المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 36.doc

- المسألة الخامسة عشر: المشهور بين الفقهاء أن كل مرتبك لمحرم وتارك لواجب عليه التعزير لكن المستظهر من ذلك احتمالان:

- الأول: الوجوب مطلقاً.

- الثاني: الوجوب في صورة عدم التوبة، والذي ربما يستفاد من ظاهر كلمات الفقهاء أنهم لا يريدون الأول بل فيما إذا أصر الفاعل أو التارك على ما اقترف، وإلا فإن تاب وانقلع بنفسهما يسقط موضوعاً وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يكن هناك تعزير أيضاً، ولعل هذا هو الظاهر من كلمات جمع منهم ففي المبسوط قال الشيخ (رضوان الله عليه) إذا فعل إنسان ما يستحق به التعزير مثل إن قبل امرأة حراماً أو أتاها فيما دون الفرج أو أتى غلاماً بين فخذيه عندهم لأن عندنا ذلك لواط أو ضرب إنساناً أو شتمه بغير حق فللإمام تأديبه فإن رأى أن يوبخه على ذلك أو يبكته أو يحبسه فعل، وإن رأى أن يعزره فيضربه ضرباً لا يبلغ به الحدود وإنها أربعون جلدة فعل، فإذا فعل فإن سلم منه فلا كلام وإن تلف منه كان مضموناً عند قوم، وقال قوم إن علم الإمام أنه لا يردعه إلا التعزير وجب عليه أن يعزره وإن رأى أنه يرتدع بغيره كان التعزير إليه إنشاء عزره وإن شاء تركه.

فإن فعل ذلك فلا ضمانة على الإمام سواء عزره تعزيراً واجباً أو مباحاً وهو الذي يقتضيه مذهبنا فإن ظاهر هذا الكلام إن ذلك للإمام لا إنه واجب أولي ويستثني منه صورة العدم كما هو يؤكد ما ذكرناه أيضاً في المسألة السابقة من أن التأديب من العقوبات أيضاً في صورة عدم إمكان إقامة الحد أو التعزير، وفي القواعد قال العلامة (رضوان الله عليه) وكل من فعل محرماً أو ترك واجباً كان للإمام تعزيره بما لا يبلغ الحد، لكن بما يراه الإمام ولا يملك حد الحر في الحر ولا حد العبد في العبد، فإن ظاهر كلامه (رضوان الله عليه) أن للإمام ذلك وهو مفوض في تنفيذه لا أنه واجب عليه.

وفي كشف اللثام في شرح عبارة القواعد قال ثم وجوب التعزير في كل محرم من فعل أو ترك إن لم ينتهي بالنهي والتوبيخ ونحوهما فهو ظاهر لوجوب إنكار المنكر، وأما إن انتهى بما دون الضرب فلا دليل إلا في مواضع مخصوصة، ورد النص فيها بالتأديب أو التعزير ويمكن تعميم التعزير في كلامه وكلام غيره، بما دون الضرب من مراكب الإنكار انتهى مقامه رفع مقامه.

وكثير من عباراتهم تؤيد ما ذكرناه أيضاً فمثلاً قال الشيخ (رضوان الله عليه) في الخلاف التعزير إلى الإمام بلا خلاف إلا أنه إذا علم أنه لا يردعه إلا التعزير لم يجز له تركه، وإن علم أن غيره يقوم مقامه من الكلام والتعنيف كان له أن يعدل إليه، ويجوز له تعزيره وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي هو بالخيار في جميع الأحوال إلى غير ذلك من عباراتهم، ولعل هذا ما يستظهر أيضاً من كلمات جمع من فقهاءنا المتأخرين كما يظهر من الجواهر والفقه كما اختاره السيد الشيرازي (رضوان الله عليه) في الفقه الدولة في الجزء الأول صفحة 182 وأما أدلة المشهور على وجوب التعزير فمناقش فيها من حيث الأسانيد والدلالات ولا يسعنا المجال لبيانها هنا، فمن أراد الإطلاع فليرجع إلى الفقه الدولة للسيد الشيرازي في الجزء الأول صفحة 185.

وأما ما اخترناه فيدل عليه جملة من الآيات والروايات منها ما رواه في تحف العقول عن أبي الحسن الثالث (عليه السلام) في حديث قال: وأما الرجل الذي اعترف باللواط فإنه لم يقم عليه البينة وإنما تطوع بالإقرار بنفسه وإذا كان للإمام الذي كان من الله أن يعاقب عن الله كان له أن يمنّ عن الله أما سمعت قول الله عز وجل: (هذا عطاءنا فامنن أو أمسك بغير حساب) وعن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): عليكم بالعفو فإن العفو لا يزيد العبد إلا عزاً فتعافوا يعزكم الله، وعن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الندامة على العفو أفضل وأيسر من الندامة عن العقوبة، وعن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أتي باليهودية التي سمت الشاة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لها: ما حملك على ما صنعت؟ فقالت: قلت إن كان نبياً لم يضره وإن كان ملكاً أرحت الناس منه، قال: فعفى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنها.

وفي نهج البلاغة في كتاب علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر حينما ولاه مصر ورد فيه: وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرض منهم الزلل وتعرض لهم العلل ويؤتى على أيديهم بالعمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك والله فوق من ولاك، إلى أن قال (عليه السلام): ولا تندمن على عفوٍ ولا تبجحن بعقوبة، إلى آخر كلامه (عليه السلام)..

الظاهر في تفويض العفو إلى الحاكم فيطبقه بما يراه صلاحاً، وعن علي بن الحسين (عليه السلام) في رسالة الحقوق: وأما حق رعيتك بالسلطان فإن تعلم أنهم صاروا رعيتك لضعفهم وقوتك فيجب أن تعدل فيهم وتكون لهم كالوالد الرحيم وتغفر لهم جهلهم، ولا تعاجلهم بالعقوبة وتشكر الله عز وجل على ما آتاك من القوة عليهم، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: ثلاثة تجب على السلطان للخاصة والعامة: مكافأة المحسن بالإحسان ليزدادوا رغبة فيك وتعفو ذنوب المسيء ليتوب ويرجع عن غيه وتألفهم جميعاً بالإحسان والإنصاف، وعنه (عليه السلام) أنه قال: العفو عند القدرة من سنن المرسلين والمتقين، وتفسير العفو أن لا تلزم صاحبك فيما أجرم ظاهراً وتنسى من الآصل ما أصبت به باطناً وتزيد على الاختيارات إحساناً، وعن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): عند كمال القدرة تظهر فضيلة العفو.

وفي شرح ابن أبي الحديد المعتزلي لنهج البلاغة أن علياً (عليه السلام) حاربه أهل البصرة وضربوا وجهه ووجوه أولاده بالسيوف، وشتموه ولعنوه فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم ونادى مناديه في أقطار العسكر ألا لا يتبّع مولٍّ ولا يجهز على جريح ولا يقتل مستأسر ومن ألقى سلاحه فهو آمن ومن تحيز إلى عسكر الإمام فهو آمن ولم يأخذ أثقالهم ولا سبى ذراريهم ولا غنم شيئاً من أموالهم، ولو شاء أن يفعل كل ذلك لفعل ولكنه أبى إلا الصفح والعفو، وتقيل سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم فتح مكة فإنه عفى والأحقاد لم تبرد والإساءة لم تنسى.

أقول: لعل قوله تقيل سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمعنى أشبهه كما يقال تقيل فلان أباه أي أشبهه، وهذا ما جرت عليه سيرة الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) كالحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وغيرهما في موارد العفو مع تمكنه من العقوبة حداً أو تعزيراً، وهذا ما دلّ عليه القرآن الكريم في جملة من الآيات منها قوله سبحانه وتعالى: (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً) وقوله سبحانه: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) وقوله عز وجل: (ادفع بالتي هي أحسن نحن أعلم بما يصفون) وقال عز وجل: (ولا تزال تضطلع على خائنة منهم إلا قليلاً منهم فاعفوا عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين) وقال عز وجل: (فاصفح الصفح الجميل) وقال تبارك وتعالى: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) إلى غيرها من الآيات والروايات والسيرة الطاهرة.

ولا يقال أن الأمر العفو يختص في السلوك الشخصي في التعامل مع الناس لانصراف مثل هذه الأدلة إليه لأنه يقال أنه خلاف الظاهر المستفاد منه العموم والإطلاق والمانعان من الانصراف هذا أولاً.

- ثانياً: بعضه ورد في نص السلطان والوالي كما في عهد الأشتر النخعي بل وبعض الآيات فيها خطاب للنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو الحاكم الأعلى للمسلمين، وثالثاً على فرض التسليم بانصرافه إلى الأمور الشخصية فهذا انصراف بدوي بداهة شموله للأمور العامة بالأولوية القطعية فإن المندوب شرعاً في الأقل مندوب في الأكثر بل مناسبة الحكم والموضوع تقتضي الأولوية في الحاكم لترتب الكثير من المصالح الهامة على عفو السلطان ولذا جرت سيرة العقلاء عليه واستقلّ العقل بحسنه واستحقاقه للمدح، وبذلك يظهر أن ما يدلّ على حتمية العقوبة إما مطلقاً أو في الجملة هو إلماع إلى الأصل في ثبوت الحق لا إلى عدم اختيار الإمام وتحديد كيفية الأخذ بالعقاب. لا يقال هنا ثلاث طوائف من الروايات:

- الأولى: ما يدل على حتمية العقوبة.

- الثانية: ما يدل على العفو.

- الثالثة: ما يفصل بين الحد فيلزم والتعزير والاختيار.

وبهذه الطائفة الثلاثة نجمع بين الإطلاقين في الطائفة الأولى والثانية لأنه يقال قد عرفت فيما تقدم أن في نفس الحد هناك مجال للعفو أيضاً، وبذلك لا يكون الجمع المذكور جمعاً عرفياً بل هو أقرب إلى التبرع لإطلاق أدلة الاختيار، نعم العفو في التعزير أولى والعقوبة في الحد أولى، وبذلك تسقط حجية الجملة الأخيرة في مرسل البرقي بالإضافة إلى ضعف سنده عن بعض الصادقين (عليهم السلام) قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فأقر بالسرقة فقال له أتقرأ شيئاً من القرآن قال نعم سورة البقرة، قال قد وهبت يدك لسورة البقرة، قال فقال الأشعث أتعطل حداً من حدود الله فقال ما يدريك ما هذا إذا قامت البينة فليس للإمام أن يعفو وإذا أقر الرجل على نفسه فذاك إلى الإمام إنشاء عفى وإنشاء قطع ونحوه أيضاً خبر طلحة بن زيد عن الصادق (عليه السلام)، ولعل من هنا قال المفيد (رضوان الله عليه) في المقنعة من زنى وتاب قبل أن تقوم الشهادة عليه بالزنى درأت عنه التوبة الحد فإن تاب بعد قيام الشهادة عليه كان للإمام الخيار في العفو عنه أو إقامة الحد عليه حسب ما يراه من المصلحة في ذلك له ولأهل الإسلام، فإن لم يتب لم يجز العفو عنه في الحد بحال، وقريباً منه ما قاله أبو الصلاح الحلبي في الكافي قال: فإن تاب الزاني أو الزانية قبل قيام البينة عليه وظهرت توبته وحمدت طريقته سقط عنه الحد وإن تاب بعد قيام البينة فالإمام العادل مخير بين العفو والإقامة كذلك لغيره إلا بإذنه وتوبة المرء سراً أفضل من إقرابه ليحد.

ومنه أيضاً ما قاله ابن زهرة (رضوان الله عليه) في كتاب الغنية وإن تاب بعد ثبوت الزنى عليه فللإمام العفو عنه وليس ذلك لغيره وهذا ما اختاره أيضاً بعض فقهاءنا المعاصرين كالسيد الشيرازي (رضوان الله عليه) في كتابه الدولة الإسلامية.

- المسألة السادسة عشر: لا يجوز ضرب المتهم وأذيته وتعزيره وسجنه وما أشبه ذلك من أجل إقراره أو أخذ الاعتراف منه أو لكشف ما يحتمل أنه يضطلع عليه حتى يبينه للحاكم وعليه إجماع الفقهاء على ما يظهر من كلماتهم في الفقه وهو ما قامت عليه الأدلة أيضاً ففي صحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن أعتى الناس على الله عز وجل من قتل غير قاتله ومن ضرب من لم يضربه.

 ومثله رواية الوشى عن الرضا (عليه السلام) وفي خبر جابر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال لو أن رجلاً ضرب رجلاً سوطاً لضربه الله سوطاً من نار.

وفي خبر السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن أقرب الناس إلى الله عز وجل رجل جرد ظهر مسلم بغير حق. وعن أبي البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال من أقر عند تجريد أو تخويف أو حبس أو تحديد فلا حد عليه.

وعن إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه (عليه السلام) أن علياً (عليه السلام) كان يقول لا قطع على أحد يخوف من ضرب ولا قيد ولا سجن ولا تعنيف وإن لم يعترف سقط عنه لمكان التخويف والظاهر أن قوله (عليه السلام) وإن لم يعترف أنه لم يعترف باختياره وإرادته وإنما كان اعترافه كرهاً كما هو واضح.

وعن سليمان بن خالد قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل سرق سرقة فكابر عنها فضرب فجاء بها بعينها هل يجب عليه القطع. قال: نعم.

ولكن لو اعترف ولم يلجأ للسرقة لم تقطع يده لأنه اعترف على عذاب وعن دعائم الإسلام عن علي (عليه السلام) من أقر بحد على تخويف أو حبس أو ضرب لم يجز ذلك عليه ولا يحد وعن علي (عليه الصلاة والسلام) أيضاً أنه أتي برجل اتهم بسرقة أظنه خاف عليه أن يكون إذا سأله تهيب بسؤاله فأقر بما لم يفعل فقال له (عليه السلام): أسرقت، قال: لا إن شئت. فقال: لا ولم تكن عليه بينة فخلى سبيله.

وفي الجعفريات بسنده إلى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده (عليهم الصلاة والسلام) أنه سأل عن الرجل يقر على نفسه بقتل أو حد فقال أبو عبد (عليه السلام) لا يجوز على رجل قوت ولا حد بإقرار وتخويف ولا حبس ولا بضرب ولا بقيد.

وفي مسند زيد بن علي بن أبيه عن جده عن علي (عليهم الصلاة والسلام) قال لما كان في ولاية عمر أتي بامرأة حامل فسألها عمر فاعترفت بالفجور فأمر بها عمر أن ترجم فلقيها علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: ما بال هذه. قالوا: أمر بها عمر أن ترجم فردها علي (عليه السلام) فقال أمرت بها أن ترجم. فقال: نعم اعترفت عندي بالفجور. فقال علي (عليه السلام): هذا سلطانك عليها فما سلطانك على ما في بطنها. قال: ما علمت أنها حبلى. قال أمير المؤمنين (عليه السلام) إن لم تعلم فاستطرأ رحمها، ثم قال (عليه الصلاة والسلام) فلعلك انتهزتها أو أخفتها. قال: قد كان ذلك، فقال: أما سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: لا حد على معترف بعد بلاء إنه من قيدت أو حبست أو تهددت فلا إقرار له، قال فخلى عمر سبيلها. ثم قال: عجزت النساء أن تلدن مثل علي بن أبي طالب لولا علي لهلك عمر وبذلك ظهر أنه ما نسب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من التعذيب باطل لا أساس له بل القرائن تدل على أنه من الوضاعين لتصحيح أعمال مثل الحجاج وابن زياد ومن أشبههما من جاعلي الأحاديث تزلفاً إلى الأمراء واستحواذاً على المال الحرام وفي بعضها عليه أمارة الإسرائيليات على تفصيل لا يسعنا المجال لبيانه هنا بعد معرفة أصل منافاته للإسلام وحكم العقل وسمات النبوة فإنها أدلة ثلاثة قطعية ويقينية تكفينا في إسقاط ما يعارضها مما ظاهره ذلك على الاعتبار.

وبذلك يظهر أيضاً الإشكال في استدلال بعض المتأخرين على جواز التعذيب بروايتين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعدم تمامية الدلالة فيهما:

- الأولى أنه في بدر أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بغلامين وهو قائم يصلي فقالا نحن سقات قريش بعثونا نسقيهم من الماء فكره القوم خبرهما ورجوا أن يكون لأبي سفيان فضربوهما فلما أزلقوهما قالا نحن لأبي سفيان فتركوهما ورفع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسجد سجدتيه ثم سلم وقال إذا صدقاكم ضربتوهما وإذا كذباكم تركتوهما صدق والله إنهما لقريش وذلك بتقريب تقرير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لضربهما والسكوت عنه لكن من الواضح أنه ليس في مثل هذه الرواية شيء من التقرير بل ظاهرها إنكار الضرب على القوم.

- والثانية: ما رواه ابن هشام في سيرته أنه كتب حاطب بن أبي بلتعة من المدينة كتاباً إلى قريش يخبرهم بما أجمع عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأعطاهم امرأة تبلغه قريشاً فجعلته في رأسها وفتلت عليه قرونها وأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الخبر من السماء فبعث (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب والزبير فخرجا فأدركاها فالتمساه في رحلها فلم يجدا شيئاً فقال لها علي (عليه السلام): إني أحلف بالله ما كذب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما كذبنا لتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك فأخرجت الكتاب بتقريب أن الإمام هددها والتهديد نوع من العذاب لكن من المعلوم أن هذا غير التعذيب وإنما هو تهديد.

فإن التعذيب هو ما يشمل التنكيل والضرب والتجريح وما أشبه ذلك وإنما هنا تهديد بالكشف حتى يظهر انه عندها ويؤيد ما ذكرناه بل يدل عليه ما رواه البحار عن العلل عن أبي جعفر (عليه السلام) قال إن أول ما استحل الأمراء العذاب بكذبة كذبها أنس بن مالك على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه سمر يد رجل إلى الحائط ومن ثم استحل الأمراء العذاب ومنه يعرف الإشكال في جملة من الروايات التي تنسب إلى رسول الله ذلك وغالباً وردت هذه الروايات من قبل الوضاعين لتصحيح أعمال الحكام الظلمة في تعذيب مناوئيهم ومخالفيهم على تفصيل ذكره المؤرخون في كتب التاريخ بما لا يسعنا المجال لبيانه هنا.

- المسألة السابعة عشر: الأصل في الإنسان الحرية فلا يجوز حبس المتهم قبل الإدانة إطلاقاً إلا إذا كان الضرر المحتمل أهم من ضرر الحبس حيث يجوز الحبس حينئذ لجهة الأهم والمهم من باب الضرورة ومن المعلوم أن الضرورات تقدر بقدرها كما أنه يجوز الحبس لحفظ المجرم من أيدي الغوغاء لنفس هذا الدليل فإذا كان اضطراراً لحفظ المجرم عن الغوغاء بأن لم يمكن حفظه إلا بذلك جاز الحبس من باب الأهم والمهم أيضاً وبقدر الضرورة كذلك يدل على المستثنى والمستثنى منه بالإضافة إلى ما ذكرناه من القواعد الأولية بعض الروايات منها ما عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يحبس في تهمة الدم ستة أيام فإذا جاء أولياء المقتول بثبت وإلا خلى سبيله.

وعن دعائم الإسلام عن علي (عليه السلام) أنه قال لا حبس في تهمة إلا في دم والحبس بعد معرفة الحق ظلم.

وفي كتاب الغارات عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: إني لا آخذ على التهمة ولا أعاقب على الظن ولا أقاتل إلا من خالفني وناصبني وأظهر لي العداوة وفيه أيضاً في قصة خروج الخريت بن راشد من بني ناجية على أمير المؤمنين (عليه السلام) واعتراض عبد الله بن قعين عليه بعدم استيثاقه قال: فقلت: يا أمير المؤمنين فلما لا تأخذه الآن فتستوثق منه. فقال (عليه السلام): إنا لو فعلنا هذا لكل من نتهمه من الناس ملئنا السجون منهم ولا أراني يسعني الوثوب على الناس والحبس لهم وعقوبتهم حتى يظهروا لنا الخلاف لكن مقتضى كون الأمر ضرورة أنه إن تمكن من الاستيثاق بغير ذلك مثل أخذ الكفيل أو تجميد رصيده في البنك بقدر دين المدعي مثلاً أو ما أشبه ذلك حتى إذا أثبت جعله للمدعي كان مقدماً على الحبس لكن مع ذلك قال المحقق (رضوان الله عليه) في الشرائع إذا اتهم والتمس الولي حبسه حتى يحضر البينة ففي إجابته تردد ومستند الجواز ما رواه السكوني.

وفي السكوني ضعف وفي الجواهر بعد أن ذكر تلك العبارة قال يمنع عن العمل به في ما خالف أصل البراءة وغيره إذ هو تعجيل العقوبة لا مقتضي له ولذا كان خيرة الحل والفخر وجده وغيرهم على ما حكي العدم وفي المختلف التحقيق أن نقول إن حصلت التهمة للحاكم بسبب لزوم الحبس ستة أيام عملاً بالرواية وتحفظاً للنفوس عن الإتلاف وإن حصلت لغيره فلا عملاً بالأصل.

وقد ذكر السيد الشيرازي (رضوان الله عليه) من الفقهاء المعاصرين في كتابي الحقوق والواجبات والمحرمات وغيرهما جملة من موارد السجن في الإسلام بما يتوافق مع ما ذهب إليه الأعلام مع بيان العلل والأسباب.

- المسألة الثامنة عشر: الحبس باستثناء موارد شاذة قررها الإسلام يجب أن يجتلب مهما وجد السبيل إلى ذلك لأن الغرض هو قطع دابر الفساد فما دام غيره ميسوراً في ذلك لا تصل النوبة إليه لما فيه من الأضرار الكبيرة التي قد تتجاوز مصلحة العقاب وقد جمعها بعض الفقهاء في أمور:

- الأول: الأضرار الاقتصادية

حيث أن السجين يتوقف عن العمل غالباً ويحمل خزانة الدولة التي هي خزانة الأمة نفقاته كما أن إدارة السجن تحمل الأمة نفقاتها فمثلاً دينار يتوقف من الاستثمار من جهة توقف السجين عن العمل ودينار يصرف عليه ودينار يصرف على إدارة سجنه وهي أضرار مضاعفة.

- الثاني: الأضرار الثقافية

حيث أنه يمنع عن الثقافة التي كان يحصلها حالة انطلاقه في الخارج قبل السجن.

- الثالث: الأضرار السياسية

حيث لا يتمكن أن يشارك في النمو السياسي لنفسه أو لغيره ووطنه.

- الرابع: الأضرار النفسية الاجتماعية

حيث هو في كبت وحرمان وتبقى عائلته مشردة محطمة نفسياً واجتماعياً وذلك يوجب أضراراً اجتماعية كثيرة.

- الخامس: الأضرار الأخلاقية لنفسه

حيث يتعقد هو وذلك يعطي مردوده في السجن وخارجه لتحطم أعصاب السجين وتحطم أعصاب ذويه وقرباه.

- السادس: الأضرار الأخلاقية لعائلته

حيث أن في بعض الأحيان يوجب السجن انزلاق زوجة السجين أو أولاده في أوحال الرذيلة بسبب عدم المعيل المراقب لهم أو بحسب الضغوط الاجتماعية والمهانة التي يشعرون بها من جراء سجن والدهم مثلاً.

- السابع: الأضرار العدوائية

فإن السجين المجرم يعلم سائر السجناء كيفية الجريمة كما أنه إذا خرج وقد تعلم الجريمة يفشيها في المجتمع أيضاً وهذه أضرار بليغة ومضاعفة.

- الثامن: الأضرار الأخرى كتحطم المسؤولية لدى السجين

حيث أن الإنسان غالباً يأخذه الحياء في أن يرتكب المنكرات فإذا سجن علم الناس ذلك منه ورأوه مجرماً وربما لم يصفحوا عنه أو يغضوا الطرف وبذلك يقل حياءه ولا يرى نفسه مسؤولاً.

ومنها الأضرار العمرانية فيما إذا كان السجين بناء أو مهندساً أو مزارعاً أو ما أشبه.

ومنها الأضرار الصحية فيما إذا كان السجين طبيباً ونحو ذلك ومن هنا يلاحظ بأن الأضرار المترتبة على السجن هي أبلغ وأكبر وربما تتجاوز حدود العقوبة وتسبب الظلم والجور على السجين بما لا يحمد عقباه فيلزم منه نقض الغرض ولهذا قلنا ينبغي أن يكون السجن هو آخر المعالجات مهما أمكن للحاكم من اتخاذ إجراءات لردع المنكر.

- المسألة التاسع عشر: لا يجوز هتك السجين أو المحدود في نفسه أو عائلته أكثر من القدر المقرر في الشريعة في باب العقوبات إذ لا يجوز إهانة المسلم أو إذلاله أو تخويفه أو إراقة ماء وجهه أو ما أشبه خرج منه ما دلت عليه أدلة العقوبات فلا وجه للزائد بعد الأصل المذكور حينئذ.

فمثلاً إذا زنت امرأة وثبت زناها بالإقرار أو البينة بحسب الموازين الشرعية فإذا صرح بأنها من عائلة فلان أو زوجة فلان أو بنت فلان عند إجراء الحد عليها سبب ذلك خفتهم وإسقاط كرامتهم في المجتمع فإنه لا يجوز ذلك بل ربما يسبب ذلك مضاعفة الجريمة بما يترتب على ذلك من الآثار السلبية وهكذا بالنسبة إلى سائر الجرائم ومنه يظهر وجه التحريم المشدد في إجراء المقابلة الإذاعية أو التلفزيونية أو النشر في الصحف أو ما أشبه ذلك بالنسبة إلى من ارتكبوا المنكرات أو الجرائم خصوصاً إذا أخذ الإقرار ونحوه بالإكراه فإنه محرم مشدد فعن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) من كشف حجاب أخيه انكشفت عورات بيته وعن عبد الله بن سنان قال: قلت له: عورة المؤمن على المؤمن حرام. قال: نعم. قلت: تعني سفليه. قال: ليس حيث تذهب إنما هو إذاعة سره وعن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) شر الناس من لا يعفو عن الذلة ولا يستر العورة وعن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال لا تتبعوا عثرات المسلمين فإن من تتبع عثرات المسلمين تتبع الله عثرته ومن تتبع الله عثرته يفضحه.

وفي رواية أخرى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال الله عز وجل: قد نابذني من أذل عبدي المؤمن ومن الواضح أن إجراء المقابلات التلفزيونية أو الصحفية وما أشبه ذلك من أجلى مصاديق الإذلال والفضيحة بل وربما يوجب الكثير من المفاسد في المجتمع مما يسبب نقض الغرض من العقوبة ومن هنا يقال من الأفضل بالنسبة إلى نفس المجرم ومن رأى الجريمة الستر عليها إلا إذا كانت هناك جهة أهم. ففي خبر أبي العباس قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل. فقال: إني زنيت إلى أن قال: فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو استتر ثم تاب كان خيراً له مما يدل على أن ستر المجرم على جريمته وستر من اضطلع على هذه الجريمة هو مفاد الخير وفي حديث الأصبغ من نباتة أتى رجل أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) فقال يا أمير المؤمنين إني زنيت فطهرني فأعرض عنه بوجهه ثم قال له أجلس فقال أيعجز أحدكم إذا قارف هذه السيئة أن يستر على نفسه فما ستر الله عليه فقام الرجل فقال يا أمير المؤمنين إني زنيت فطهرني فقال وما دعاك إلى ما قلت قال طلب الطهارة قال وأي طهارة أفضل من التوبة ثم أقبل على أصحابه يحدثهم فقام الرجل فقال يا أمير المؤمنين إني زنيت فطهرني فقال أتقرأ شيئاً من القرآن قال نعم قال اقرأ فقرأ وأصاب فقال له أتعرف ما يلزمك من حقوق الله في صلاتك وزكاتك قال نعم فسأله فأصاب فقال له هل لك مرض يعروك أو تجد وجعاً في رأسك أو بدنك قال لا قال اذهب حتى نسأل عنك في السر كما سألناك في العلانية فإن لم تعد إلينا لم نطلبك وفي هذه الروايات دلالات واسعة وكبيرة على أن الحاكم الشرعي لا يطبق الحدود عادة إلا إذا وجد لذلك ضرورة كما يظهر من مثل هذا الحديث أن الإمام (عليه الصلاة والسلام) يحاول أن يحاور الرجل بمختلف الطرق ويفتح عليه أبواب لأجل ردع العقوبة عنه ما دام قد تاب ما بينه وبين الله عز وجل فأراد أن يستر على نفسه ويستر عن المجتمع وفي رواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث الزاني الذي أقر أربع مرات أنه قال لقنبر احتفظ به ثم غضب وقال ما أقبح الرجل منك أن يأتي هذه الفواحش فيفضح نفسه على رؤوس الملأ أفلا تاب في بيته فوالله لتوبته فيما بينه وبين الله أفضل من إقامتي عليه الحد إلى غير ذلك من الروايات نعم يستثنى من ذلك أمور منها أعمال المحتسب حيث كان مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) يطوف في الأسواق بنفسه ليرى ويسمع ويأمر وينهي وإذا رأى منكراً غيره كما في أحداث متعددة نقلتها كتب التواريخ مثل قضية الميضاد وقضية إرجاع المال إلى الجارية وغيرهما وعليه فإن المستفاد من مثلها أن الحاكم الإسلامي يضع المحتسب في الأسواق ونحوها للإشراف على مثل ذلك فإذا رأى المنكر أخبروا الحاكم وعالجوه بحسب ما يقرره الحاكم من موازين وإن ما كان ذلك مستثنى لأهمية استقامة الأمر في البلاد وشيوع الأمن في المجتمع والدولة التي هي من الملاكات العظمى في الموازين الشرعية لكن هل يشترط في المحتسبين العدالة والعدد حتى أنهم إذا شهدوا عن الحاكم بوقوع بعض المنكرات وما أشبه ذلك ينبغي فيهم التعدد مثلاً والعدالة أن يكفي الوثاقة الظاهر كفاية الوثاقة فقط لقوله (عليه السلام) الأشياء كلها على ذلك حتى تستبين أو تقوم به البينة وهذه الموارد من قبيل الاستبانة والبينة إنما تكون في المنازعات وفي موارد خاصة من الحدود ذكرها الفقهاء في مضانها نعم إذا وصل الأمر إلى الحاكم عمل بحسب الموازين ولو كان فيهم العدالة والعدد كان أحوط بلا إشكال كما يتعارض فيما رأيناه في بعض البلدان ما يسمى بشرطة الأخلاق الذين كانوا يدورون في الأسواق للأمر والنهي لأجل الاستقامة في بعض المجتمعات الملتزمة والفيصل في مثل هذه الأمور هو رأي شورى الفقهاء الذين هم أعلى سلطة في الدولة فما يقررونه هو الذي تنفذه السلطة التنفيذية والسلطة القضائية.

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين..