المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 39.doc

- المسألة الثالثة: لو فرض وجود صيغتين صالحتين للحكم، إحداهما تقوم على توزيعه على السلطات الثلاث، والأخرى تقوم على غير هذه الصيغة، كان للحاكم في عدم صورة الاشتراط عليه اختيار أيهما شاء، كما أنه لو فرض وجود صيغة واحدة أكثر صلاحاً من التوزيع الثلاثي المعروف وجب على الحاكم اتباع تلك الصيغة وعلى هذا فلا يقال لم يكن في زمان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومولانا أمير المؤمنين (عليه السّلام) توزيع للحكم على السلطات الثلاثة، وعليه فلا شرعية له، فإنه يقال فيه نقضاً وحلاً أما النقض فما تواتر نقله بالتاريخ والأخبار من أن الرسول الأعظم وأمير المؤمنين (عليهما السلام) كانا يعينون أفراداً للقضاء، ورؤساء للجيوش وعمال للصدقات وأمراء للعشائر والقبائل وأمراء للبلاد والولاة والحكام، وربما جعلوا في البلد الواحد والياً وقاضياً ومحتسباً. فما ذكر من عدم وجوده محل تأمل.

وأما حلاً فقد كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في جملة شؤونه الكثير تطبيقات بحسب الظروف والمتطلبات التي تفرضها طبيعة الحياة والمجتمع، وتلك يجب أن تكون في كل ظرف بحسب ذلك الظرف، وعليه فإن تطبيقاته كانت متغيرة لا ثابتة دائماً وهذا هو مقتضى طبيعة الحكم والسلطة وهو مقتضى السيرة العقلائية، وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) القدوة والأسوة، ومعنى كونه أسوة ليس الموافقة الحرفية فإنه خلاف الأسوة التي يتلقاها العرف ويتبادر إلى ذهنه منها، وإلا لزم المحذور في أكثر من جهة، فمثلاً أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أسامة بن زيد لأنه رآه صالحاً للإمارة فإذا مضى على عمر أسامة مائة سنة مثلاً واتفقت حرب فهل نؤمر أسامة غير الصالح بسبب شيخوخته أو مرضه أو ما أشبه أو نؤمر من كان بمنزلة أسامة في صلاحيته؟ فإن الأسوة تقتضي الثاني بينما الأول خلاف الأسوة، فقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنه لجدير بالإمارة، يتلقى عرفاً أنه كذلك بشرط الموضوع، وعليه فإذا انتفى الموضوع انتفت الجدارة منه شخصاً، لكن حيث بقي الملاك في لزوم جعل الجدير فيمكننا أن نختار نحن لها ذلك أيضاً.

هذا بلحاظ طول الزمان، وأما بلحاظ عرضه فكذلك لا يجب تأمير أسامة خاصة إذا بقي على الصلاح مع فرض وجود صالح آخر في عرضه أو كان غيره أصلح منه فإنه في الأول يختار الحاكم أيهما شاء لوجود الملاك فيهما، ولا خصوصية لأسامة وفي الثاني يختار الثاني بفرض أنه اصلح، هذا وقد نظّر له بعض الفقهاء بمثل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): الخيل معقود بنواصيها الخير، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): الجنة تحت ظلال السيوف، فإنه إذا تبدلت الخيل وتبدل السيف إلى الدبابة والبندقية كانت الأسوة فيه (صلى الله عليه وآله وسلم) باتخاذهما لا اتخاذ الخيل والسيف، فإنهما يصبحان خلاف الأسوة بحسب المتلقى عرفاً وعقلائياً والحاصل المعيار هنا هو الصلاحية الجهوية لا الشخصية، ولذا لم يستشكل أحد من الفقهاء في تأسيس المدارس وطبع الكتب وإنشاء المكتبات وإصدار الجرائد والصحف ونصب الإذاعات المرئية واللامرئية والسفر إلى الحج بالوسائل الحديثة وجعل أنظمة للشرطة والمرور وبناء المستشفيات والمطارات إلى غير ذلك، بل يجدون كل هذه الأمور من صغريات الكليات الإسلامية المنطبقة عليها بحسب الزمان والظروف والأحوال وإن لم تكن موجودة في زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن وضع الكليات وتشريعها موكول إلى الشارع وأما تطبيقها وتعيين مصاديقها موكولة إلى العرف كما حقق في محله من الأصول.

- المسألة الرابعة: إن حق الحاكمية في الدولة يعطيها صلاحيات كثيرة تتوزع على سلطاتها الثلاثة على حسب مبدأ الفصل لو قررت الأمة هذا المبدأ، لكن ينبغي أن يكون ذلك بحسب رأي الأكثرية في المجلس إذا كانت الانتخابات غير مباشرة أو أكثرية الأمة إذا كانت مباشرة، وعليه فللدولة بهذا الحق صلاحيات واسعة يبيح لها وضع الضوابط والأنظمة والقوانين التطبيقية والتأطيرية التي تراها في مصلحة النظام والبلاد، كتنظيم المحاكم وتنفيذ الأحكام وفرض الضرائب وجبايتها، والمنع عن جباية المال للأفراد والجماعات إلا بإذنها، وإلزام الناس بالخدمة العسكرية بوضع قوانين لها أو تنظيمات خاصة وكذلك أعمال الشرطة وشؤونها والمحافظة على الأمن بمختلف المسائل والوسائل وسن قانون العقوبات وتنفيذها بحق المجرمين واتخاذ التدابير الدفاعية ونحوها خصوصاً في ظروف الحرب والفوضى والاضطراب وإصدار قرار منع التجول وجعل القوانين المراعية لحق الملكية الفردية والجماعية مما لا إجحاف فيه ولا إضرار، وكذا الاستيلاء على أرض الغير في حالات الاضطرار كالشؤون العسكرية في حالات الحرب والحصار مع تعويض أصحابها ببدل الإيجار أو بدل الملك تعويضاً عادلاً ومصادرة ما تصح مصادرته كأدوات الجريمة مثل ما يستعمل في الاعتداء أو يهدد أمن وسلامة المجتمع، وتشريع قوانين السجون وتنفيذها بحق بعض المجرمين، وإدارة الأشياء التي لا مالك لها، أو القصّر الذين لا ولي خاص لهم، وإعطاء العقود الصيغة الرسمية وترسيم المعاملات والوقوف دون نقل بعض الأمور كالآثار العتيقة والحيوانات النادرة والكتب المخطوطة ونحو ذلك، كالوقوف دون هدم وتغيير الآثار القديمة، إلى غير ذلك مما ينبثق عن سيادة الدولة من مجموعة التصرفات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لمكافحة المشكلات ولتوجيه الحياة وتنميتها، وكذلك تقوم الدولة بالجهود للسلام العالمي والسلام المحلي إذا قامت الحرب بين دولتين، أو نشبت حرب أهلية في دولة واحدة، وبالجهود لإزالة التفرقة العنصرية واللونية واللغوية والعرقية وما أشبه، وكذلك بالجهود لأجل تحسين الجوار بين الدول ولأجل تخفيف أعباء دولة على شعبها.

ولأجل تخفيف المرض والجهل والجريمة وما اشبه الكائنة في بعض الأمم.

ولا يخفى أن الدولة الإسلامية تعمل بكل هذه الأمور لكن بشروط عدة:

- الأول: ملاحظة قانون الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم، فكل ما ينافي هذا القانون يكون من باب الضرورة وهي تقدر بقدرها، وبذلك يظهر أن الاستثناءات لها صفة التوقيت لا الدوام.

- الثاني: لزوم كون القوانين تشريعاً وتنفيذاً في الإطار الإسلامي الذي استقي من الأدلة الأربعة.

- الثالث: لزوم كون التنفيذ مشتملاً على شرطين أحدهما ولاية الفقيه بمعنى أن الرئيس الأعلى للدولة هو الفقيه الجامع للشرائط فهو وحده الذي له الحق في إدارة البلاد وتوجيه العباد، فإدارة البلاد لا يجوز لغير الفقيه حتى وإن طابق الشروط السياسية لما عرفت من موضوعية الولاية في الحكم وذلك لمثل قوله (عليه السّلام): فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم، فكل ما يخالف ذلك ينتهي إلى الاجتهاد في مقابل النص.

ثانيهما كون الفقيه الصالح منتخباً من قبل أكثرية الأمة وعليه فإنه إذا كان هناك فقيهان جامعان للشرائط انتخبت الأمة أحدهما فإنه لا يحق للآخر تولي الشؤون كما هو مقتضى دليل الشورى ومقتضى مثل قوله (عليه السّلام): انظروا إلى رجل منكم..، إلى غير ذلك من الأدلة، وبذلك يظهر أنه لا ولاية للفقيه خارج الإطار الإسلامي فإن الفقيه هو الذي يراعي أحكام الإسلام في إقامة الدولة والنظام، لا الذي يعمل بخارج نطاق الإسلام كما تبين أيضاً أن لا ولاية للفقيه خارج انتخاب الأمة بالنسبة إلى التصرف في شؤون البلاد العامة.

- المسألة الخامسة: قد يتوهم البعض أن صيغة ولاية الفقيه حتى في مثل مبدأ فصل السلطات تستلزم محذورين في الحكم والسلطة:

- الأول: من جهة أنها صيغة لنظام الحكم في الدولة الإسلامية التي يقطنها مسلمون ينتمون إلى مذاهب عدة في علمي الكلام والفقه، وهي نظرية قائمة على ضوء قواعد الفقه الشيعي الحق لكونها عبارة عن النيابة العامة عن الإمامة المعصومة التي لا يسلم بها علم الكلام الأشعري والمعتزلي ومذاهب الفقه العامي، وعليه فإن هذا يوجب إما فرض الإرادة وإكراهه على خلاف ما يعتقدون وهو منافٍ لسلطنة الناس على أنفسهم، أو توجب اختلال النظام والهرج والمرج.

- الثاني: لو سلمنا فهي نظرية عامة لا تختص بشيعة بلد واحد، أو مسلمي بلد واحد، بل تقتضي طاعة وانقياد المسلمين عامة لها، سواء أكانوا داخل حدود سلطتها أم كانوا لا ينتمون إلى أرضها، وهذا يتنافى مع الوضع الدولي القائم كما يتنافى مع اختيار الناس لمرجعيات أخرى من غير المتصدية للدولة أو متصدية لغيرها.

وعليه، فهي بالاعتبار الأول تسبب أزمة الحكم وبالاعتبار الثاني تسبب أزمة الطاعة، إذ حتى لو سلّم المسلمون أو الشيعة منهم بشرعية هذه الصيغة فربما لا يسلمون بوجوب الطاعة لها خارج حدود تطبيقها وخارج حدود شعبها وأرضها، بينما هي بحكم كونها صيغة الولاية النائبة عن المعصوم تقضي الطاعة المطلقة كما لو كان الإمام المعصوم (عليه السّلام) بنفسه على رأس سلطة الدولة الإسلامية المعاصرة، ولكن هذين المحذورين مدفوعان وذلك لوجهين:

- أحدهما: ما ذكره بعض الأعلام من أن الحكومة الإسلامية على صيغة ولاية الفقيه الثابتة باعتبار كون الفقيه نائباً عن الإمام المعصوم (عليه السّلام) هي ليست حكومة الإمام المعصوم، ولا تثبت لها عمومية ولاية الإمام المعصوم وإن كان البعض يحاول ذلك ويدّعيه لاعتبارات يدّعي أنها فقهية، وهي في حقيقتها اعتبارات سياسية ليس لها سند فقهي معتبر، بل هي حكومة نائب الإمام فلا يثبت لها إلا القدر المتيقن من السلطة في الأمور المنوب عن الإمام في ممارستها، وإعمال الولاية بشأنها والمعيار في ذلك هو دليل نيابة الفقيه عن الإمام المعصوم (عليه السّلام) في الشأن السياسي السلطوي والتنظيمي، وهذا الدليل إما الاعتبار العقلي من جهة وجوب حفظ النظام العام لحياة المجتمع، وإما الأدلة اللفظية التي يدّعى دلالتها على النيابة العامة عن الإمام المعصوم (عليه السّلام)، فإذا كان دليل الشرعية هو وجوب حفظ النظام فمن المعلوم أنه دليل عقلي لبّي لا إطلاق له، ولا يمكن التمسّك به إلا بالمقدار المتيقن منه، وكل مورد يشك في اندراجه فيه يكون خارجا عنه في مقام العمل. والقدر المتيقن من الدليل في مقامنا هذا هو كون الفقيه ولياً في نطاق شعب الدولة الإسلامية وأرضها، ولا تتعدى سلطته هذه الحدود إلى ما وراءها من المسلمين الذين لا ينتمون إلى هذه الدولة، ولم يستوطنوا أرضها وهذا واضح، وأما إذا كان دليل الشرعية هو الدليل اللفظي فالظاهر أن عمدة النصوص التي تذكر عادة في الاستدلال على الولاية العامة للفقيه في عصر الغيبة لا إطلاق فيها من ناحية الولاية السياسية على كل المسلمين، بل الظاهر اختصاصها على فرض دلالتها على أصل الولاية بمن تصدى لإقامة تكوين الدولة الإسلامية ونصب الحكومة الإسلامية فيها.

ومن عمدة ما يذكر في الاستدلال على الولاية العامة للفقيه ما رواه الكليني (رضوان الله عليه) في الكافي بسنده عن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السّلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحلّ ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً وإن كان حقاً ثابتاً لأنه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر الله أن يكفر به قال الله تعالى: (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به) قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران إلى من كان منكم ممن روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منا فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله) ووجه الاستدلال أن قوله (عليه السّلام): ينظران إلى من كان منكم، لسانه ومفاده لسان ومفاد العلة لقوله: فإني قد جعلته حاكما، فيكون جعله حاكماً فرع نظرهم واختيارهم وهذا الجعل إذا يختص بمن نظر واختار دون من لم ينظر فتختص ولاية الفقيه بأهل ذلك البلد الذين نظروا واختاروا وأما أهل سائر البلدان الإسلامية الذين لم ينظروا ولم يختاروا هذا الفقيه فلا ولاية له عليهم لأنه لم يجعل حاكماً في حالة عدم النظر، فلو نظر أهل بلد آخر من بلاد المسلمين إلى فقيه آخر واختاروه لكان هو المجعول حاكماً دون الفقيه الذي كانت حاكميته في بلده نتيجة لنظر واختيار أهل بلده، والخطاب في هذه الرواية ونظرائها ليس للأمة على نحو إنشاء الحاكمية للفقيه وإنما هو لمن نظروا واختاروا وهذا يقتضي أن تقتصر الولاية عليهم ولا تتعداهم إلى غيرهم وإذا كان في الروايات الأخرى التي يستدلّ بها على ولاية الفقيه إطلاق فيجب تقييده بهذه الرواية في خصوص من نظروا واختاروا على أن القول بالإطلاق في غيرها فيه مجازفة واضحة ولا أقل من إجمال الروايات من هذه الجهة على فرض دلالتها على أصل الولاية فيقتصر منها على القدر المتيقن وهو خصوص شعب الدولة التي يحكمها الفقيه دون غيرها من شعوب الدولة الإسلامية.

لكن ربما يناقش فيه من جهات عدة، ونكتفي نحن بجهة إمكان القول بأن المشهور بين الفقهاء هو القول بولاية الفقيه من جهة الأدلة اللفظية، والظاهر من مثل المقبولة المتقدمة هو الجعل أولاً من قبل المعصوم (عليه السّلام) للولاية لمن توفرت فيه شرائط الحاكمية لكن حيث أن من تتوفر فيه الشرائط عادة متعدد والموضوع لا يستوجب الأكثر، أوكل الخيار إلى الناس وعليه فالاختيار متفرّع عن الولاية وليست الولاية متفرعة عن الاختيار، وذلك لقرينتين إحداهما فاء التفريع وثانيهما الظهور في علية الإرجاع إليه وحرمة الرد عليه فإنه لولا ولايته لما أرجع إليه ولا أقل من الاحتمال الذي يخلّ بالظهور فيما ذكره أو ذكرناه فحينئذٍ تقصر دلالة الرواية عما ذكره للإجمال، بل قد يقال بأن ما ذكره من التوجيه قد يستلزم المحال من جهة شبهة الدور وذلك لظهور صورة المسألة هكذا..

نقول إن صحة رجوع الناس إلى الفقيه متفرع عن ولايته وحكومته بداهة أن في غيرها تكون القضية ساندة بانتفاء الموضوع، فإذا قلنا أن حكومته متفرعة عن اختيار الناس له لزم الدور لتوقف الشيء على ما يتوقف عليه، نعم يمكن رفع هذه الشبهة بالشأنية والفعلية التي قالها جمع من الفقهاء بمعنى ثبوت شأنية الحاكمية لمن توفرت فيه الشرائط فإذا ارتضاه الناس واختاروه تكون فعلية، والفرق بينهما أن على الأول ليس لأوامره ونواهيه الحكومية تنجيز وإلزام شرعي في الطاعة وإن كانت أحكامه الفقهية في التقليد حجة، بخلافها عن الثاني لما عرفت من إمكان التفكيك بين شؤون التقليد وشؤون الحكومة لعدم الملازمة بينهما، وبهذا يرتفع الإشكال أيضاً بداهة أن وجوب الطاعة ينحصر بأهل البلد الذين اختاروا فقيههم ولا يشمل غيرهم، نعم إلا أن يقال بجريان العادة الاجتماعية بل والسيرة قديماً وحديثاً على أن اختيار الناس للفقيه يتفرّع عن التقليد ولا يختلف الحال عندهم في هذا الاختيار بين الشؤون الخاصة أو العامة، وعليه فإن من اختار مقلّده في العبادات يكون قد اختاره ارتكازاً في الشؤون السياسية أيضاً، بل ولعله المتلقى عرفاً كذلك لعدم الفصل بين الدين والدولة في الإسلام، وشؤون التقليد لا تنحصر في بلد أو شعب أو قومية خصوصاً في المرجعيات العامة واسعة الانتشار.

وعليه فإنه لو تصدى الفقيه الجامع للشرائط في بلد لإقامة الدولة وأقامها بالفعل فإنه يعود الكلام من جديد بالنسبة لأحكامه وقراراتها العامة التي تشمل كل مقلديه وإن ارتفع الإشكال بالنسبة إلى القرارات الخاصة والمحصورة.

نعم إلا أن يقال بأن قراراته في البلدان التي لا تخضع لنفوذه وسلطنته غير منجزة على مقلديه، وذلك لجهة عدم القدرة على الامتثال بحسب العناوين الأولية لجهة عدم وجود موضوعها كلزوم المشاركة في الانتخابات، أو التصدي لتولي الوظائف الحكومية في الدولة، أو الدفاع بحسب الوجوب الكفائي عن الدولة الإسلامية المتعرضة إلى الحرب وهكذا.. أو بحسب العناوين الثانوية في الأمور الأعم كما لو كانت طاعته تسبب النزاع والاضطراب واختلال النظام وسفك الدماء وهتك الأعراض وهدر الأموال ونحو ذلك من المفاسد العظيمة الخطيرة، فإن قانون الأهم والمهم وأدلة رفع الضرر والحرج حينئذٍ تمنع من منجزية وجوب الطاعة لحكومتها عليها.

- ثانيهما: إمكان الالتزام بتعميم الأخذ بنظام الشورى ووضع نظام الدولة بما ينسجم مع مختلف مذاهب الشعب سواء في قمة الحكومة أو في مجالسها جمعاً بين الأدلة والحقوق، فإن ولاية الفقيه حجة على الشيعة الذين يلتزمون بالنيابة العامة للمعصوم (عليه السّلام) فلذا يلزمون بها، كما أن المذاهب الأخرى يلزمون بما يلتزمونه في ذلك سواء في نظرية أهل الحل والعقد أو البيعة وما أشبه..

ويمكن حينئذ تشريكهم في الحكم في هيئة عامة تضم ما يرتضونه حاكماً وما يرتضيه الشيعة، ويأخذون بأكثرية الآراء في الشؤون العامة للبلاد، وأما في الشؤون الخاصة فلكل مذهب أو طائفة زعيمهم أو زعمائهم الذين اختاروهم في الوظيفة والقرار بحسب قانون الإلزام، وهذا يجري أيضاً بالنسبة إلى الأقليات وأهل الأديان الأخرى، وبذلك يتوحد المجتمع وتحفظ الحريات وتصان الحقوق. ولا يبقى مع ذلك مجال لأزمة حكم أو أزمة طاعة، نعم الحاكم الأعلى للبلد ينبغي أن يكون من الأكثرية الشعبية لما هو مقتضى اللابدية العقلية والسيرة العقلائية على ما فصلناه سابقاً.

هذا بالنسبة إلى مواطني البلد الواحد، وبذلك يظهر أيضاً الحل بالنسبة لمسلمي البلدان الأخرى بحسب العنوان الأولي والثانوي.

هذا بناء على ثبوت ولاية الفقيه، وأما بناء على القول بعدم ثبوتها وإنما يقيم الفقيه الدولة من باب سيادة الأمة على نفسها إذا اختارته حاكماً أو كان هو الصيغة الأقرب إلى التقوى والطاعة والأحوط للدين في لزوم تصدي الفقيه لها بالعنوان الثانوي فإنها لا تؤدي إلى أزمة حكم ولا إلى أزمة طاعة وذلك لأن هذه الصيغة تقتضي أنه يشرع لكل شعب من الأمة أن يقيم لنفسه نظامه الخاص به في نطاق وحدة الأمة التي تنطبق عليه الشرائط الشرعية، نعم لو تعددت البلاد الإسلامية فإن أمكن رفع الحدود الجغرافية بينها وجعلها بلداً واحداً وجب ذلك لأدلة الأمة الواحدة وحرمة التفريق والتقسيم، ولأنه الأصل الأولي في الأرض الإسلامية والأمة الإسلامية، وإن لم يمكن ذلك لأسباب وموانع يعسر حلها في الحال الحاضر أمكن إقامة نظاماً شورياً يجمع بلاد المسلمين في نظام يشترك في السياسات العامة ويختص كل بلد بما يرتبط بشؤونه كما قد يعبّر عنه عند البعض بالنظام الفيدرالي وربما ينظّر له بمثل الجمع بين أدلة الشورى والتقليد، فإن أبناء البلد الواحد يرجعون إلى حكم الشورى في الشؤون العامة ويرجعون إلى مقلديهم في الشؤون الخاصة لكون هذا هو مقتضى الجمع بين الأدلة وحكومة أدلة الشورى على أدلة التقليد في شؤون المسلمين العامة، واذا لم يمكن ذلك فلا مانع من حكومة الشورى أو الفقيه على الشعب الذي قلده أو انتخبه حاكماً ريثما يمكن تحقيق الاجتماع والوحدة جمعاً بين الأدلة ولأنه الميسور الذي لا يسقط بالمعسور، ولأنه مقتضى الطاعة بحسب الاستطاعة كما قال سبحانه وتعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم).

هذا مضافاً إلى أدلة الأهم والمهم وغيرها من العناوين الأولية والثانوية.

- الفصل الخامس

في شرعية الحاكم الذي يتولى مقام الرئاسة العليا في الدولة الإسلامية

وتتوقف على أمرين:

- أحدهما: المؤهلات الحقيقية.

­- ثانيهما: المؤهلات الحقوقية.

أما المؤهلات الحقيقية فيراد بها الصفات التي ينبغي توفرها في شخص الحاكم بدنياً ونفسياً وعقلياً حتى يستحق الترشيح والتأهيل لهذا المنصب، من حيث المقتضي وقد ذكر الفقهاء في مجمل كلامهم منها: البلوغ والعقل والحرية والاختيار والذكورة والعلم والكفاءة ونحوها..

ومضافاً إلى الأدلة الخاصة النقلية والعقلية التي ذكرت لكل واحدة منها فإن هناك أصل أولي ثبوتي عام يحكم بلزوم توفرها في الحاكم الأعلى، بغض النظر عن الأدلة الإثباتية في ذلك وهذا الأصل عقلي عقلائي فطري، إذ من الواضح أن العقلاء إذا أرادوا أن يفوّضوا أمراً من الأمور إلى شخص منهم فلا محالة يراعون فيه أموراً منها أن يكون الشخص المفوّض إليه الأمر عاقلاً ومنها أن يكون عالماً بكيفية العمل وفنونه حتى يحقق أغراضه، ومنها أن يكون قادراً على إيجاده وتحصيله على ما هو حقه، ومنها أن يكون أميناً يعتمد عليه فإن في عدم وجود كل واحد من هذه الأمور الأربعة يستلزم نقض الغرض، ومن الواضح أن هذه الشروط ارتكازية فطرية تتبادر إلى ذهن كل من يريد أن يولّي أحداً أو يوكله أو يفوضه على أموره الخاصة فما بالك بالأمور الخطيرة العامة، والولاية وإدارة شؤون الأمة من أهم الأمور وأدقها وأصعبها فلا محالة يشترط في الحاكم بحكم العقل والفطرة والسيرة العقلائية أن يكون عاقلاً عالماً بالعمل قادراً على تنفيذه أميناً يعتمد عليه وموثوقاً به، وهذا الأصل جاري حتى بالنسبة إلى العلم والكفاءة فإنه إذا فرض أن المفوضين لأمر الولاية إلى شخص منهم، وكانوا يعتقدون بدين أو مذهب أو عقيدة أو فكرة خاصة تتضمن قوانين مخصوصة في نظام الحياة وتكوين الدولة وإدارة المجتمع وأرادوا إدارة شؤونهم السياسية والاجتماعية على أساس فكرتهم أو مذهبهم وعقيدتهم فإنهم لا محالة ينتخبون ذلك من يعتقد بهذا المبدأ ويعلم بمقرراته وشروطه بل ينتخبون من يكون أعلم وأكثر اطلاعاً من غيره عليه، اللهم إلا أن يقعوا في مزاحمة جهة أقوى واهم، وكذلك الحال بالنسبة للحاكم في الدولة الإسلامية وأعضاءه في السلطة التنفيذية أو نواب المجالس في السلطة التقنينية والتأطيرية أو القضاة في السلطة القضائية.

وهذا أمر طبيعي فطري لا يعدل عنه العقلاء بفطرتهم وارتكازهم. كما أن هذه ما يحكم بها العقل ويلزم برعايتها مع الإمكان.

وعليه فإن هذه الشرائط واعتبارها في والي المسلمين وحاكمهم بما هم مسلمون أمر قد يقال فيه أنه لا يحتاج إلى التعبد الشرعي بل هو مما يدركه الإنسان بعقله وفطرته، ومن الواضح أن الإسلام دين الفطرة وما يستقل بحكمه العقل يحكم به الشرع أيضاً لقانون الملازمة المعروف، وقد مرّ في بعض الروايات ما يدلّ أو يشير إلى ذلك منها صحيحة عيسى بن القاسم عن أبي عبد الله (عليه السّلام) أنه قال: وانظروا لأنفسكم فوالله إن الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي فإذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه ويجيء بذلك الرحل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها، والرواية ظاهرة بل صريحة في أن الإمام (عليه السّلام) أرجع السائل إلى فطرته وارتكازه، وإلى أمر التزم به العقلاء وقامت عليه سيرتهم في تدبير أمورهم، إذ أن الاختيار للراعي لا يكون إلا على ضوء شرائط منها العلم والكفاءة والأمانة والوثاقة وما أشبه ذلك فما بالك بشؤون الدولة والحكم وتدبير أمور المجتمع..

هذا من حيث الأصل الثبوتي وأما من حيث الدليل الإثباتي فيمكن التعرّف إلى جملة منها على النحو التالي:

- أولاً: البلوغ وهو من الشرائط العامة للتكليف في الشريعة، إذ لا يتوجه الخطاب الشرعي إلى من لم يصل حد البلوغ من الرجال والنساء وهذا الحد هو إنهاء خمس عشرة سنة للذكر وتسع سنوات للأنثى، إذا لم يسبق ذلك إمناء أو حيض أو نبات شعر العانة عندنا، فما لم يتحقق البلوغ لم يتوجب خطاب التكليف بالواجبات والمحرمات إلى غير البالغ.

والظاهر أن هذا الشرط موضوع وفاق بين المسلمين وان اختلفوا في السن الذي يصل إليه الإنسان إلى مرتبة البلوغ ذكراً أو أنثى، ولا يخفى أن هذا الشرط يختص بغير المعصومين (عليهم السلام) لعدم اشتراط البلوغ في الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) بداهة إعطاء الله عز وجل منصب الإمامة ليحيى وعيسى (عليهما السلام) ولصاحب الأمر (عجل الله فرجه الشريف) قبل البلوغ كما هو صريح الآيات والروايات الشريفة والوقوع الخارجي أيضاً يدل عليه، ويستدلّ على هذا الشرط مضافاً إلى الإجماع بأن آيات التكليف كلها موجهة إلى من بلغ سن التكليف الشرعي، وبما أن الحكومة هي تكليف شرعي أيضاً فإن الحاكم لابد وأن يكون بالغاً، وربما يستدلّ أيضاً على هذا الشرط بحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المروي عن مولانا امير المؤمنين (عليه السّلام): رفع القلم عن ثلاث عن المجنون حتى يفيق وعن الصبي حتى يدرك وعن النائم حتى يستيقظ، والمقصود من إدراك الصبي هنا هو الإدراك الجسدي بمعنى وصوله إلى مرتبة البلوغ، والإدراك العقلي بمعنى نضوج الفكر وحسن التدبير والتصرّف، ومن الواضح أن الصبي قاصر عقلاً ولذا جعل الله سبحانه وتعالى عليه ولياً فكيف يجوز أن يكون ناظراً في أمور الأمة وولياً عليها.

- ثانياً: العقل، والمقصود من العقل هنا هو العقل الكامل الذي يتسم بالرشد في مقابل السفاهة، واشتراطه بديهي لكونه من الشرائط العامة للتكليف وقد دلّ عليه الإجماع والعقل الحاكمان بعدم صحة إمامة الصبي والمجنون، ومن الواضح أن مهمة الحكومة هي سياسة الرعية وإدارة شؤون البلاد، لذلك لابد وأن يكون الإمام عاقلاً بمعنى أن لا يكون سفيهاً أو مجنوناً وقد دلّ على ذلك الكتاب والسنة أيضاً، فمن الكتاب قوله تبارك وتعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً) وسواء أكان المراد من الأموال في الآية هي الأموال العامة المتعلقة بالمجتمع، أو الأموال الخاصة المتعلقة بالأفراد، فإن الذي يتولّى شؤون الأموال ينبغي أن لا يكون سفيهاً.

وعليه فإن إطلاق الآية يشمل كلا الموردين، وعلى فرض الإشكال بحجة أن الآية منصرفة إلى الأموال الشخصية الخاصة، فإنه يدلّ حينئذٍ على عدم ولاية السفهاء على الأموال العامة بالأولوية القطعية ومن هنا ورد في بعض الروايات عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السّلام): يحتاج الإمام إلى قلب عقول ولسان قؤول وجنان على إقامة الحق صؤول، إذ جعل من أولى شرائط الإمام وحاجاته هو العقل النير الذي يمكّنه من اتخاذ القرارات الصائبة في قبال سفهاء الأمراء الذين ابتلي بهم المسلمون ردحاً من الزمن فبذروا في موارد الأمة بلا حساب ولا كتاب فتراجعوا بها إلى الوراء في مجالات الحياة المختلفة.

وقد حذر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من إمارة السفهاء كما في الخبر الشريف: إذا أراد الله بقوم خيراً ولّي عليهم حلماؤهم وقضى عليهم علماؤهم وجعل المال في سمحائهم وإذا أراد الله بقوم شراً ولّي عليهم سفهائهم وقضى بينهم جهالهم وجعل المال في بخلائهم، وفي رواية الشحام عن أبي عبد الله (عليه السّلام): لا يكون السفيه إمام التقي، وفي نهج البلاغة: ولكنني آسي أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجارها فيتخذوا مال الله دولاً وعباده خولاً والصالحين حرباً والفاسقين حزباً ،ومن الواضح أن هذا النوع من الممارسات يضيع الحقوق ويسلب الأمة كرامتها كما أن المال هو الأساس الذي يبنى عليه النظام الاقتصادي الذي تقوم عليه الأنظمة والدول فلو أدركنا أهمية هذا الأساس لأدركنا أهمية السياسة الإنفاقية التي تتبعها الدول في صرفيتها والتي هي من أهم أمارات قوة الدول وضعفها، ولأدركنا بالتالي خطورة وجود السفهاء في الحكم وتوليهم لشؤون السلطة والنظام فالسفهاء الذين يبذرّون أموالهم ولا ينفقونها الا لاغراضهم الشخصية.

ثالثاً: الإسلام والإيمان.

وسنفصله في البحث القادم إنشاء الله..

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين..