المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 40.doc

تقدم الكلام في بعض شروط الحاكم الأعلى للدولة الإسلامية وذكرنا شرطين ونتعرّض الآن إلى الشرط الثالث وهو الإسلام.

والمراد منه الإسلام العملي لا القولي، وبه نجمع بين شروط الإيمان والعدالة؛ فإن الإسلام قول وعمل، أما الإسلام القولي فهو إظهار الشهادتين على ما ذكره الفقهاء في الكتب الفقهية وهذا وإن كان يدخل قائله في جماعة المسلمين فتلزمه حقوق الإسلام كما عليهم واجباتهم إلا أن في مقام الإمرة والحكومة فإنه لا مجال للاكتفاء بالإسلام القولي في ذلك، لما قد يترتب عليه من أضرار وأخطار كما ستعرفه في العدالة، فإن الضرر الموهوم أو المحتمل في الأمور الخطيرة يجب دفعه عقلاً، وعليه فإن المراد من الإسلام هنا هو بمعناه الأخص، أي الإيمان المكون من الإقرار باللسان والاعتقاد بالجنان والعمل بالأركان، ويدل على وجوب توفّر هذا الشرط مضافاً إلى الإجماع النصوص من الآيات والروايات، فمن الأول قوله سبحانه وتعالى: (لن يجعل الله للكافرين على المسلمين سبيلا) بداهة دوران الأمر بالخارج بحسب الدليل والاعتبار الشرعي بين المسلم والكافر، فإذا لم يكن الإسلام مسلماً كان كافراً، وقد نفى الله سبحانه وتعالى سبيل الكفار عن المسلمين والمراد من السبيل كل ما يوجب هيمنة وقدرة للكافر على المسلم ومن أجلى مصاديقها السلطة والحكومة، وحيث أن الآية الشريفة إما في مقام الإنشاء الصرف أو هي خبرية في مقام الإنشاء، استفيد منها حرمة تولّي الكفار، فيتعيّن المسلم للولاية قهراً لعدم وجود الضد الثالث بينهما، ويعضد ذلك ما دلّ على حرمة اتخاذ الكفّار وأهل الكتاب أولياء كقوله سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين) والنهي في الآية يشمل كل الكفار كما هو مقتضى الأمور الاستغراقي، ومنها قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) والآية هنا تشمل في نهيها أهل الكتاب وخصوصاً اليهود والنصارى بداهة عدم الخصوصية لليهودية والنصرانية في ذلك، والمعنى أي لا يتخذوا أحد منكم أحداً منهم ولياً بمعنى لا تصافوهم مصافاة الأحباب ولا تستنصروهم، ومن الواضح أن الله عز وجل إذا منع من مجرّد إسداء المحبة والنصرة لهم دلّ ذلك بالأولوية القطعية على عدم جواز اتخاذها حكاماً ورؤساء لما يترتب على ذلك من اللوازم العقلية أو العرفية أو العادية من المحبة والنصرة والطاعة وما أشبه ذلك، ومن الروايات النبوية المشهورة رواية وعملاً الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وتقريب الاستدلال فيه أن الجملة في الحديث الشريف إما خبرية في مقام الإنشاء أو إنشائية صرفة وهو الأظهر لمكان النفي المستفاد من اللام في الحديث الشريف، فيدل في ظاهره على نفي كلّ ما يوجب علوّ غير الإسلام عليه، ومن الواضح أن الإسلام ما يشمل المسلمين أيضاً، بداهة وجود التلازم العادي أو العرفي أو العقلي بينما يترتب على الإسلام من آثار وما يترتب على المسلمين وبالعكس، ومن الواضح أن سلطة الكافر على بلاد المسلمين من أجلى مصاديق العلوّ، وهو مرفوع ومنهي عنه شرعاً، ويعضد ذلك الاعتبار بداهة أن الحكومة مسؤولية في تطبيق الأحكام الشرعية والقوانين الإسلامية فكيف يتولّى غير المؤمن بها، هذا وقد ورد هذا الشرط في كلام كثيرين من الفقهاء لكن جمعاً منهم أهملوه ولعلّ إهمالهم ناشئ من بداهته أو من جهة الأولوية المستفادة من باب القضاء فإن من المتفق عليه أن من شروط القاضي هو الإسلام فكيف به إذا كان حاكماً أعلى للبلد.

- رابعاً: الذكورة، ويدلّ عليه إجماع المسلمين القائم على عدم جواز إمامة المرأة في شؤون الحكم والولاية وإن اختلفوا في جواز توليها القضاء، فقد اتفق أصحابنا (رضوان الله عليهم) وأجمعوا على عدم جواز تولّي المرأة لشؤون القضاء، وهذا ما صرّح به الشيخ الطوسي (رضوان الله عليه) في كتابه الخلاف والمبسوط، وكذا المحقق الحلي في الشرائع والشهيد في المسالك، وكذلك في الجواهر وفي الفقه وفي مهذب الأحكام والمستمسك وغيرها من كتب الأعلام المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين، وربما يعضد ذلك السيرة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ لم يولّي النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا أحد من الأئمة (عليهم السلام) امرأة في شؤون القضاء فضلاً عن الولاية في بلد من بلاد المسلمين، وهو من قبيل لو كان لبان ولم ينقل لنا التاريخ في مورد من الموارد أنهم نصبوا امرأة في هذه الأمور، بل حتى الحكومات التي انحرفت عن مسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في شؤون الدولة والحكم أيضاً لم يعهد عنها أنها عينت امرأة في هذه المناصب فإن الأمويين والعباسيين مع أنهم حكموا هذه الأمة أكثر من ستة قرون وكانوا مولعين ومغرمين بالنساء والإماء كثيراً وكان لنسائهم وبناتهم وأخواتهم نفوذ مشهور في الحكم والدولة، وكان يوجد فيهم أهل الفضل والعلم أيضاً لكنهم لم يعهد عنهم أنهم ولو الأعمال للنساء مع أنهم ولوا في كثير من الأحيان من لا يليق بهذه المقامات من عبيدهم ومن صبيانهم وضعاف الرجال منهم، مع أن الدواعي كانت لتولية النساء في هذه المقامات كثيرة عندهم مما ربما يكشف عن أن هذا لم يعهد من قبل لا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا عن غيره ممن حكم بعده تولية المرأة في هذه المقامات.

- الدليل الثاني: ارتكازات المتشرعة القاضية بالعدم إما لجهة انعدام المقتضي أو وجود المانع، أما الأول فلانصراف أدلة الإمامة والولاية عندهم عن المرأة، وأما الثانية فلما يستلزم من توليها لشؤون الحكم والدولة من المخالطة مع الرجال والمعاشرة والسفر والحضر معهم وهو إن لم يكن بذاته عنواناً محرماً كما قد يراه البعض فإنه عادة يشتمل على المحرم وحينئذٍ يدور الأمر بين احتمالات عدة لا تخلو من توالي فاسدة عقلاً وشرعاً لأنها إما تقدم على ارتكاب المخالطة ونحوها لأجل تولي الحكومة والولاية فتقع في الحرمة شرعاً وهذا يوجب خروجها عن أهلية الولاية حينئذٍ، وهو يستلزم المحال العقلي لأن ما يلزم من وجوده عدمه محال وذلك لأن الإصرار على فعل الحرام حتى لجهة الحكومة يقع صاحبه في الفسق وبالكبيرة على مبنى المشهور الذين فسروه بفعل الكبائر أو الإصرار على الصغائر، وما تفعله المرأة في تولي شؤون الحكومة من التوالي المحرمة شرعاً لا يخرج من الاثنين، إن قلت يمكن القول بجواز توليها حتى مع ارتكاب الحكمة وذلك للأهم والمهم لأنه يقال في الفرض المذكور لا يتحقق موضوع التزاحم بداهة أنه لا يتحقق إلا إذا انحصر الامتثال بين تكليفين مع عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما فيقدّم الأهم منهما على المهم للابدية العقلية في ذلك، لكن فيما نحن فيه فلا انحصار ولا عجز عن الامتثال بداهة وجود البديل عن المرأة لكفاية الرجال في تولي هذه المقامات بما يسقط عنها التكليف في وجوب التصدي على فرض القول به فيما نحن فيه، وعليه فحتى على القول بجواز توليها ذلك كما قد يزعمه البعض فإنها تبطل ولايتها من جهة العدالة أو يقال بأنها لا تخالط الرجال فتخلّ حينئذٍ بنظام الإدارة وتضيع الحقوق لغلبة الرجال في مثل هذه الأعمال والشؤون ولا يمكن استعاضة الرجال بالنساء في مثل هذا، وذلك إما لعدم القدرة أو لعدم الوجود أو للمفاسد الأعظم المترتبة عليه، وعليه فما ربما يحتمل منه جواز تولّي المرأة لهذا المقام من دون محذور شرعي أو عقلي منظور فيه.

إن قلت من أين تقولون بأن مخالطة المرأة مع الرجال من العناوين المحرّمة أو يشتمل على المحرم، الجواب فإنه مضافاً إلى الإجماع والسيرة يدلّ عليه قوله سبحانه وتعالى: (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) والآية صريحة في الأمر بلزوم مقاربة المرأة للبيت وملازمتها له وحرمة تبرجها كتبرج الجاهلية في المجتمع، ومن الواضح أن تصدي المرأة لمقام الحكومة والولاية أو القضاء يستدعي خروجها من البيت واختلاطها بالرجال وإسماع صوتها لهم وغير ذلك من الأمور المرغوب عنها شرعاً، ولذا ذم جمع من الصحابة عائشة حينما خرجت إلى البصرة كما ذكرته تواريخ الفريقين، وذلك لارتكاز الأمر عندهم من أن المرأة لا ينبغي لها التصدي لمثل هذه الموارد، ولا يقال أن الآية مختصة بنساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه يقال أن المورد لا يخصص الوارد من جهة ومن جهة ثانية عدم فهم الخصوصية عرفاً أو فهم عدم الخصوصية بين نساء النبي وبين عموم نساء المسلمين، نعم ربما يكون التكليف في نساء النبي أشد وآكد لكن هذا لا ينفي وجوب ذلك وحرمته على نساء المسلمين أيضاً.

- الدليل الثالث: النصوص من الآيات والروايات، أما الآيات فربما يستدلّ بطائفة منها على ذلك منها قوله سبحانه وتعالى: (الرجال قوّامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض) وقوّامون صيغة مبالغة يراد منها التكفير كما هو واضح والمقصود من القيمومة هنا هو السلطنة والتدبير، قال الطبرسي (رضوان الله عليه) في مجمع البيان: الرجال قوامون قيمون على النساء مسلطون عليهن في التدبير والتأديب والرياضة والتعليم. وفي بعض التفاسير أن المراد بالقيام هنا هو الرياسة التي يتصرف فيها المرؤوس بإرادته واختياره وليس معناها أن يكون المرؤوس مقهوراً مسلوب الإرادة لا يعمل عملاً إلا ما يوجهه إليه رئيسه.

ولا يخفى أن التفضيل في الآية بين الرجل والمرأة معلول لسببين أحدهما تكويني وذلك لأن التفضيل التشريعي مناف للحكمة لعدم وجود المائز من حيث الأحكام والتكاليف بين الرجل والمرأة والأصل هو الاشتراك بينهما، وبعض التكاليف الخاصة بالنساء هي ميزة لها لا عليها، فلم يبق إلا التفضيل التكويني أي بما ميز الله سبحانه وتعالى الرجل عن المرأة تكويناً بقوة العقل والبدن والتدبير، ثانيهما الإنفاق في المال كما صرّحت الآية بقوله سبحانه وتعالى: (بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) وهذا أيضاً معلول للتفضيل التكويني لأن الرجل يقدر على كسب المال وتوفير الرزق بسبب ما لديه من قوة عقل وبدن وحسن تدبير، ومن هنا قال الطباطبائي وعموم هذه العلة يعطي أن الحكم المبني عليها أعني قوله: الرجال قوامون على النساء، غير مقصور على الأزواج بأن تختص القوامية بالرجل على زوجته بل الحكم مجعول لقبيل الرجال على قبيل النساء في الجهات العامة التي ترتبط بها حياة القبيلين جميعاً فالجهات العامة التي ترتبط بفضل الرجال كجهتي الحكومة والقضاء مثلاً اللتين يتوقف عليهما حياة المجتمع وإنما يقومان بالتعقل الذي هو في الرجال بالطبع أزيد منه في النساء وكذا الدفاع الحربي الذي يرتبط بالشدة وقوّة التعقل، كل ذلك مما يقوم به الرجال على النساء على هذا فقوله: الرجال قوامون على النساء، ذو إطلاق تام، كما ذكره في الميزان.

وفي مجمع البحرين قال: لهم عليهن قيام الولاء والسياسة، وعلل ذلك بأمرين أحدهما مرغوبي لله وهو أن الله فضّل الرجال عليهن بأمور كثيرة من كمال العقل وحسن التدبير وتزايد القوة في الأعمال والطاعات، ولذلك خصّوا بالنبوّة والإمامة والولاية وإقامة الشعائر والجهاد وقبول شهادتهم في كل الأمور ومزيد النصيب في الإرث وغير ذلك، وثانيهما كسبي وهو أنهم ينفقون عليهن ويعطونهن المهور مع أن فائدة النكاح مشتركة بينهما. إلى غير ذلك من كلمات الأعلام الدالة على أن التفضيل هو تمييز من حيث الخلقة والتكوين وليس من ناحية الحقوق والواجبات.

إن قلت شأن النزول في الآية في المرأة الأنصارية التي نشزت عن زوجها فلطمه زوجها واشتكاه أبوها عند النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) كما أورده في مجمع البيان وكذا السياق شاهدان على كون المراد من القيمومة في الآية هو قيمومة الرجال بالنسبة إلى أزواجهم، إذ لا يمكن الالتزام بأن كل رجل بمقتضى عقله الذاتي وبمقتضى إنفاقه على خصوص زوجه له قيمومة على جميع النساء حتى الأجنبيات، ولو سلّم الشك أيضاً فصرف الاحتمال يكفي في عدم صحة الاستدلال، الجواب مضافاً إلى أن خصوص المورد لا يخصص الوارد فربما يقال فيه:

- أولاً: إن الاحتمال ما لم يخلّ بالظهور للآية لا يبطل الاستدلال في موارد الظهورات العرفية، وإن أبطله في الاستدلالات العقلية، والآية فيما نحن فيه ظاهرة في التفضيل من حيث الطبيعة العامة السارية في جنس الرجال والنساء.

- ثانياً: إن عموم العلّة يقتضي ذلك فيؤخذ به إلا فيما ثبت خلافه.

- الثالث: أن مفاد الآية من أول الأمر بمقتضى الانصراف ومناسبة الحكم والموضوع هو خصوص موارد القيمومة كالولاية ونحوها لا مطلقاً فيكون مفاد الآية أن في الموارد التي يحتاج فيها إلى القيمومة للابدية التولي والرئاسة والاحتكام إلى شخص يعود إليه أمر القرار فالرجال قوامون على النساء دون لعكس.

- رابعاً: لو سلمنا الخصوصية الأسرية في الآية فإن الأولولية العقلية تعمم الدليل بداهة أن الآية الشريفة صريحة في الفرض المذكور في عدم ولاية المرأة في شؤون أسرتها مع وجود الزوج فعدم ولايتها وقيمومتها في شؤون المجتمع والأمة مع وجود الرجال الأكفاء أولى.

وبذلك يظهر وجه الجواب عمن احتمل ولايتها على النساء بدعوى انحصار دلالة الآية على عدم ولايتها على الرجال وذلك لأنه مع وجود الرجال الأكفاء لا يبقى موضوع لولاية المرأة، والآية شرعت حكماً في نفي هذه الولاية، والحكم مجعول على نحو القضية الحقيقية وبالعموم الاستغراقي الذي لا يختلف فيه زمان أو مكان على ما حقق في الأصول، هذا مضافاً إلى الإجماع والسيرة وارتكازات المتشرعة القائمة على عدم الفصل في نفي ولاية المرأة في شؤون القضاء والولاية بين الرجال والنساء.

من الآيات قوله سبحانه وتعالى: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم) وإطلاق الآية لا ينحصر بعلو الدرجة بالمال بل ظاهر في علو الرتبة والشأنية في موارد التشارك بين الاثنين سواء كان في شؤون المال أو تدبير المنزل أو العمل الخارجي فضلاً عن تولي الحكومة والقضاء ونحوه، وهذا أيضاً ليس تفضيلاً في الحقوق والواجبات بل هو تمييز ناشئ من الخصوصيات التكوينية والوظيفية بداهة أن الحقوق والواجبات نص عليها صدر الآية الشريفة بقوله عز وجل (ولهن) أي من الحقوق (مثل الذي عليهن) أي من الواجبات لكن في إطار المعروف وهو العدل والتوازن وليس المساواة لاستلزام القول بالمساواة المحال من جهات عدة، وأما التمييز فطبيعي وظيفي ولعلّ هذا التمييز الدقيق استدعى ختم الآية الشريفة بالعزة لعدم الضعف والحاجة إليه والحكمة لدقته ومراعاته لخصوصيات الطرفين، ويظهر ذلك في وجهين على ما ذكره بعض المفسرين:

- أحدهما إعطاء المرأة من الحقوق على الرجل مثل ما له عليها بعد أن كانت مهضومة الحقوق عند العرب وجميع الأمم.

- والثاني جعل الرجل رئيساً عليه فكأن من لم يرضى بهذه الأحكام الحكمية الناشئة من العالم الخبير الذي خلق المرأة والرجل وعلم بدقائق خصوصياتهما يكون منازعاً لله تعالى في عزه وسلطانه، وهذا ما يقتضيه العقل أيضاً وذلك لدوران الأمر بين حلول عدة بعد الفراغ من أنه لا بد للحياة وتدبير شؤونها سواء في الأمور الخاصة كالبيت والمنزل أو في الأمور العامة كالدولة والمجتمع من مدير ومدبّر ورئيس وهو لا يخلو حينئذٍ من احتمالات ثلاثة:

- الأول: أن تكون المرأة هي الرئيس والرجل مرؤوس فتغلب الحياة العاطفة ويدبّ في كثير من أركانها ضعفها أمام الالتواءات والأزمات، كما يضيع المجتمع لتركي الحامي والمربي والمعلم من ساحات التربية والتعليم الأسرية كما يستلزم إخلال النظام لتوظيف الرجل في غير مجالاته وترك الأسرة بلا راع وكله مفاسد عظيمة.

- ثانيها: أن يكون الرجل هو الرئيس، وهو المطلوب والمراد إثباته فيما نحن فيه.

- ثالثها: أن يكون كلاهما رئيساً على نحو التشريك فيستلزم التنازع ونقض الغرض لأن الذاتي لا ينفك عن ذاته وحيث أن المرأة ذاتيها الرحمة والعاطفة والنعومة والرجل ذاتيه الشدة والمنطق المنطلقان عن الطاقة العقلية والبدنية الكاملة فيه، ففي كثير من الموارد يقع النزاع والتخاصم في تقييم الأمور أو في اتخاذ القرارات، فإن القرار يتأثر بشخصية صاحبه من الناحية العاطفية ومن ناحية الشدة من ناحية الليونة أو الصرامة، العقلانية أو الشعورة، وعليه فإن غلبنا جانب الرجل ثبت المطلوب أو المرأة انتقض الغرض أو كلاهما فيعود الإشكال من جديد، أو يقال بأن التشريك يكون على نحو التشاور مع بعضهما والرأي الحاسم حينئذٍ يكون للرجل لما فيه من كفاءة وتجربة وعقلية تمنحه هذه الصلاحية وهذا لا مانع منه وينتهي إلى توزيع المسؤوليات، فحينئذ ينبغي أن يكون التوزيع حكيماً بمقتضى ما تقتضيه خصوصية كل طرف من الطرفين ومن الواضح أن في مثل هذه الموارد ينبغي أن يكون الرجل الكفوء هو الرئيس والمرأة تتولى الشؤون في غير الدولة والقضاء والحكومة لما عرفت من المفاسد المترتبة على ذلك، وحينئذ يثبت المطلوب أيضاً ولعل هذا ما تعضده الروايات أيضاً ففي الخبر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياءكم سمحاءكم وأموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير من بطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنيائكم بخلائكم وأموركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير من ظهرها، وبذلك يظهر أن هذا لا يعد هضماً لحقوق المرأة ولا منعاً لمشاركتها في الأمور السياسية إذ المرأة تستطيع أن تمارس كل الأدوار التنفيذية والسياسية والاجتماعية ونحوها التي تنسجم مع خصوصياتها وطبيعتها مع عدا الرئاسة والقضاء لما عرفت.

وربما يعضد ذلك بعض الآيات والروايات الدالة على أن المرأة إنسانة لطيفة المشاعر رقيقة العاطفة تتناسب مع الجوانب الرحيمة والرائعة في الحياة، من العطوفة والجمال والزينة لا مع الجوانب الخشنة من صرامة القرار وصلابة المواقف وخشونة التنفيذ وشدته، قال سبحانه وتعالى: (أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين) استنكاراً على المشركين الذين جعلوا لله سبحانه وتعالى البنات واختاروا الذكور، ففي جوابهم أشار الباري عز وجل إلى بعض الخصوصيات التكوينية في المرأة إذ أن المرأة بطبعها الأولي ميالة إلى الزينة وميالة إلى العيش فيها يقول الطباطبائي في تفسير الميزان: قوله تعالى (أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين) أي وجعلوا لله سبحانه وتعالى من ينشأ في الحلية أي يتربى في الزينة وهو في المخاصمة والمحاجة غير مبين لحجته لا يقدر على تقدير دعواه، وإنما ذكر هذين الوصفين لأن المرأة بالطبع أقوى عاطفة وشفقة وأضعف تعقلاً بالقياس إلى الرجل وهو بالعكس، ومن أوضح مظاهر قوة عواطفها تعلقها الشديد بالحلية والزينة وضعفها في تقرير الحجة المبني على قوة التعقل.

وعليه فإن من الواضح أن التربية في حواضن الزينة والحلية والجمال والعواطف الرقراقة والأحاسيس المرهفة هذه جميعاً تتنافى مع مسؤولية القضاء والحكم وهذا ليس نقصاً في المرأة بل هو تنزيه لها وتعلية لشأنها وصيانة لجوهرها لما فيه من تجنيب المرأة المرهفة الحساسة من التلويث الذي قد ينجم عن أزمات المجتمع التي ترفع قضاياه إلى الحاكم أو القاضي لكيلا تنعكس هذه التشويهات والتلوثات على روحها وعاطفتها فتؤثر على أولادها في حالات التربية المختلفة التي تمر بها المرأة مع الأولاد والتي هي من أسمى المهام الإنسانية في الحياة التي قد تسموا على مهمة الحاكم والقاضي فإن من الواضح أن الشفار الرقيق سرعان ما يخدشه الطاري الخشن العنيف، وفي الحديث عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته لابنه الحسن (عليه السلام) ورد فيها: ولا تملك المرأة ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، وفي الروايات النبوية: رفقاً بالقوارير، ومن المعلوم أن القضاء هو أحد الأمور الخارجة عن شؤونها الخارجة عن حيطة قدرتها والمنافية لطبعها وطبيعتها وربما يؤيد ذلك أيضاً بمثل قوله سبحانه وتعالى في قضية سليمان وبلقيس عن لسان الهدهد: (إني وجدت امرأة تملكهم) بناء على أنها ليست للإخبار الصرف بل في مقام الإنشاء الكاشف عن مبغوضية سلطنة المرأة وملوكيتها على الأمة فتكون ظاهرة في ذم ذلك واستهجانه، نعم إلا أن يقال وجه الذم لو كان على ملكيتها لهم لا سلطتها لكنه خلاف الظاهر لدلالة السياق والظهور التبادري على السلطة والحكم، وأما الروايات فقد دلت في مجملها على حظر تولي الولاية والحكم على المرأة منها ما عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي اشتهر نقله في كتب الفقهاء والمحدثين من الفريقين عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: لا يفلح قوم وليتهم امرأة، وهذا رواه العامة أيضاً بأكثر من طريق، كما يظهر من الترمذي وابن حزم وابن الأثير بصيغ مختلفة، فعن الترمذي: لن يفلح يقوم ولوا أمرهم امرأة وعن ابن حزم: لا يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة، وعن ابن الأثير في النهاية: ما أفلح قيمهم امرأة.

هذا وقد ذكر الحديث الشيخ الطوسي (رضوان الله عليه) في الخلاف والفاضل النراقي في المستند، لكن في الخلاف بصيغة لا يفلح قوم وليتهم امرأة، وفي المستند لا يصلح قوم وليتهم، وإطلاق الحديث يشمل كل امرأة لكونه على نحو القضية الحقيقية، كما أن الولاية ظاهرة في مثل الحكومة والسلطة والرئاسة العليا للبلاد فاستظهار بعضهم أنه من قبيل القضية الخارجية لكون المراد منه هو امرأة خاصة هي التي خرجت على أمير المؤمنين (عليه السلام) في واقعة الجمل، يمكن دفعه بأن المورد لا يخصص الوارد، ولذا روى بعض العامة كما في البخاري من حديث أبي بكر أنه قال: نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيام الجمل بعدما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم قال: لما بلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن أهل فارس ملّكوا بنت كسرى قال: لن يفلحوا قوم ولوا أمرهم امرأة، وزاد الترمذي والنسائي بقولهم: فلما قدمت عائشة إلى البصرة ذكرت قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فعصمني الله تعالى به، كما أورده القلقشندي في الفاصل الجزء الرابع الصفحة 166، ومآثر الأنافة صفحة 31.

وكيف كان فالحديث مشهور وإن اختلفت عباراته ولعلّ الشهرة تجبر ضعفه سنداً وأما دلالته فواضح، ومن الروايات ما رواه الصدوق في الخصال بسنده عن جابر بن يزيد الجعفي قال: في حديث طويل في بيان خصوصيات المرأة في بعض الأحكام ومنها: ولا تولّى المرأة القضاء ولا تولّى الإمارة، وفي الوسائل رواه ولا تلي الإمارة، وظاهر العبارة في النهي هو الوضع لا التكليف فقط، حتى عند المشهور من الأصوليين القائلين باستقلالية الجعل الوضعي عن التكليفي، وأما عند القائلين بانتزاعية الوضع عن التكليف كالشيخ والسيد الشيرازي (قدس سرهما) من أعلام المتأخرين والمعاصرين فالأمر فيه أجلى، وعليه تكون الذكورة شرطاً في الإمارة والقضاء فإن ظاهر النفي المراد به النهي هنا لكونه في مقام الإنشاء هو الحرمة والفساد، إلا فيما ثبت خلافه وقريب منه ما رواه في آخر الفقيه بإسناده عن حماد بن عمر وأنس بن محمد عن أبيه عن جعفر بن محمد عن آبائه في وصايا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام) ذلك أيضاً، لكن ورد فيه: ولا تولى القضاء، فحينئذ يدل على حرمة توليها لمقام الحكومة وبطلان هذه الولاية بالأولوية القطعية، ومنها ما في نهج البلاغة في كتاب مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى ابنه الحسن (عليه السلام): وإياك ومشاورة النساء فإن رأيهن إلى افن وعزمهن إلى وهن واكفف عليهن من أبصارهن بحجابك إياهن، فإن شدة الحجاب أبقى عليهن وليس خروجهن بأشد من إدخالك من لا يوثق به عليهن وإن استطعت أن لا يعرفن غيرك فافعل ولا تملّك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، وورد هذا المضمون بتفاوت يسير في الكافي بإسناده عن عمر بن أبي المقدام عن أبي جعفر (عليه السلام) وكذا أورده الصدوق في نوادر آخر الفقيه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه إلى محمد، والأفن بالسكون ويروى بالتحريك أيضاً والضعف ولا يخفى ما في تشبيه المرأة بالريحانة من كمال اللطف والظرافة، لكون المرأة للطافتها وظرافتها تتأثر بالعلاقات الخارجية والاحتكاكات التي تمارسها المرأة وتزاولها بالأمور المختلفة، فكمالها وبهاؤها أن تبقى في منبتها وروعتها وبيئتها فيلتذ بصفائها ومنظرها وإلا ضاعت وتشوهت روحها الرقيقة، والقهرمان من يحكم في الأمور ويتصرف فيها، وعن بعض الأعلام أنه يمكن الاستشهاد للمقام بموارد من الرواية إذ لو لم تصلح المرأة للمشاورة لضعف رأيها فعدم صلاحها لتفويض الولاية أو القضاء المحتاج فيهما إلى الفكر والرأي الصائب القوي بطريق أولى، والأمر بحجابها والمنع من خروجها ومعرفتها غيرها وكذا إدخال غيرها عليها في بيتها دليل على عدم جواز تصديها لما يستلزم الظهور في أندية الرجال والمخالطة والمحاجة معهم وتفويض الولاية إليها تمليك لها لما جاوز نفسها، إلا أن يقال أن المنهي عنه تمليكها ما يكون من أمرها أي خصوص ما يكون بينها وبين زوجها وأولادها مثلاً فلا يشمل الأمور العامة.

هذا ولا يخفى أن النهي عن المشاورة وما أشبه لا يراد به الإطلاق الشامل لكل الأمور، بل هو إنام يحمل على الشؤون العامة للدولة والمجتمع لانصراف النهي إليه لما عرفت من تخصص المرأة في غير هذه الشؤون وكفاية الرجال الذين هم أقدر وأكثر انسجاماً معها، فاللجوء إلى المرأة مع وجود الكافي من الرجال الأكفاء ترجيح للمرجوح أو يحمل على حسب التلقي العرفي الذي يقتضي الجمع بين الأدلة، هو النهي عن ترتيب الأثر على رأي المرأة بلا فكر ولا روية وذلك لغلبة جانب العاطفة فيها، وعليه فإن مناسبة الحكم والموضوع والجمع بين الأدلة القاضية باستحباب الشورى ولزوم الأخذ بها وبين عاطفية المرأة وعدم توليها لمقام الحكم والولاية هو التثبيت في الرأي وتشخيص نقاط قوته والوقوف عند ثباته فإن رأي المرأة قد يكون منبعثاً من الطبيعة العاطفية فيها وقد يكون عن الحالة العقلانية، فإن كان من الأول فلا ترتب عليه الأثر وإن كان من الثاني فينبغي الأخذ به ويعضد ذلك تعليل النهي الوارد في الحديث الشريف حيث علله (عليه السلام) بأن رأيهن إلى أفن وعزمهن على وهن، وهذه سمة الرأي المنبعث عن العاطفة وأما لو كان الرأي راسخاً ثابتاً دقيقاً صحيحاً فينبغي الأخذ به لما يتصف به من مظاهر الحق والقوة، أو يحمل على حصر المشورة بالنساء دون إشراك غيرهن كما يستظهر منه ومن الواضح أن حصر المشورة بهن مع وجود غيرهن مناف بل هو ضعف ووهن وموجب لضعف الحكم وضعف السلطان، فإن من المصائب العظمى في السياسات والدول تدخل نساء الرجال والشخصيات السياسية والاجتماعية في شؤون الدولة والحكم ورجوع أرباب الحوائج إليهن للشفاعة مع الإصرار، وقد وقع كثيراً نقض القوانين والضوابط عن هذا الطريق وفي شرح ابن أبي الحديد المعتزلي أن الخيزران أم موسى هادي العباسي كانت تتكلم معه كثيراً في حوائج المراجعين، فكانت المواكب تغدو إلى بابها وآل الأمر بالأخرة إلى أن قال لأمه لئن بلغني أنه وقف أحد من قوادي وخاصتي وخدمي وكتابي على بابك لأضربنك عنقه ولأقبضن ماله أو يحمل النهي عن المشاورة بالنسبة للنساء اللاتي ليس لهن اطلاع كافي في مورد المشورة فيخرج عن ذلك مشورة النساء اللاتي لهن تخصص ومعرفة وخبروية كافية في شأن الموضوع الذي يراد مشورتهن به فإن ذلك خارج بالتخصص كما هو واضح، أو غير ذلك من المحامل التي تجمع بين الأدلة والحقوق، هذا ما يرتبط بالشؤون العامة.

وبذلك يظهر أيضاً أن مشاورة النساء فيما يرتبط بشؤونهن الخاصة وما لا يعرف إلا من قبلهن بنحو كلي أو إجمالي خارج عن مورد النهي بالتخصص لكون ذلك المنصرف عنه الدليل، وربما يستدل أيضاً على ذلك بما ورد في فروع الكافي في حديث عن مالك بن أعين: ولا تهيجوا امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراؤكم وصلحاؤكم فإنهن ضعاف القوى والأنفس والعقول وقد كنا نؤمر بالكف عنهن وهن مشركات وإن كان الرجل ليتناول المرأة فيعير بها وعقبه من بعده، وتوضيح الاستدلال بهذه الرواية نتعرض إليه في البحث القادم إنشاء الله تبارك وتعالى.

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.