المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 34.doc

قلنا فيما تقدم أن القاضي يجب أن يستقل اقتصادياً وسياسياً عن أي قوة أخرى رعاية للعدل واستقلالية القضاء وهذا ما يظهر من الأدلة وعليه كلمات الفقهاء الأعاظم أيضاً قال المحقق النائيني (رضوان الله عليه) في كتابه منية الطالب في الجزء الأول ص325 أن ولاية الحاكم ترجع إلى قسمين: الأول الأمور السياسية التي ترجع إلى نظم البلاد وانتظام أمور البلاد الثاني الإفتاء والقضاء وكان هذان المنصبان في عصر النبي والأمير (عليهما السلام) بل في عصر الخلفاء الثلاثة لطائفتين وفي كل بلد أو صقع كان الوالي غير القاضي فصنف كان منصوباً بخصوص القضاء والإفتاء وصنف كان منصوباً لإجراء الحدود ونظم البلاد والنظر في مصالح المسلمين وهذا ما يظهر من كلمات السيد الشيرازي (قدس سره الشريف) أيضاً في غير موضع من الفقه ولقد أعطى مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) تجسيداً عملياً لهذه الاستقلالية فمع أنه إمام المسلمين على الإطلاق والحاكم الأعلى للأمة الإسلامية إلا أنه مكن القاضي من محاكمته والحضور في محكمة القضاء ليس مع بعض المسلمين بل مع بعض أهل الذمة من المسيحيين وذلك في قضية تضافر نقلها في كتب التاريخ حيث نقل المؤرخون أنه عليه السلام وجد درعه عند مسيحي من عامة الناس فأقبل به إلى أحد القضاء وهو شريح القاضي ليخاصمه ويقاضيه ولما كان الرجلان أمام القاضي قال علي (عليه السّلام): إنها درعي ولم أبعه ولم أهبه فسأل القاضي الرجل المسيحي ما تقول فقال: المسيحي ما الدرع إلا درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب وهنا التفت القاضي شريح إلى علي (عليه السّلام) يسأله هل من بينة تشهد أن هذه الدرع لك فضحك علي وقال ما لي بينة فقضى شريح للدرع للمسيحي ووجه القضاء للمسيحي هنا لأن يده كانت على الدرع واليد أمارة الملكية على ما حققه الفقهاء في محله من الفقه وعليه فأخذها المسيحي ومشى وأمير المؤمنين ينظر إليه إلا أن الرجل لم يخطو خطوات قلائل حتى عاد وهو يقول أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء أمير المؤمنين يدينني إلى قاضي يقضي عليه ثم قال الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين وقد كنت كاذباً على ما ادعيت وفي بعض الأخبار أن هذه الدرع كانت قد فقدت من أمير المؤمنين (عليه السّلام) في واقعة صفين هذا وقد ألزم الإسلام القاضي بمراعاة جملة من الآداب والوظائف في القضاء لكي يضمن العدالة بين الناس وقد لخص الفقهاء الأعاظم هذه الآداب الواردة في الروايات المتواترة في الكتب الفقهية في كتاب القضاء وقد قسم المحقق الحلي رضوان الله عليه في قضاء الشرائع آداب القضاء إلى قسمين مستحبة ومكروهة فالمستحبة قال عنها أولاً أن يطلب من أهل ولايته من يساله عما يحتاج إليه في أمور بلده الثاني أن يسكن عند وصوله في وسط البلد لترد الخصوم عليه وروداً متساوية الثالث أن يجلس للقضاء في موضع بارز مثل رحبة أو فضاء ليسهل الوصول إليه الرابع أن يحضر من أهل العلم من يشهد حكمه فإن أخطأ نهوه لأن المصيب عندنا واحد ويخاوضهم أي يبادلهم الرأي فيما يستبهم من مسائل النظرية لتقع الفتوى مقررة ولو أخطأ فأتلف لم يضمن وكان على بيت المال الخامس وإذا تعدى أحد الغريمين سنن الشرع عرفه خطأه بالرفق والآداب المكروهة:

- 1- أن يتخذ حاجباً وقت القضاء.

- 2- أن يقضي وهو غضبان.

- 3- وكذا يكره مع كل وصف يساوي الغضب في شغل النفس كالجوع والعطش والغم والفرح والوجع ومدافعة الأخبثين وغلبة النعاس.

- 4- أن يستعمل الانقباض أي تقطيب الوجه المانع من الإعلان من الحجة وكذا يكره إظهار اللين الذي لا يؤمن معه من جرأة الخصوم ثم ذكر مسائل من شأنها حصول الدقة في العمل القضائي فصلت في الكتب الفقهية أيضاً وذكر المحقق الحلي رضوان الله عليه أموراً في وظائف القاضي أيضاً فقال في وظائف القاضي وهي سبع:

- الأولى :التسوية بين الخصمين في السلام والجلوس والنظر والإنصاف والعدل في الحكم.

- الثانية: لا يجوز أن يلقن أحد الخصمين ما فيه ضرر على خصمه.

- الثالثة: يكره أن يواجه بالخطاب أحدهما لما يتضمن من إيحاء الآخر.

- الرابعة: إذا ترافع الخصمان وكان الحكم واضحاً لزمه القضاء ويستحب ترغيبهما للصلح فإن أبيا حكم بينهما وإن أشكل أخر الحكم حتى يتضح ولا حد للتأخير إلا الوضوح.

- الخامسة: إذا ورد الخصوم أي في المحكمة مرتبين بدأ بالأول فالأول فإن بدأ بالجميع قال يقرع بينهم أي في الابتداء والاستماع إلى أي منهم السادسة إذا قطع المدعى عليه دعوى المدعي بدعوة لم تسمع حتى يجيب عن الدعوة وينهي الحكومة ثم يستأنف هو السابع إذا بدر أحد الخصمين بالدعوة فهو أولى وفي نهاية الشيخ الطوسي رضوان الله عليه وإذا أراد أن يجلس للقضاء ينبغي أن ينجز حوائجه التي تتعلق نفسه بها ليفرغ بالحكم ولا يشتغل قلبه إليه ثم يتوضأ وضوء الصلاة ويلبس أحسن ثيابه وأطهرها ويخرج إلى المسجد الأعظم في البلد الذي يحكم فيه فإذا دخلها صلى فيه ويجلس مستدبر القبلة لتكون وجوه الخصم إذا وقف بين يديه مستقبلة القبلة ولا يجلس وهو غضبان ولا جائع ولا عطشان ولا مشغول القلب بتجارة ولا خوف ولا حزن ولا فكر في شيء من الأشياء وليجلس وعليه هدي وسكينة ووقار وإذا دخل عليه الخصمان فلا يبدأ أحدهما بالكلام فإن سلما أو سلم أحدهما رد السلام دونما سواه وليكن نظره إليهما واحداً ومجلسهما بين يديه على السواء ولا ينبغي للحاكم أن يسأل الخصمين بل يتركهما حتى يبدأا بالكلام) إلى آخر كلامه..

وهذه العبارات هي مضمون طوائف عديدة من الروايات كما أوردها الحر العاملي (رضوان الله عليه) في كتاب الوسائل باب القضاء، وغير الحر العاملي أيضاً في غير الوسائل وربما من المناسب أن نتبرّك منها بما أورده الكليني (رضوان الله عليه) بسنده عن سلمة بن كهيل قال: سمعت علياً (عليه السلام) يقول لشريح: واعلم أنه لا يحمل الناس على الحق إلا من ورعهم عن الباطل ثم واسي بين المسلمين بوجهك ومنطقك ومجلسك حتى لا يطمع قريبك في حيفك، ولا ييأس عدوك من عدلك، ورد اليمين على المدعي مع بينته فإن ذلك أجلى للعماء وأثبت في القضاء، واعلم أن المسلمين عدول بعضهم على بعض إلا مجلود في حد لم يتب منه، أو معروف بشهادة زور أو ظنين وإياك والتضجر والتأذي في مجلس القضاء الذي أوجب الله فيه الأجر ويحسن فيه الذخر لمن قضى بالحق، واعلم أن الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرّم حلالاً أو أحل حراماً، واجعل لمن ادعى شهوداً غيباً أمداً بينهما فإن أحضرهم أخذت له بحقه وإن لم يحضرهم أوجبت عليه القضية، وإياك أن تنفّذ قضية في قصاص أو حد من حدود الله أو حق من حقوق المسلمين حتى تعرض ذلك عليّ إنشاء الله ولا تقعد في مجلس القضاء حتى تطعم. وروى هذا الشيخ والصدوق أيضاً في كتبهم، والروايات في هذا المجال متضافرة نوكلها إلى مظانها.

هذا وفي تكاليف القاضي واختياراته تفاصيل مهمة في فصل المنازعات والولاية على المظالم والنظر في المصالح والأوقاف العامة للمسلمين، نوكلها إلى مظانها من الفقه أيضاً.

- الأمر الثالث: مسائل وتفريعات:

- المسألة الأولى: الأصل الأولي عدم وجوب الفصل بين السلطات التنفيذية والقضائية إلا بالعنوان الثانوي كما إذا خيف على القضاء من تلاعب السلطات التنفيذية بما يؤدي إلى تضييع الحقوق أو الظلم والفساد، لكن متولّي القضاء هو إما الفقيه الجامع للشرائط المنتخب من قبل الأمة، أو المنصوب من قبله، لأنه أعلى سلطة في الدولة الإسلامية، لكن الأفضل أن يكون هذا التعيين والتنصيب مع استشارة المجلس أو بالتشريك بينهما بأن يعين بعضهم الفقيه وبعضهم المجلس، بعد توفر الشرائط، ويكون النظر حينئذٍ في باب القضاء وحل المنازعات لأكثرية الآراء وقد ذهب بعض الفقهاء كالسيد الشيرازي (قدس سره) في قضاء الفقه إلى إمكان جعل القضاء جماعياً بأن يتعدد القضاة ويحكمون بأكثرية الآراء، بل هذا هو الأقرب في القضايا المهمة والخطيرة وأقرب إلى الاحتياط أيضاً حيث أن الشورى قاعدة عقلية قررها الإسلام كتاباً وسنة وإجماعاً، وإطلاق أدلة الشورى يشمل المقام، ويؤيده طريقية القضاء إلى الواقع لا موضوعيته فيحكم العقل بأنه مهما أمكن إحراز الواقع كان أولى بالاتباع كما يشمله أيضاً المناط في مثل قولهم (عليهم السلام): خذ بما اشتهر بين أصحابك، بل والمناط والإطلاقات في استشارات الرسول (صلىالله عليه وآله وسلم) وأقوال مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في باب الشورى.

- المسألة الثانية: التعارض الذي ربما يقع بين القوانين الأولية والقوانين الثانوية يرجع في حقيقته إلى التعارض بين حقين لإنسانين أو لجماعتين، وإعطاء الحق إلى مستحقه يكون بالقضاء فتشمله أدلة القضاء أيضاً، ولذا تكون هذه المفاصلات من المهمات القضائية إذ لا فرق بين الفصل عند منازعة حقين شخصيين وبين الفصل عند منازعة حقين تقمصتهما شخصيتان حقوقيتان، إما لجهة عدم الفهم في الخصوصية وإما بفهم عدم الخصوصية، ومثل ذلك أيضاً المنازعة بين مختلف أجهزة الدولة كما لو طلبت جماعة مثلاً فتح نادي في المحل الفلاني وأراد وزير الشؤون الخاصة بهذا النادي استناداً إلى قانون الحريات الإسلامية، لكن أراد وزير البلديات مثلاً المنع منه استناداً إلى قانون لا ضرر حيث أن ضوضاء النادي يسلب راحة المارة، أو لكونه قريباً من الحي السكني يسلب راحة الجيران، فيتعارض الحكم الأولي وهو الحرية مع الحكم الثانوي وهو الضرر، وهنا صحيح أن الوزيرين يتنازعان في شخصيتهما الحقوقية إلا أن الشخصية الحقوقية راجعة بالنتيجة إلى الحق الفردي كما حقق في محله، ولذا ينبغي على السلطة القضائية أيضاً أن تفصل في مثل هذه الموارد كما عرفت بعض الإشارة إليه فيما تقدم أيضاً.

- المسألة الثالثة: يجب على الدولة الإسلامية توفير الضمانات الكافية لإحراز حيادية القضاء واستقلاليته وحصانته من تدخل السلطة التنفيذية والضمانات في هذا المجال عديدة لعلّ من أهمها ما يلي:

- الأول: منع القوة التنفيذية من نقل القضاة من مكان إلى مكان إلا بحسب قوانين دقيقة جداً، وإلا لتعرض كل قاض لا يطيع القوة التنفيذية إلى النقل أو العزل مثلاً، فيتخذ حق النقل أو العزل سيفاً مسلطاً على رؤوس القضاة وبذلك لا يتمكن القاضي من إجراء العدالة في القضايا التي تدير التنفيذية طرفاً من أطراف القضية المتنازع فيها أو يرتبط بها من قريب أو بعيد.

- الثاني: يجب على السلطة التنفيذية توفير المال والمكان والشرائط الملائمة للقضاة، ليتمكنوا من استفراغ وسعهم في تحري الحقائق في كافة القضايا سواء كانت بين الناس في الأمور الشخصية أو بين الناس والدولة أو بين المنظمات والأحزاب أو بين الدولة وبين الأحزاب والمنظمات أو بين الناس والأحزاب والمنظمات وما أشبه ذلك..

- الثالث: يجب على السلطة التنفيذية تنفيذ آراء القضاة المتعلقة بفصل المنازعات، فإذا تكاسل بعض موظفي التنفيذية من إجراء هذه العقوبات التي قررها الإسلام والقانون في الدولة الإسلامية وجب معاقبته تعزيراً أو اتخاذ بعض الإجراءات اللازمة في هذا المجال للردع من التهاون في تطبيق العدالة.

- الرابع: لا يحق للسلطة التنفيذية أن تتدخل في شؤون القضاة بأن تصدر إليهم الأوامر أو النواهي، وإلا كان ذلك نقضاً للعدالة وتجميداً لفاعلية القضاء.

- الخامس: يجب أن يكون كل أفراد الأمة بمن فيهم الرئيس الأعلى للدولة خاضعاً للقضاء إذ الكل أمام القانون سواء والقوة التنفيذية يجب عليها إطاعة القضاء فيما يأمر بالنسبة إلى أي فرد أو جماعة في الشؤون الشخصية أو في الشؤون الحقوقية، وفي سيرة رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) ومولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) وكل منهما كان الرئيس الأعلى للدولة في زمانه ما يدل على احترام الإسلام للقضاء وخضوع كل الأفراد له بما يجب أن يكون قدوة وأسوة لغير المعصومين أيضاً، وقد ذكر التاريخ جملة من الأحداث الدالة على ذلك بما لا يسعنا المجال لبيانها.

- السادس: لا يحق للسلطة التنفيذية أن تتدخل في شؤون الناس الشخصية إلا بموافقة القضاء إذ التنفيذ بدون القضاء معناه الحكم على أحد المتنازعين من دون رجوع إلى القضاء، مثلاً إذا أراد الشرطي إلقاء القبض على إنسان فلا يحق له ذلك إلا بعد جلب موافقة القضاء، وذلك أن جوهر القضية هو نزاع بين حق الشرطة الموضوعة لحفظ الأمن والحقوق وحق ذلك الإنسان في حريته وفي فعله واختياره، وتقديم أحد الحقين على الآخر بدون الرجوع إلى القضاء خرق لقانون العدالة إلى غير ذلك من الأمور التي فصلها بعض الفقهاء في كتبهم المقررة.

هذا وقد ذهب بعض فقهاء القانون أيضاً إمعاناً في استقلالية القضاء وحياديته إلى منع القاضي من الانتماء إلى الأحزاب أو المنظمات السياسية أو ما أشبه ذلك تحرزاً للقاضي من التحيز الموجب لنقض الحياد في القضاء وهذا الشرط في الشريعة الإسلامية ربما يوجد له أصل أيضاً إذ يمكن أن يستند إلى بعض الأدلة في بعض الحالات مثل اشتراط أن لا يكون الشاهد متهماً كما دلّ عليه النص والإجماع، فإذا كان هذا الأمر محظوراً في الشاهد كان بشكل أولى محظوراً في القاضي كما ذهب إليه بعض الفقهاء كما في الفقه السياسة في الجزء الثاني صفحة 29.

وعلى هذا فلمجلس الشورى أن يقرر هذا النظام أو لقاضي القضاة أو لوزير العدل أن يراعي هذا الأمر في القضاة الذين يريد استخدامهم.

- المسألة الرابعة: الفقهاء الآخرون الذين ليسوا بداخلين في الشورى إما لعدم كونهم من المراجع أو لفرض أنهم من المراجع لكنهم لا يدخلون في الشورى، أو لم تنتخبهم الأمة، فكل حقوقهم في التقليد والقضاء وغيرهما باقية على حالها شرعاً وعقلاً، فللناس التقاضي إليهم وإن كان هناك القاضي المنصوب من قبل الدولة الشرعية، كما أن للناس تقليدهم وإن لم يكونوا بشهرة الفقهاء الذين هم في الشورى إلى غير ذلك من شؤون الفقاهة والفقيه التي أوردها لفقهاء في كتاب الاجتهاد والتقليد.

نعم، لا يحق لهم نقض قضاء القاضي المنصوب من قبل الشورى كما لا يحق لقاضي الشورى نقض قضائهم أيضاً، بعد توفر الشرائط ومنصوبيتهم من الإمام المعصوم (عليه السلام)، ودفعاً للفوضى واختلال النظام، وهكذا الأمر بين كل قاضيين إلا في مسألة التمييز والاستئناف إن قلنا بصحتهما كما لم يستبعده بعض الفقهاء كالسيد الشيرازي (قدس سره) في الفقه.

وعليه فإن الفقهاء طراً بعد جامعيتهم للشرائط سواء دخلوا في الشورى أو لم يدخلوا في الشورى فإن مناصبهم الشرعية من حق الفتوى والقضاء والتقليد وما أشبه ذلك باقية على حالها، نعم حيث أن الأمة الإسلامية تنقسم إلى طائفتين هم الشيعة والجماعة فاللازم على السلطة القضائية أن تجعل قاضيين في البلاد المختلطة كبغداد ولبنان وكراتشي وما أشبه ذلك.

كما أنه إذا كان في البلد أيضاً كفار من أهل الكتاب مثلاً فلهم الرجوع إلى قاضيهم كما يحق لهم الرجوع إلى قاضي المسلمين، وأما المسلمون فلا يحق لهم الرجوع إلى قاضي الكفار ويحق لشورى الفقهاء أنه إذا رأى من الصلاح نصب قاض للكفار أن ينصب لهم من باب قانون الإلزام ولو كانوا من غير أهل الكتاب، وذلك إما لأن الإسلام لا يجبر أحداً على الإسلام والمحاربة وإما لأن جبرهم غير ممكن أو غير صالح بحسب العناوين الثانوية على رأي الذين يرون أنهم مخيرون بين أمرين فقط بينما الكتابي يخير بين ثلاثة أمور على ما ذكره الفقهاء في كتب القضاء.

- المسألة الخامسة: يجب على القاضي أن يستعمل أساليب التيسير والتسهيل على المسلمين مهما أمكن، إما للأدلة الأولية حيث قال سبحانه وتعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وفي الحديث الشريف: بعثت بالحنيفية السهلة السمحاء، أو بحسب العناوين الثانوية لما ربما يترتب على التشديد من الآثار الضارة، فمثلاً إذا كان التعزير دائراً بين الأقل والأكثر أخذ القاضي بالأقل ما أمكن، وإذا كانت غرامة مخالفة المرور كافية بالأدنى لم يجنح إلى فوق ذلك، وإذا رأى القاضي سجن المتهم بالقتل سجناً مثلاً سجناً خفيفاً كيفاً أو قليلاً كماً يسرع في التحقيق حتى لا يضطر إلى الأشد كيفاً أو الأكثر كماً، إلى غير ذلك من سبل التسهيل والتيسير.

والحاصل أنه يلزم أن لا يظهر الإسلام في تطبيق القضاء في أعين الناس متشدداً بالقياس إلى الأنظمة الأخرى، فينفرون منه إلى تلك الأنظمة مهما وجدوا لذلك عذراً فإن قانون الأهم والمهم يحكم بلزوم تنزيه الإسلام من الشبهات أو تنفير المسلمين منه خصوصاً في مثل هذه الأعصار والأزمنة التي تحيط بالإسلام والمسلمين الشبهات والدعايات المضادة مع ضعف المسلمين في مواجهة مثل هذه الأساليب عادةً.

- المسألة السادسة: ينبغي للقاضي تحري تخفيف النزاع بين الخصمين مهما أمكن بجعل الصلح بينهما عن رضا، إذ لو كان ما يراه من الحق بدون الإصلاح بقي التباعد القلبي بينهما، فيما يرى كل واحد منهما أن الحق معه، وأما إذا توسط القاضي في الأمر بإيجاد التصالح بينهما كان ذلك جديراً بعدم وقوع التباعد أو عدم بقائه على شدته، ولا يبعد وجود الاستئناف والتمييز في القضاء الإسلامي أيضاً لقوله (عليه السلام): إني قد جعلته عليكم حاكماً، الظاهر في أنه مختار في حكمه ما دام ملتزماً بشرائط وموازين الشرع، وفي رواية أخرى: جعلته قاضياً، ومن الواضح أن الموضوع يؤخذ من العرف وحيث أن في العرف ذلك لما قد يراه من لزوم التمييز أو ضرورة الاستئناف صح ذلك بحسب الشرع أيضاً لتبعية الحكم للموضوع، كما أن الأمر كذلك بالنسبة إلى سائر شؤون القاضي العرفي، فإنه تأتي في الشرع أيضاً مع تقييد الأمر بالإطار الذي ذكره الشارع، فمثلاً القاضي إذا راجعه ولد أو بنت ذكر أن فلاناً الفاسق عمل بهما السوء أو يريد بهما السوء فإنه لابد وأن يحقق كما يحقق القاضي العرفي، لا أن يقول إئتيا بالبينة فإن قالا لا بينة عندنا حلف المنكر وكفى، لأن الفسّاق مستعدون للحلف ألف مرة في مثل هذه الأزمنة، وكذلك إذا قال الشاكي سرق مالي وأظن أن فلاناً هو السارق، إلى غير ذلك من شؤون القاضي العرفي..

نعم إذا اعترف المشتكى عليه أنه زنى أربع مرات بالشاكية مع تمام شرائط الإقرار أجرى عليه الحد، وإلا فإن وصلت نتيجة تحقيق القاضي إلى صدق الشاكية أو الشاكي أدب المشتكى عليه، وهكذا يراقب القاضي مريد الفاحشة أو أخذ منه كفيلاً، وهكذا حال المظنون كونه السارق أو يريد السرقة فكيفية التحقيق في القاضي الشرعي نفس كيفية التحقيق في القاضي العرفي على ما ذكره جمع من الفقهاء كالسيد الشيرازي (رضوان الله عليه) في فقه الدولة الإسلامية، كما يؤيده قضاء مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) كما يؤيد قوله (عليه السلام): فإذا حكم بحكمنا، وكذا ورجع أمره إلى التمييز أو الاستئناف فإنه لم يرى أنه لم يحكم الحاكم بحكمهم (عليهم السلام) أو يشك في ذلك حيث يرى أن الحاكم الأول اشتبه في حكمه أو يشك في أنه صحيح ما حكم أم لا؟ إذ الرد إنما هو مع تحقق الموضوع حقاً، فإذا شك في حكمه كان له حق الاستئناف أو التمييز، وبذلك ظهر أنه لا يشترط أن يكون حاكما التمييز والاستئناف أعلى وأعلى من الأول وإن كان مقتضى العرفية هو أرفعية الثاني عن الأول والثالث عن الثاني، كما هو في العرف، وربما يؤيده ما قالوه من مراجعة الحاكم الجديد للسجون ليرى هل هناك من أبرياء وما أشبه ذلك، كما ذكره صاحب الجواهر (رضوان الله عليه) في الجواهر وغيره في غيرها، كما يؤيده أيضاً قصة رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) في مراجعة ثلاثة من أصحابه في قصة الناقة إلى غير ذلك من شواهد وأدلة.

- المسألة السابعة: الظاهر أنه لا موجب لتعدد المحاكم وتصنيف القضاء بحسب العنوان الأولي كمحاكم الصلح أو الجزاء أو الجنايات أو الأحوال المدنية ونحوها.. وذلك لعدم الحاجة إلى ذلك ولما يترتب عليها من إرهاق لخزانة الدولة وأجهاد للشعب، نعم ربما يحتاج إليها بحسب العنوان الثانوي كما إذا كان الأمر يحتاج إلى الخبروية والفحص المفقود في القاضي العام مثلاً، فلو وقع نزاع في بعض الشؤون الاقتصادية التي تحتاج إلى خبير في الاقتصاد حتى يتميز المحق من المبطل، أو يعرف كيفية تقسيم المال أو تعيين الأسعار أو ما أشبه ذلك بين الشركاء أو بين المتعاملين، وذلك يلزم إما خبروية القاضي بنفسه أو رجوعه إلى خبراء عدول يرشدونه إلى ذلك، وكذلك حال سائر ما يحتاج إلى الاختصاص وعدم وجود مثل ذلك في زمانهم (عليهم السلام) لا يدل على العدم أو عدم الشرعية بعد تعقد الحياة في الحال الحاضر بسبب تقدم العلم، والاحتياج إلى أكثر مما كان في الحياة البسيطة، وإلا هل يمكن أن يقال في ألوف حوادث المرور التي تقع عادةً أن الأمر لا يحتاج إلى المحققين كما يتعارف الآن في قضايا السياقة وغيرها من شؤون الإقامة والسفر والحضر والزراعة والتجارة وما أشبه ذلك.. إذ يلزم إحقاق الحق مهما أمكن، مع مراعاة حريات الناس إذ لا يجوز التضييق عليها إلا بقدر الضرورة وبضميمة عدم توسّع الدوائر وانتفاخها إلا بالقدر المضطر إليه لما ذكرناه فيما تقدم من أن توسعة الدوائر يسلب أموال الأمة وأوقاتهم ويقف حائلاً دون التقدم وكل ذلك من العناوين المحرمة شرعاً.

كما ربما يؤيد ذلك ما ذكره السيد الشيرازي (قدس سره) في الفقه الدولة الإسلامية تأييداً بحلف الفضول ووجه التأييد هو أن الحلف المذكور كان لإنصاف المظلوم فالملاك آت في المقام أيضاً بعد تأييد رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) فإن قوله وتقريره وعمله حجة، وقد ذكر المؤرخون أن لقريش في الجاهلية حيث كثر فيهم الزعماء وانتشرت فيهم الرئاسة وشاهدوا التغالب والتجاذب ما لم يكفهم عنهم سلطان ظاهر، ورأوا عدم إنصاف المظلوم من الظالم عقدوا حلفاً على رد المظالم وإنصاف المظلومين من الظلمة، وقد اجتمعت بطون قريش فتحالفوا في دار عبد الله بن جدعان على رد المظالم بمكة بأن لا يظلموا أحد أحداً إلا منعوه وأخذوا للمظلوم بحقه، وكان رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) يومئذٍ معهم قبل النبوة وهو ابن خمس وعشرين سنة فقال رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) بعد نبوته الشريفة ذاكراً لذلك الحلف: لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلف الفضول ما لو دعيت إليه لأجبت وما أحب أن لي به حمر النعم، كناية عن كثرة الثروة والأنعام، وذكر ابن الأثير في نهايته في لغة فضل: وفيه شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت، يريد به حلف الفضول، وفي وجه تسميته بالفضول قولان:

- الأول: ما ذكره ابن الأثير من أنه سمي به تشبيهاً بحلف كان قديماً بمكة أيام جرهم على التناصف والأخذ للضعيف من القوي وللغريب من القاطن، قام به رجال من جرهم كلهم يسمى الفضل منهم الفضل بن الحارث والفضل بن وداعة والفضل بن فضالة، انتهى معنى ابن الأثير.

- الثاني: ما ذكره بعضهم ومال إليه بعض فقهاؤها الأجلاء من أن العمل بالإنصاف ورد ظلامة المظلوم بحاجة إلى المال وحيث أن المجتمعين في دار ابن جدعان أعطوا فضول أموالهم لتقوية الحلف سمي بحلف الفضول.

- المسألة الثامنة: يستحب للحاكم الأعلى في الدولة الإسلامية التصدي لردع المظالم وإقامة حدود الله سبحانه وتعالى مهما وجد لذلك سبيلاً قدوة وأسوة بسيرة رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) ومولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث كانا يتصديان لذلك ولضمان تطبيق العدالة والتعرف على مشاكل الناس وللردع من نفوذ الأقوياء في القضاء، وقد أثبت التاريخ موارد كثيرة عنه (صلىالله عليه وآله وسلم) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) بهذا الشأن؛ حيث دخلوا (عليهما السلام) في حلها مباشرة كما أن هناك إلماعات كثيرة في كتب الفقه إلى لزوم ذلك على الوالي على ما يستفاد من طائفة من الأخبار أيضاً.

منها ما عن مولانا الرضا (عليه السلام) في حكمة جعل الإمام قال: فجعل عليهم قيماً يمنعهم من الفساد ويقيم فيهم الحدود والأحكام، إلى أن قال: فيقاتلون به عدوهم ويقسمون به فيئهم ويقيم لهم جمعتهم وجماعتهم ويمنع ظالمهم من مظلومهم، والحديث في الرواية في سياق الحديث عن الإمام الحاكم الأعلى وفي خبر مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) كما في خبر سليم: يختار لأنفسهم إماماً عفيفاً عالماً ورعاً عارفاً بالقضاء والسنة يجمع أمرهم ويحكم بينهم ويأخذ للمظلوم من الظالم حقه ويحفظ أطرافهم ويجبي فيئهم ويقيم حجهم ويجبي صدقاتهم.

وفي كلام مولانا الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم: ويجب على الوالي أن يكون كالراعي لا يغفل عن رعيته ولا يتكبر عليهم، ويدل بالدلالة الالتزامية أو التضمنية على لزوم تصديه لذلك أيضاً وعن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه إلى مالك الأشتر: واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرغ لهم فيه شخصك وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه لله الذي خلقك وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع - كناية عن الخوف والتردد - فإني سمعت رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) يقول في غير موطن: لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع.

وقال (عليه الصلاة والسلام): إن للوالي خاصة وعامة فيهم استئثار وتطاول وقلة إنصاف في معاملة فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال ولا تقتطعن لأحد من حاشيتك وحامتك قطيعة ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على غيرهم فيكونوا مهنئ ذلك لهم دونك وعيبه عليك في الدنيا والآخرة.

إلى غير ذلك من الروايات المتضافرة الدالة على استحباب تصدي الحاكم الأعلى حتى وإن كان هناك قاض يقضي بين الناس تصديه لشؤون الرعية في إقامة الحدود وتطبيق العدالة.

- المسألة التاسعة: الظاهر جواز أن يجعل الحاكم الغرامة المالية على ارتكاب بعض المحرمات إن لم يتمكن من إجراء الحدود المقررة شرعاً، وذلك لإطلاق أدلة ردع المنكر الشامل لمثل ذلك وكذا جواز جعل السجن كعقوبة لبعض الأعمال المحرمة، لكن كلا الأمرين يكون من الحالات الاستثنائية التي لا يصار إليها إلا عند الاضطرار فالاضطرار يسقط التكليف الأولي وأدلة النهي عن المنكر يثبت حكماً استثنائياً قد يراه الحاكم الإسلامي صلاحاً، فهو من قبيل أكل الميتة للمضطر وما أشبه ذلك، إذ لا يخفى أن الإسلام خال من السجون إلا في موارد نادرة جداً، فإن الناس الذين يسجنون تراهم قليلاً جداً في الشريعة كالمرأة المرتدة حتى تتوب والواجد الذي لا يعطي دينه ومن إليهما، ولذا لم يعهد في سيرة رسول الله أو سيرة أمير المؤمنين (عليهما السلام) أنهم يسجنون الناس إذ كان سجن الإمام (عليه السلام) في الكوفة على رغم سعتها واتساع رقعتها من جريد النخل أو القصب، وكان ربما يسجن السجين نهاراً فيشرد ليلاً، ثم بنى سجناً عادياً وسمي بالمحبس وكان ذلك عملاً اضطرارياً أيضاً لأن الكوفة كانت ذات نفوس كثيرة ووقعت في الفوضى والهرج والمرج في أواخر أيام عثمان، مما كان يستلزم الأمر نوعاً من التشديد لإرجاع الأمور إلى نصابها.

وكيف كان فإن العقوبة المالية أو السجن وما أشبه يعقد من العقوبات الاضطرارية والضرورات التي تقدر بقدرها لا أكثر من ذلك. والحمدلله رب العالمين