المادة: فقه الدولة
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 38.doc

عرفنا مما تقدم مشروعية فصل السلطات بالنسبة إلى السلطة التنفيذية، وأما بالنسبة إلى السلطة التشريعية فمن المسلّم به بين المسلمين انه لا توجد سلطة تشريعية في عصر الغيبة، بما لمصطلح سلطة من المعنى أي لها أهلية التأسيس في التشريع والتقنين، على نحو ما عليه الفكر الوضعي الغربي. وإنما توجد مرجعية شرعية وهي المجتهد الجامع للشرائط الذي يفتي بما هو مقتضى اجتهاده في تطبيق الكليات على مصاديقها، ويحكم في المنازعات بين الخصوم بما هو قاضٍ، بما يؤديه أيضاً اجتهاده في الأدلة الشرعية بالنسبة إلى كل قضية حادثة، فالحوادث الواقعة الواردة في التوقيع الشريف عن مولانا صاحب الأمر (عليه السلام) التي لم يرد بشأنها نص واضح في الشريعة يحدد حكمها المرجع فيها هو الفقيه الجامع للشرائط، إما من باب الاجتهاد أو ترجيح بين الفتاوى، واختيار أصلح الفتاوى أو أقربها أو أشهرها وما أشبه ذلك..

والظاهر أن هذا مما تتوافق عليه آراء الفريقين إذ لا يرى العامة أيضاً وجود سلطة تشريعية بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنما يقتصر الأمر على بيان الأحكام وشرحها، لكنهم وسعوا دائرة الإفتاء إلى كل الصحابة ثم العلماء من تابيعهم، وأما الشيعة فخصصوه بالمعصوم ومن بعده بالمجتهد الجامع للشرائط، وعلى هذا فإن المرجع الشرعي في معرفة الأحكام في القضايا الحادثة والحوادث الواقعة هم الفقهاء المجتهدون، سواء بنحو انفرادي أو بنحو مجلس للشورى وما أشبه ذلك..

وفي الفقه المتعلق بالقضايا المتجددة بالنسبة إلى الدولة والسلطة في مجالاتها المتنوعة التي منها السلطة التنفيذية الإدارية أو التشريعية فهل يكتفى بالاجتهاد الفردي الذي يمارسه الفقيه في المسائل الجزئية المتعلقة بشؤون حياة آحاد الناس؟ أو أن الأرجح اعتماد الاجتهاد الجماعي من قبل مجلس للفقهاء؟

ظاهر الأدلة النقلية والعقلية هو الثاني لما عرفته مما تقدم ولاشتماله على مزايا كثيرة تناسب مشروع الدولة الإسلامية الحديث على تفصيل سنمر عليه أيضاً إنشاء الله تبارك وتعالى، وبذلك يظهر أن الفقيه أو مجلس الفقهاء الخبراء مع مجلس الشورى يكونان السلطة التشريعية بالمعنى الذي ذكرناه المستقلة تماماً عن السلطة التنفيذية حتى لو تولاها فقهاء مجتهدون، إذ عليهم في هذه الحالة أن يتبعوا في شأن أعمال الدولة فتاوى وأحكام السلطة التشريعية، وليس لهم أن يعملوا بآرائهم الفقهية في القضايا التي يزاولونها في شأن الدولة إذا خالفت اجتهادات السلطة التشريعية، وذلك لجهة حكومة أدلة الشورى على أدلة الاجتهاد، ولحكومة العقل بلزوم حفظ النظام ومنع الإخلال به والمنع من نقض الغرض، بل ولأنه مقتضى رضا الأمة واختيارها له في تولي الحكم فإن هذا الرضا مشروط في إطار رضاها ومن هذا الإطار العمل من قبل السلطة التنفيذية بحسب ما تراه السلطة التشريعية من تأطيرات وضوابط، ومن هذا الاعتبار تكون السلطة التنفيذية منفصلة عن السلطة التشريعية وخاضعة لها وإن كان للتأمل فيما ذكر مجال.

هذا والظاهر أن الذي ذكرناه من الفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية لا يختلف الحال فيه بين أن نسلم بنظرية الولاية العامة للفقيه سواء ثبتت بالدليل اللفظي أو بدليل وجوب حفظ النظام، وبين القول بنظرية ولاية الأمة على نفسها.

هذا بالنسبة إلى السلطتين التشريعية والتنفيذية، وأما بالنسبة إلى السلطة القضائية فهي مستقلة بنفسها ومنفصلة عن السلطتين الأخريين وذلك للأدلة الدالة على أن المجتهد الجامع للشرائط منصوب من قبل الإمام المعصوم (عليه السلام) بالنصب العام للقضاء في عصر الغيبة، وهذا ما تتفق عليه النظريات الثلاثة في ولاية الفقيه، وعليه فإن الأدلة تقضي بأن كل مجتهد جامع للشرائط إذا تصدى للقضاء واختاره الخصمان للتقاضي يجب امتثال حكمه وإنفاذه في صورة منفردة فما بالك بما لو كان سلطة للقضاء معينة من قبل الفقيه المنتخب أو من قبل الأمة مباشرة، فإن مقتضى ذلك الاستقلال التام للقضاء عن السلطتين السياسية التنفيذية والتشريعية التأطيرية لأن سلطة النصب والتعيين هي للإمام المعصوم (عليه السلام) وحده وقد تم التعيين بالنصب العام، فلا يتوقف كون الفقيه قاضياً على نصب أحد آخر ولا ينخلع عن منصبه القضائي بخلع أحد إلا بفقد شرط من شروط الفقيه القاضي على ما حققه الفقهاء في باب القضاء، اللهم إلا أن يقال بأن الضرورة التنظيمية للدولة وأجهزتها تقتضي تعيين فقهاء متفرغين للقضاء من بين الفقهاء المنصوبين للقضاء بالنصب العام، لكن حيث أنهم أيضاً من جامعي الشرائط فيجب الالتزام بأحكامهم إما من جهة النصب العام من قبل الإمام المعصوم (عليه السلام) أو النصب الخاص من قبل الفقيه الجامع للشرائط بلحاظ نيابته عن المعصوم (عليه السلام).

هذا ولكن نصب الفقيه للقضاء حينئذ لا يستلزم كون القاضي المنصوب تابعاً للفقيه الذي نصبه وخاضعاً لسلطته بل يكون بعد النصب مستقلاً عنه وليس نصبه إلا إجراءاً شكلياً إدارياً لا يعد وكونه تشخيصاً للأمر الحاصل وليس تأسيساً لأمر غير حاصل على ما ذكره بعض الأعلام خصوصاً على القول بلزوم كون القاضي مجتهداً فضلاً عن كونه الأعلم.

وتحصل مما تقدم أن الأدلة القائمة على مشروعية تكوين الدولة ونصب الحكومة في عصر الغيبة بناء على ولاية الفقيه العامة بالدليل اللفظي تقتضي كون السلطات الثلاثة منفصلة عن بعضها وكل سلطة منها منفصلة عن غيرها وللولي الفقيه السلطة التنفيذية التي من جملتها الولاية على الإدارة العامة، ولكن هذه السلطة محددة بالأصل الأولي في سلطة الإنسان على الإنسان وعلى غيره من الطبيعة ونحوها، حيث أن ولاية الفقيه على هذا المبنى لا تجعل منه مشرّعاً وولياً على التشريع وإنما هو ولي في نطاق الشريعة وضمن أحكامها الثابتة، ومن جملة هذه الأحكام الثابتة والأصول الأولية هي عدم ولاية أحد على أحد إلا ما أثبته الدليل، هذا بناء على النظرية الثانية من ولاية الفقيه.

وأما عن النظرية الثالثة المنكرة للولاية المطلقة للفقيه فإنه يمكن الاستدلال لها بوجوب إقامة السلطة بدليلين أحدهما عقلي لجهة استقلال العقل بوجوب حفظ النظام من باب اللابدية وثانيهما عقلي شرعي يقضي بأصالة عدم ولاية أحد على أحد إلا ما قام عليه الدليل فحيث لم يدل الدليل على ولاية للفقيه على الأمة فيرجع في مقام العمل إلى الأصل وهو ولاية كل إنسان على نفسه الذي ينتهي إلى ولاية الأمة على نفسها.

- أما الأول فهو دليل لبّي يقضي بوجوب حفظ النظام فلا بد وأن يقتصر فيه على القدر المتيقّن في موارد الشك بمشروعية مبدأ الفصل بين السلطات وهو فيما نحن فيه المجال التنفيذي فقط، وأما غيره من الموارد المشكوكة فيرجع فيها إلى الأصل الأولي القاضي بعدم ولاية أحد على أحد. وذلك لما حقق في الأصول من أن الدليل اللبّي حيث لا إطلاق له أو عموم يتوقّف فيه على القدر المتيقن وهو ما ذكرناه، وعليه فتخرج السلطة التشريعية عن منصب الحاكم وتكون مستقلة عنه تماماً، بل له نحو تابعية لهذه السلطة على اعتبار أن حيثية ولايته على التنفيذ تقتضي ذلك، وقد عرفت أن المراد من التشريع هنا هو الاجتهاد، وتطبيق الكليات على فروعها لا تأسيس القانون وجعله، فقد عرفت أن قضية التشريع خارجة ذاتاً وبالتخصص عن ولاية كل أحد من البشر سوى من علم بالدليل القاطع ثبوت هذه الولاية لهم وهم النبي والأئمة المعصومون (عليهم السلام) بالمعنى الذي تقدم.

وأما السلطة القضائية فقد عرفت استقلالها التام من ذلك والأمر في عدم ولاية الفقيه رئيس الدولة هنا أوضح مما لو كانت ولايته العامة ثابتة بالدليل اللفظي كما لا يخفى. هذا كله بناء على تقدير ثبوت الولاية بالدليل اللبي العقلي.

- وأما على الثاني وهو القول بولاية الأمة على نفسها حين عدم ثبوت دليل يثبت ولاية للفقيه عليها، فإن ما ذكرناه من الاعتبار القاضي بفصل السلطات يكون أكثر وضوحاً على هذا المبنى، حيث لا وجه لمركزة السلطات كلها في شخص واحد أو هيئة واحدة، بل لابد من مراجعة رأي الأمة فيه ومن الواضح أن هذه النظرية تستلزم أن تكون السلطة التشريعية في الحدود التي ذكرناها للتشريع فهي تنتخب من قبل الأمة والتقنين فيه يتم في حدود اجتهاد الفقهاء والخبراء في المسائل المعروضة عليها، وأما السلطة القضائية فيعين الفقيه للقضاء وهو لا يتوقف على نصبه من قبل السلطة التنفيذية لأنه منصوب بالنصب العام من قبل الإمام المعصوم (عليه السلام)، وإذا اقتضت الضرورة التنظيمية للدولة تعيين قضاة بالنصب الخاص فقد عرفت أنه يكون أمراً شكلياً إدارياً من باب تشخيص الحاصل، وفرز التخصيص، وليس تحصيلاً لأمر غير حاصل، ويمكن أن يتولى مجلس الشورى تعيين الفقيه للقضاء أيضاً.

واياً كان المعين له سواء كان الفقيه رئيس الدولة أو كان مجلس الشورى فإنه بعد أن يعين يكون مستقلاً تماماً عن جميع السلطات في تنفيذ أحكامه وقضائه.

وأما السلطة التنفيذية فإن المراكز التنفيذية الكبرى كرئاسة الدولة يتم اختيار الأشخاص المناسبين لها بالاستفتاء الشعبي العام، وتشكل الحكومة بإشراف وموافقة من مجلس الشورى وكذلك الوظائف التنفيذية الكبرى التي تتضمن صلاحيات وسلطات واسعة كمناصب رئيس الوزراء والوزراء والمدراء العامين وما أشبه.. فإنها يجب أن يتم اختيار الأشخاص المناسبين لها بموافقة مشتركة من قبل الحكومة ومجلس الشورى، وبهذا يظهر أنها منفصلة أيضاً عن السلطة التشريعية والقضائية لأن تنصيبها يتم إما بمباشرة الأمة بالانتخابات العامة أو يتم بالواسطة عن الأمة بواسطة المجالس أو غير ذلك، وبه يظهر مدى الفصل الكبير بين السلطات الثلاثة بناء على هذه النظرية أيضاً.

- الأمر الخامس: في شكل الأنظمة المتفرعة على مبدأ الفصل بين السلطات، وقبل التعرّض إليها نقدم مقدمات:

- المقدمة الأولى: أنه لا بد من إقامة علاقات بين الطبقة الحاكمة والشعب، وتنظيم هذه العلاقات بموجب قواعد قانونية تحدد سلطات كل من أعضاء الدولة، وقد عرفت أنه يمكن أن تتسم هذه العلاقات في صورها الحسنى في أشكال عدة تشكل أصنافاً من الحكومات يتم اختيارها عبر اختيار الشعب بصورة مباشرة، أو غير مباشرة، فإن شكل الحكومة يدل على مكانة السلطة ويدل أيضاً على كيفية توزيع الوظائف بين السلطات السياسية، وهذا التوزيع هو المعبر عنه بمبدأ فصل السلطات في الدول.

- المقدمة الثانية: القول بمبدأ الفصل بين السلطات لا يلغي التعاون والتكامل، بل يستدعيه إذ المراد من الفصل هو عدم تأثير إحدى السلطات في الأخرى بالقوة والهيمنة بحيث تسلب استقلالها ولا مانع في أن تتعاون معها أو تتفاهم معها بل يجب ذلك إذا كان من مصاديق التعاون على البر والتقوى لقوله تبارك وتعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) ولما يترتب على هذا التعاون من حفظ التوازن وإقامة العدل وضبط النظام، بل التعاون والتنسيق هو الأسلوب الأمثل لحفظ التوازن واستمرارية العمل بمبدأ الفصل، وإلا وقع نظام الحكم بين هوتين متناقضتين، إحداهما النزاع والتخاصم وذلك لو أرادت كل قوة أن تحفظ استقلالها وتتصادم مع القوى الأخرى لحفظ هذا الاستقلال، وثانيهما الاستبداد والتفرّد فيما لو سيطرت إحدى السلطات على الأخريين، وهذا نقض للغرض واختلال للنظام فلم يبق إلا الفصل القائم على التعاون والتنسيق.

- المقدمة الثالثة: لفصل السلطات طرق عدة ناشئة من اختلاف طرق ممارسة السيادة، إذ غالباً يوجد طرفان متناقضان في هذا المجال، أحدهما السيادة الشعبية المطلقة وهي فيما إذا كان الشعب هو الذي يمارس سيادته وفي مثله قلما يعمل بمبدأ فصل السلطات لأن الشعب هو الذي يجمع بين يديه كافة السلطات ومعه لا خوف من الاستبداد حتى نحتاج إلى الفصل، ثانيهما وهو على طرف مناقض للأول تماماً وهو النظام السياسي المستبد لأنه يجمع كافة السلطات المطلقة في الدولة فرد واحد وهو الملك أو الامبراطور أو الرئيس أو السلطان ما شئت فعبر، فهنا كذلك لا فصل بين السلطات لتنافيها مع النظام الاستبدادي الحاكم، وبين هذين النظامين هناك أنظمة وسطى يتراوح فيها مبدأ الفصل بين السلطات في اتجاه نسبي من نظام لآخر، لكن في مجموعها لا تعطي الشعب السلطات كلها ولا تنتزعها منه بأكملها، وإنما هناك حد وسط هو أنها تعطي الشعب الحرية في التعبير عن إرادته في اختيار سلطاتٍ أقامها لتمثيله في إدارة شؤونه وهذا هو الأسلوب الغالب في الأنظمة الديمقراطية في العالم اليوم على ما يعبرون، ومن الواضح أن هذا الحد الوسط لا يكون وسطاً ما لم يفصل بين السلطات لأن الواقع يدلنا على أن كل نظام حر وكل نهج شوري أو ديمقراطي فعال على اختلاف التعبير يقوم على مبدأ توزيع السلطات، وتقسيم مراكز القدرة، وإلا تمركزت في يد واحدة وتحول النظام إلى استبدادي متفرد.

- المقدمة الرابعة: حفظ التوازن بين السلطات يتم عبر طرق، منها إعطاء القدرة والصلاحية لكل واحدة من السلطات لشلّ أعمال السلطة الأخرى عندما تمارس عملاً له علاقة بأعمال السلطة الأخرى عن طريق منح كل عضو سلطة الحكم وسلطة الردع معاً، وهي من وسائل العمل التي من شأنها أن تمنع تنفيذ القرارات الخاطئة الصادرة عن السلطة الأخرى، فيتولى العضو الأول الوظيفة التقنينية والثاني تنفيذها والثالث فصل الخلافات التي تنجم عنهما، ومن هذا التعاون والتكامل تتفرع ثلاثة أشكال من أنظمة الحكم، فإنه إذا كانت السلطة محصورة بيد السلطة التنفيذية أو تميل لصالحها كان النظام رئاسياً وإذا كانت الغلبة من شؤون الحكم لصالح السلطة التشريعية اتصف نظام الحكم بالشكل المجلسي، وإذا كان هناك تعاون وتوازن بين السلطتين التنفيذية والتشريعية كان النظام نيابياً وهو ما يصطلح عليه بالنظام البرلماني أيضاً، وربما يسمي البعض حكومته بحكومة الرأي العام، هذا ومع أن الصور والأشكال أكثر من ذلك إلا أن هذه الثلاثة هي ابرز الأنظمة الحاكمة في العالم اليوم، التي لها دول وحكومات. ولتوضيح بعض ملامحها يستدعي الأمر التعرض إليها والحديث فيها يتم تارة من حيث الموضوع وتارة أخرى من حيث الحكم، أما من حيث الموضوع فالظاهر أن أبرزها ما ذكرنا وهذه الصيغ استقرائية خارجية وليست حصرية عقلية، ولذا لا تنفي ما عداها ولا تبطل غيرها، بل هي أفضل ما وصل إليه أهل الخبرة من فقهاء القانون الوضعي في تشخيص موضوعاتها التي تجمع بين حق ممارسة السلطة وحق الحرية، ولتوضيح الأمر في هذا نتعرض إليها بشيء من الإيجاز.

أما النظام النيابي فعلى الرغم من صعوبة حصر القواعد التي ترسم ملامح هذا النظام بشكل محدد نظراً لتنوّع الأنظمة النيابية، واعتمادها على طرق تطبيقية مختلفة باختلاف الدول، ورأي الناس فيها غير أن هناك جملة من المبادئ الأساسية التي لا يمكن استثنائها من أي نظام نيابي، وبها يمكن أن نرسم الجوهر ويبقى الشكل راجعاً إلى الطبيعة المرنة لهذا النظام، التي تقبل الانطباق على أي صيغة من صيغ الفصل بين السلطات إذا ارتضاها الشعب، ومن أهم هذه المبادئ ما ياتي:

- 1- أن تعيين رئيس الحكومة يتم عبر تعيني رئيس الدولة، نعم لا يحق للرئيس أن يتجاوز الحدود المرسومة من قبل الشعب عبر القانون ونحوه، وفائدة ذلك هو إشراك رئيس الدولة مع المجلس النيابي في إدارة القضايا السياسية عن طريق حكومة مسؤولة أمام الاثنين.

- 2- موافقة المجلس على تعيين الحكومة وذلك لتدخله في إطار حكومات الرأي العام، وعليه فإن مشروعية الحكومة مشروطة في أن تنال ثقة المجلس عند تشكيلها وأن تستمر هذه الثقة فيما بعد، لكن حيث أن حق الرئيس في الاختيار مقيد بما ينسجم مع الوضع السياسي القائم وتكتل الأحزاب والجماعات التي تكوّن جوهر المجلس، فغالباً ما تضمن الحكومة الثقة نتيجة لاختيار الوزراء من الأغلبية داخل المجلس غالباً.

- 3- على الحكومة أن تتمتع بثقة الشعب هذه الثقة تخول اختيار قائد الحزب أو الجماعة المنتصرة رئيساً للحكومة كما تجيزها إلى اللجوء إلى حل المجلس النيابي.

- 4- يرتكز هذا النظام على ثلاثة مبادئ هامة:

أ) المساواة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.

ب) التعاون والتنسيق بين السلطتين.

ج) إيجاد سبل وآليات من شأنها السماح لكل سلطة التأثير على الأخرى، والذي يضمن هذا التوازن القائم بين السلطات هو رقابة الرأي العام ومن هنا نشأت تسمية هذا النظام بحكومة الرأي العام.

- 5- العنصر العام في إيجاد التعاون بين السلطتين هي الحكومة وذلك لكونها تشكل طريق التواصل بين رئيس الدولة والمجلس، حيث يتولّى رئيس الدولة تعيين الحكومة ثم تصبح هي الأخرى مسؤولة عن سياستها أمام المجلس وفي نفس الوقت يحظى الرئيس بكرامة وميزة تخوّله بحفظ التوازن بين ممثلي الأمة في المجلس، ولذلك فإن لطريقة انتخابه أهمية خاصة لكونه ينتخب من قبل الشعب لا من المجلس، بداهة أنه لو كان للمجلس انتخابه لظهر أكثر طواعية واستجابة لضغوطات أعضاء المجلس والكتل النيابية فيه في ممارسة السلطة، وبهذا يتوازن المجلس والرئيس معاً إذ الرئيس غير مسؤول سياسياً أمام المجلس فيحدّ من جموح السلطة التشريعية، لكن الحكومة التي يعينها الرئيس ينبغي أن تحظى بموافقة المجلس فيحد هو الآخر من جموح السلطة التنفيذية وبذلك تنشأ علاقات توازن تقوم على تعاون وتنسيق وتفاهم بين السلطات في ممارسة السلطة.

وبالتالي فإن هناك رقابة دائمة ومتواصلة بين السلطتين، إذ مسؤولية الوزارة وحل المجلس هما الدعامتان الرئيستان لبناء هذا النظام، وذلك لأنهما تخولان كلاً من السلطتين التقنينية والتنفيذية ممارسة الرقابة على الأخرى، وإقامة تعاون متبادل من أجل مصلحة الأمة، ففي حال حجب المجلس ثقته عن الحكومة كلاً أو بعضاً على هذه الأخيرة أن تخضع لإرادته وتقدم استقالاتها كلاً أو بعضاً أيضاً. لكن بوسعها هي الأخرى أن تطلب إلى رئيس الدولة حل المجلس إذا ما رأت أن الأخير يعارض سياستها ويعرقل خططها التي تراها أنها في خدمة البلد والأمة.

وهذا التواصل في القدرة هو الذي يعطي الحكم طابعه الحر ويظهر أهمية الشعب في أن يقول كلمته الأخيرة في حسم النزاع القائم بين السلطتين، فترجع حينئذٍ شؤون السلطة والحكم إليه من حيث تكوين الحكومة أولاً وتنتهي إليه آخراً أيضاً.

وأما النظام الرئاسي فمن سمات هذا النظام الفارقة عن النظام السابق أن مبدأ الفصل فيه جامد إذ تنفرد كل سلطة فيه بممارسة وظائفها بالاستقلال عن السلطات الأخرى، بخلاف النهج الأول فإن الفصل قائم على أساس التعاون والتنسيق بينها، والفكرة الجوهرية فيه لا تنحصر بفصل السلطات فقط وإنما عزلها عن بعضها البعض مع تحقيق المساواة والتوازن بينها، وفكرة العزل هذه ترجع إلى السعي لإزالة كل وسائل الضغط التي قد تلجأ إليها بعض السلطات وتمارسها على غيرها.

نعم قد يكفل القانون ونحوه ببعض الوسائل والآليات ذات الأثر المحدود في إيجاد علاقات متبادلة بين السلطات بما لا يخلّ بمبدأي المساواة والتوازن، ومن أهم المبادئ التي يقوم عليها هذا النظام ما ياتي:

- 1- أن انتخاب الرئيس يكون من قبل الشعب والسلطة التنفيذية تنحصر به فالرئيس المنتخب يجمع بين صفتي رئيس الدولة ورئيس الحكومة، والوزراء يخضعون خضوعاً تاماً للرئيس الذي هو الآخر له الحق المطلق باختيارهم أو عزلهم.

- 2- تخصيص وظائف الدولة وتوزيعها على السلطات وعزل السلطات عن بعضها عزلاً تاماً بحيث تتصرف كل واحدة منها في النطاق المخصص لها مع كامل الصلاحية والقدرة، فالسلطة التشريعية تنحصر بالمجلس والتنفيذية بالرئيس.

- 3- انعدام سبل التعاون المتبادل بين السلطات في الغالب لمنع عناصر الضغط التي قد يلجأ إليها أحد الأعضاء للتأثير على الأخرى، ومن هنا فإن المجلس لا يمكنه حل الحكومة كما أن الحكومة لا تقدر على حل المجلس.

- 4- تقوم المساواة بين السلطات عبر طرق عدة:

- أحدها: النقض الرئاسي ضد القوانين التي يصوّت عليها المجلس.

- ثانيها: إمكان المجلس أن يكسر هذا الحق فيما لو استعمله الرئيس إذا صوّت عليه مجدداً على القانون بالأكثرية المطلقة أو النسبية.

- ثالثها: بإمكان الرئيس أن يقيم توازناً مع المجلس عن طريق الوزراء الذين يعينهم ولا يحق للمجلس عزلهم، كما أن بإمكان المجلس أن يهدد الرئيس باتهامه أو يطلبه للاستجواب، كما يحق له محاكمته أيضاً.

وأما النظام المجلسي فيتميز هذا النظام عن سابقيه بأنه يدمج السلطتين التقنينية والتنفيذية في هيئة واحدة تتمثل في المجلس، وحسب السلطات في المجلس لا يعني غياب السلطة التنفيذية بالكامل، وإنما هذه الأخيرة تكون تابعة للمجلس أو منبثقة عنه وتعمل بحسب رغبات هذا الأخير وتوجيهاته، ومن أهم المبادئ الذي تميز هذا النظام ما يلي:

- 1- أن هذا النظام يحدد من صلاحيات السلطة التنفيذية إلى حد كبير بالقياس إلى سابقيه، لأنه يجعل منها مجموعة من الوزراء اختارهم المجلس بقصد تنفيذ قراراتها فسلطتهم لا تتمتع بسلطة إصدار الأوامر والقرارات وإنما التطبيق والتنفيذ فقط.

­- 2- الوزراء متساوون في الحقوق والواجبات أمام المجلس لكنهم لا يشكلون وحدة متضامنة يمكنها أن تقدم استقالتها جماعة حين رغبتها بذلك، فإن هذا الحق محظور عليهم، نعم بإمكانهم التهديد بالاستقالة وبواسطته يضغطون على الجمعية ويحدو من سلطاتها غير المحدودة وبخلاف ذلك فإن بوسع المجلس أن يعزلهم متى شاء، ولذا فإنه ليس بوسعهم إلا إيجاد صيغ للتوافق مع المجلس وتوجيهاته، ومن هنا قلنا أنه يحدد من صلاحيات السلطة التنفيذية إلى حد كبير.

- 3- قوة المجلس ناشئة من قوة الشعب الذي يخضع له، إذ منه يستمد قوّته وهو بدوره يقوم بمراقبته بصورة دائمة، عبر حق الاقتراع التشريعي الشعبي ومنه يأخذ النظام سمته الشعبية الحرة لكون الشعب هو سيد الحكومة والمجلس على السواء.

- 4- أن هذا النظام مهدد بالجنوح نحو الاستبداد عادة، وذلك لإمكان اتخاذ المبادئ الحرية وطرق الضغط والرقابة بين المجلس والحكومة وسيلة للاستبداد، وفرض إرادة إحدى القوتين أو جماعة من إحدى القوتين على الأخرى بشكل خفي أو غامض على الناس، فيشكل بالتالي استبداد الأمر الواقع إذ قد تجمع السلطة بين عدد ضئيل من أعضاء المجلس من الأقوياء أو أصحاب النفوذ نيابة عنه بسبب انقسامه أو وقوعه في مهاوي الفوضى أو النقاشات غير المنضبطة وانقسام الآراء حول القرارات الأمر الذي يؤدي إلى شلل عمل الحكومة والدولة، فيبرز الاستبداد بقوة ليضع حداً لهذا النزاع، ويملأ الفراغات التي يتخبط بها المجلس وتاهت بها الأمة، وهذا ما وقع بالفعل في بعض دول العالم الغربي على ما ذكرته بعض المصادر.

هذه أهم أشكال الأنظمة السياسية الحاكمة في العالم اليوم، القائمة على مبدأ فصل السلطات، وعلى الرغم مما عرفت من وجود بعض التمايز بينها من حيث سعة الحرية وضيقها وقوة مباشرة الشعب لممارسة سيادته من ضعفها من نظام لآخر إلا أن الجميع يهدف إلى أمر واحد هو إيجاد توازن بين السلطات الثلاثة للمنع من الاستبداد واحتكار السلطة الذي هو من الملاكات الهامة التي يستقلّ بحسنها العقل ويحكم العقلاء بلزوم العمل به وذم من تخلف عنه.

هذا من حيث الموضوع، وأما من حيث الحكم فبغض النظر عن الإشكالات التي تورد على كل واحدة من هذه الصيغ الثلاثة للأنظمة فإنك قد عرفت بأنها صيغ استقرائية لا حصرية عقلية، وعليه فهي من باب تشخيص المصداق الأفضل من قبل أهل الخبرة في القوانين الوضعية الذي يضمن لهم أكبر قدر ممكن من الحرية والتوازن بين القدرات، ويمنع من احتكار السلطة والاستبداد بها، وهذا لا يمنع من ابتكار صيغ أخرى تعطي المزيد من هذه الضمانات، وحيث أن هذا من الموضوعات المستنبطة التي لم يرد فيها نص خاص من الشريعة يعين كيفيته فإنه يجوز أن يتمسك في أي طريقة مبتكرة أو مقترحة تجمع بين الحقوق المتقدمة تمسكاً بأصالة الجواز وذلك لأنه الأصل حيث لا دليل، نعم ينبغي توفر شرطين اثنين في تشخيص مشروعية أي نظام حكم هما: رضا الله تعالى بتوافر الشرائط الشرعية المنصوصة أو المستنبطة، ورضا الناس، وعليه فإنه إذا شخّص أهل الخبرة شكلاً لنظام الحكم يجمع بين حق الحرية ووجوب الشورى والسلطة وتوفّرت فيه الشرائط الشرعية ورضي به الناس جاز الأخذ به من حيث الأصل الأولي لوجود المقتضي وانعدام المانع، فإن كان هو الشكل الوحيد وجب الأخذ به تعييناً وإن كان من ضمن بدائل متعددة وجب تخييراً، وإن كان هناك أفضل استحب الأخذ به إن كان البدائل الأخرى أيضاً تحقق نفس الغرض، إن قلنا باستحباب توفير الزائد من الحقوق وإلا وجب أيضاً، هذا وللتأمل فيما ذكر مجال.

وهنا مسائل:

- المسألة الأولى: مجلس الفقهاء والسلطات الثلاث كسائر المكلفين مأمورون بحفظ الإسلام والمسلمين وإقامة الدولة الإسلامية الخالية من النواقص والتطبيقات الخارجة عن موازين الشريعة، وذلك لإطلاق قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فإن اختصاص جماعة بشيء لا ينافي وجوب شيء آخر عليه.

وعليه فليس لأية سلطة من السلطات الثلاث أن تهتم بما يتعلق باختصاصها من التأطير أو القضاء أو التنفيذ أو الإفتاء، وتعلل بهذا الاختصاص لتترك مسؤوليتها في الشؤون الأخرى فإن إطلاقات الأدلة وتضافرها في أكثر من مجال يدل على وجوب تحمّل الجميع مسؤولية حفظ الإسلام وإقامة الدولة الإسلامية العادلة، منها أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومنها أدلة إرشاد الجاهل وهداية الضال وتنبيه الغافل، ومنها أدلة الدعاء إلى الإسلام والدعوة إلى الخير، ومنها سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأمير المؤمنين (عليه السلام)، وغيرهما من قادة الإسلام فإنها طراً تفيد مسؤولية الجميع عن السلطة والحكم وتخصيص الوظائف لا يوجب تخصيص المسؤولية الشرعية، نعم يمكن لكل سلطة أن تصحح الفاسد وتنهى عن المنكر الواقع في شؤون السلطة الأخرى، إما بالمباشرة باستخدام مبدأ الفصل الذي يعطي صلاحية الحكم والردع معاً كما قدمنا، أو بالواسطة عبر الوسائل والآليات الأخرى.

- المسألة الثانية: الحاكم الإسلامي سواء إن حصر في فقيه واحد وجوداً أو تقليداً وهي حالة قد تكون نادرة حدثت سابقاً في زمان شيخ الطائفة والمحقق والعلامة والشيخ المرتضى والسيد المجدد ونحوهم (قدست أسرارهم) أو كانت الرئاسة للشورى من الفقهاء وهو الذي يقتضيه الدليل في صورة تعدد الفقهاء، وتوزيع التقليد بينهم وهو الغالب وقوعاً فإنه هو المسؤول الأول عن كل ما يجري في البلاد الإسلامية لكونه مقتضى الاستخلاف الذي قال عنه تبارك وتعالى: (يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض) وعمومية الخلافة في الأرض تقتضي المسؤولية، كما أنه مقتضى الولاية العامة مضافاً إلى بعض الأدلة الخاصة التي تضع السلطان في موضع المسؤولية العامة حتى عن مثل البقاع والبهائم، لكن حيث أنه لا يمكن للفقيه أو المجلس القيام بمهام الإدارة على الوجه الشرعي التام كان لابد له من الأعوان وتوزيع المهام والسلطات، وعليه فإنه إذا رأى الفقيه الجامع للشرائط أن توزيع السلطات هو الأسلوب الأمثل لحفظ النظام وحفظ حقوق الناس، أو أرادت الأمة توزيع السلطة بين السلطات الثلاثة واشترطت ذلك على الفقيه إنشاءً أو ارتكازاً وجب العمل بمقتضاه لإطلاق دليل ،المؤمنون عند شروطهم في الثاني، ولأدلة وجوب حفظ النظام وتطبيق العدل وحفظ حقوق الناس وما أشبه ذلك في الفرض الأول، وربما ينظر له بمثل اشتراط شيء على إمام الجماعة شرطاً لحضور جماعته حتى إذا كان الحضور واجباً كما في فرض وجوب صلاة الجمعة على بعض الأقوال فيما إذا كان من يقيمها بشرائطها متعددة، وكذلك بمثل الرجوع إلى القاضي إذا كان متعدداً والفقيه في شؤون التقليد لو تعدد، كل ذلك لإطلاق الدليل المتقدم بعد عدم المحذور، وعليه فلو قيل لفقيه جامع للشرائط مع وجود غيره إنا نقلدك أو ننتخبك رئيساً بشرط أن توزع القدرة على السلطات الثلاث وجب عليه الالتزام بحسب الشرط، نعم فيما كان الأمر منحصراً في فقيه واحد فالظاهر أنهن لا صحة لهذا الشرط لأنه يستلزم تحليل الحرام وتحريم الحلال، وقد ثبت في محله من الشروط من أن من أمارات صحة الشرط هو عدم تحليله للحرام وتحريمه للحلال. وإنما هنا قلنا يستلزم هذا المحذور لأنه في صورة انحصار الفقيه في واحد في الأمة مع عدم وجود غيره فإنه يجب على الأمة اتباعه تعييناً، لأنه المنصوب من قبل الإمام المعصوم (عليه السلام) بمقتضى أدلة النيابة العامة.

كما أنه إذا لم تشترط الأمة في المتعدد لم يجب على الأمة التنفيذ من ناحية الشرط، وإن كان ربما يقال بالوجوب مطلقاً حتى في صورة عدم هذا الشرط بالعنوان الثانوي وذلك لكونه الأسلوب الأفضل لحفظ الحقوق وتوفير الأمن والسلام، إذ من الواضح وجوب عمل الحاكم الإسلامي بالصيغة الصالحة للأمة ويحرم عليه مخالفته لاستلزامه بطلان الحقوق أو تضييعها أو تضييع من يعولهم وفي الأدلة المتضافرة :لعن الله من ضيع من يعول، واللعن ظاهر في الحرمة، كما أن المنصرف من المسؤولية في مثل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، هو السؤال في موقع المحاسبة المستظهر منها في صورة التخلف عن الوجوب.

 والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.