المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 33.doc

كان الكلام فيما تقدم في شروط أعضاء السلطة التنفيذية إذ لا يجوز لكل أحدٍ في التصدي لشؤون الناس ما لم يتصف بالصفات اللازمة المؤهلة له لتولّي أمانة الناس والقيام بشؤونهم ومسؤولياتهم، ذكرنا جملة من الشروط وقلنا بأن هناك في الروايات ما يشير إلى بعضها منها ما رواه الكليني (رضوان الله عليه) في أصول الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من عمل على غير علمٍ كان ما يفسد أكثر مما يصلح.

وفي صحيحة العيص بن القاسم عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنظروا لأنفسكم فوالله إن الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي فإذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها، أقول إذا كان هذا ما يرتبط بالرعاة والغنم فما بالك بالشعب والدولة والحكومة وتولي أمور الناس.

وفي كتاب مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأِشتر الذي أورده الشريف الرضي (رضوان الله عليه) في نهج البلاغة ورد فيه: ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ولا تولهم محاباة وأثرة فإنهم جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخّى منهم أهل التجربة والحياء، من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة فإنهم أكرم أخلاقاً وأصح أعراضاً وأقل في المطامع إشرافاً وأبلغ في عواقب الأمور نظراً، ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك حتى يقول: ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك واستنامتك وحسن الظن منك فإن الرجال يتعرفون لفراسات الولاة بتصنعهم وحسن خدمتهم وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شيء ولكن اختبرهم بما وولوا للصالحين قبلك فاعمد لأحسن كان في العامة أثراً وأعرفهم بالأمانة وجهاً فإن ذلك دليل على نصيحتك لله ولمن وليت أمره، وكتب بعض الحكام في وصف وزيره وأسباب اختياره له قال:

إني التمست لأموري رجلاً جامعاً لخصال الخير، ذا عفة في خلائقه واستقامة في طرائقه قد هذبته الآداب وأحكمته التجارب، إن أؤتمن على الأسرار قام بها وإن قلّد مهمات الأمور نهض فيها يسكته الحلم وينطقه العلم وتكفيه اللحظة وتغنيه اللمحة، له صولة الأمراء وأناة الحكماء وتواضع العلماء، وفهم الفقهاء، إن أحسن إليه شكر وإن ابتلي بالإساءة صبر لا يبيع نصيب يومه بحرمان غده يسترق قلوب الرجال بخلابة لسانه وحسن بيانه.

ومن مجموع ذلك يظهر أن الإسلام يهتم بالجوهر فإذا تم اختيار الوزير ضمن تلك المعايير القرآنية والروائية فإنه سيقوم بأمر هذه الوزارة خير قيام وليس مهماً بعد ذلك عن طريقة انتخابه في جهازه التنفيذي وهل كان الانتخاب بواسطة الأمة مباشرةً أو بالوسائط، هذا ولا يخفى عليك أن نفوذ السلطة التنفيذية يتقوم بطاعة الناس لها وإلا صار وجود السلطة لغواً لا فائدة فيه ولا أثر له. ومن هنا ورد عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) روايات عديدة متضافرة تحث على طاعة الحاكم الصالح وصاحب السلطة العادل ما دام متوفراً على الشرائط، منها ما عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): طاعة السلطان واجبة ومن ترك طاعة السلطان فقد ترك طاعة الله عز وجل، والحديث ظاهر في ملازمة طاعة السلطان لطاعة الباري عز وجل ما دام السلطان عادلاً. وعن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): أيها الناس إن لي عليكم حقاً ولكم علي حق، فأما حقكم علي فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم وتعليمكم كي لا تجهلوا وتأديبكم كيما تعلموا، وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب والإجابة حين أدعوكم والطاعة حين آمركم، ومن الواضح أن هذا لا يختص بالإمام المعصوم بل يجري حتى في نائب الغيبة لكونه منصباً من قبله (عليه السلام) ولما سئل عن الإمام الباقر (عليه السلام) عن حق الإمام على الناس قال: حقه عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا فقيل فما حقهم عليه قال يقسم بينهم بالسوية ويعدل في الرعية، وعن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) أن السلطان العادل بمنزلة الوالد الرحيم فأحبوا له ما تحبون لأنفسكم واكرهوا له ما تكرهون لأنفسكم.

ومن ذلك يظهر أن طاعة الشعب للحكام الصالحين والإخلاص لهم وإنفاذ أوامرهم يشكل عاملاً أساسياً في ثبات الحكومة الإسلامية واستقراراها وموفقيتها في إدارة البلاد والعباد على أحسن وجه، وعليه فإنه بعد أن توفرت شرائط الحكومة الصالحة شرعاً لا يجوز مخالفتها أو الخروج عن قراراتها لأنه مناف لأدلة اللزوم في العهود ومستلزم للفوضى واختلال النظام فضلاً عن منافاته لوجوب الطاعة للحاكم العادل.

- المسألة الثالثة: السلطة التنفيذية من حيث الكم والكيف تتكوّن من اثنتي عشرة صورة هي أن يكون الحكم بيد واحدة أو اثنين أو أكثر وكل من الأقسام الثلاثة إما يحكم بالوراثة أو بالانقلاب العسكري أو بالانتخابات، والانتخابات هي الأخرى إما تتم بمباشرة الأمة أو من قبل المجالس المنتخبة من قبلها، وحيث أن بعض الصور لا وجود لها في الخارج نعرض عنها ونكتفي بالإشارة إلى ما هو قائم بالفعل في دول العالم، وهي كالتالي:

- الأولى: أن تكون السلطة التنفيذية ملكية وهي على نحوين: الوراثية وغير الوراثية، وتتخذ الوراثية منها أشكالاً مختلفة في المظهر لا في الجوهر، كالسلطنة أو الأمارة أو الخلافة أو المشيخة أو ما أشبه ذلك كما هو واقع في جملة من دول الخليج اليوم، كما أن الوراثة للسلطة قد يكون في الأولاد وقد يكون في العائلة وقد يكون في القبيلة، والغالب أن ترافق هذا النوع من الحكم حالة الاستبداد بداهة أنها إما تلغي المواصفات الشرعية في قائمة الحكام كما تلغي حق اختيار الأمة بالكامل، أو تحدد اختيارها في أحسن الفروض في العائلة الحاكمة، والثانية وإن كانت أهون من الأولى إلا أنها بالقياس إلى الانتخابات الحرة المفتوحة تعد نوعاً من الاستبداد أيضاً، نعم لا ملازمة بين هذا النوع من الاستبداد وبين الظلم والجور في ممارسة السلطة وتنفيذ مقرراتها ولذا ورد في القرآن الحكيم أن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً، ومن الواضح أنه إذا كان بأمر الله سبحانه وتعالى تنصيب الملك لا يكون للأمة الاختيار فيه كما قدمنا، قال تبارك وتعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما) نعم لا شك أن الذي ينتخبه الله عز وجل لإدارة الأمة في الحكم والدولة يكون في قمة العدالة لتنزهه عز وجل عن الظلم ومخالفة الحكمة، هذا وربما تكون الملوكية غير وراثية كما إذا مات الملك انتخبوا ملكاً آخر مكانه، وكان ملكاً إلى آخر العمر، وبذلك يظهر أن الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية وما أشبه ذلك مما تلبست بلباس الإسلام لم تكن إلا ملوكية وراثية وتسميتها بالخلافة لم تكن على واقعها، ولذا سميت في الأحاديث الشريفة بالملك العضوض، ومن هنا ظهر وجه بطلانها وعدم مشروعيتها شرعاً خصوصاً وأنها كانت في زمان وجود المعصوم (عليه السلام).

- الثاني: أن تكون السلطة بالسلطنة المشروطة، فيكون الملك هو السيد المطلق ولكنه مقيد بسلطات المجلس المنتخب من قبل الأمة، وفي مثل هذه الصورة لو كان المجلس منتخباً بالطرق الحرة فإنه لا يكون الملك إلا رمزاً وله مقام تشريفاتي وليس له مقام نفوذي وإنما تكون القدرة التشريعية هي السيدة في البلاد، ولعل الحكومة في بريطانيا الحاضرة حالها هكذا حيث نجد الملك وهو رمز وإلى جانبه القوة التشريعية في البلاد والقوة التنفيذية لكن من الواضح أن هذا النوع من السلطة لا مجوّز له شرعاً أو عقلاً، أما شرعاً فلأن وجودها يستلزم إرهاق خزانة الأمة وهدر لأموالها وهو حرام، وأما عقلاً فلأن وجوده لغو وبذلك يظهر وجه البطلان أيضاً فيما لو كان مجلس الأمة صورياً لخضوعه لرأي الملك وقوة نفوذه كما هو مشهود في جملة من الدول المستبدة لكونه استبداداً وظلماً ومصادرة لحقوق الناس.

- الثالثة: أن تكون السلطة منتخبة من قبل الأمة، لكن نفوذ سلطات الرئيس مشروطة بموافقة المجلس الذي انتخبته الأمة أيضاً لمراقبة السلطة، ولعل هذا ما يجري في بعض دول العالم المتقدم على ما يعبرون كما في رئاسة أمريكا ورئيس فرنسا حيث أن الشعب مباشرة ينتخب رئيسه لكن لا يحق للرئيس اتخاذ القرار بدون مشاركة المجلس التقنيني، بل الكونغرس وغيره دخيل في قرارات الرئيس وناظر في أعماله، والسبب في ذلك هو ضمان المزيد من مشاركة الأمة وحفظ حقوقها لكونها تتصرف في شؤون نفسها بإشرافين: إشراف الرئيس المنتخب وإشراف المجلس المنتخب أيضاً، هذا وقد يكون انتخاب الرئيس بواسطة جماعة خاصة كمجلس الشورى أو مجلس الأعيان أو ما أشبه ذلك، أو بواسطة كلا المجلسين، لكن حيث أن الأمة انتخبت نوابها ونوابها انتخبوا الرئيس يعد ذلك اختياراً للأمة لكن بالواسطة، وحيث أنه لا دليل على لزوم أحد الطريقين فإن للأمة أن تختار إحدى الكيفيتين في تعيين الرئيس، إلا أن الكيفية الأولى أقدر على إشراف الأمة على مقدرات نفسها كما أنه مقتضى الجمع بين الأدلة.

- الرابعة: أن تكون السلطة مكونة من رئاستين أو أكثر؛ وهذا له صورتان: الأولى أن يكون رئيسان أحدهما للبلد والثاني للوزراء والثانية أن يكون أكثر من رئيس للبلد يجمعهما مجلس رئاسة أو هيئة رئاسية والفرق بينها أن الصورة الأولى تتوزع المهام بين الرئيسين فرئيس الوزراء يمثل قوة التنفيذ غالباً ورئيس البلد له الإشراف والمراقبة، وأما الثانية فتكون المسؤولية التنفيذية على الجميع كما أن الإشراف على الجميع أيضاً وهذا ما كان عليه الحكم في الاتحاد السوفييتي قبل الانحلال حيث كان له مجلس السوفييت الأعلى وكذلك عليه سويسرا اليوم حيث وضع الرئاسة بيد سبعة من الرؤساء ينتخبهم الشعب وقسموا المهام الوزارية بينهم ويخضعون للانتخابات في كل أربعة سنوات.

- الخامسة: أن تكون القدرة بيد رئيس تولى الحكومة بالقوة بواسطة الانقلاب العسكري كما هو المعهود في جملة كبيرة من دول العالم الثالث، ومن الواضح أن هذا النوع من الحكم غالباً ما يتسم بالاستبداد في أصل توليه للسلطة لكونه يصل إليها بالقهر والغلبة وفي ممارستها أيضاً باستعماله العنف والإرهاب، وهكذا ما أكدته التجارب المتكررة في أكثر من بلد، ولذا فإن مثل هذا النوع من التسلط ساقط عن الاعتبار شرعاً وعقلاً، هذا مع الغض عن أننا لم نرى منذ الحرب العالمية الثانية انقلاباً عسكرياً في آسيا وأفريقيا إلا كان انقلاباً استعمارياً كما ذكره السيد الشيرازي (قدس سره) في كتابه الفقه السياسة في الصفحة 20 من الجزء الثاني، ولذا نرى أن العالم الحر أبعد العسكر عن الحكم واتخذ ضمانات عديدة للمنع من الانقلابات العسكرية، ولعل من أهمها هو وعي الشعب العام فإن الاستبداد غالباً يحدث في غياب وعي الناس.

- المسألة الرابعة: الاستبداد حرام في تولي السلطة والاستشارية واجبة، ويتميز النظام الاستشاري من الاستبدادي بأمرين:

- الأول: وجود التعددية الحزبية في البلد.

- الثاني: وقوع الانتخابات الحرة للرئاسة التنفيذية.

فإنه لو أريد تمييز النظام الاستبدادي من الاستشاري ينبغي أن يلحظ هل في البلد حزب واحد أو أكثر وهل أن الرئيس الذي بيده التنفيذ حقيقة هل يبدل في كل أربعة سنوات أو أقل أو أكثر أم لا؟، فإن كان البلد ذا حزب واحد أو أن الرئيس لا يبدل فالحكم ديكتاتوري مهما كانت الشعارات المرفوعة إذ لا اعتبار في مثل هذه الأنظمة لرغبة الناس أو إرادتهم وإن كان في البلد حزبان أو أكثر والرئيس يبدل فالحكم استشاري على ما سيأتي تفصيله إنشاء الله في المباحث القادمة..

كما أن الحرية الحقيقة للأمة لا تتحقق للأمة إلا إذا توفرت أمران:

- الأول: الوعي الكافي للأمة.

- الثاني: عدم وجود جهة مزيفة لإرادة الأمة، كالاقتصاد المنحرف والإعلام وغيرهما.

وذلك لوضوح أن عدم الوعي الكافي يوجب سيطرة أهل المكائد والحيل على الأمة حتى ولو كان النظام ذا أحزاب وانتخابات حرة فيتبدل الرئيس الأعلى كل أربع سنوات مرة، نعم هكذا نظام بالقياس إلى الأنظمة الاستبدادية الصريحة هو أفضل وأقرب إلى روح الاستشارية، لكن الكلام في الاستشارية الحقيقية، كما أن منهاج المال لو كان منحرفاً إلى الراسمالية يستغل الأثرياء العمال والفلاحين والمعلمين ومن إليهم، وبذلك يتجمّع لدى الرأسماليين المال الزائد عن حقهم وحيث لا يكون التوزيع على الأمة توزيعاً عادلاً فيستعمل فائض هذا المال في تحوير الانتخابات بحسب مصالح رأس المال ولا يكون حينئذٍ بحسب مصالح الأمة، ويتحصل منه أن تكون السلطة بيد المال وعلى قمتها بضعة من الرأسماليين وليست الأمة أو من يمثلها تمثيلاً حقيقياً صادقاً، ولعلّ هذا هو الذي يشاهد في البلاد الرأسمالية وعلى رأسها أمريكا حيث يتلاعب بحريتها وانتخاباتها جماعة من الرأسماليين كما هو المشاهد في كل دورة انتخابية تجري فيها.

وأما الكلام في السلطة القضائية فتعد من السلطات السياسية الثلاث والظاهر أن إطلاق السياسة أو التنفيذ عليها على ما هو المشهور بين علماء القانون والسياسة من باب التسامح والتوسعة في التعبير وذلك لعدم انطباق معنى السياسة والتنفيذ عليها، فإن السياسة معناها الإدارة والقضاء لا يدير كما أنه لا ينفذ وإنما يحكم فقط، والمدير حقيقة للبلاد هي السلطة التنفيذية، كما أن الظاهر أن بين السلطات الثلاث نوعاً من التقدم وهو إما التقدم الرتبي أو التقدم بالعلية، إذ تقع في الرتبة الأولى من السلطات السلطة التشريعية لكون التشريع هو المطلوب أولاً، والتنفيذ والقضاء متفرع عنه وبالتالي فهو أشرف، أو أن القانون قلة الحاجة إلى السلطة الذي هو الآخر معدول للحاجة إلى النظام، وعليه فالتشريع علة للتنفيذ ثم يأتي بعده القضاء لأنه لولا تضارب المصالح في التنفيذ أو تعارض الحقوق، أو وقوع الإساءة والعدوان فيه لم يحتج إلى القضاء فمهمة السلطة القضائية هي التدخل في موارد النزاع سواء بين الأفراد أو المنظمات في دولة أو يبنهما وبين الدولة أو بين الدول المختلفة، لأجل فصل الخصومة في الحق بعد معرفة القانون أو تفصيل مجملات القانون أو لأجل أن تفصل في فهم القانون وتفسيره، وهذا غالباً ما يحتاج إليه لدى التنازع بين القوتين التشريعية والتنفيذية، هذا وتفصيل الكلام في ذلك يستدعي البحث في أمور:

- الأمر الأول: في وجوه الحاجة إلى القوة القضائية، وهي عديدة أهمها ثلاثة:

- الأولى: الضرورة العقلية، التي يتفق على الحكم بها العقلان النظري والعملي، وذلك لأن العدل مطلوب لذاته والعقل يستقل بحسنه الذاتي، فيحكم بوجوب العمل به، ويتبعه الحكم الشرعي أيضاً للملازمة بينما يحكم به العقل والشرع لكونه في سلسلة العلل للأحكام الشرعية، وهذا ما أرشدت إليه الأدلة النقلية من الآيات والروايات أيضاً؛ قال تبارك وتعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس) ويظهر من الآية الشريفة أن إقامة القسط والعدل من الأهداف الأساسية لبعث الرسل وإنزال الكتب ووضع الموازين المقررة، وقد جعل الباري عز وجل الحديد والسلاح ضمانة لتنفيذها وإجراءها وحمايتها ففي الآية الشريفة إشارة إلى السلطنة والقوة على تطبيق الحق، وقال تبارك وتعالى:(وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين)، وقال عز من قائل: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون).

وقال تبارك وتعالى: (قل أمر ربي بالقسط).

وقال عز وجل: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون).

وقال عز وجل: (وأمرت لأعدل بينكم).

وفي أصول الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: العدل أحلى من الشهد وألين من الزبد وأطيب ريحاً من المسك. وفي نهج البلاغة خطابا لعثمان: فاعلم أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هدي وهدى فأقام سنة معلومة وأمات بدعة مجهولة.. إلى غير ذلك من الأدلة التي يستظهر منها أن العدل مطلوب لذاته وما يحكم به الشرع في الآيات والروايات هو إرشادٌ إلى الحكم العقلي.

- الثاني: الفطرة الإنسانية، وذلك لكونها قاضية على أن كل ما يصدر عن الإنسان من أفعال وأنشطة مندفعة إما عن جلب المنافع أو دفع الأضرار وذلك لما جبل عليه الإنسان بطبيعته الأولية على الانجذاب للملذات والاندفاع نحو تحصيلها والتنفر من الآلام والتحذر من الوقوع فيها، قال سبحانه وتعالى: (زين الناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة) وفي الحديث الشريف: يشيب ابن آدم وتشب فيه خصلتان: الحرص وطول الأمل، ومن الواضح أن الحرص وطول الأم ينشئان من الغريزة وحيث أن الحياة الدنيا قاصرة عن إيصال كل إنسان إلى لذته ومنفعته وإبعاده عن ألمه وضرره وذلك لمحدودية المادة والإنسان معاً، بل ولقضاء الحكمة الإلهية بذلك جرياً على سنة الابتلاء والاختبار أوجب ذلك الوقوع في التضارب والتعارض بين المصالح والمنافع بين أبناء البشر إما لجهة طموحات الإنسان العالية لنيل الأكثر وتحصيل المزيد من المنافع واجتناب الأضرار أو لدفع الآخرين عنه أو عن حقوقه، من هنا كان التضارب والتعارض والخوف والعدوان أموراً لازمت الحياة الإنسانية فكان لابد من وجود سلطة منصفة بين الناس تعطي الحق لصاحبه وتحميه من العدوان، وهذا ما تحكم به الفطرة ويتبعها حكم العقل والشرع، بداهة أنه لولا ذلك للزم إما ترك الناس في فوضى فيأكل القوي الضعيف، أو إلغاء قانون الفطرة وإبطال فعل الغرائز الذي أودعه الخالق تبارك وتعالى تكويناً في جبلتهم، وكلاهما باطل إذ يستلزمان الظلم والفساد ونقض الغرض ولغوية الخلق والتكوين في الدنيا وهذه يتنزه الباري الحكيم عنها فيثبت الثالث وهو لا بدية وجود قوة ذات سلطنة تفرض العدل بين الناس ويأمن في ظلها المظلوم ويقتص من الظالم، وهذا ما يؤيده التاريخ البشري على اختلاف مذاهبه ومعتقداته ومستواه الفكري والاجتماعي، إذ ما انفكت المجتمعات حتى البدائية منها عن قاضي وسلطة قضائية تحكم بين الناس وتفصل في منازعاتهم.

- الثالث: الضرورة الاجتماعية، إذ قد لا يتعمد الإنسان التجاوز على حق غيره خصوصاً من أدبه الأنبياء والرسل وهذّبته الأديان والشرائع أو حظي بمستوى من العقل وعلوّ الهمة وكرامة النفس وغيرها من الكمالات التي تدعوه إلى الابتعاد عن الظلم والتجاوز لكن هذا لا يمنع من أن يقع الإنسان في شبهة في تفسير الحق ومعرفة ما له وما عليه في الحياة الاجتماعية، فيقع التنازع والتخاصم مع غيره لأجل الوصول إلى حقه أو تفسير الحق عن حسن نية ورغبة في العدالة والانتصاف فلابد من مرجعية ثالثة منصفة وموثوق بكفاءتها وخبرويتها وقدرتها على التشخيص يرجع إليها لرفع الإبهام والغموض، بداهة أن الرجوع إلى كل واحد من المتخاصمين غير جائز، وإبقاء المسألة من دون حل وانتصاف كذلك لمنافاتهما للحكمة فيتعين الثالث وليس إلا سلطة القضاء، هذا ولا يخفى أن الأصل الأولي أن منصب القضاء لا يجوز أن يتولاه أحد إلا بإذن من الله سبحانه لكونه مستلزماً للولاية على الناس والتصرف في شؤونهم والأصل الأولي هو عدم ولاية أحد على أحد.

ولذا لا يجوز القضاء تكليفاً ولا ينفذ وضعاً إلا من قبل الله سبحانه وتعالى، لكونه الخالق المالك أو من ولاّه الباري عز وجل أو أجاز له ذلك بالتنصيب الخاص أو العام وهذا ما قامت عليه الأدلة، فمن الأول قوله سبحانه وتعالى: (إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين) وقوله سبحانه وتعالى: (والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير) ومن الثاني قوله سبحانه وتعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) وقوله عز وجل: (يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق) وقوله عز وجل: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما) ومن الثالث ما ورد في مصباح الشريعة عن مولانا الصادق (عليه السلام): والحكم لا يصح إلا بإذن من الله وبرهانه، وفي مقبولة عمر بن حنظلة عن الصادق (عليه السلام): من تحاكم إليهم - أي قضاة الجور - في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً وإن كان حقاً ثابتاً له لأنه أخذه بحكم الطاغوت وما أمر الله أن يكفر به قال الله تعالى: (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به)، ولما قيل: فكيف يصنعان قال (عليه السلام): ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخفّ بحكم الله وعلينا رد والراد علينا كالراد على الله وهو على حد الشرك بالله، إلى آخر الحديث الذي أورده الحر العاملي (رضوان الله عليه) في الوسائل في أبواب صفات القاضي الحديث الأول.

وفي رواية أبي خديجة عن الصادق (عليه السلام): إياكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه، وقد كان من سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) حل الخصومات والحكم بين الناس على ضوء ما أنزل إليه من القرآن وأحكامه، بل وعين (صلى الله عليه وآله وسلم) رجالاً صالحين للقضاء وفصل الخصومات، مما يدلّ على أن القضاء منصب لا يتولاه أحد إلا بإذن من الله سبحانه وتعالى أو من رسوله والإمام المعصوم (عليه السلام) لأنهم الأولياء على الناس بعد الله عز وجل، كما تدل أيضاً على أن مهمة القضاء ليست موكلة إلى عموم الناس وإنما هي أولاً مسؤولية الحاكم الأعلى في البلد فقد روى الفريقان عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) قال بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى اليمن قاضياً فقلت يا رسول الله ترسلني وأنا حديث السن ولا علم لي بالقضاء فقال إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء قال فما زلت قاضياً أو ما شككت في قضاء بعد وقد اشتهر القول من الصحابة طراً نقلاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن علياً (عليه السّلام) أقضى الأمة واعترف جمع غفير منهم بعدالة قضاءه بل قال بعضهم لولا علي لهلك عمر إلى غير ذلك من الأخبار والروايات.

- الأمر الثاني: في ضبط القضاء وتحقيق أهدافه إذ عرفت مما تقدم أن الأصل يقتضي عدم نفوذ القضاء إلى ما قامت الدليل عليه وعرفت أن المستفاد من الآيات والروايات كون القضاء لله ولرسوله ولأوصيائه (عليهم السلام) كما عرفت أنه لا يمكن القول بتعطيل القضاء في عصر الغيبة فيجوز للفقيه الواجب للشرائط التصدي له لو توفر من فيه الكفاية وإلا وجب عليه التصدي له على نحو الوجوب العيني وذلك لأنه القدر المتيقن المشمول بأدلة القضاء بعد المعصومين (عليهم السلام) ودلالة المقبولة والمشهورة وغيرهما عليه كما يجوز أن ينصب الفقيه الجامع للشرائط من يتولى أمر القضاء بالنيابة عنه لكن لا يجوز نصب كل من رآه أو اختارته الأمة بل يجب مراعاة الأمة وتوفر جملة من الشروط فيمن يراد نصبه للقضاء حتى يجوز له التصدي ويجوز للفقيه كما فصله الفقهاء في الكتب الفقهية قال المحقق الحلي رضوان الله عليه في قضاء الشرائع ويشترط فيه البلوغ وكمال العقل والإيمان والعدالة وطهارة المولد والعلم والذكورة وقريباً منه قاله العلامة الحلي رضوان الله عليه في القواعد وفي المسالك للشهيد رضوان الله عليه في شرح عبارة الشرائع قال هذه الشرائط عندنا موضع وفاق ولعل هذا ما ذهب إليه العامة أيضاً هذا وفي وجوب توفر الاجتهاد في القاضي أو توفر الأعلمية فيه أو كفاية القضاء عن تقليد أو كفاية الاجتهاد المتجزئ وغير ذلك من الأوصاف خلاف بين الفقهاء نوكله إلى باب القضاء لمن أراد التفصيل وكيف كان فقد عرفت مما تقدم أهداف السلطة القضائية ولكن حتى تتحقق هذه الأهداف يجب الالتزام بأمور أربعة الأول مراعاة صلاحية القاضي وأهليته للقضاء الثاني مراعاة استقلاله المالي والسياسي عن السلطة التنفيذية حتى يتمكن أن يحكم بالإنصاف والعدل الثالث مراعاة القاضي لآداب القضاء التي تقربه إلى الحق وتوصله إلى النتيجة المنصفة الرابع أن يكون له خطط وبرامج تميز له الحقوق وتشخص له الموضوعات ففي عهد مولانا أمير المؤمنين (عليه السّلام) للأشتر النخعي في هذا الصدد: وأفسح له - أي للقاضي - في البذل ما يزيد علته وتقل معه حاجته من الناس، ومن الواضح أن الاستقلال الاقتصادي غير كاف في استقلالية القضاء بل لا بد من حماية القاضي من التدخل الخارجي الذي ربما تسببه له السلطات الأخرى كتدخلات سياسية في القرارات أو إعلامية في الآراء وما أشبه ذلك ولذا قال مولانا أمير المؤمنين في عهده للأشتر النخعي أيضاً: وأعطه من المنزل إليك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك فانظر في ذلك نظراً بليغاً، والمقصود هو أن يكون للقاضي موضعاً غير متأثر بأحد يقضي بالحق ويفصل بالخصومات بمقتضى الإنصاف ويصدر الأحكام غير متهيب ولا متأثر وهذا ما ربما يصطلح عليه اليوم باستقلال السلطة القضائية وتفكيكها عن بقية السلطات وهذا ما ورد في كلمات جمع من فقهائنا الأعاظم أيضاً كما ستعرفه في البحث القادم إن شاء الله.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله عليه سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين..