المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 37.doc

- المسألة العشرون: الحد يدرأ بالشبهة، والمراد بالحد أعم من المعين شرعاً، أو غير المعين مما يصطلح عليه الفقهاء بالتعزير، كما أنه أعمّ من مثل القصاص ونحوه، ودر الحد بالشبهة على طبق القاعدة لكون الحكم لا يترتب إلا إذا تحقق موضوعه لتبعية الحكم للموضوع تبعية المعلول للعلة.

وعليه فإذا كانت هناك شبهة في أن فلاناً مثلاً سارق أو زاني أو قاتل أو ما أشبه، كيف يجرى عليه الحد؟ والحال أنه لم يثبت موضوعاً أنه كذلك إلا إذا قلنا بأن الحكم يتكفّل موضوعه أو أجزنا معاقبة الناس على التهمة والظنة، وكلاهما باطلان شرعاً وعقلاً.

هذا ولا يخفى أن المراد من الشبهة أعمّ من شبهة الحاكم، أو الشاهد أو الفاعل حكماً أو موضوعاً كما إذا لم يدر الحاكم أن زيداً سارق، أو أنه درى بالموضوع ولم يدر الحكم، أو لم يدر الشاهد أنه سارق أم لا، أو لم يدر الساق أنه أخذ المال سرقة أو لا يدري بأن السرقة حرام. نعم إذا علم الشاهد بالموضوع ولم يدر الحكم مع توفر سائر الشرائط لم يكن من الشبهة، على ما فصّله الفقهاء في كتاب القضاء.

وكيف كان فإنه لا حد مع الشبهة كما دلّت عليه الأخبار، فعن الصدوق كما في الوسائل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ادرأوا الحدود بالشبهات، وهذا الحديث في كتب الفتوى ومتواتر في طرق الفريقين فإنهم رووا عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلّوا سبيله فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة، وفي رواية أخرى من طرقهم أيضاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: ادفعوا الحدود ما وجدتم له مدفعاً، هذا ولا يخفى أن الحدود بمعناها الأخص معينة ومقررة شرعاً بحسب النص فلا يجوز تعديها إلى غير مواضع النص حتى في المصداق، أما التعذير ففي الوقوف عنده بحسب المنصوص الذي ينصرف منه إلى ما يوجب الألم أو بحسب ما عمل به الأصحاب في التعميم لغير الألم أيضاً، أو تجاوزه إلى كل ما يحقق غرض العقوبة احتمالان في المسألة، لم يستبعد جمع من الفقهاء منهم السيد الشيرازي (رضوان الله عليه) في الفقه الدولة أن يراد به ما يوجب الكف والتأديب والعبرة سواء كان بالضرب أو الحبس أو النفي أو الحجز في البيت أو ضرب النطاق الاجتماعي حوله أو بالتغريم أو بالحرمان عن بعض الحقوق، أو بغير ذلك.. كمن يخالف المرور مثلاً يمنع عن السياقة يوماً أو تؤخذ سيارته إلى مكان مجهول يتعبه الوصول إليها أو العثور عليها، أو إتلاف ما خالف فيه ككسر آنية الخمر أو الإلقاء في البحر أو نحوه كهوّة عميقة، أو قطع الراتب إلى غير ذلك بحسب ما يراه الأكثرية من شورى الفقهاء الذين هم السلطة العليا في الدولة الإسلامية..

وإنما لم يستبعدوا الإطلاق في قبال المشهور الذين ذهبوا إلى ما يوجب خصوص الإيلام لوجوه، أحدها فهم عدم الخصوصية من الموارد المخصوصة المنصوصة، وثانيها للأسوة بعد أن عملوا (عليهم السلام) بمختلف أنواع الردع، وثالثها قانون الأهم والمهم حيث أن جلد عشرة آلاف إنسان في كل يوم مثلاً في بلد من البلدان التي يكثر فيها مخالفة المرور يوجب سوء سمعة الإسلام أولاً واشمئزاز الناس عن الدولة الإسلامية ثانياً، بخلاف مثل سجن يوم أو تغريم دينار أو الحرمان بعض الوقت عن السياقة، إلى غير ذلك من الأمثلة والنماذج.

هذا ولعل مما يؤيد ذلك طائفة من الشواهد والنصوص التي ربما يستفاد منها الملاك عرفاً في التوسعة، منها هدم مجلس ضرار وحرقه مع أنه كان مالاً فقد روى المفسّرون أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) عند قدومه من تبوك وجّه عاصم بن عوف العجلاني ومالك بن الدخشم فقال لهما: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرّقاه، وفي رواية أخرى أنه بعث عمار بن ياسر ووحشي فحرقاه وأمر بأن يتخذ كناسة يلقى فيه الجيف، ومن الواضح أن هذا لكونه عدم تحقق مصداق المسجدية الشرعية فيه، لكونه بني على أساس من الفساد والنفاق والمؤامرة لهدم الإسلام.

ومنها تهديد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحرق بيوت بعض المنافقين حيث أنه ورد في بعض الروايات أنه قال (صلى الله عليه وآله وسلم): لينتهين أقوام لا يشهدون الصلاة أو لآمرن مؤذناً يؤذن ثم يقيم ثم آمر رجلاً من أهل بيتي وهو علي فليحرقن على أقوام بيوتهم بحزم الحطب لأنهم لا يأتون الصلاة، ومن الواضح أن هؤلاء كانوا لا يأتون الصلاة نكاية في الإسلام والمسلمين نفاقاً، وإلا فإن الحضور إلى صلاة الجماعة أو في المسجد أمر مخير فيه المسلم، وكيف كان فإنه إذا لم يكن جائزاً شرعاً لم يكن وجه للتهديد لأنه إخافة وعقوبة ولو مخففة.

وقد ذكر الفقهاء في بعض مباحث الفقه أن تهديدات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) أو استعماله لبعض الخشونة في الكلام كما هو الظاهر من بعض آيات القرآن الحكيم وكلمات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) كان لمصلحة أهم، كقوله سبحانه: (عتل بعد ذلك زنيم) وما أشبه، وذلك لكونهم كانوا يديرون دولة كبيرة جداً، تعادل تسع دول في زمان رسول الله وأكثر من أربعين دولة في زمان علي بحسب الحدود الزمنية في هذا الزمان، إذا لاحظنا الحدود بالنسبة إلى الخرائط الجغرافية المجعولة الآن، وهل يمكن إدارة مثل هذه الدولة الكبيرة بمثل السيف والسوط وما أشبه، وحيث أنهم (عليهم السلام) ما كانوا يريدون الخشونة في العمل اضطروا إلى الكلام الخشن جمعاً بين إدارة الدولة والاضطرار إلى إحدى الخشونتين مما اختاروا أقلهما، ومن هذه النصوص والشواهد ما في كتاب وقعة صفين من أن علياً (عليه السلام) هدم بعض دور المنافقين الذين التحقوا بمعاوية، ومنها ما ورد من الكفارات المالية كعتق الرقبة أو التصدق بمال أو إطعام مسكين أو مساكين أو كسوتهم، فإنها جميعاً تصرف في المال، وتكون نوعاً من التأديب والتعزير أيضاً، ومنها ما ورد في ذبح البهيمة الموطوؤة وإحراقها بالنار، فإنه نكال بصاحبها ولا يقال إن البهيمة غير مذنبة فلماذا تذبح بجناية صاحبها، فإنه يقال كما إذا تمرّضت مرضاً معدياً يخشى منها على الناس فإن العقلاء يذبحونها لكيلا تسري العدوى إلى الناس مع أنها ليست مذنبة أيضاً، ومن الواضح أن الانحرافات الأخلاقية أسوأ من الانحرافات الجسدية بحسب تفاوت الروح والجسد كما هو واضح.

ومنها ما رواه السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قضى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيمن سرق الثمار في كمّه فما أكل منه فلا شيء عليه وما حمل فيعّذر ويغرم قيمته مرتين، وربما توجه غرامة القيمة مرتين بوجوه:

- أحدها: جهة ما أكل وما حمل، لأن جواز الأكل مشروط بعدم الحمل.

- ثانيها: من جهة أن الثمر لم يكن ناضجاً فقيمته حين النضج ضعف قيمته قبله عادةً فيغرّم الأكثر لأنه معتدٍ.

- ثالثها: أنه يغرّم القيمتين لأدلة الضمان في التلف والضرر فإنه فوّت على المالك القيمة المضاعفة، كما يراه العرف كذلك، فمثلاً إنسان زرع أرضه بما صارت قيمته مائة وإذا بقي الذرع إلى حين الحصاد صارت قيمته ألفاً فجاء غاصب وقلع الزرع فلا يمكن الاستفادة من الأرض بعد ذلك فإنه ينبغي أن يغرم الألف لأنه بالإضافة إلى دليل من أتلف الشامل لقيمة الزرع حالاً مشمول لدليل لا ضرر أيضاً لأنه عرفاً سبب ضرر التسعمائة عليه.

ومن الشواهد ما رواه مسمع بن عبد الملك عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) رفع إليه رجل عذب عبده حتى مات فضربه مائة نكالاً وحبسه سنة وأغرمه قيمة العبد فتصدّق بها عنه.

ومنها في رواية أخرى عن الصادق (عليه السلام) في رجل قتل مملوكه أنه يضرب ضرباً وجيعاً وتؤخذ منه قيمته لبيت المال.

ومنها ما ورد من التبعيد والحلق في الزاني، ومنها ما ورد في تبعيد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حكم ومروان بن الحكم في قصة مشهورة من المدينة، ومنها ما ورد في الانعتاق بسبب الجناية بالنسبة إلى المملوك فعن جعفر بن محبوب عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كل عبد مثّل به فهو حرٌّ.

ومنها ما عن دعائم الإسلام عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: إذا قتل الرجل عبده أدبه السلطان أدباً بليغاً، فإن مثّل به عوقب به وأعتق العبد عليه.

ومنها ما ورد في التضييق في المأكل والمشرب لمن أجرم ثم فرّ إلى الحرم الشريف.

ومنها ما ورد في وجوب الفصل بين الزوج والزوجة في حج العقوبة من مكان الجماع مما ذكره الفقهاء في كتاب الحج.

ومنها ما ورد في ضرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الحصار الاجتماعي على الثلاثة الذين خلّفوا كما ذكره القرآن الحكيم، ومنها ما ورد في الهجر في المضاجع للمرأة الناشزة.

ومنها ما ورد في طواف المجرم في الأسواق والنداء عليه تنكيلاً به كما كتبه علي (عليه السلام) إلى رفاعة قاضيه بالأهواز بالنسبة إلى ابن هرمة حيث خان خيانة عظيمة.

ومثل التطويف في شاهد الزور أيضاً كما روى غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) أن علياً (عليه السلام) كان إذا أخذ شاهد زور فإن كان غريباً بعث به إلى حيه وإن كان سوقياً بعث به إلى سوقه فطيف به ثم يحبسه أياماً ثم يخلي سبيله إلى غير ذلك من الشواهد والأدلة التي ربما تدل على أن التعزير أمره بيد الحاكم يتمكن أن يطبق هذا العقاب بما يراه صالحاً في شأن المسلمين.

 

- الفصل الرابع

فصل السلطات الثلاثة

شاع بين فقهاء القانون الوضعي مبدأ فصل السلطات والذي دفعه إلى ذلك هو التخوف من الاستبداد، وهيمنة السلطة التنفيذية على سلطتي التشريع والقضاء فتفرض إرادة واحدة على الجميع بلا ضوابط أو حدود تضمن حرية الشعب وحقوقه، وتعود جذور هذه النظرية إلى أرسطو إلا أنها تجددت على أيدي فلاسفة القرن السابع عشر والثامن عشر في أوروبا خاصة خصوصاً عند جون لوك في إنكلترا ومونتسيكيو في فرنسا على ما ذكرته بعض المصادر.

وكان الدافع المباشر وراء هذه الفكرة هو معاناة الشعوب الأوروبية من السلطات المطلقة للملوك أو لزعماء الكنيسة، وكان الهم الأول للثورة الفرنسية هو إبعاد السلطتين التشريعية والقضائية عن السلطة التنفيذية حتى لا تستطيع السلطة التنفيذية إملاء ما تريده من قوانين على السلطة التشريعية وبالتالي تستطيع الهيمنة على السلطة القضائية وفرض سيادتها على الشعب.

وعليه فإن هذا المبدأ ربما يكون ناشئ من الاستقراء الخارجي ولا يبتني على نظرية عقلية أو برهانية وأما في الدولة الإسلامية فالكلام في فصل السلطات يتم عبر أمور:

- أحدها: في وجه الحاجة إلى مبدأ الفصل.

- ثانيها: في وجوب الفصل بالعنوان الأولي.

- ثالثها: في وجوب الفصل بالعنوان الثانوي.

- رابعها: تطبيق هذا المبدأ على الأدلة المعتبرة عند الخاصة والعامة.

- خامسها: شكل الأنظمة السياسية المتفرعة عن هذا المبدأ.

أما الأول فقد عرفت مما تقدم أن النظام السياسي الذي يؤسسه الإسلام هو نظام قائم على الشريعة ومن خصائص هذا النظام هو تحديد صلاحيات كل مسؤول في الدولة، والوقوف بوجه أي تجاوز من قبل جهاز حكومي على جهاز آخر، أو من قبل شخص على شخص آخر، لأن جميع المسؤولين أمام القضاء الإسلامي سواء، كما أن الوازع الديني الذي يتصف به كل أبناء الأمة من مسؤولين وغير مسؤولين يحول دون نشوء الاستبداد الذي يتفرّع عن الهوى وحب الدنيا والطغيان والتمحور حول الذات، ومن جانب ثالث فإن خضوع اختيار الأفراد للمناصب لشروط محددة وقاسية في بعض جوانبها هو أيضاً كفيل بتجنيب الحكم ويلات احتكار السلطة، أو طغيان السلاطين.

هذا من ناحية أصل التشريع، وأما من الناحية العملية فهناك فروق جوهرية بين النظام السياسي الإسلامي والنظام السياسي الوضعي أهمها:

- الأول: أن الحاكم الأعلى في الإسلام يخضع لشروط شرعية إلهية لا يجوز تجاوزها، وأهمها العدالة والوثاقة والخبروية كما عرفت بخلاف الديمقراطية التي تعتبر من أفضل الأنظمة الوضعية، فإنها تنتخب المرشح مهما كانت أوصافه النفسية وسماته الشخصية الذي يستدعي المزيد من الضمانات تجاه الطغيان.

- الثاني: أن السلطة التشريعية ليست مؤسسة للقانون بل مؤطرة ومفرّعة ومطبّقة كما عرفته مما تقدم، والسلطة التنفيذية ليست إلا مجرية للقانون بخلافه في الأنظمة الديمقراطية فإن السلطة التشريعية مؤسسة للقانون الأمر الذي يمكن أن يسبب الاستبداد لمداخلة الأمزجة الشخصية والآراء الخاصة والضغوطات الخارجية في أصل القانون.

- الثالث: أن السلطة التنفيذية في الإسلام تخضع لإشراف الفقيه الجامع للشرائط أو شورى الفقهاء، وهذه ضمانة أخرى للتوازن بين القوى المختلفة وليس كذلك الأنظمة الديمقراطية ولذا يخضع الإسلام كل مراتب السلطة التنفيذية إلى القضاء لو وقع منهم ما يوجب حضورهم للقضاء بل حتى الرئيس الأعلى للدولة وهو الإمام المعصوم يحضر عند القاضي لأجل حل خصومة أو نزاع ليس مع المواطن المسلم بل مع اليهودي والنصراني أيضاً كما عرفت في قضية المنازعة في الدرع الواقعة بين مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) واليهودي وقد تقدمت تفصيل هذه القصة.

ومن هنا فإن النظام الذي يقيمه الإسلام قائم على التوازن فهو لا يسمح مطلقاً بطغيان طرف على آخر، بل لا يسمح من أول الأمر بتولي الطغاة والفسقة وما أشبه ذلك لشؤون الحكم فلا ينشأ نتيجة هذا التوازن حالة تستوجب الفصل بين السلطات أو التخوف من بروز الاستبداد في الحكم، وبذلك يخرج الحكم الإسلامي موضوعاً عن مبدأ السلطات بالعنوان الأولي.

نعم لا يصح للحاكم أن يجعل قضاة ضعفاء الرأي أو الشخصية بل لو استلزم تضييع الحقوق لا يجوز ذلك، ولذا اشترط المشهور من الفقهاء الاجتهاد في القاضي ومنعوا تولي القضاة المقلدين كما اشترط بعضهم أعلمية القاضي، وأما العدالة فهي أمر مفروغ منها، إذ لا يجوز للفسّاق وما أشبه ذلك تولي منصب القضاء من أول الأمر.

وعليه فإن القوة التي يمكن أن تحفظ استقلال القضاء هو قوة شخصية القضاة وصلابتهم في تطبيق العدل وخبرويتهم في تشخيص موضوعات الأحكام وتطبيق الأحكام عليها وهذا من أهم الضمانات التي تصون القضاء من استبداد السلطة التنفيذية، بداهة أن ضعف القاضي أو القضاء لا يمنع التدخل في شؤونه حتى وإن أقرّ مبدأ فصل السلطات في القانون فإن المطلوب هو مراعاة الحق فسواء كان فصل أم لم يكن كما أن مبدأ الفصل ليس بمانع حقيقي إذا أريد للحاكم التنفيذي التدخل ولم يتمكن القضاء من الحؤول دونه، وعليه يصبح مبدأ الفصل لغوياً، ومضافاً إلى قوة القضاء فإن الشارع أوجب على عموم الناس فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفريضة إرشاد الجاهل وتنبيه الغافل وهذه لا تختص بجهاز القضاء بل يجب على كل مكلف القيام بها إذا رأى استبداداً أو ظلماً في الدولة، بل في بعض النصوص والفتاوى أوجب الإسلام على المسلمين تطبيق بعض الحدود الشرعية على الجناة وإن لم يكن قضاء في الدولة أو لم تصل القضية إلى القضاء بعد، وهذه ضمانة أخرى أوجدها الإسلام لمنع احتكار السلطة أو استبدادها بالقضاء أو التدخل في شؤونه.

ومن هنا فالمسألة ترجع بالدرجة الأولى إلى شخصية القاضي أولاً ثم قوة المجتمع المسلم في تطبيق الأحكام الإلهية ثانياً، والإسلام عالج الأولى بوضع جملة من الشرائط لهذا المنصب واختار لها الأكفاء ثم وضع بين يدي الأمة أيضاً شروطاً في اختيار القاضي الصالح والقادر على إنجاز مهمة القضاء بصورة جيدة.

هذا من حيث وجوب الفصل بالعنوان الأولي، نعم لو أراد الحاكم الأعلى أو الفقيه الجامع للشرائط أو شورى الفقهاء إيجاد صيغة عامة للفصل بين السلطات من باب التأكد والضمانة والاطمئنان في تطبيق الحق فلا بأس، بل قد يستحب ذلك لو أريد منه مزيد الانقياد لأوامر المولى والحفظ لحقوق الناس والالتزام بأحكام الله سبحانه وتعالى وأخذ الحيطة والاحتياط، ففي الروايات الشريفة: أخوك دينك فاحتط دينك بما شئت.

وأما بحسب العنوان الثانوي خصوصاً في زمان الغيبة وكان على رأس السلطة حاكم غير فقيه أو غير تابع لشورى الفقهاء فدفعاً لمفاسد الاستبداد المقطوع به أو المحتمل بل المتوهم فإنه يجب الفصل لأنه من قبيل الضرر المحتمل أو الموهوم في الأمور الخطيرة التي يستقل العقل بوجوب دفعه فيحكم العقل بوجوب الفصل ويتبعه حكم الشرع أيضاً، للملازمة بين الحكمين ما دام الحكم العقلي في سلسلة العلل للأحكام الشرعية.

نعم يجب ذلك بشرطين:

- الأول: أن يكون الفصل هو الحل الوحيد لذلك، وإلا كان واجباً تخييرياً.

- ثانيهما: أن يكون القضاء شرعياً بأن كان القاضي مجتهداً جامعاً للشرائط، أو تحت إشراف المجتهد الجامع للشرائط أو تحت إشراف شورى الفقهاء، على تفصيل ذكره الفقهاء في باب القضاء.

هذا وقد عرفت أن نظام الحكم في الإسلام يمتلك المرونة الكافية التي تمكّنه أن يحل مثل هذه المعضلة إذ أن الإسلام لم يعيّن شكلاً خاصا للحكم بل قرر مبادئ عامة وركّز على الأهداف الأساسية التي يسعى من أجل تحقيقها نظام الحكم وهي العدالة والمساواة والحرية وما أشبه.. فإذا كانت العدالة لا تتحقق إلا عبر فصل السلطات وسد الأبواب بوجه المستبدين فإن الأمر يصبح واجباً على من يتولى الحكم الإسلامي طالما أنه لا يخالف نصاً من الكتاب أو السنة، ومن الواضح أن كل ما لا نص فيه الأصل فيه الإباحة والجواز.

- الأمر الرابع: قد عرفت مما تقدم أن الإسلام لا يقرّ مبدأ فصل السلطات بالعنوان الأولي، وربما يستدلّ له بوجوهٍ:

- الأول: الآيات الشريفة الواردة في تنصيب الحكام وتعيين ولاة الأمر كقوله سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) بتقريب أن إطلاق وجوب الطاعة يشمل كل السلطات الثلاثة والعموم في مفردة أولي الأمر استغراقي فينحلّ إلى كل فرد من الأولياء إذا تولّى الحكم والسلطة، ويستفاد منه أن الولي هو الذي يتولى كل شؤون الدولة بسلطاتها الثلاثة ولعلّ هذا المنصرف منه أيضاً، نعم لو أريد منه العموم المجموعي أمكن القول بأن وجوب الطاعة متعين على جميع السلطات من حيث المجموع فحينئذ لا يمكن تطبيقه إلا عبر القول بالفصل إلا أنه خلاف الظاهر.

- الثاني: سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث بنى سلطته المباركة على تمركز القدرات في شخص الحاكم وهو ما جرت عليه سيرة الصحابة من بعده أيضاً نعم وصل بين السلطات أحياناً في خارج المدينة المنورة كما عرفته مما تقدم حيث بعث ولاة وقضاة لتدبير شؤون المناطق والبلدان وكذا كان سيرة مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث كان هو الحاكم الأعلى ويجلس على دكة القضاء في مسجد الكوفة ليقضي بين الناس ولكن بتسهيل الأمر على المسلمين بعد سعة الكوفة وكثرة سكانها ولجهات سياسية أخرى أقر شريح الذي نصبه عثمان من قبل في منصبه لكن هذا الإقرار لا يضر في تمركز السلطات بيده (عليه الصلاة والسلام).

- الثالث: الآيات والروايات الشريفة الدالة على أن الحكام هم قضاة الأمة كقوله تعالى فلا يربت ما يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجد في أنفسهم حرجاً فيما قضيت ويسلموا تسليما فإن الآية المتبادر منها في مسائل الفقه والقضاء حيث قيدت الإيمان بالتسليم للنبي في القضاء والحكومة وهو في نفس الوقت الحاكم الأعلى الذي له الولاية على الأموال والأنفس ومنها إطلاق قوله تعالى ما آتاكم الرسول فخذوه وحذف المتعلق يفيد الأمور كما حدث في الأصول إذ لم يفرط في وجوب الأخذ في الحكومة والقضاء والتشريع وغير ذلك هذا وبتفسير الكلام في هذا الأمر لا من مناقشة الأمر على ضوء نظام الفريقين العامة والخاصة، أما عند العامة فالظاهر أننا لا نعرف وجهاً لمبدأ مشروعية فصل السلطات في الأصول لكن ربما يمكن الاستدلال له بما اتفقوا عليه من أن منصب الخلافة هو استمرار للجانب التنفيذي والقضائي لمنصب النبوة، ومن الواضح أن النبوّة لا تختص بجانب الوحي والتشريع وتبليغ الأحكام، فقد كانت السلطات كلها متمركزة في شخص النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، السلطة التشريعية باعتباره يتلقى الوحي الإلهي من الله عز وجل والسلطة القضائية باعتباره موحى إليه بالتشريع الذي هو وحده مرجع الأمة فيه، وباعتباره منصوباً للقضاء بين الناس من قبل الله تعالى بنص القرآن الكريم في آيات متضافرة، والسلطة التنفيذية باعتباره ولياً عاما وحاكماً مطلقاً للمسلمين وله الولاية على أموالهم وأنفسهم بنص الوحي القرآني في آيات عدة، منها آية الطاعة لأولي الأمر ومنها قوله تبارك وتعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) وغيرها من الآيات، ومن الواضح أن خليفة الرسول يخلفه فيما كان يتقلده من المناصب ويقوم به من المهمات، فتجب طاعته باعتباره ولي الأمر المأمور بطاعته في الآية الشريفة مقترناً بالأمر بطاعة الرسول في صيغة أمر واحدة هي قوله سبحانه وتعالى: (وأطيعو الرسول وأولي الأمر منكم) فينبغي لذلك أن تثبت للخليفة جميع السلطات والمناصب التي كانت للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) سوى الوحي والتشريع للأدلة الخاصة الدالة على أنه لا نبي بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولأن الوحي من مختصات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، هذا وربما يعضد ذلك سيرة الصحابة الأوائل حيث ركزوا السلطات الثلاثة بيد الخليفة من بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

هذا غاية ما ربما يمكن أن يقال في تقريب تمركز السلطات بيد الحاكم الأعلى للدولة على مباني العامة، هذا ولكن التحقيق يقضي بعدم ذلك لكون مركزة السلطة في شخص الخليفة مخالف لأصول العامة في الخلافة فضلاً عن كونه مخالف للأصل الفقهي الأولي العام في نفي سلطنة كل أحد على كل أحد، الشامل حتى للخلفاء، وبيان ذلك أن من الثابت في علم الكلام أن العامة لا يشترطون العصمة في الخليفة بل ولا يعتبرون فيه في حقيقة الحال الاجتهاد، بل ولا العدالة في استمرار عقد الخلافة له وإن اشترطها بعضهم في ابتدائها وقد تقدم بيان ذلك في الفصول المتقدمة، وعليه فإنه مع كون الخليفة غير معصوم بل وغير مجتهد وغير عادل، وهو ما حدث فعلاً كثيراً في تاريخ الخلافة في الإسلام كيف يمكن القول من الناحية الفقهية والكلامية بوجوب تمركز السلطات كلها في شخص الخليفة وحده، ولعل هذا ما يؤيده سيرة بعض أعلامهم حيث كانوا حذرين من التسليم للخليفة بولايته على السلطة القضائية وكان جمع منهم يتجنب تولي القضاء من قبل الخليفة حتى تعرضوا للأذى بسبب امتناعهم من تولي القضاء، كما يظهر من بعض فقهائهم التشكيك في ولاية غير المجتهد العادل من الخلفاء على سلطة التنفيذ، فكانوا يجيزون حكمهم وتصرفاتهم بعنوان الضرورة والاضطرار وخوف اختلال النظام وشيوع الفتنة في المجتمع أي بالعنوان الثانوي، ومن المعلوم فقهاً وعقلاً أن الضرورات تقدر بقدرها، ومن هنا نلاحظ أن الأصول الكلامية التي التزموا بها تتنافى مع السيرة الخارجية لبعض أعلامهم لما رأوه من منافاة بين ما قالوه وبين واقع الحياة الخارج، ويعضد ذلك أن الأصل الأولي عندهم في قضية سلطة الإنسان على الإنسان هو ما ذكرناه من عدم مشروعية ولاية أحد على أحد، ولا يمكن الخروج عن هذا الأصل إلا بدليل شرعي معتبر، وعليه فكيف يمكن القول مع ذلك بكون الخليفة غير المعصوم والذي قد يكون وكثيراً ما غير مجتهد بل وغير عادل جامعاً لجميع السلطات على جميع الناس وتتركز فيه القدرات الثلاثة الكبيرة في الدولة وفي الأمة.

ومن هنا ربما يقال بأن ما يقضي به النظر العلمي الموضوعي هو عدم تمركز السلطات في شخص الخليفة وضرورة وضع نظام للفصل بين السلطات وضمان توازنها، هذا وأما ما استدل له في تمركز السلطات عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فخارج موضوعاً عما ذكروه وذلك لمكان العصمة الإلهية في الرسول الأعظم التي هي الضمانة الكاملة من الظلم والجور وأما سيرة الصحابة فلا تصلح دليلاً بعد حكومة العقل بعدم حجيتها في مقابل النصوص والأدلة، بل وبعد حكومة العقل بخطأها وعدم تحقيقها للغرض لعدم عصمة الصحابة، ومن هنا كانوا يلجئون إلى المعصوم في حل معضلاتهم في الحكم والقضاء كما في متواتر الروايات بطرق الفريقين حتى قال عمر في أكثر من مورد وقضية: لولا علي لهلك عمر، وقال أبو بكر: أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم.

وبذلك يظهر أيضاً وجه المناقشة في الأدلة الثلاثة التي أقيمت على تمركز السلطة وعدم الفصل فإن ذلك ينطبق على حكومة المعصوم لا غير، هذا ما ربما تنطبق عليه القواعد عند الجماعة ، وأما عند الشيعة الإمامية فقد ظهر لك مما تقدم لزوم التفصيل بين زمان المعصوم وزمان غيبته ففي عهد الإمامة المعصومة الظاهرة لا مناص من الاعتراف والتسليم بأن الإمام المعصوم هو مركز السلطات وذلك لأن الإمامة المعصومة كما عرفته امتداد واستمرار للنبوة حتى في مجال التشريع على مستوى الحفظ والشرح والبيان والتفسير على بعض الآراء أو على مستوى التشريع أيضاً على بعض الآراء الأخرى، ولا تختص النبوة إلا بالوحي وبالتشريع الأساسي التأسيسي فإن الإمام المعصوم (عليه السلام) لا يوحى إليه ويتضح من هذا أن القول بتمركز السلطات في الإمام المعصوم (عليه السلام) موافق للمباني عند الشيعة الامامية في الإمامة المعصومة، ولا يمكن على هذه المباني إلا أن يكون الأمر في مركز السلطات هكذا. ودليل الإمامة المعصومة من الكتاب والسنة يقيد إطلاق الأصل الأولي الحاكم في عدم ولاية أحد على أحد فإن ذلك يجري في غير المعصوم، ولذا لا مناص من القول بتمركز السلطات عند المعصومين، هذا في عصر الظهور والحضور.

وأما في عصر غيبة الإمام المعصوم فتارة يكون أساس مشروعية الدولة ونصب الحكومة يرجع إلى القول بولاية الفقيه العامة وأخرى يرجع إلى القول بعدم الولاية للفقيه وعليه فالكلام هنا يتمّ في صور ثلاثة إذ تارة يكون بناء على القول بولاية الفقيه المطلقة العامة بمعنى النيابة العامة للإمام المعصوم فما للمعصوم يثبت للفقيه من الشؤون والصلاحيات كما ارتضاه جمع من الفقهاء كالنراقي وصاحب الجواهر ولعله المنسوب إلى الشيخ جعفر كاشف الغطاء (رضوان الله عليهم أجمعين) وتارة بناء على القول بنظرية ولاية الفقيه المطلقة غير العامة وهي التي اختارها المشهور من الفقهاء قديماً وحديثاً وتارة بناء على نظرية عدم الولاية المطلقة وهو الذي اختاره جمع من الفقهاء المتأخرين والمعاصرين كما هو ظاهر من كلمات الشيخ الأنصاري (رضوان الله عليه) في المكاسب وجمع ممن تأخر عنه.

أما على الأول فمسألة تمركز السلطات بيد الفقيه الجامع للشرائط واضح بداهة امتدادية سلطة الفقيه من سلطة الإمام المعصوم، وحيث أن السلطات متمركزة بيد الإمام المعصوم كما هو مقتضى الأدلة النقلية والعقلية فكذلك تتمركز بيد نائبه الفقيه الجامع للشرائط، وأما عن الثاني فحيث أن عمدة الدليل عليها هو طائفة من الأدلة اللفظية كم عرفت جملة منها مما تقدم من قبيل التوقيع المشهور المروي عن مولانا صاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه الشريف) ومقبولة عمر بن حنظلة ونظائرها كمشهورة أبي خديجة فربما يمكن أن يقال في وجه تمركز السلطات بيد الفقيه منها ما حاصله: أن أدلة الولاية مطلقة من حيث تنزيل الفقيه الجامع للشرائط في عصر الغيبة منزلة الإمام المعصوم وإطلاقه يشمل جميع ما للإمام المعصوم الذي هو كالنبي في الولاية أي أولى بالمؤمنين من أنفسهم إلا ما أخرجه الدليل، وهذا يقتضي كون الفقيه المنزل منزلة الإمام المعصوم مركزاً ومرجعاً للسلطات الثلاث في الدولة الإسلامية لكن ربما يندفع ما ذكر بأن غاية ما يدل عليه دليل التنزيل هو ولاية محدودة في مجال السلطة التنفيذية ولا يجوز التعدي على القدر المتيقن ولا يمكن اعتبار هذا الدليل بالنسبة إلى الأصل الأولي بنفس اعتبار دليل ولاية النبي والإمام بالنسبة إلى الأصل الأولي، وذلك أن دليل ولاية النبي والإمام المعصوم كما أنه قطعي السند فإنه قطعي الدلالة على الولاية المطلقة والنص فيها، ولذلك فإنه النص يمكن أن يقيد الأصل العقلي الأولي في عدم ولاية الإنسان على الإنسان وعلى غيره، وأما دليل تنزيل الفقيه منزلة الإمام المعصوم فهو ظني السند وربما ظني الدلالة أيضاً لكون عموم الولاية مستفادة من الظهور الإطلاقي على أحسن الفروض، ومع وجود المخالف في فهم هذه الدلالة يصبح دلالته على تمركز السلطات بيد الفقهاء مجملة فهو ليس ظاهراً في إطلاق التنزيل أو التنزيل المطلق من هذه الجهة، فعلى فرض اعتباره حجة لا بد من الاقتصار فيه على القدر المتيقن منه وهو ما يتعلّق بما يقتضيه حفظ النظام.

وعليه يفيدنا أصلاً كلياً ثابتاً هو أن الشرعية بيد الفقيه وان كل سلطة لابد وأن ترجع إليه في الأصل لأنه المسؤول عن الإسلام والمسلمين، لكن لا يدل هذا على نفي توزيعها أو تقسيمها على أطراف عدة خصوصاً إذا أراد الفقيه تنصيب غير الفقيه على شؤون السلطة أو كان حفظ النظام أو تطبيق العدالة بالشكل الشرعي يتوقف على تقسيمها بين عدة سلطات خصوصاً مع حكم العقل بلزوم التقسيم للحؤول دون الاستبداد والظلم.

هذا بالنسبة إلى السلطة التنفيذية وأما بالنسبة إلى السلطة التشريعية والقضائية فسنتعرض إليه في البحث القادم إنشاء الله.

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين..