المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 44.doc

كان الكلام في الآيات الشريفة الدالة على وجوب الشورى:

- الأولى منها قوله سبحانه وتعالى خطاباً لرسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم): (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله) وقلنا أن هناك وجوهاً عديدة يستفاد منها الوجوب، وهذا الوجوب لا يتنافى مع العصمة بداهة أن غرض الحكم والسلطة هو حفظ النظام ودفع الهرج والمرج، وتعليم الناس وهدايتهم إلى الحق والعدل، فإذا توقف ذلك على مشورتهم وأخذ رأيهم وجب لوجوب ما لا يقوم الواجب إلا به، وقد قامت طائفة من الأدلة النقلية بل والسيرة على أن المعصومين (عليهم السلام) كانوا يراعون عقول الناس وحالاتهم النفسية واستعداداتهم الفكرية والذهنية في بيان الأحكام أو تطبيقها بل إن شطراً من مواقف المعصومين (عليهم السلام) في باب التقية كان منشأها هو رعاية عقول الناس واستعدادهم على تحمل ما يقولون أو ما يتخذون من مواقف، وفي الخبر المستفيض أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كلم أحداً بكنه عقله قط، وأيضاً ورد بطرق الفريقين أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعائشة: لولا أن قومك حديثو عهد بالإسلام لهدمت الكعبة وجعلت لها بابين، وورد عنه أيضاً: لولا إني أخشى أن يقال أن محمداً استعان بقوم حتى إذا ظفر بعدوه قتلهم لضربت أعناق كثير، وغير ذلك مما يدل على أنهم (عليهم السلام) كانوا يراعون مصالح الأهم والمهم، والمصالح الأكبر في معاملاتهم مع الناس، أقول إذا كان هذا ما يرتبط برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أخذ آراء الناس واسترضائهم دل على وجوب الشورى على الفقيه أو المنصوب من قبله بالأولوية القطعية خصوصاً وأن فوائدها لغير المعصوم جمة ومن أهمها الإيصال إلى المطلوب في تشخيص المصالح والأهم من الأغراض في الأصل وفي التطبيق وبذلك يظهر أنه حتى على القول باستحباب مشاورته (صلى الله عليه وآله وسلم) كما ذهب إليه جمع لمكان العصمة فيه فإنه ينبغي القول بإلزامية نتيجة الشورى دفعاً للمحاذير المذكورة لكن ربما يشكك على الاستدلال بالآية الشريفة بأنها مكية وقد نزلت في وقت لم يكن للمسلمين دولة وكيان بالمعنى المتعارف حتى يحمل الأمر في الشورى على الوجوب لكن عرفت جوابه مما تقدم من أن المورد لا يخصص الوارد وأن إطلاق الآية يشمل كل موضوع يحتاج فيه إلى الشورى مضافاً إلى ما اتفقت عليه كلمة الأصوليين من أن الأحكام الشرعية مجعولة على نحو القضايا الحقيقية لا الخارجية والآية صريحة في جعل الحكم لمكان صيغة الأمر.

الآية الثانية قوله تبارك وتعالى في مقام تعداد صفات المؤمنين قال عز وجل: (وأمرهم شورى بينهم) وتقريب الاستدلال من وجوه أيضاً:

- أحدها: الجملة الخبرية الواردة في مقام الإنشاء فإنه آكد في إفادتها الوجوب على ما حقق في الأصول والمعضودة بقرينة السياق حيث ورد الشورى في سياق تعداد طائفة من صفات المؤمنين الواجبة من قبيل اجتناب الكبائر والاستجابة لله سبحانه وإقامة الصلاة وإنفاق الزكاة ونحوها وعلى فرض حمل الإنفاق على الاستحباب فإنه لا يضر بسياق الوجوب لكون سياق الشورى مع الصلاة وهي واجبة كما أن سياق صدرها في مقام بيان الوعد الإلهي للمؤمنين في الآخرة إذا اتصفوا بتلك الصفات يعضد الوجوب بداهة أن الفوز في الآخرة لا يتحقق إلا بالطاعة.

- ثانيها: قوله عز وجل أمرهم الظاهر في شؤون المسلمين وحيث أن حذف المتعلق يفيد العموم مضافاً إلى الإضافة إلى الضمير يدل على أن الواجب عليهم في كل شؤونهم المشورة والمصداق الأعظم والأخطر في ذلك هو شؤون الحكم والسلطة كما لا يخفى.

- ثالثها: أن الآية في مجملها دالة على الشورى بين المؤمنين وهي تشمل الحاكم والرئيس من جهة أنه من مصاديق العام فضلاً عن الأولوية العقلية وقاعدة الاشتراك في التكليف بين الحاكم وبين المحكوم والفرق بين الآيتين هو أن الأولى ناظرة إلى جهة الحاكم والرئيس والثانية ناظرة إلى جهة المحكوم وحيث أن المستفاد منهما هو الوجوب في الاثنين فيتعين منهما تكليفان:

- أحدهما على الحاكم في لزوم الأخذ بالشورى.

- وثانيهما على الأمة في لزوم المشاركة في الشورى.

نعم لمشاركة الأمة في الشورى صيغ مختلفة ولعل من أهمها ثلاثة بحسب الاستقراء الخارجي:

- الأول: مشاركة الناس في الشورى بنحو مباشر في شؤون الحكم وقرارات السلطة وهذا هو أفضل أنواع المشورة وهو مقتضى الجمع بين الأدلة لكنه مبتلى بالمانع لكونه متعثر عادة.

- الثاني: اختيار الناس لجماعة من أهل الخبرة والحل والعقد يرجع إليهم الحاكم في شؤون الحكم والسلطة أو تخول الأمة ذلك إلى الحاكم نفسه في اختيار طائفة من الخبراء يرجع إليهم في ذلك.

- الثالث: إرجاع المشورة إلى مجلس الشورى الذي تنتخبه الأمة لتأطير القوانين في السلطة التشريعية على ما عرفته مما تقدم.

وحيث لا توجد صيغة منصوص عليها تعين شكلاً من أشكال الشورى فيمكن الالتزام بأصالة الجواز في كل صيغة ترتضيها الأمة في ذلك ويتحصل مما تقدم أن من شروط الحاكم ومشروعية حكمه أن يأخذ بالشورى ولا يستبد برأيه لأن الشورى واجب والاستبداد حرام فلو تفرد الحاكم بالرأي وتجاوز الشورى استحق العزل لسقوطه عن المؤهلات إما لجهة الملازمة بين الحكم التكليفي والوضعي أو من جهة موضوعية الشورى في شرعية الحكم أو لغير ذلك من الجهات التي توجب خروجه عن الشرعية هذا بعض ما ربما يستفاد من الآيات في هذا المقام.

وأما السنة فيمكن الاستدلال بها على وجوب الشورى من جهتين:

إحداهما: السيرة

ثانيهما: الروايات.

أما السيرة فقد وردت مستثيرة بطرق الفريقين تدل على انه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يمارس الشورى ويلتزم بمقتضياتها وقد روى بعض الصحابة بقوله ما رأيت أحداً قط أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتدل على وجوبها بالأولوية على غيره (صلى الله عليه وآله وسلم) سواء كان فقيهاً جامعاً للشرائط أو منصوباً من قبله. وما يشهد لهذه السيرة شواهد عديدة منها ما في واقعة بدر حينما نزل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) في موقع قال له الحبَّاب ابن المنذر ابن الجموح يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلك الله ليس لنا أن تقدمه ولا تتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة قال بل هو الرأي والحرب والمكيدة فقال يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى نأتي أول ماء من القوم فتنزله ثم تغور ما وراءه من القلب ثم تبني عليه حوضاً فتملأه ماءً ثم تقاتل القوم فتشرب ولا يشربون فقال له الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لقد أشرت بالرأي كما أورده في سيرة ابن هشام.

وفي كتاب المغازي للواقدي قال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أشيروا علي أيها الناس وكان يريد الأنصار لأنه كان يظن أن الأنصار لا تنصره إلا في الدار وذلك أنهم شرطوا له أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأولادهم فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أشيروا علي فقام سعد بن معاذ فقال أنا أجيب عن الأنصار وذكر كلاماً طويلاً في هذا المجال لا يسعنا ذكره وقد ورد هذا الخبر عن علي بن إبراهيم في تفسيره أيضاً في تفسير سورة الأنفال وفي مسند أحمد استشار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس في الأسارى يوم بدر.

ومنها ما في غزوة أحد حيث تشير كثير من كتب السير على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان رأيه البقاء في المدينة ورأي عامة المسلمين هو الخروج وقد اختار ما رآه عامة المسلمين في الخروج من المدينة حيث دخل بيته وخرج لابساً لامته وصلى بهم الجمعة ثم خرج فندم الناس وقالوا يا رسول الله استكرهنا ولم يكن لنا ذلك فإن شئت فاقعد (صلى الله عليك) فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل.

وفي المغازي قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أشيروا عليّ ورأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يخرج من المدينة لرؤية رآها كما أوردها الواقدي بالتفصيل ومنها ما في غزوة الأحزاب أو الخندق فقد أخذ برأي سلمان الفارسي في حفر الخندق وقصته معروفة ومشهورة كما أوردها الواقدي في المغازي وفي موقف آخر حينما أراد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عقد الصلح مع غطفان فأرسل إلى علي بن حصين والحارث ابن عوف وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجع بمن معهما عنه وعن أصحابه فلما أراد أن يوقع معهما الشهادة والصلح بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر لهما ذلك واستشارهما فقالا يا رسول الله أمرا تحبه فنصنعه أم شيئاً أمرك به الله لابد لنا من العمل به أم شيئاً تصنعه لنا قال بل شيء أصنعه لكم والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قراً أو بيعاً أفحينما أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا والله ما لنا بهذا من حاجة والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنت وذلك فتناول سعد ن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب ثم قال يجهز علينا أوردها ابن هشام في سيرته وقريب منه أورده الواقدي في المغازي أيضاً. والظاهر إنما كان بينه وبين عينة والحارث لم يتم عقداً حتى يقال باللزوم فيه وإنما كان عبارة عن مقاولة ومفاوضة ومقدمة للعقل.

ومنها ما في غزوة الطائف فقد روى في الكامل انه بعدما حاصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الطائف قيل أنه استشار نوفل بن معاوية الدؤلي في المقام عليهم فقال يا رسول الله ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك فأذن بالرحيل وفي قصة الحديبية أيضاً ورد ما يدل على مشاورته لأصحابه إلى غير ذلك من المشاهد الدالة على سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) في تعامله مع قومه وانه كان ينزل عند من يستشير ولو لم يكن ينزل عند رأيهم لكان الأمر بالمشورة لغواً وعبثاً كما أن السيرة كانت لغواً وعبثاً فضلاً عمن منافاتها للغرض.

وأما الروايات فهي طوائف عديدة وردت دالة على لزوم الأخذ بالشورى نكتفي نحن منها بطائفتين:

- الأولى: ما ورد منها في تنصيب الحاكم.

- الثانية: ما ورد في لزوم مشاورة الحاكم.

أما الأولى فمتضافرة منها ما في تاريخ اليعقوبي في أحداث غزوة مؤتة قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إن أمير الجيوش زيد بن حارثة فإن قتل فجعفر بن أبي طالب فإن قتل فعبد الله بن رواحة فإن قتل فليرتضي المسلمون من أحبوا وفي الطبري عن ابن الحنفية كنت مع أبي حيث قتل عثمان فقام فدخل منزله فأتاه أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا إن هذا الرجل قد قتل ولا بد للناس من إمام ولا نجد اليوم أحداً أحق بهذا الأمر منك لا أقدم سابقة ولا أقرب من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لا تفعلوا فإني أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً فقالوا لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك قال ففي المسجد فإن بيعتي لا تكون خفية ولا تكون إلا عن رضا المسلمين ومحل الشاهد في ذيلها.

وفي الكامل أيضاً ورد أيها الناس عن ملء وأذن إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم وقد افترقنا بالأمس على أمر وكنت كارهاً لأمركم فأبيتم إلا أن أكون عليكم ألا وانه ليس لي دونكم إلا مفاتيح ما لكم وليس لي أن آخذ درهماً دونكم.

وفي كشف المحجة لابن طاووس ورد قوله (عليه السلام) وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عهد إلي عهداً فقال يا ابن أبي طالب لك ولاء أمتي فإن ولوك في عافية وأجمعوا عليك بالرضا فقم بأمرهم وإن اختلفوا عليك فدعهم وما هم فيه وفي كتاب سليم بن قيس عنه (عليه السلام) والواجب في حكم الله وحكم الإسلام عن المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يقتل أن لا يعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً ولا يقدموا يداً ولا رجلاً ولا يبدأوا بشيء بل أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً عالماً عارفاً بالقضاء والسنة يجمع أمرهم وفي مقاتل الطالبيين عن الحسن المجتبى (عليه السلام) في خطاب لمعاوية أن علياً لما مضى لسبيله ولاني المسلمون الأمر بعده فدع التمادي بالباطل وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي فإنك تعلم إني أحق بهذا الأمر منك وفي بحار الأنوار في كيفية الإمام الحسن (عليه السلام) ورد صالحه على أن يسلم له ولاية أمر المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرة الخلفاء الصالحين وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين وفي شرح ابن أبي الحديد ورد قول أمير المؤمنين (عليه السلام) لطلحة والزبير ولو وقع حكم ليس في كتاب الله بيانه ولا في السنة برهانه لشاورتكما وفي خطبته (عليه الصلاة والسلام) في نهج البلاغة ولعمري لأن كانت الإمامة لا تنعقد حتى تحضرها عامة الناس فما إلى ذلك بسبيل ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها ثم ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار. وعن الإمام الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) من جاءكم برأيه يفرق الجماعة ويغصب الأمة أمرها ويتولى من غير مشورة فاقتلوه هذه بعض الأخبار الواردة في اصل تنصيب الحاكم ولزوم كونه بالشورى وأخذ رأي الناس.

وأما الطائفة الثانية وهي الواردة في لزوم أخذ الحاكم بعد تنصيبه بالشورى وهي روايات متضافرة أيضاً من جهة المعنى وتؤكد على ضرورة المشاورة والاستشارة في كافة الأمور: منها قوله (عليه السلام) لن يهلك امرؤ عن مشورة وأيضاً خاطر بنفسه من استغنى برأيه وفي نهج البلاغة الاستشارة عين الهداية وقد خاطر من استغنى برأيها وعن المحاسن عن الباقر (عليه السلام) أنه سئل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما الحزم قال مشاورة ذوي الرأي واتباعهم.

وفي نهج البلاغة من شاور الرجال شاركها في عقولها إلى غيرها من الروايات الدالة على لزوم مراعاة الحاكم لذلك.

وتقريب الاستدلال بهذه الطائفة يتم من وجوه:

- الأول: أن التأكيد الوارد في هذه الروايات يدلل على محبوبية الاستشارة ولزوم اتباع نتيجتها ولو كانت نتيجتها غير واجبة الاتباع لكان الأمر بها والحث عليها بل وقيام سيرة النبي عليها لغواً وعبثاً وهذا ما يحكم ببطلانه العقل.

- الثاني: بعض الروايات الموجبة لاتباع آراء المستشارين وفي بعضها وردت تحذير بالوقوع في الهلكة وبعضها ورد بلسان إياك والخلاف فإن مخالفة الورع العاقل مفسدة في الدين والدنيا فإن المستفاد منها هو لزوم الأخذ بالاستشارة دفعاً للضرر والعقوبة.

- الثالث: ورد في رواية المحاسن المتقدمة من الربط بين الحزم وبين الاستشارة وجعله لاتباع الرأي الناشي من الشورى من مظاهر الحزم ومن الواضح أن الحزم والتصميم من أهم شروط الحاكم على ما عرفته مما تقدم.

- الرابع: أن العقل العملي يحكم بلزوم الاستشارة وذلك لأن عقل الإنسان وحده لا يحيط بكل جهات الحسن والقبح في الأفعال فإذا أراد أن يقدم على أمر ما يجب عليه أن يستشير الآخرين ويستنير بآرائهم حتى يظهر له وجوه الحسن والقبح فيه وعليه فإنه كلما ازداد الأمر الذي يراد الاستشارة فيه أهمية ازدادت أهمية الشورى ولزوم الأخذ بها كما هو مقتضى الحكم العقلي. ومنه يظهر أن الحكم والعلل التي ذكر بعضها في الروايات إنما هو إرشاد لهذا الحكم وكيف كان فإنه على فرض المناقشة في الاستدلال بالروايات الشريفة فإنه يكفينا في استفادة الوجوب السيرة من السنة بضميمة أدلة القوة والأسوة التي هي من الواجبات المسلمة فضلا عن القرينة العقلية القاضية بأولوية اتخاذ الفقيه وغير الفقيه من غير المعصومين للشورى منهجاً وطريقاً في الحكم وتطبيقاته فضلاً عما عرفته من الآيات المتقدمة.

وأما الإجماع والعقل فقد ظهر لك بعد قيام السيرة النبوية مع العصمة عليها الأولوية في غير المعصوم فتكشف من اتفاق الأعلام عليها من جهة الكبرى وإن لم يصرحوا بها من جهة الصغرى فإن سكوتهم عن المسألة ليس لعدم ارتضائهم الوجوب بل لعدم تعرضهم للمسألة هذا بعض ما يمكن أن يقال هنا لكن يبقى الكلام في كيفية الاستفادة من الشورى في اتخاذ الآراء والقرارات فهل يراعى فيه الكم أم يراعى فيه الكيف فيه احتمالان والأقوى هو مراعاة الكم لأنه مقتضى الجمع بين الأدلة فلذا قامت سيرة العقلاء في غير مورد من هذه الشؤون على تقديم رأي الأكثرية هذا وهناك صيغ للجمع بين الكم والكيف قامت عليها بعض الأنظمة والحكومات منها مجلس الشورى ومشاورة أهل الحل والعقد وما أشبه ذلك لكن عرفت بعض الكلام فيما تقدم ولا يسعنا المجال فعلاً لتفصيل ذلك هنا.

وهنا أمور ينبغي بيانها:

- الأمر الأول: في المعنى اللغوي والعرفي للشورى فعن الراغب الأصفهاني ورد تفسير الشورى بأنها من التشاور والمشاورة والمشورة هي استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض الآخر وقولهم شرت العسل إذا أخذته من موضعه واستخرجته منه وفي لسان العرب المدار في الإشتقاقات تشير إلى عملية الفحص والبحث الفكرية عن حقيقة الأمر والوصول إلى نتيجة صحيحة وفي تاج العروس فلان شيرك وزيرك يقال فلان وزير فلان وشيره أي يشاوره وجمعه شوراء كما في شعراء وأشرني عسل وأشرني على عسل أعني على جمعه وأخذه من مواضعه وهذه تؤكد أن المشاورة هي أحد أساليب الفحص والبحث قبل اتخاذ الرأي النهائي والعزم الأخير في المسألة ولعل من أوضح ما ورد هو ما ذكره ابن فارس من أن شور وضعت لأصلين مفردين الأول إبداء شيء وإظهاره وعرضه، والآخر أخذ شيء. والمستفاد منه أن الشورى تتضمن مرتبتين من العمل:

- الأول:عملية استكشاف واختبار وفحص.

- والثانية: اخذ الرأي الصائب من تصفح الآراء هذا بحسب اللغة.

وأما في العرف فالظاهر أن الشورى في كل شيء بحسبه ففي الأمور الخاصة يكفي فيه الاستطلاع بلا إلزام وأما في إلامور العامة خصوصاً مسائل الحكم والدولة فالظاهر أنها ملزمة للتبادر ومنه يقال المستشار العليم الذي يؤخذ رأيه في أمر هام علمي أو فني أو سياسي أو قضائي أو اقتصادي ونحوه نعم قد يقال أنه قد جرت سيرة العقلاء على الأخذ برأي المستشار وإلا كانت المشورة لغواً فتدل حينئذ على الإلزام في الأمور العامة في الأولوية ويعضد ذلك أمور:

- أحدها: أن البشرية تعتمد على نظام المستشارين في إدارة أي عمل وقلما نلاحظ وجود مدير أو مسؤول أو رئيس خال عن المستشارين وفي نفس الوقت لا يكون لهم سلطة على المستشير بل وظيفتهم مجرد إبداء الرأي والنصيحة.

- ثانيها: أن الآيات الواردة بشأن الشورى ورد بعضها في مقام بيان صفات خاصة يتحلى بها المؤمنون ومن هذه الصفات عدم استبدادهم بالرأي وعدم تجاوزهم لآراء الآخرين فهي تشير إلى ما يجب أن يتحلى به المسلم في تصرفاته الخاصة من تحريه للصواب والحكمة وهي ضالته أينما وجدها أخذها فليس الأمر محصوراً بالشؤون العامة التي تهم جميع المسلمين وهذا ما قامت عليه سيرة العقلاء في شؤونهم الخاصة في معاملاتهم وفي نكاحهم وفي سفرهم وحصرهم وما أشبه ذلك.

- ثالثها: ما ورد في قصة بلقيس ملكة سبأ حينما جاءتها رسالة النبي سليمان (عليه السلام) استشارت قومها مع أن الحكم كان بيدها فأشاروا إليها وقالوا كما في القرآن الكريم نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين فإنها كاشفة عن أمر عقلائي منذ القديم في أسلوب الإدارة وتدبير شؤون الحكم والدولة من الرجوع في القرارات إلى المشورة والشارع الحكيم قد أكد على ذلك الأمر المهم وحث عليه كما يكشف عنه إيراد ذكره في القرآن الكريم.

- رابعها:الآثار الهامة التي تترتب على المشاورة من إيجاد ربط القيادة بالقاعدة وتحفيز المواطنين على المشاركة في الشؤون العامة فتطلع الحاكم على أمور الرعية والاستخبار بأحوالهم ليرفع عنهم الحيث ويقوم بحاجاتهم ويلتزم بتطبيق العدل كما تجمع الأمة خلف الحاكم فتشاركه همومه وتكفيه في بعض مهامه مضافاً إلى تطييب الخواطر والنفوس ومنع الإخلال بالنظام والفوضى أو الوقوع في الأضرار التي يسببها انعزال الحاكم عن الشعب وغيرها من آثار كبيرة لها ملاكات الحرمة والوجوب التي ينبغي على كل حاكم القيام بها.

- الأمر الثاني: أن الإضافة الواردة في قوله سبحانه: (وأمرهم شورى بينهم) تدل على أن الشأن المستشار فيه هو ما يهم مجموع المسلمين وبناء عليه فإننا إذا نظرنا إلى الآية الكريمة نجد أن غاية ما تدل عليه هو أن الأمر والشأن مضاف إلى المسلمين ولكي يترتب عليه المحمول يجب توفر أمرين:

- أحدهما: أن يكون الأمر مما يهم جماعة المسلمين.

- والثاني: أن يكون صلاحية النظر في هذا الأمر إليهم أي مضاف إليهم ومختص بهم وهذا شرط مهم حتى يمكن تطبيق الشورى والحكم بشورائية القرارات وهذا ما تحرزه لنا قاعدة السلطنة.

ومما لا شك فيه أن اختيار الحاكم حيث كان بالاختيار والشورى وجب أن يلتزم بشروطها ومنها أن يراعي حدود ما أعطته الأمة من صلاحية للتصرف في شؤونها وأن يحرز رضاها في ما يختار ويقرر وهذا شرط ضمني في عقد الوكالة أو التفويض أو التخويل ونحوها على حسب عقد الانتخاب فلا يجوز للحاكم التفرد بالرأي أو اتخاذ ما لا توافق عليه الأمة أو ترتضيه لأنه بذلك إما يسقط عن الأهلية لعدم رضاية الأمة وبطلان الوكالة أو نيابته ونحوها أو تبطل طاعته في ذلك على الخلاف في المسألة.

- الثالث: أن في استشارة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه مع وفور رأيه وعصمته ورجحان عقله احتمالات:

- الأول: أنه مقتضى الحكم الواقعي وبالعنوان الأولي لظهور آية الشورى المعضودة بالحكم العقلي.

- الثاني: أنه مقتضى الحكم الواقعي لكن بالعنوان الثانوي وذلك للأهم والمهم والمحاذير العقلية المتقدمة.

- الثالث: أنه كان حكماً ظاهرياً وهو ما رجحه السيد الشيرازي (قدس سره) في كتابه الحكم في الإسلام ص61 قال كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يستشير أصحابه مع وفور رأيه وعصمته ورجحان عقله وأن يأخذ حسب الظاهر بآرائهم وإن كان يطابق رأيه في الواقع آرائهم فإن ذلك تسليماً واستمالة فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يفعل ذلك لهذين الأمرين وإلا لم يكن محتاجا لآرائهم كما هو واضح.

هذا والمسألة بحاجة إلى مزيد تتبع وتحقيق وفي الشورى مسائل أخرى وأمور لا يسعنا المجال لبيانها هنا فنرجعها إلى محلها.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين..