرات والأفكار في قنوات خاصة وتتمركز وتتحد حتى تأتي بالنتائج المطلوبة التي تكون في مجموعها في صلاح المجتمع، فلا يكون الفرد الضعيف في مقابل القوى المتمركزة والمنظمة وحيدا لا يقدر على أمر ولا على تغيير.

وعليه فالحزب يعطي القدرات المبعثرة الضعيفة غير المتمركزة القدرة والتمركز والتلاحم كما يعطي الناس أفكاراً ناضجة ومدروسة تجمع لهم ما ينفعهم وتدفع عنهم ما يضرهم.

- الفائدة الثالثة: الحزب مدرسة الأمة في الإدارة والسياسة العملية، وذلك لأن المدارس التي يتعلم بها الشعب لا ترتبط بالسياسة عادة كما أن المدارس المخصصة لدراسة السياسة خاصة في البعد النظري دون البعد العملي، ومن الواضح أن العلم غير العمل فالذي يدرس الطب غير الذي له خبرة ممارسة الطبابة، وكذلك بالنسبة إلى المهندس والطيار والمزارع والعامل والبناء وما أشبه فالحزب يوجب الفهم السياسي في أفراده كما أنه مدرسة علمية وعملية للسياسة لكونه مختبراً للتجارب وتتراكم عنده تجارب الأفراد وتجارب التجمع بنحو عام فيربي خبراء إداريين ومدبرين مضافاً إلى علمهم السياسي، حيث أن الأفراد الذين علموا السياسة سواء في مدارس التخصص أو في الحزب يطبقونها تطبيقاً عملياً خارجياً حيث التداول اليومي للمواضيع السياسية والاستعداد الدائم للأخذ والعطاء السياسيين فحالهم حال البنّاء الذي يمارس البناء في كل يوم.

وبهذه المدرسة الحزبية يكون التعلم والتعليم السياسيين والإداريين كما أن هذه المدرسة تعطي الرشد الفكري والسياسي لكل أفراد المجتمع لما عرفت من أن الحزب يضم تياراً كبيراً متكونا من مجموعة تكتلات المجتمع الصغيرة الحقوقية والحقيقية، وبهذا يندفع الفرد في الحزب إلى تعلم السياسة وتطبيقها العملي فإن ورد في الحزب عالماً بالسياسة تقدم عمله وإن ورده جاهلاً تعلمها، وفي كلا الحالين يمارس تطبيقاً عملياً في الخارج وفي كل الأحوال فإن الأحزاب الصحيحة تزج بالأمة أفرادها الصالحين وخبرائها الواعين لينيروا دربها ويتولوا قيادتها نحو الأفضل.

- الفائدة الرابعة: أن الحياة لا تخلو من السياسة والمجتمع بحاجة إلى من يتصدّى للمسؤولية السياسية فيه والحزب هو الذي يقدر على تحمل هذه المسؤولية بينما الأفراد أو الفرد ليس كذلك، ومن هنا تنشأ الحاجة إلى الحزب وهذا ما ربما يعبر عنه البعض في اصطلاحه السياسي بأن الحزب مدرسة الأخلاق إذ ليس مرادهم الأخلاق التي يصطلح عليها في علم الفلسفة والأخلاق المعنوية بل الاخلاق التي يجب أن تتوفر في السياسة ومن الواضح أن الحزب هو الذي يقدر على التصدي لتحمل لهذه المسؤولية لكونه عبارة عن جماعة كبيرة من الناس وبالنتيجة يكون معنى الحزب أن الناس يديرون أنفسهم بواسطة جمهرة كبيرة من أبنائهم وإخوانهم الذين يثقون بهم وبكفاءاتهم، وأما الأفراد فلا يتمكنون من تحمل هذه المسؤولية عادة لأن الفرد لا قدرة له على الإدارة السياسية طويلة الأمد مهما كانت قدراته كثيرة ونبوغه عاليا.

2- كما أنه لا دوام له فإنه يموت أن يمرض أو يخطأ أو ما أشبه فلا يمكن أن يكون موضع الثقة التامة في استمراره أو في صوابه ورشده.

3- كما لا ضمانة لبقاء نزاهته حيث أنه كثيراً ما ينقلب الفرد النزيه واقعاً أو في انظار الناس إلى فرد غير نزيه فيعيق نشاطه ويهدم ثقة الناس به بينما الحزب لكثرة أفراده له قدرة الإدارة السياسية ولاستمرار حياته له دوام وبقاء ممتد ولأن مفاهيم الحزب لا تتغير بمثل تغير الفرد فإذا كان الحزب جامعاً للشرائط الشرعية ونزيهاً بقي على نزاهته مما يحكّم الثقة والاطمئنان بينه وبين الناس، وبذلك يكون الحزب مورد اعتماد الناس سياسياً من جهة السعة العلمية ومن جهة الامتداد الزماني ومن جهة بقاء النزاهة الذي تحتاجه الأمة فيمن تضع ثقتها عنده.

نعم قد يوجد في الأحزاب السرية التي يصنعها المستعمرون أو الأفراد المنحرفون من لا توجد فيه هذه الصفات لكن ليس الكلام في مثل هذه الأحزاب حيث أن ما يصنعه الاستعمار طابور خامس وليس بحزب حقيقي وإن تسمى باسمه خداعاً وزورا وأمثلة ذلك ومصاديقه كثيرة جداً في البلاد الإسلامية، ولذا لا تتسم هذه الأحزاب بصحة العقيدة ولا الأخلاق السياسية ولا تضم في صفوفها الصالحين من أبناء الأمة وبعكسه تهدف من الوصول إلى الحكم بنوازع الأنانية وحب السلطة لا المشاركة الوجدانية كما عرفت، ولذا سرعان ما يتشتت أفرادهما وتقطع الأمة ثقتها ورجاءها فيها كما تموت بموت زعماءها وقادتها.

- الفائدة الخامسة: حيث أن الحزب يوجد التنافس بين أفراده داخلياً ومع الأحزاب الأخرى خارجياً والتنافس من أهم عوامل التطوير والتكامل والرقي لما جُبل عليه الإنسان بفطرته من حبّه لنفسه وشؤونها وحبّه لتقدمه ونجاحه وبهذا التنافس يكون الحزب ماكنة كبيرة للحركة والنشاط والفاعلية في داخلها وفي خارجها ولذا تجد الحكومة ذات الأحزاب في تسابق دائم في مختلف شؤون العلوم والفنون والحضارة، وقد أرشد القرآن الحكيم إلى التنافس في الخير في طائفة من الآيات الشريفة قال سبحانه وتعالى: (سارعوا إلى مغفرة من ربكم) وقال عز وجل: (واستبقوا الخيرات) وقال سبحانه: (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) وإطلاق هذه الطائفة من الآيات يشمل المعنويات والماديات فدلالة السياق أو الظهور في المعنويات لا يمنع من الشمول للماديات بعد فهم العرف عدم الخصوصية، خصوصاً فيما إذا جعلت الماديات طريقاً للمعنويات قال تبارك وتعالى: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا).

وكيف كان فإن الإسلام لا يخالف هذه الوظائف والفوائد التي تعود بها الأحزاب السياسية على الشعب إذا لم يكن فيها أضرار أو تبتلى بالمزاحم الأهم الذي ربما يمنع منها إذ أي فاعلية أعظم من تلخيص إرادة الأمة في أبنائها من أهل الحل والعقد المرشحين للانتخابات ومن تجميع القوى المبعثرة في قوة موحّدة ومتماسكة والتقدم بالأمة سياسياً وفكرياً وتكوين المسؤولية النظيفة الصالحة والنزيهة وصنع الانضباط الفكري والعلمي في الناس وإيجاد التنافس الحر والصحيح لتقديم الأمة والحفاظ على الحرية وتكوين المؤسسات المتنوعة والشاملة لمختلف شؤون الحياة الفكرية والسياسية والفكرية والتربوية فإن كل ذلك ما تنطبق عليه القواعد الشرعية والكلية المتقدمة من قبيل إرشاد الجاهل والعلو والقوة والتعاون على البر والتقوى ونحوها..

وبعد ذلك فإن قيام السيرة العقلائية عليه في مختلف دول العالم على اختلاف مذاهبهم واعتقاداتهم ربما يكشف عن حسن الأحزاب وكمدح العمل بها كما هو الشأن في الكثير مما يقدم عليه العقلاء إلا ما أحرز من الضرر عقلاً أو المنع شرعاً كما يقال عن وجود بعض الأضرار والمساوئ في العمل الحزبي فإنها لا تنهض لمعارضة المصالح الجمة خصوصاً بعد ملاحظة الأهم والمهم والمفاسد والمصالح ومراعاة موازين باب التزاحم التي تدخل المسألة بين ملاكين أحدهما مصلحة الحزب وثانيهما مفسدة الحزب، حيث توجب الأولى العمل به والثاني منعه أو إلغاءه فإن الثاني يعود بالبلد إلى الوراء بل ويمهد للاستبداد والتفرد ويوقع البلد في مطبات ومهاوي سحيقة وعميقة لأنه لا حل بعد إلغاء التعددية الحزبية إما بإبقاء البلد بلا جماعات عاملة لصالحه فيتفرد الحاكم بالأمور خصوصا أن طبيعة السلطة الطغيان والتجبر قال تبارك وتعالى: (إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) وعن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): (من ملك استأثر) أو ينفرد بالأمور حزب واحد فيلغي الجميع ويبقى وحده هو الحاكم وكلاهما استبداد وهذا مضافاً إلى مفاسده العظيمة وتضييع الحقوق فإنه يوجب الوقوع في الحرام وما يوقع في الحرام حرام.

- المسألة الثالثة: يدل الاستقراء في الحياة السياسية على انقسام أنظمة الحكم عادةً إلى صنفين صنف يحكم فيه حزب حاكم، وصنف آخر يحكمه حزب الحاكم والبون بعيد بين الحزبين؛ فإن الأول يصل إلى الحكم بالطرق الاستشارية وبالتنافس والانتخابات الحرة بعد توفر الشرائط الخاصة وهو الصحيح عقلاً وشرعاً وأما الثاني فهو الحزب المستبد الذي يحول السلطة والدولة إلى ساحة للإرهاب وإلغاء الآخرين ولهذا الصنف من الأحزاب أسلوبان في الحكم عادة:

- الأسلوب الأول: يكون هو الحزب الوحيد الذي يتولى الأمور بعد ضربه لسائر الأحزاب الأخرى، فيشكل رئاسة الدولة وأكثر الوزراء والمدراء من أعضاءه فيكون حزباً وحاكماً في نفس الوقت ومثل هذا الحزب يمارس سياسة مستبدة ويستند في حكمه على القوة بالمال أو السلاح أو الخداع لتمرير سياسته أو التغطية على مساوئه، الأمر الذي يؤخر البلد والناس ويتراجع بهم إلى الوراء كما يؤخر نفسه ويسوقها إلى السقوط، وقد عانت البشرية الكثير من جراء مثل هذه الأحزاب كما أن سقوطها السريع دليل فشلها كما لوحظ في مثل الأحزاب النازية والفاشية وغيرها..

وفي الفقه السياسة في الجزء الثاني ص 108 قال السيد الشيرازي (قدس سره): رأيت ثلاثا وأربعين حزباً في العراق كلها سقطت في أقل من ربع قرن وذلك بسبب عدم امتلاكها لشروط الحزب الصحيح.

- الأسلوب الثاني: أن ينشأ الحزب رئيس الدولة أو الحكومة أو أصحاب النفوذ فيها ومن الواضح أن مثل هذا الحزب لا يكون إلا مهلهلاً نفعياً لا تلاؤم بين أفراده ولا هدف سامي له ولا وسيلة صحيحة لان ما يجمعهم هو الانتفاع وحب السلطة ومصالح الحكم مما يبدل البلد والناس إلى ثروة يتلاعب بها أعضاء الحزب وكباره النفعيون، ويتمتع جميعهم بالحرية المطلقة والاستيلاء على مقدّرات الناس بينما يكبل الآخرين بالقيود والسجون والإرهاب ونحو ذلك.

وقد مثل لذلك السيد الشيرازي (قدس سره الشريف) في الفقه السياسية في الحزب الاشتراكي الذي كونه جمال عبد الناصر وحزب راستاخيز الذي كونه شاه إيران ومن الواضح أن مثل هذا الحزب يبقى ببقاء الحاكم فإذا زال الحاكم زال وقد يكون الحاكم بنفسه يحل الحزب إذا تعارض مع مصالحه هذا بخلاف الأحزاب الصحيحة المتمتعة بشرائط الحزب السياسي الصحيح فلأنه جزء من الأمة ويسعى لكسب ثقتها وتأييدها فإنه يهدف إصلاحها ورقيها عنها والدفاع عنها، ولأنه يريد الحفاظ على الثقة والاستمرار في حركته ونشاطها باتجاه أهدافه السامية فإنه حتى إذا وصل للحكم يوسع من خدماته وإصلاحاته ويجعل لنفسه رقيبا لإحصاء المساوئ وتوجيه الانتقاد لغرض الاصلاح حيث يتمتع بالحركة والنشاط والفاعلية وقوة المال والقدرة.

ومن الواضح أن الحزب في مثل هذه الصفات يكون جزءاً من الأمة ويريد خدمة كل الأمة ولذا فهو يتكلم عن الأمة ويناضل لأجل الوصول إلى الحكم لا لأجل نفسه ومن أجل زعماءه بل لأجل الكل ولذا يعد من يخالفه مخالفا للأمة وطموحاتها، كما تقف الأمة إلى جانبه في آلامه وهمومه فضلاً عن آماله وطموحاته هذا ومن أجلى مظاهر قوة الحزب وتأييد الأمة له هو قدرته على تكوين المظاهرات والإضرابات في وقت وظرف خاصين وكلما كان الحزب أقدر على هذين كان دليلاً على كثرة شعبيته وبالقوى الشعبية المتزايدة يتمكن الحزب من فرض إرادته على الدولة وإصلاح سياسياتها وتعديل برامجها وتحقيق المصالح الاجتماعية بحسب ما يراه صالحاً والعكس بالعكس أيضاً.

- المسألة الرابعة: ربما يتصور البعض أن الإسلام يحدد من الحرية الحزبية لكونه لا يجيز للأحزاب غير المؤمنة بالإسلام في العمل السياسي وهذا يتنافى مع الحرية بل ويجعل النظام السياسي الإسلامي أقل شأناً من الأنظمة الغربية الحرة، والجواب أن الإسلام دين بني على العقيدة الصحيحة والشريعة المدعومة بالأدلة ومن الواضح أنه ليس من الصحيح إجازة الصحيح للغلط والمستقيم للمنحرف، أما الصغرى فقد قامت عليه الأدلة العقلية المتضافرة ولأنها مسألة اعتقادية نوكلها إلى الكتب الاعتقادية. وأما الكبرى فلوضوح أن الانحراف في العقيدة ينتهي إلى الانحراف في العمل والانحراف في العمل معناه تناقض الإنسان مع نفسه ومع السنن الكونية وهذا ينتهي إلى هدم الحياة، فإجازة الحزب غير الصحيح كإجازة التحزب للصوص والقتلة وغيرهم من المنحرفين فكريا وعمليا ومن الواضح أن انحراف العقيدة ينتهي إلى انحراف العمل وقد أثبتت علوم النفس الاجتماعي فضلاً عن علوم الحياة البشرية بل والآيات والروايات الشريفة أن الفكر والتفكير هو القائد الحقيقي لسلوك الإنسان كما أنه المنظر العميق لمستقبله فإن التفكير هو الذي يقود الطبيب إلى العيادة والمهندس إلى المعمل والطالب إلى الجامعة كما أنه الذي يقود القاتل إلى القتل والمجرم السفاك إلى إجرامه والخمّار إلى المخمرة والظالم إلى ظلمه، وإنما يوفق الناس وينتصرون في أهدافهم وطموحاتهم بسبب أفكارهم ولعل ما ورد من قوله (صلى الله عليه وآله): (نية المؤمن خير من عمله ونية الكافر شر من عمله) يشير إلى بعض ذلك كما جعله الشيخ كاشف الغطاء (رضوان الله عليه) أحد احتمالات الرواية حيث احتمل فيها أكثر من ثلاثين احتمالاً على تفصيل لا يسعنا المجال هنا.

لكن في مجمل الرواية يستفاد أن الفكر والنية لهما المدخلية الكبيرة في قيادة الإنسان نحو الصلاح أو نحو الفساد.

وكيف كان فإن السماح للمنحرف أو الخرافي ونحوهم بالعمل يؤدي إلى الظلم والعدوان وهل يجوز أن يفسح المجال للقاتل أو تعطى الحرية للظلمة ليوسعوا من الظلم والفساد وبما ذكرناه يظهر الجواب عما قد يتوهم من أن حكومة الإسلام أقل شأناً من الحكومة الغربية الحرة على ما يزعمون بداهة أن الحرية ليست حرية موضوعاً بل هي فوضى فلا تشملها أدلة الحرية بل يحكم العقل والعقلاء بقبح إباحتها فضلاً عن الشر.

وعليه لا يقال أن حكومة الإسلام أقل حرية فإنه يجاب عنها بجوابين: حلي ونقضي، أما الحلي فمن جهة أن الجهل بالموازين الإنسانية والفطرة أوقع مثل أمريكا والدول الغربية بالفوضى ومناقضة فطرة الإنسان بشبهة الحرية، فأباحوا الزنا واللواط والزواج الجنسي المماثل والربا وأجازوا استغلال الإنسان القوي للإنسان الضعيف، ومن الواضح أن الوقوع في الخطأ لشبهة أو لغيرها لا يبيح الاقتداء به لأن الخطأ قبيح والوقوع فيه مع العلم والعمد أقبح هذا فضلاً عن الحرمة الشرعية.

وأما الجواب النقدي فإن الدول الحرة على ما يقولون هي بنفسها لم تجز إلا الأحزاب التي تعمل في إطار الوطنية ولا تجيز الأحزاب التي تعمل في خارج هذا الإطار كما لا يجيزون الأحزاب المخالفة للحرية والديمقراطية عندهم فهي أيضاً مقيدة للحرية المزعومة فكيف يجيبون عن مثل هذا السؤال فما يقولون فيه من الجواب نقوله هنا أيضاً بل نقول أن حرية الإسلام أوسع مما يتصورون لأنه أجاز الأحزاب المؤمنة به والعاملة لأجله كما أجاز الأحزاب العاملة لأجل الوطن بينما البلاد الغربية لم تجز إلا الأحزاب الوطنية فقط مع أن الوطن أضيق من العقيدة مضموناً كما أنه أضيق هدفاً هذا فضلاً عن التحزب الوطني الذي يمارسه الغرب في تحديد الحرية فإنه إذا أراد مسلم غير مواطن في بلاد الغرب من تأسيس حزب لم يسمح له بذلك ويعلل أنه ليس من أهل الوطن بخلاف الإسلام فإنه يبيح للمسلم ذلك نعم منع الإسلام الكافر ونحوه محاربة الدين لأنه ليس من أهل العقيدة وهذه قضية مشتركة حتى في الدول الحرة على ما يقال إذ لا يبيحون الأحزاب المنافية لعقيدة البلد.

ويمتاز الإسلام بالتوسعة لشموله للعقيدة والوطن والإنسان ثم هنا ملاحظة جديرة بالالتفات نتعرض لها في البحث القادم إنشاء الله تبارك وتعالى..

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين..