المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 35.doc

- المسألة العاشرة: ثبت بالأدلة المعتبرة أن الإسلام يجبّ ما قبله بمعنى أن الكفّار إذا ارتكبوا جنايات قبل الإسلام ثم بعد ذلك دخلوا في الإسلام فإنهم لا يؤاخذون على ما ارتكبوه في حال الكفر، وإطلاق هذه الأدلة يشمل صورة الاستبصار في المذهب من جهة العبادات، حيث حكموا بأنه يجب ما قبله أيضاً، كما وردت في كلا الأمرين متواتر الروايات المعمول بها قديماً وحديثاً، وقد ذكر الفقهاء طرفاً من الكلام في ذلك في كتابي الزكاة والحج من الفقه، لكن هل هذا القانون يجري في عموم الناس على ما عملوه فيما سبق قيام الدولة الإسلامية أم لا، احتمالات في المسألة:

- الأول: العدم، وذلك لاختصاص أدلة الجب بمخالفة العقيدة أو المذهب في الأصول، وأما الفروع فلا.

- الثاني: الشمول، لوحدة الملاك وفهم عدم الخصوصية، خصوصاً مع اشتراط تطبيق أحكام الإسلام في مثل الحدود والتعزيرات ونحوها بشروط عديدة، منها نظافة البيئة الاجتماعية والجو العام في البلد من المنكر والفساد، ومنها شيوع الإيمان والالتزام بالأحكام الإسلامية بين الناس، ومنها سد الحاجات الضرورية في المجتمع، كالنكاح والسكن والعمل وما أشبه ذلك بلحاظ أن أكثر المعاصي تنشأ بسبب عدم الكفاية أو وجود الموانع أمام الحلال، وإلا فإن الإنسان المؤمن بطبعه الأولي يميل إلى الطيب ولعل في الأخبار ما يشير إلى أن العصيان عادة يقع بسبب الحاجة، لعل منه قول مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): ولعل هناك بالحجاز أو اليمامة من لا عهد له بالشبع أو لا طمع له في القرص، كما روى الحر العاملي (رضوان الله عليه) في الوسائل عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): إن إنساناً استمنى فجيء به إلى الإمام (عليه السلام) فضربه حتى احمرّت يده وزوّجه من بيت المال، ونحو ذلك من الروايات الدالة في مضمونها على أن الإسلام لا يحاسب الفرد قبل أن يكفيه مؤونته ويسد حاجته وإلا لزم منه مخالفة الحكمة في أكثر من جهة.

وعلى الرغم من ذلك فإنه لا يجري العقوبات ونحوها إلا بعد توفر شرائط عديدة قلما تحصل أو تتوفر كما فصّله الفقهاء في كتابي الحدود والتعزيرات والقضاء.

- الثالث: الرجوع في المسألة إلى الفقيه الجامع للشرائط للحكم فيها بحسب موازين باب التزاحم وهذا ما اختاره أيضاً بعض الفقهاء منهم السيد الشيرازي (قدس سره) في كتابه الحكم في الإسلام في الصفحة 113، وذلك لوجوه:

- الأول: السيرة الثابتة في التاريخ عن عفو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن جملة من الكفار ومنهم أهل مكة، حيث قال (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم بعد أن أسرهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء، مع وضوح أنهم لم يسلموا صدقاً بل خوفاً بعد أن كانوا أساؤوا إلى المسلمين والى رسول الله بالقتل والجرح ونهب الأموال والتشريد عن الأوطان، فتشملها أدلة وجوب الاقتداء أيضاً، قال سبحانه وتعالى: (ولكم في رسول الله أسوة حسنة) وحيث أن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) منّ على الكفار كان للفقيه المن أيضاً كما له الأخذ بالعقوبة عملاً بأدلة العفو أو العقوبة، فيتخير بينهما بحسب ما يراه من المصلحة للإسلام والمسلمين.

إن قلت لعلّ ما فعله النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) كان من باب الولاية الخاصة التي أعطاه الله عز وجل إياها على الأنفس والأموال وهي لا تشمل الفقيه قلت هذا احتمال مخالف للأصل في أعماله (صلى الله عليه وآله وسلم) لكون الأصل فيها أنها لبيان الحكم إلا ما خرج بالدليل، فإن الأصل في أعمال النبي هو التأسيس ولذا لم يعد ذلك من اختصاصاته (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبذلك يظهر أن احتمال كون عفو النبي من باب ولايته الحكومية يؤيد صحة ذلك من الفقيه أيضاً لأصالة الأسوة وعدم فهم الاختصاص، ويعضد كل ذلك سيرة مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في عفوه عمن حاربه في البصرة، مع أنهم نقضوا بيعته وخرجوا على إمام زمانهم وقتلوا وجرحوا وفعلوا ما يوجب الحد، إلا أنه (عليه السلام) عفى عنهم وقال: مننت على أهل البصرة كما من النبي على أهل مكة، لا يقال فلماذا خطب (عليه السلام) بعد مقتل عثمان وقال بأنه يأخذ قطائع عثمان لأنه يقال أن هذا يؤكد المطلب وذلك لأنه إن رأى في الأخذ الصلاح أخذ وإن رأى الفساد ترك، ولعل سر تفريقه (عليه السلام) أن قتل الناس والاقتصاص منهم يثير الناس كثيراً ويطبع الدولة والحكومة بطابع القسوة والوحشية مما يسبب زحزحة أصول الحكم، وأما أخذ المال فلا يسبب ذلك، ولذا نرى في الحكومات الثورة الحاضرة يأخذون أموال العهد المباد التي جمعوها من قوت الشعب بينما يتركون غالب الناس إلا المجرمين الذين يتطلب عقلاء الناس إجراء عقوبة القتل أو القصاص أو السجن بحقهم كما ذكره السيد الشيرازي (رضوان الله عليه) في كتابه الحكم في الإسلام في صفحة 115.

- الثاني: دوران الأمر بين الأهم والمهم، حيث أن قتل الناس وسجنهم والقصاص منهم ربما يوجب تشويه سمعة الإسلام وزعزعة كيانه، فلابد للحاكم الإسلامي أن يلاحظ الأهم والمهم من الأمرين ولا إشكال في أن سمعة الإسلام ونظافة سيرته ونزاهة سياسته من أهم الملاكات الشرعية والعقلائية، وهذا هو أحد الأسباب التي دعت النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى عدم التعرض للفارين من الزحف في أحد وحنين وغيرهما من الغزوات، ولا بالرادين لحكمه وحكم الله تبارك وتعالى في أكثر من موضع كما في متعة الحج وغيره.. مع أنهم كانوا على بعض التقادير فساقاً يستحقون التعزير هذا كله بالنسبة إلى القتل والقصاص ونحوهما، وأما بالنسبة إلى مرتكبي المنكرات والمعاصي كما إذا أخذ الإسلام بزمام الحكم في بلد وكان قبل ذلك تحت سيطرة الأحكام الوضعية والمناهج المحاربة للإسلام أو البعيدة عنه في أحسن الفروض فوقع الناس بسببها بالحرام كالزنا وشرب الخمر وتعاطي الربا ونحو ذلك من المعاصي فذلك أيضاً موكول إلى رئيس الدولة فيفعل فيه بحسب ما يراه من المصلحة بين العفو وبين العقاب، ويدلّ عليه أمران أيضاً:

- الأول: الأولوية القطعية بعد جواز العفو عن القاتل والجارح ونحوهما.

- والثاني: ما ذكر في الدليل الثاني من الأهم والمهم.

وربما يؤيد ذلك ما ورد في الوسائل في باب أن على الإمام أن يزوّج الزانية بزوج يمنعها من الزنا، وعن الشيخ بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في امرأة زنت وشردت أن يربطها إمام المسلمين بالزوج كما يربط البعير الشارد بالعقال، ولم يتعرض فيها لإقامة الحد ونحوه، ولهذا ذهب المشهور من الفقهاء إلى أن الحدود الإسلامية لا تقام في موارد الشبهات للزوم درء الحدود بالشبهات، كما قامت عليه النصوص المعتبرة، بل وصرحوا بأنه لا يقام حد ما دامت الأجواء الحاكمة على الناس غير إسلامية وغير ملتزمة بنحوٍ عام بأحكام الإسلام في مختلف الجوانب وفي هذا قال السيد الشيرازي (قدس سره) في كتاب الحكم في الإسلام في صفحة 115 قال في الحكومات التي تسمى باسم الإسلام وهي ليست مسلمة لا تجري الحدود وإن كان المجري مجتهداً، أو كان مأموناً عن الضرر، مثلاً لا يصح قطع يد السارق وقتل الزاني الغاصب إلى غير ذلك، لأنه لا إطلاق للأدلة بحيث يشمل الأمر في ظل غير الحكومة العاملة بالإسلام فإذا قدر المجتهد بأن يقتل مستحق القتل خفية لا يصح له أن يقتله إلى غيرها من الحدود.

والقول بإطلاق الأدلة غير تام بعد أن المتيقن أو المنصرف منها ما كان في إجواء إسلامية فإن الجو الإسلامي يكمل النواقص ثم يأمر بعقوبة صارمة للمجرم، أما في غير الأجواء الإسلامية فحيث لا تكميل للنواقص فلا يعلم بجريان الأحكام والمسألة بعد بحاجة إلى مزيد التتبع والتأمل.

- المسألة الحادية عشرة: يجوز للحاكم الإسلامي أن يحدد من حريات الناس ويضيق على اختياراتهم إذا رأى المصلحة العامة في ذلك، فإن أدلة الولاية وأدلة القضاء، كالعناوين الأولية كما أن وجوب حفظ النظام ومنع الهرج والمرج، وما أشبه ذلك من العناوين الثانوية تحكم على أدلة سلطنة الناس على أنفسهم وأموالهم، فمثلاً يجوز للحاكم أن يجعل قانون المرور أو قانون الاستيراد والتصدير وما أشبه ذلك إذا كان في عدم الجعل الفوضى والاضطراب وتعريض الأنفس والأموال إلى الخطر فإن هذا القانون وإن كان تحديداً للناس في حريتهم إلا أنه يجوز ذلك لأجل أمر أهم كما هو مقتضى باب التزاحم، ولأنه مقتضى الولاية المجعولة للحاكم الشرعي من قبل الإمام المعصوم، فإن معنى كونه ولياً أن يعمل حسب مصالح الأمة وهذا هو مقتضى الولاية من ناحية الجعل والتشريع، مضافاً إلى الاقتضاء الذاتي، وإلا كان تشريعها منافٍ للحكمة، وربما يستدلّ لذلك أيضاً بقاعدة لا ضرر أيضاً بناءً على شمولها للضرر النوعي مضافاً إلى الشخصي، على ما اختاره بعض الفقهاء.

إلا أن المشهور بينهم هو عدم الالتزام بالنوعي كما حققوه في بحث الابار، إلا أن الظاهر كما حققناه في موضعه من بحث القاعدة، فإن شمولها للنوع غير بعيد والسر في ذلك أن كل إنسان في مسائل الحكم والقضاء العام محل الخطر المحتمل والواجب على الولي رفع الخطر عن الجميع، سواء كان بالفعل أو بالقوة، فهو من قبيل قواعد المرور وجعل الأنظمة الصحية كتزريق الناس باللقاحات عند خوف الوفاة، فإنه وإن كان تحديداً لحرياتهم لكن احتمال الإصابة بالنسبة إلى بعض الناس يكفي في جواز إلزامهم بالتلقيح دفعاً للضرر الخطير المحتمل لحكومة أدلة الضرر ونحوها على أدلة الحرية الشخصية ولأن في حماية الناس من الأخطار والأضرار هو ضمان للحرية الاجتماعية، والصحة العامة من جهة أخرى.

ومن الواضح أن الحق الاجتماعي أبلى وأعظم وأهم من الحق الفردي فيتقدم عليه وإلا لزم اختلال النظام، وعليه فإنه حتى إذا قلنا بمقالة المشهور من أن لا ضرر لا يشمل الأضرار النوعية إلا أن ذلك يصح في مثل العبادات والأعمال الشخصية كالطهارة والصلاة والصيام والحج وما أشبه ذلك..

وأما الأمور المرتبطة بالصالح العام والتي ترجع إلى مصلحة الأمة ونظام الدولة والحكم فالظاهر أن لا ضرر تشمل الأضرار النوعية أيضاً ولو كانت محتملة لأهمية حفظ النظام وما أشبه ذلك، هذا ويتفرع على ذلك أمران:

- الأمر الأول: وجوب الطاعة على الناس فيما إذا حكم الحاكم الإسلامي بأمثال هذه الأمور، ويحرم مخالفته أيضاً وذلك لأن أمره أمر الإمام المعصوم (عليه السلام) كما هو المستفاد من قولهم (عليهم السلام): فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما بحكم الله استخف وعلينا رد والراد عليهم كالراد علينا وهو على حد الشرك بالله، وقد تقدم منا تفصيل الكلام في مثل هذه الأدلة، هذا ووجوب الطاعة عام وشامل للجميع فلا يختص بمن وصله الحكم أو سمع به أو ارتضاه بل يجب على جميع الأمة ذلك، كما أنه يجب حتى على من لا يرى وجود الضرر أو لم يحتمله لأن الوجوب هنا متفرع عن النهي الحكمي من مقام الولاية والنيابة عن المعصوم (عليه السلام) وللأهم والمهم في حفظ النظام ومنع الوقوع في الأضرار العامة التي تعم الجميع دون استثناء فتشملها أدلة الأولوية القطعية فهو كما إذا جاء إلى الإشارة المرورية وكانت حمراء مثلاً، فإنه لم يجز للسائق أن يتعداها وإن علم أنه لا ضرر أو لا خوف اصطدام في المسألة كما لو كان في آخر الليل مثلاً، لا يقال فأي فرق بين حاكم الإسلام وحاكم الجور حيث تقولون بجواز المخالفة في الثاني دون الأول لأنه يقال الفرق هو أن الثاني ليس ولياً دون الأول، ففي أصل شرعية تنصيبه حاكماً كلام فضلاً عن التفريعات الناشئة من منصبه، فالحاكم الإسلامي مجعول من قبل الله سبحانه وأوليائه الطاهرين (عليهم السلام) وهم الذين لهم الشرعية والسيادة أولاً وبالذات، وأما الحاكم الجائر فلا سيادة له ولا سلطنة له من أول الأمر.

ومن الواضح أن الذي ليس له شرعية في أصل توليه للحكم لا يبقى شرعية لأحكامه وتقنيناته أيضاً لتبعية الفرع للأصل.

- الثاني: حيث أن الناس لا يرتدعون في كثير من الأحيان بسبب الأمر والنهي، كالأمر بالالتزام بقوانين المرور وكالنهي عن استيراد الأطعمة عن البلد الذي اجتاحه الوباء مثلاً أو التعامل التجاري مع بعض البلدان التي يخاف منها الاستعمار الاقتصادي وهكذا فإنه يحق للحاكم الإسلامي أن يجعل غرامة مالية أو نحوها لأجل الردع من مثل هذه المخاوف والأخطار بحسب موازين الأحكام الثانوية التي تحكم على العناوين الأولية، وبعده لا يقال كيف والحال أن الضرائب الإسلامية محدودة والسجن في الإسلام لأفراد خاصين ليس منهم من يخالف المرور أو يستورد الأطعمة في أيام الوباء مثلاً، نعم ينبغي أن يلاحظ في العقوبة اليسر والسهولة إن كفت في الردع لكونه أقرب إلى روح الإسلام والعدالة وأوفر لأكبر قدر ممكن من الحرية فهو مقتضى الجمع بين الأدلة والحقوق إذ جازت الردع والعقوبة لأنه حالة اضطرارية والضرورات تقدر بقدرها، إن قلت فعلى هذا يلزم القول أيضاً بأن ما يفعله حكام الجور من السجن وأخذ الغرامات من الناس وتحديد لحرياتهم هذا مشروع أيضاً وصحيح قلت ليس كذلك إذ مضافاً إلى أن أصل تولي حاكم الجور للسلطنة والحكومة غير مشروع فإن الغالب أن حكام الجور يغرقون في الكبت بينما الإسلام يحدد الأمر بالضرورات التي تقدر بقدرها، فمثلاً في بعض البلاد الإسلامية إذا أراد الإنسان أن يعمر داره، فإنه يجبر على أخذ الترخيص والموافقة من قبل الحكومة وكذلك يأخذ ترخيصاً للعمل وترخيصاً للاستيراد والتصدير وما أشبه ذلك، وهذه كلها جعلت في القوانين الوضعية بحسب العنوان الأولي وهذا منافٍ لحريات الناس التي هي عنوان أولي أيضاً وما ذكرناه فهو من باب العنوان الثانوي والعنوان الثانوي يتقدم على العنوان الأولي لكن يتحدد بقدر ضيق ولا يخفى أن ما ذكرناه من صلاحية الحاكم الإسلامي للأمور المذكورة يظهر منه عدم الفرق بين أن يكون تحديداً لحرية ذاتية أو تحليلاً لمحرم ذاتي كما إذا رأى الحاكم الإسلامي أن رفع المكوس من البضائع الأجنبية يوجب تحطيم الصناعة الوطنية وبالنتيجة يوجب تضرر المسلمين وتأخرهم عن الكفار، أو استعمار الكافر لبلاد المسلمين استعماراً اقتصادياً مثلاً، فإنه يحق له الردع بأي شكل من الأشكال ولو بجعل الضرائب والمكوس إذا لم يكن علاج آخر إلا بذلك، أو كان هو أحد العلاجات الممكنة إذ كما أنه يبيح الاضطرار للأمر الواحد إذا اضطر إليه فإنه يبيح أيضاً لعدة محرمات ذاتية متساوية فمثلاً كل من عقوبة السجن وأخذ الغرامة وحرمان المستورد للبضاعة المستوردة محرم ذاتاً لكن يحل اضطراراً لأمر أهم فإذا دار الأمر بين العقوبات الثلاثة جاز أي منهما إذا كانت متساوية في قدر الاضطرار هذا ولكن ظاهر الفقهاء في كتاب الحدود وغيره أن المخالفة إنما توجب التعزير فقط فاللازم ملاحظة هذا الأمر بأن يكون الرجوع من التعزير إلى عقاب آخر من باب العنوان الثانوي وقاعدة الأهم والمهم إذا كانت هناك جهة مرجحة لهذا النوع من العقوبات.

هذا وربما يمكن أن يستدل بجواز الغرامة والسجن في حال الاضطرار بأمور:

- الأول: ما ورد عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده إلى مالك الأشتر حين ولاه مصر حيث ورد فيه: فامنع من الاحتكار، إلى أن قال (عليه السلام): فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكّل به وعاقب في غير إسراف، حيث أجاز الإمام (عليه السلام) التنكيل وقيده بعدم الإسراف والمراد من التنكيل المعنى اللغوي أي العقوبة وهي تشمل الغرامة والسجن كما هو مقتضى إطلاقها أيضاً، لكن حيث أنهما جازا بالعنوان الثانوي من باب الضرورة فإنه لا يجوز له أن يستعملهما في الزائد عن الردع الذي هو قيد الضرورة وقدرها ولذا قال (عليه السلام): وعاقب من غير إسراف، فإن زيادة العقاب على الخطأ ظلم وتجاوز.

- الثاني: قوله (عليه السلام): لي الواجد يحل عقوبته وسجنه، وهو في مسالة الدين فإن المدين إذا كانت متمكناً من تسديد دينه إلا أنه لا يسدده ويماطل فيه أجاز (عليه السلام) عقوبته وسجنه والعقوبة تشمل الغرامة أيضاً.

- الثالث: ما رواه الدعائم عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قضى فيمن قتل دابة عبثاً أو قطع شجراً أو أفسد زرعاً أو هدم بيتاً أو غوّر بئراً أو نهراً أن يغرم قيمة ما استهلك وأفسد وضرب جلدات نكالاً وإن أخطأ ولم يتعمد ذلك فعليه الغرم ولا حد عليه ولا أدب فهو (عليه السلام) أثبت الغرامة للإفساد، وإطلاق الحديث يشمل حتى ما إذا لم يكن له مالك كما جعل الحبس له في صورة العمد.

- الرابع: ما رواه الشيخ عن الأصبغ عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قضى في الدين أنه يحبس صاحبه فإن تبين إفلاسه والحاجة فيخلى سبيله حتى يستفيد مالاً، وقضى في الرجل يلتوي على غرائمه أنه يحبس ثم يؤمر به ينقسم ماله بين غرمائه بالحصص فإن أبى باعه فقسمه بينهم.

- الخامس: ما رواه الشيخ بإسناده إلى زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان علي (عليه السلام) لا يحبس في الدين إلا ثلاثة: الغاصب ومن أكل مال اليتيم ظلماً ومن أؤتمن على أمانة فذهب بها وإن وجد له شيئا باعه غائباً كان أو شاهداً هذا ومن المحتمل أن يراد أنه (عليه السلام) ما كان يحبس حبساً طويلاً، إلا الثلاثة الذين استثناهم كما احتمله الشيخ (رضوان الله عليه) في الاستبصار والسيد الشيرازي (رضوان الله عليه) في الحكم في الإسلام، والمستفاد من مثل هذه الروايات هو جواز المعاقبة من قبل الحاكم الشرعي ولو بمثل السجن والغرامة.

- السادس: ما في بعض الروايات من أن الإمام (عليه السلام) كان يعاقب بغير التعزير فقد روى الشيخ بإسناده عن طلحة عن جعفر (عليه السلام) عن ابيه (عليه السلام) أنه رفع إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) رجل وجد تحت فراش امرأة في بيتها فقال (عليه السلام) هل رأيتم غير ذلك قالوا لا قال فانطلقوا به إلى مخرزةٍ فمرّخوه عليها ظهراً لبطن ثم خلّوا سبيله.

- السابع: ما في بعض الروايات من أنه (عليه السلام) صفع الرجل الذي كان ينظر إلى امرأة في الطواف، وأنه (عليه السلام) صفع ظالماً في الكوفة وقال إنه حق السلطان، ومن الواضح أن الصفع غير التعزير الذي هو بالسوط كما ورد أنه كان يؤدب بالدرّة وهي غير السوط مما يكشف على أن هناك نوع آخر من العقوبة لا هو حد ولا هو تعزير وهو ما يراه الحاكم الشرعي من المصلحة لكن بعد توفر الشرائط كما لا يخفى.

- الثامن: ما رواه في الوسائل في باب جواز منع الإمام من الزنا والمحرمات ولو بالحبس والقيد، عن الصدوق (رضوان الله عليه) عن ابن سنان عن الصادق (عليه السلام) قال: جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال إن أمي لا تدفع يد لامس - كناية عن الزنا - فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) فاحبسها، قال قد فعلت قال فامنع من يدخل عليها قال قد فعلت قال (صلى الله عليه وآله وسلم) قيّدها فإنك لا تبرها بشيء أفضل من أن تمنعها من محارم الله عز وجل.

- التاسع: ما رواه الوسائل أيضاً في كتاب القضاء في باب من يجوز حبسه عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: يجب على الإمام أن يحبس الفسّاق من العلماء والجهّال من الأطباء والمفاليس من الأكرياء، وواضح أن هذا الوجوب ناشئ من المفاسد والأضرار الكبيرة التي تسببها هذه الفئات الثلاثة في المجتمع.

- العاشر: ما رواه الوسائل أيضاً في كتاب الشهادات في باب شاهد الزور عن الصادق (عليه السلام) عن ابيه (عليه السلام) أن علياً (عليه السلام) كان إذا أخذ شاهد زور فإن كان غريباً بعث به إلى حيه وإن كان سوقياً بعث به إلى سوقه فطيف به ثم يحبسه أياماً ثم يخلي سبيله إلى غير ذلك من الروايات المتفرقة التي ربما يجدها المتتبع في مختلف أبواب الروايات والفقه أيضاً مما يدل في الجملة على أن التعزير ليس هو العقاب الوحيد للمخالفة وإنما هناك عقوبة ثالثة بحسب ما يراها الحاكم الشرعي من المصلحة وإن كانت المسألة بحاجة إلى بعض من التتبع والتأمل في كلمات الأعلام، إذ لعل بعض هذه الموارد التي ذكرناها أو أصل الأخذ بالعقوبة الثالثة مما تحتاج إلى عمل من قبل الأصحاب.

- المسألة الثانية عشر: تحصل مما تقدم أن العقوبات على أصناف ثلاثة هي: الحد والتعزير والتأديب، ولا يطبّق الأول والثاني منها إلا في صورة توفر الأجواء الإسلامية الكاملة بحسب النظر العرفي لا الدقي الفلسفي لانصراف الأدلة إليه، لكن عدم توفّر شروط إقامة الحدود والتعزيرات لا يمنع الحاكم الإسلامي من الأخذ بالعقوبات من باب التأديب دفعاً للفوضى والفساد والهرج والمرج، وحفظاً لأموال الناس ودمائهم وأعراضهم والمنع من اختلال النظام كما هو مقتضى الجمع بين الأدلة، فلا يقال إذا خلت البيئة المسلمة من أحكام الإسلام اضطر الناس لفعل المحرمات لحكومة القوانين غير الإسلامية عليهم وهي عادة تضطرهم إلى فعل المنكر أو تهيئ الأسباب والوسائل التي توقعهم في فعل المحرمات لأن القوانين غير الإسلامية عادةً تنافي الإسلام وعليه فإنه إذا كان فاعل المحرمات مضطراً فلا وجه للتأديب أيضاً إذ لا حرام مع الاضطرار لحكومة أدلة الاضطرار على سائر الأدلة الأولية من المحرمات والواجبات، لأنه يقال إن لارتكاب المنكر حالات ثلاثة هي:

- الأول: ارتكاب المنكر مع وجود البيئة الإسلامية الصالحة التي طبقت فيها قوانين الإسلام فهنا تطبق أحكام الحدود والتعزيرات.

- الثاني: ارتكابه في صورة الاضطرار مطلقاً كالذي يضطر لشرب الخمرة لأجل العلاج إذا انحصر الدواء به، والمضطر إلى السرقة لإنقاذ نفسه من الموت وهكذا.. وهنا لا شيء من العقوبة عليه لشمول أدلة الاضطرار له.

- الثالث: ارتكابه في حالة ينطبق عليها الاضطرار بعض الشيء وعدمه بعض الشيء، فهنا لا مجال لرفع العقوبة مطلقاً لعدم صدق الاضطرار المطلق في حقه ولا مجال لتطبيق عقوبات الحدود والتعزيرات لعدم صدق الاختيار المطلق بالنسبة إليه كما لا يجوز تركه دون عقوبة لأنه فساد كبير فلا مجال إلا بالالتزام بالتأديب كحل وسط يضمن به ردع فاعل المنكر مع عدم تطبيق أحكام الحدود والتعزيرات المنصرفة إلى صورة الاختيار التام والتي لا يتحقق موضوعها إلا بشرائط خاصة لن تتوفر فيه، وهذا هو مقتضى الجمع بين الدليلين وهو يقتضي التأديب لا الترك المطلق ولا الحد المطلق، وإلا لزم نقض الغرض في أحكام العقوبات والقضاء الإسلامي في أكثر من جهة، ولعل من هنا ذهب جمع من الفقهاء إلى جواز رفع الشكاوى إلى الحكومات الجائرة على أصحاب المنكرات مع علمهم بأنها لا تطبق أحكام الإسلام وذلك للأخذ بالميسور من العقوبة والوقوف أمام المنكر والنهي عنه بعد تعذر الأخذ بأحكام الإسلام من قبلها.

هذا وقد مثّل بعض الفقهاء لما ذكرناه بما إذا كانت التجارة والزراعة والصناعة وحيازة المباحات وبناء الدور والمصانع في الأراضي الموات مجاناً وسائر الأمور حرة كما منحها الإسلام، عمل كل إنسان عملاً يعطيه الرزق وبنى داراً يتمكن من السكنى فيه وتمكن من الزواج فلم يحتج إنسان من المال لشبعه أو سكناه حتى يبرر الاحتياج لسرقته ولم يزني من الفقر الموجب لعدم تمكنه من الزواج وإلى غير ذلك، فحق أن يجرى عليه الحد.

وكذلك حال عدم تفشي المنكرات حيث الأدلة منصرفة عن هذا الجو وإلا فهل يقال بأن الحاكم الإسلام يحد في كل يوم عشرة آلاف إنسان لأنهم شربوا الخمر مثلاً أو يجلد المئات أو الآلاف لأنهم ارتكبوا الزنا مثلاً أو أكلوا الربا مثلاً إلى غير ذلك من المنكرات التي يقع فيها الناس عادة بسبب عدم تطبيق أحكام الإسلام.

هذا ويؤيد ذلك أمران:

- الأول: فتوى الفقهاء بعدم جريان أحكام الارتداد فيما إذا أصاب المسلمين فتنة، فارتد كثير من الناس كما حدث في بعض الأزمنة المتأخرة في فتنة الشيوعيين التي جرفت مئات الألوف من الشباب والشابات في بعض البلاد الإسلامية.

- والثاني: سيرة الرسول الأعظم وأمير المؤمنين (عليهما السلام) في عدم تعزير الرسول للفارين عن الزحف في جملة من حروبه وعدم تطبيق الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حكم الارتداد على أهالي النهروان وغيرهم مع أنه ورد عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم): أن محاربي علي كفرة، فكانوا أقل ما يستحقونه هو حكم البغي لقوله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) ومن الواضح أن محاربي علي كانوا بغاة لخروجهم على إمام زمانهم بعد بيعتهم له كما عليه الخاصة والعامة وقد فصلوه في كتاب الجهاد.

- المسألة الثالثة عشرة: قانون العقوبات ليس موضوعياً فقط ولا طريقياً فقط، بل هو موضوعي طريقي معاً وتظهر الثغرة بينهما في أنه على الأول يجب تطبيق القانون سواء أفاد في ردع المنكر أم لا وعلى الثاني يجب ما دام لم ينقلع عن المنكر فإذا انقلع يرتفع موضوعه وعليه فالتائب قبل العقوبة لا يعاقب بعد ذلك فإن النسبة المنطقية بعد الردع والعقوبة العموم من وجه، إذ قد يرتدع قبل العقوبة وقد يقام الحد ولا يرتدع، وقد يقام الحق ويرتدع ومحل الشاهد في صورة الارتداع بالتوبة قبل إقامة الحد والعقاب، فهل يقام عليه الحد أم لا؟.

احتمالان في المسألة:

- الأول: وجوب الإقامة وذلك لوجهين أحدهما المجازاة ليذوق وبال ما ارتكب ولذا جرت سيرة عقلاء العالم على ذلك فإن من سرق أو قتل عمداً أو ما أشبه سجنوه أو قتلوه أو غرموه وإن تاب وندم على ما فعل، وإطلاق الأدلة الشرعية أيضاً تشمله هذا بالإضافة إلى أنه تطويق للجريمة حتى لا يرتكب نفس الجريمة مرة ثانية، وثانيهما ليكون عبرة لغيره كما قال سبحانه وتعالى: (فشرد بهم من خلفهم).

- الثاني: أن يقال برجوع الأمر إلى الحاكم الشرعي إن شاء عفى وإن شاء أقام الحد على تفصيل ذكره الفقهاء في كتاب الحدود خصوصاً وإن الشارع المقدس أراد للناس الهداية والإصلاح وجعل العقوبة كرادعة عن الفساد ودافعة للناس إلى مزيد من الإصلاح فإذا وقعوا في الإصلاح وتابوا من المنكر فقد تحقق الغرض من العقاب وهذا هو الملاك الأهم عند الشارع.

- المسألة الرابعة عشر: المقصد من الدولة الإسلامية هي الدولة العادلة التي تطبق قوانين الإسلام وتلتزم بأحكامه لا من تسمي نفسها إسلامية أو ينتحل مسؤولها الإسلام، فالإشكال على العقوبات الإسلامية بأنها صارمة لوجود بعض التسامح في عقوبات الأنظمة الديمقراطية غير وارد لأنه يقال إن عقوبات الإسلام ليست صارمة مطلقاً ولا متسامحة مطلقاً بل هي الحد الوسط الذي يجمع بين ألم العقوبة وفوائد الارتداع وهو أقرب إلى العقل من السجن والتغريم وما أشبه ذلك من العقوبات التي تطبقها القوانين الوضعية، وذلك لأن الأمر يحتاج أحياناً إلى الشدة وكما أن الشدة مطلقاً غير صحيحة عند العقلاء فكذلك اللين مطلقاً كذلك، وليست كذلك في عقوبات الأنظمة الديمقراطية لكونها صارمة مطلقاً من هذه الجهة، بل إن عقوبات الإسلام هي التي تتسم بالسماحة والعفو وذلك لوجود مساحات واسعة في تطبيق الأحكام الشرعية يمكن للحاكم الشرعي أن يلتزم فيها باللين والعفو، منها جواز أخذ الحاكم بقانون الأهم والمهم في تخفيف العقوبة أو إسقاطها، ومنها أعطاء الإسلام لصاحب الحق في الحد كالقصاص العفو أو تبديله بالدية مثلاً. ومنها أنه ألزم في تطبيق الحدود وما أشبه ذلك بلزوم توفر الشروط الصعبة مما يقلل من وقوعها كثيراً، بل يوجب الندرة الكثيرة في تطبيق الحدود، فمثلاً يشترط الإسلام في حد السرقة خمساً وأربعين شرطاً كما ذكره السيد الشيرازي (قدس سره) في كتابه الحدود والتعزيرات وممارسة التغيير، وفي حد الزنا واللواط اشترط رؤية أربعة عدول كالميل في المكحلة أو إقرار أربع مرات مع توفر الشروط في الأقرار.

ومع كل ذلك لا يبقى الحد إلا بسبب إرهاب للطغاة والمجرمين لندرة وجوده في المجتمع الإسلامي كما يجد الإنسان تلك الندرة في زمان حكومة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن الواضح أن تطبيق العقوبات بهذه الندرة ليست مبعثاً للقلق والخوف بل القلق والخوف يتحققان في عدم الحد حيث لا يأمن الإنسان على ماله ونفسه وعرضه كما نرى ذلك الخوف والقلق كثيراً في بلدان مثل أوروبا وأمريكا حيث ذكروا أن القلق والخوف بسبب عدم ارتداع الفاعلين للمنكرات هو الذي يخيم على طائفة كبيرة من المجتمع الذي يعيش في تلك البلدان على تفصيل لا يسعنا بيانه هنا.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله عليه سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين..