المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 32.doc

- المؤيد الثالث: للحاجة إلى السلطة التنفيذية ما ذكر من أحكام الحسبة وحدودها، فقد ذكر الفقهاء للمحتسب وهو من يقوم بالأمر والنهي الاجتماعيين شروطاً لا تعتبر في القسم الفردي من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال في كتاب معالم القربى في أحكام الحسبة:

الحسبة من قواعد الأمور الدينية وقد كان أئمة الصدر الأول يباشرونها بأنفسهم لعموم صلاحها وجزيل ثوابها، وهي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله، وإصلاح بين الناس، قال الله تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس)، والمحتسب من نصّبه الإمام أو نائبه للنظر في أحوال الرعية، والكشف عن أمورهم ومصالحهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ومن شروط المحتسب أن يكون مسلماً حراً بالغاً عاقلاً عدلاً قادراً، ومن الواضح أن الحرية والبلوغ والعدالة ليست من شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأمور الشخصية والفردية، وهذا التباين في الشرائط والصلاحيات يكشف عن تنوع وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى نوعين مختلفين: فردي وعمومي، والأول هو وظيفة كل فرد من أفراد المسلمين، بينما يختص الثاني بجهازٍ وسلطة تقوم على أهل الخبرة والعلم والمعرفة، ويتطلب وجودها في الحياة الإسلامية.

وقد أشار صاحب الكتاب المذكور إلى فروق بين المحتسب والمتطوّع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما يؤكد ذلك قال: وأما ما بين المحتسب المتولي من السلطان وبين المنكر المتطوع من عدة أوجه:

- أحدها: أن فرضه متعين على المحتسب بحكم الولاية، وفرضه على غيره داخل تحت فرض الكفاية.

- الثاني: أن قيام المحتسب به من حقوق تصرفه الذي لا يجوز أن يتشاغل عنه بغيره وقيام المتطوع به من نوافذ عمله الذي يجوز أن يتشاغل عنه بغيره.

- الثالث: أنه منصوب للاستعداء إليه فيما يجب إنكاره، وليس المتطوع منصوباً للاستعداء.

- الرابع: على المحتسب إجابة من استعداه، وليس على المتطوع إجابته.

- الخامس: أن له أن يتخذ على الإنكار أعواناً لأنه عمل هو له منصوب وإليه مندوب وليكون له أقهر وعليه أقدر، وليس للمتطوع أن يتخذ لذلك أعواناً.

- السادس: أن له أن يعزر في المنكرات الظاهرة ولا يتجاوز بها الحدود، وليس للمتطوع أن يعزر.

- السابع: أن يرتزق على حسبته من بيت المال، وليس للمتطوع أن يرتزق على إنكار منكر إلى غير ذلك..

فهذه وجوه فرق بين من يحتسب بولاية السلطان وبين من يحتسب تطوعاً، وقد أشار في مقدمة كتابه أيضاً إلى أن الحسبة منصب سياسي حكومي، فالمحتسب يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من موقع الحكم، قال: لقد رأيت أن أجمع أقاويل العلماء مستنداً به إلى الأحاديث النبوية ما ينتفع به من استند لمنصب الحسبة، وقلد النظر في مصالح الرعية وكشف أحوال السوقة، وأمر المتعيشين على الوجه المشروع، ليكون ذلك عماداً لسياسته وقواماً لرئاسته.

وفي مقدمة ابن خلدون ما يؤيد ذلك قال: أما الحسبة فهي وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين، يعيّن لذلك من يراه أهلاً له فيتعين فرضه عليه، ويتخذ الأعوان على ذلك، ويبحث عن المنكرات ويعزر ويؤدب على قدرها، ويحمل الناس على المصالح العامة في المدينة مثل المنع من المضايقة في الطرقات ومنع الحمالين وأهل السفن من الإكثار في الحمل، والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها، وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة، والضرب على أيدي المعلمين في المكاتب، وغيرها في الإبلاغ في ضربهم للصبيان المتعلمين.

ولا يتوقف حكمه على تنازع واستعداء بل له النظر فيما يصل إلى علمه من ذلك، بل فيما يتعلق بالغش والتدليس في المعايش، وغيرها في المكاييل والموازين وله أيضاً حمل المماطلين على الإنصاف وأمثال ذلك، كما ذكره في المقدمة.

هذا ولعل مما يدل أيضاً على أن القسم الاجتماعي من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المصطلح عليه في لسان الفقهاء بالحسبة لا يختص بمجرد بيان المحرمات والواجبات، بل يقع على عاتق المحتسبين ما يتعدى الوعظ والإرشاد إلى استعمال القوة والسلطة، ما ذكره الفقهاء للمحتسبين من وظائف كثيرة تشمل كافة مناحي الحياة الاجتماعية، وتقترن في الأغلب باستعمال الردع العملي والإشراف القاطع والمؤاخذة والعقاب وإليك نماذج من وظائف المحتسب التي توزعت اليوم في وزارات ومديريات كما أوردها بعض الأعلام في معالم الحكومة الإسلامية وهي:

- 1) الحسبة على الآلات المحرمة والخمرة، فإذا جاهر رجل بإظهار الخمر أراقه المحتسب وأدبه إن كان ذلك الرجل مسلماً، أو أدبه على إظهاره إن كان ذمياً، وهكذا بالنسبة إلى الآلات المحرمة فإن المحتسب يفصلها حتى تعود خشباً ويؤدب صاحبها ويمكن أن يدخل هذا في شؤون وزارة الداخلية.

- 2) الحسبة على أهل الذمة ومراقبة أحوالهم وتصرفاتهم، ومدى التزامهم بعهودهم ومراعاتهم لشروطها، ويدخل هذا في شؤون وصلاحيات وزارة الداخلية.

- 3) الحسبة على أهل الجنائز ومراقبة شؤونها من جهة الأمور الصحية والحقوقية ويدخل في شؤون وزارة الداخلية ووزارة الصحة.

- 4) الإشراف على المعاملات التجارية لمنع المعاملات الفاسدة كالبيوع الفاسدة وتعاطي الربا والإجارة الفاسدة وهي تدخل في شؤون وزارة العدل.

­- 5) الإشراف على العلاقات الاجتماعية والأخلاقية ومنع الناس من مواقف الريب ومظان التهم مما يدخل في شؤون وزارة الداخلية مثلاً.

- 6) مراقبة شؤون النقد ومنع التعامل بالنقود الزائفة بعد تحديدها وتعيينها وهو يدخل في شؤون وزارة المال أو الاقتصاد والدوائر التابعة لهما.

- 7) الحسبة على منكرات الأسواق كمنع بعض السوقة من سد طرقات المارة بمتاعهم، وما شابه مما يدخل في صلاحيات الدوائر التابعة للأمور البلدية، وكمنع الحمالين من أشياء بنحو يلحق الضرر بالمارة إما بتمزيق ثيابهم أو تلويثها.

- 9) ضبط المكاييل والمقاييس المستعملة في الأسواق وتعيينها والمنع من التلاعب فيها مما يدخل في الشؤون البلدية.

- 10) مراقبة تجار الغلات للحيلولة دون احتكارها أو التلاعب فيها وتعيين أسعارها عند الضرورة مما يدخل في صلاحيات وزارة التجارة والاقتصاد.

- 11) مراقبة الخبازين وأصحاب الأفران من الناحية الصحية منعاً من إصابة الناس بالأمراض والأوبئة وهو يدخل في شؤون وزارة الصحة وكذا مراقبة كل باعة الأغذية والحلويات والأشربة لنفس الغرض وأيضاً من ناحية الأسعار.

- 12) ملاحظة القصابين واللحامين لمنعهم ما يوجب التلوث كذبح الحيوانات في الأسواق، وبيع اللحوم الفاسدة وتحديد أسعارها وإعطاءهم التعليمات الصحية وهو يدخل في صلاحيات وزارات الصحة والتجارة والدوائر التابعة لهما.

- 13) مراقبة البزازين وبياع الألبسة وما يتعلق بهذه المهن من شؤون لمنع أي تلاعب في هذا المجال، أو تلاعب في الأسعار والقيم، وكذا مراقبة الخياطين وصناع الثياب.

- 14) مراقبة كل المشاغل والمهن وأصحاب الحرف والصاغة والحدادين والنحاسين والصباغين والبياطرة والحمامات وأصحابها والفصادين والحجامين والأطباء والمجبرين والجراحين مراقبة شاملة من ناحية الأسعار، والمبالغ التي يتقاضونها أو شروط العمل أو مواصفاته الصحية، مما يدخل بعضها في شؤون وزارة التجارة والاقتصاد وبعضها الآخر في شؤون وزارات الصحة والداخلية.

- 15) مراقبة المساجد والمؤذنين والوعاظ والقراء وعدم السماح لتصدي هذه المشاغل إلا لمن اشتهر بين الناس بالدين والخير والفضيلة ويكون عالماً بالأمور والعلوم الشرعية مما يدخل الآن في نطاق صلاحيات وزارة الأوقاف.

- 16) الحسبة على مؤدبي الصبيان ومعلمي الأولاد ومراقبة شروط الدراسة ومكانها وكيفيتها، وما يرتبط بذلك مما يدخل في مسؤوليات وزارة التربية والتعليم.

- 17) الحسبة على كتّاب الرسائل لمنع تصدي من لا أهلية له لذلك، لما في هذا الأمر من خطر على أسرار الناس وأعراضهم.

- 18) القيام ببعض التعزيرات والتأديبات لمن يتخلف عن القوانين الإسلامية المقررة.

- 19) الحسبة على أصحاب السفن والمراكب ومراقبة الطرق ووسائط النقل مما يكون من شؤون وزارة الطرق والمواصلات.

- 20) الحسبة على شؤون العمل والعمال ومراقبة شؤونهم وحقوقهم وظروف عملهم مما يدخل في شؤون ومسؤوليات وزارة العمل والشؤون الاجتماعية والضمان الاجتماعي.

وغير ذلك.. ومن مجموع ما تقدم يظهر أن السلطة التنفيذية ضرورة من ضرورات الحياة الإنسانية إذ لا يقوم للناس نظام ولا صلاح ولا أمنٌ ولا سلام ولا تحفظ لهم حقوق ولا تقوم لهم دولة أو حكومة إلا بها.

- الأمر الثاني: هل الرئيس والحاكم الأعلى يعد من السلطة التنفيذية أم خارج عنها؟.

أقوال في المسألة:

- الأول: الدخول وهو المشهور بين علماء السياسة الوضعية، وعلى هذا الرأي تتسع السلطة التنفيذية وتشمل رئيس الدولة ورئيس الوزراء والوزراء وجميع موظفي الوزارات ورئيس الدولة هو صلة الوصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.

- الثاني: العدم وهو المشهور بين من كتب في فقه السياسة الإسلامية حيث يمنح رئيس الدولة صلاحيات أكثر من الشؤون التنفيذية، ويحصر السلطات التنفيذية بالوزراء والأمراء والمدراء والعمال والضباط والكتّاب ونحوهم.. وأما الرئيس فلا. وهذا ما ذهب إليه بعض الفقهاء من الخاصة والعامة حيث أن الحكومة الإسلامية عند الخاصة تقوم على نظام الإمامة في زمن الحضور ونيابتها في زمن الغيبة، وعليه فإن الإمامة والفقيه يتوليان ما هو أعلى من منصب الرئاسة وهو الإشراف العام والكامل على جميع أجهزة الدولة بما فيها من أجهزة وتشكيلات، وأما عند العامة فحيث أن الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعليه فهي أعلى من سلطة الوزارة، وأشرف رتبة.

- الرأي الثالث: هو التفصيل بين الرئيس إذا كان فقيهاً جامعاً للشرائط وبينه إذا كان منصوباً من قبل الفقيه الجامع للشرائط، فالأول لا يدخل في السلطة التنفيذية لعلو مرتبته بالنص والنيابة العامة بخلاف الثاني، وهذا اختيار جمع من الفقهاء منهم السيد الشيرازي (قدس سره) كما يظهر من كلماته في الفقه السياسة في صفحة 20 و21 من الجزء الثاني، يقول السيد: إن الأقرب إلى الاستشارة والنيابة عن الإمام في الإسلام أن يكون الحكم ذا رتبتين طولاً، فتنتخب الأمة نوابها لمجلس الأمة وتنتخب الفقيه الجامع للشرائط لأن يكون سلطة أعلى في الدولة، وهذان المنتخبان يتعاونان في انتخاب السلطة التنفيذية كرئيس الجمهورية إما مباشرة وإما ترشيحاً في عدد ينتخب الجمهور أحدهم، فيكون الفقيه المشرف الاستشاري الأعلى والمجلس يقنن أي يؤطر القوانين الإسلامية ويرى التطبيق الأليق لها، ورئيس الدولة ينفذ، مع أن يكون في الدولة أحزاب متعددة، ولا فرق بعد ذلك أن تكون قيادة الفقيه على نحو الجماعية والتعدد والشورى أو تكون على نحو الوحدة، ولا يخفى أن إطلاق كلامه هنا في دخول رئيس الجمهورية من ضمن السلطة التنفيذية بلحاظ أنه منصوب من قبل الفقيه الجامع للشرائط وأما إذا كان الرئيس هو الفقيه الجامع للشرائط فإنه يخرج عن السلطة التنفيذية حينئذٍ للأدلة الخاصة كما بيناه.

هذا ومع توسع جوانب الحياة المختلفة وتعقد المجتمعات توسعت أطراف السلطة التنفيذية فأصبحت الحاجة إلى عدد من الوزراء وإلى وجود معاونين للوزراء ويتم تعيين الوزراء إما من قبل مجلس للشورى، أو من قبل رئيس الدولة بصورة مباشرة، ولا مانع من كلا الطريقين بعد وجود المقتضي وانعدام المانع الشرعي أو العقلي، فإن صورة التنظيمات التنفيذية والأجهزة التابعة لها منوطة بالأحوال والمستجدات وظروف البلاد المختلفة، وليس هناك شكل محدد يلزم على الأمة اتباعه، نعم ينبغي مراعاة جملة من الضوابط والشروط في عملية الاختيار سنتعرض إليها إنشاء الله تعالى في المسائل.

- الأمر الثالث: أن سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله سلم) والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قائمتان على تشكيل سلطة تنفيذية لتطبيق الأحكام والقوانين، فيثبت وجوب ذلك علينا أيضاً لوجوه:

- أحدها: عقلي، وهو ضرورة حفظ النظام وتطبيق القانون دفعاً لنقض الغرض من التشريع وبيان الأحكام.

- ثانيها: شرعي، وهو السيرة بضميمة وجوب الاقتداء بسيرتهما (عليهما السلام).

- ثالثها: عقلي شرعي، وهو الأولوية إذ لو ثبت لزوم ذلك على النبي الأعظم والإمام (عليه السلام) لتطبيق القوانين والأحكام مع عصمتهما وبساطة المجتمع والدولة في عهدهما وجب ذلك علينا بالأولوية القطعية لعدم العصمة وتعقيد المجتمع والدولة في عهدنا.

ومن دلائل ذلك ما تضافر نقله في التاريخ في تعيين النبي الأعظم للولاة والجباة والقضاة ونحو ذلك.. منها ما قاله ابن جماعة: أمّر رسول الله (صلى الله عليه وآله سلم) أتاد بن أسيد على مكة وإقامة الموسم والحج بالمسلمين سنة ثمان، ويظهر من بعض التواريخ أنه كان دون العشرين سنة، ومنها ما في صبح الأعشى: لما أسلم بادان نائب كسرى ولاه النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله سلم) على جميع مخاليف اليمن وكان منزله بصنعاء مملكة التبابعة، وبقي حتى مات بعد حجة الوداع، ثم ولى النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله سلم) ابنه شهربند بادان على صنعاء وولى على كل جهة واحداً من أصحابه، وفي ترجمة للحرث بن نوفل الهاشمي ورد أنه ولاه المصطفى (عليه السلام) بعض أعمال مكة، وعن ابن سعد سحب الحارث المصطفى (عليه السلام) فاستعمله على بعض عمله بمكة واستمر متولياً لهذا المقام إلى عهد عثمان.

ومنها ما في ترجمة للثائر بن عثمان عن ابن اسحاق أنه استعمله النبي (صلى الله عليه وآله سلم) على المدينة في غزوة بوار، ومنها ما في ترجمة لسعد الدوسي قال: أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله سلم) فأسلمت فاستعملني على قومي وجعل لهم ما أسلموا عليه من أموالهم. ومنها ما في ترجمة لسعد بن عبد الله بن ربيعة أنه (صلى الله عليه وآله سلم) استعمله على الطائف، ومنها ما في ترجمة لامرئ القيس بن الأصبغ الكلبي فقال كان زعيم قومه وبعثه النبي (صلى الله عليه وآله سلم) عاملاً على كلب في حين إرساله إلى قضاعة، ومنها ما في ترجمة لعبد الرحمن بن إيزي الخزاعي فنقل عن ابن السكند فقال استعمله النبي (صلى الله عليه وآله سلم) على خراسان، ومنها ما في العلاء بن الحضرمي أنه (صلى الله عليه وآله سلم) استعمله على البحرين، ومنها ما في عمر بن حزم الأنصاري استعمله (صلى الله عليه وآله سلم) على نجران، وروي عنه كتاباً كتبه له في الفرائض والزكاة والديات وغير ذلك، وفي أسد الغابة استعمله (صلى الله عليه وآله سلم) على أهل نجران وهو ابن سبع عشرة سنة، بعد أن بعث إليهم خالد بن الوليد فأسلموا، ومنها ما في ترجمة عمرو بن سعيد بن العاص كان النبي (صلى الله عليه وآله سلم) استعمله على واد القرى وغيرها وقبض وهو عليها، ومنها ما في ترجمة السيوطي في در السحابة لأبي جذيع المرادي فقال إنه كان عاملاً للنبي (صلى الله عليه وآله سلم) وإنه كان من أهل مصر، ومنها في ترجمة قضاعة بن عامر الدوسي أنه كان عامل النبي (صلى الله عليه وآله سلم) على بني أسد، ومنها ما في ترجمة قيس بن مالك الأرحبي أنه لما أسلم وأسلم قومه كتب له عهداً على قومه همدان عرضها ومواليها وخلائطها أن يسمعوا له ويطيعوا وأن لهم ذمة الله ما أقاموا الصلاة، ومنها ما في ترجمة سواد بن عزية البلوي الأنصاري كان عامل رسول الله (صلى الله عليه وآله سلم) على خيبر، ومنها ما في السيرة الشامية تراجم تضمنت تأمير النبي (صلى الله عليه وآله سلم) خالد بن الوليد على صنعاء وأعمالها، وتأميره للمظافر بن أبي أمية المخزومي على كندة، وتأميره زياد بن لبيب على حضر موت، وتأميره لأبي موسى الأشعري على زبيد وعدن وريع الساحل، إلى غير ذلك من الموارد العديدة.

وفي سيرة ابن هشام ذكر جملة من المناصب للجباة الذين كان يبعثهم رسول الله (صلى الله عليه وآله سلم) كأمراء وعمّال على الصدقات، قال ابن إسحاق: وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله سلم) قد بعث أمراءه وعماله على الصدقات إلى كل ما أوطئ الإسلام من البلدان، فبعث المهاجر بن أبي أمية بن المغيرة إلى صنعاء فخرج عليه العنسي وهو بها، وبعث عدي بن حاتم على طيء وصدقاتها وعلى بني أسد، وبعث مالك بن نويرة على صدقات بني حنظلة، وبعث مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى أهل نجران ليجمع صدقاتهم ويقدم عليه بجزيتهم.

وفي الاستبصار أن رسول الله (صلى الله عليه وآله سلم) استعمل عمرو بن حزم بن زيد الأنصاري على نجران وهو ابن سبع عشرة سنة ليفقههم في الدين ويعلمهم القرآن ويأخذ صدقاتهم وذلك سنة عشر.

وفي الاستيعاب أن رسول الله (صلى الله عليه وآله سلم) بعث معاذ بن جبل قاضياً على الجند من اليمن، يعلّم الناس القرآن وشرائع الإسلام ويقضي بينهم، وجعل إليه قبض الصدقات من العمال الذين باليمن عام فتح مكة.

كما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله سلم) يستخلف على المدينة أو على أهله حينما يخرج منها لحرب أو غزوة دفاعاً من المشركين والكافرين واليهود وما أشبه، قال الواقدي في المغازي: واستخلف رسول الله (صلى الله عليه وآله سلم) في مغازيه على المدينة في غزوة ودان سعد بن عبادة، واستخلف في غزوة بوار سعد بن معاذ وفي طلب كرز بن جابر الفهري زيد بن حارثة، وفي غزوة ذي العشيرة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وفي غزوة بدر أبا لبابة بن عبد المنذر العمري، وفي غزوة السويق أبا لبابة بن عبد المنذر العمري، وفي غزوة الكدر ابن أم مكتوم المعيصي، وفي غزوة ذي أمر عثمان بن عفان، وفي غزوة بحران ابن أم مكتوم، وفي غزوة أحد ابن أم مكتوم، وفي غزوة حمراء الأسد ابن أم مكتوم، وفي غزو بني النضير ابن أم مكتوم، وفي غزوة البدر الموعد عبد الله بن رواحة، وفي غزوة ذات الرقاع عثمان بن عفان، وفي غزوة دومة الجندل سباع بن عرفطة، وفي غزوة المريسيع زيد بن حارثة، وفي غزوة الخندق ابن أم مكتوم، وفي غزوة بني قريظة ابن أم مكتوم، وفي غزوة بني لحيان ابن أم مكتوم، وفي غزوة الغابة ابن أم مكتوم، وفي غزوة الحديبية ابن أم مكتوم، وفي غزوة خيبر سباع بن عرفطة الغفاري، وفي عمرة القضية أبا رهم الغفاري، وفي غزوة الفتح وحنين والطائف ابن أم مكتوم، وفي غزوة تبوك ابن أم مكتوم، ويقال محمد بن مسلمة الأشهلي، وفي حجة رسول الله (صلى الله عليه وآله سلم) ابن أم مكتوم.

وفي شرح التقريظ لم يتخلف علي (عليه السلام) عن المشاهد إلا تبوك فإن النبي (صلى الله عليه وآله سلم) خلفه على المدينة كما رواه عبد الرزاق في مصنفه بسند صحيح عن سعد بن أبي وقاص، ولفظه: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله سلم) لما خرج إلى تبوك استخلف على المدينة علي بن أبي طالب (عليه السلام) وفي الاستيعاب كان رسول الله (صلى الله عليه وآله سلم) لما قدم المدينة يستخلف علياً في أكثر غزواته، ولا يخفى أننا لسنا في مقام تمحيص الأسامي في بيان ما نقله المؤرخون في عمال النبي وأمراءه وخلفاءه في غزواته، وإنما في مقام بيان أصل الأمر في الجملة، وهو أن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله سلم) كان يمارس سلطة تنفيذية على الناس فيستخلف فيهم أميراً أو قاضياً أو والياً وما أشبه ذلك، فهو كان صاحب شريعة كما أنه كان مؤسس حكومة ودولة، وأما النقاش في الأسانيد وما أشبه ذلك فالنقاش مصداقي وليس في الكبرى.

هذا مضافاً إلى ما ذكره المؤرخون من أن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله سلم) كان يبعث إلى الملوك والرؤساء جماعة من أصحابه كسفراء أو مبعوثين، قال ابن هشام في السيرة: بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله سلم) رسلاً من أصحابه، وكتب معهم كتباً إلى الملوك يدعوهم فيها إلى الإسلام، فبعث دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر ملك الروم، وبعث عبد الله حذافة السهمي إلى كسرى ملك فارس، وبعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك الحبشة، وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس ملك الإسكندرية، وبعث عمرو بن العاص السهمي إلى جيفر وعياذ ابني الجلمدي ملكي عمان، وبعث سليط بن عمر أحد بني عامر بن لؤي إلى ثمامة بن اثال وهوذة بن علي الحنفيين ملكي اليمامة، وبعث العلاء ابن الحضرمي إلى المنذر ابن ساوي العبدي ملك البحرين، وبعث شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك تخوم الشام.

وفي شرح الزرقاني على المواهب، وشرح الألفية لابن كثيران وبعث ستة نفر في يوم واحد إلى الملوك وأصبح كل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعث إليهم كذا لابن سعد وغيره، وهذه معجزة أخرى، ولا يخفى عليكم بأن إرسال الرسل والمبعوثين هو نوع من الممارسة الدبلوماسية السياسية التي يمارسها حاكم وسلطان تجاه الدول والحكام الآخرين فهو نوع من ممارسة للسلطة التنفيذية في هذا المجال.

هذا بعض ما ورد في سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله سلم) وكذا مثله ما في سيرة مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) وعليه فحيث أنهما قدوة وأسوة أيضاً يجب ذلك علينا على ما عرفته من باب الأولوية ومن باب الاقتداء بالسيرة والضرورة.

وبذلك يظهر بطلان ما زعمه بعض المستشرقين وتأثر به بعض الكتّاب من المسلمين حيث ذهبوا إلى أن الإسلام خالٍ من السلطة التنفيذية لكونه يشتمل على قوانين وسنن رفيعة تتكفل سعادة المجتمع فردياً واجتماعياً وليس فيها إلا توصيات أخلاقية وإرشادات معنوية دون أن يكون لديه ما يضمن تنفيذها من سلطات وأجهزه، فإننا لم نلمس في التعاليم الإسلامية على حد زعمهم إشارة إلى هيئة تنفيذية تقوم بإجراء الأحكام وتنفيذ القوانين ولذلك تعتبر الشريعة الإسلامية غير كافية من هذه الناحية وعاجزة عن التطبيق، فإنك بعد أن اطلعت على الآيات والروايات والأدلة الفقهية وسيرة النبي والإمام (عليهما السلام) يكفينا في رد مثل هذه المزاعم.

- الأمر الرابع: مسائل وتفريعات:

- المسألة الأولى: لا يجوز أن تتولى السلطة التنفيذية شؤون الدولة والحكم إلا برضى الأمة وانتخابها بعد توفر الشرائط، وانتخاب الأمة للسلطة له صور عدة:

- أحدها: أن ينتخبهم الفقيه الجامع للشرائط بما أنه ولي على الأمة ومنتخب من قبلها.

- ثانيها: أن ينتخبهم مجلس الشورى لكونه ممثلاً للأمة.

- ثالثها: أن تنتخبهم الأمة مباشرةً في عمليات اقتراع عامة لكل الناس.

- رابعها: التشريك في الانتخاب بين الأمة ووسائطها كالفقيه أو المجلس كما هو المتعارف المشهور في العديد من البلدان اليوم، حيث تنتخب الأمة الرئيس أو رئيس الوزراء ثم يقوم هو بترشيح وزراءه ويعرضهم على مجلس الشورى، أو الأمة فيصوّب عليهم، ولا يخفى أن الأقرب إلى روح الاستشارية بل وهو الأقرب إلى الجمع بين الأدلة هو الصورة الثالثة ثم الرابعة، وأما الثانية والأولى فما دام الفقيه والمجلس منتخباً من قبل الأمة فيكون ما يختاره أحدهما اختياراً للأمة بالواسطة، ولا مانع من ذلك شرعي أو عقلي.

- المسألة الثانية: يجب توفر جملة من الشرائط العقلائية والشرعية في أعضاء السلطة التنفيذية حتى يستحقوا الترشيح لانتخاباتها وذلك لعمومات أدلة الأمانة وحفظ الحقوق ودفع الظلم والفساد وغيرها من الملاكات الشرعية. فضلاً عن الحكم العقلي القاضي بلزوم تحقيق الغرض من السلطة.

ولا يخفى أن أكثر المشاكل التي تعانيها أنظمة الحكم في العالم ترجع إلى سوء انتخاب الوزراء والأمراء والعمّال قصوراً أو تقصيراً والى فساد المسؤولين أو عدم كفايتهم، فيوجب ذلك تشتت الأمور ورجوع الأمة إلى الوراء في شتى المجالات، ولذا فإن العقل والشرع يحكمان باعتبار شروط ومواصفات في الولاة والوزراء والعمال يجب رعايتها وإعمال الدقة في تحقيقها، وإهمالها يعد خيانة للإسلام والأمة الإسلامية، ولعل من عمدتها العقد الوافي والإيمان والتخصص والتجربة والقدرة على التصميم والعمل والوثاقة والأمان والزهد والتعفف وما أشبه ذلك، وقد ورد في القرآن الكريم آيات عديدة مضافاً إلى ما ورد في السنة الشريفة من الأخبار استنتج منها الفقهاء شروطاً لتعيين الوزراء والعمال والقادة العسكريين والولاة وغيرهم.. ولعل من أبرزها ما يلي:

- الأول: شرط الإسلام فإن تولي الكفار من مصاديق السبيل والعلوّ على الإسلام والمسلمين وهما منهيان عنهما قال تبارك وتعالى: (لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً) وعلى النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله سلم): الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، والرواية الشريفة في مقام الإنشاء كالآية أو هي إخبار في مقام الإنشاء على الخلاف بين الفقهاء في ذلك، ومنه يستفاد بأن تولي الكفار للمناصب في السلطة التنفيذية على المسلمين حرامٌ كما أن ولايتهم باطلة.

- الثاني: أن لا يكون مرتكباً لجناية أو جنحة مخالفة للشرف، قال تبارك وتعالى: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين) والآية في مقام نفي المساواة بينهم.

- الثالث: أن لا يكون مسرفاً ولا جاهلاً ولا فاسقاً قال عز وجل: (ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون) حيث نهت الآية عن طاعة المسرفين لما يترتب عليه من الفساد في الأرض والفوضى، وعليه لو انطبق على السلطة التنفيذية جميعاً أو رئيساً أو وزيراً منها هذا العنوان حرمت طاعته بل ووجب عزلته لسقوط أهليته، وكذا الكلام في ولاية الجاهل والفاسق قال عز وجل: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)، وقال تبارك وتعلى: (أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون) ومن الشروط أيضاً المتفرعة عن ذلك أن لا يكون سفيهاً كما قال تبارك وتعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيام).

- الشرط الثالث: الأمانة والكفاءة الجسمية قال تبارك وتعالى:(قالت إحداهما يا أبتي استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين) وقال تبارك وتعالى: (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) وفي الآية إشارة إلى جواز تصدي من يجد في نفسه الكفاءة لهذا المقام، ولا يبعد رجحان ملاكه على ملاك التواضع والتزهد فيها الذين هما من الملاكات المندوبة أيضاً، بل لا يبعد القول بوجوب التصدي إذا لم يكن من فيه الكفاية من المتصدين لها.

هذا وهناك بعض الإشارات أو الدلالات لبعض هذه الأوصاف أو غيرها وردت في الروايات الشريفة نتعرض عنها في البحث القادم إنشاء الله تبارك وتعالى.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.