المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 31.doc

تعرّفنا فيما تقدم إلى الإشكال الذي ربما يرد على حجية الأكثرية في مقام ترجيح الأقوال وتصويب القرارات، وقلنا أن الحديث عن الأكثرية يتم من جهتين:

- الجهة الأولى: في مناقشة ما ورد في القرآن الكريم من آيات بذم الأكثرية.

- الثانية: في جواز اتباع نظام الأكثرية في إقرار القرارات والتوصيات والتصويبات في اللوائح القانونية.

أما الأول فقد ورد في القرآن الكريم آيات عديدة تذم الأكثرية وربما نصنفها بحسب الاستقراء إلى أصنافٍ عديدة:

- الصنف الأول: الآيات التي وردت تذم الأكثرية الجاهلة من الناس.

ومنها قوله عز وجل: (ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون).

ومنها قوله عز وجل: (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون).

ومنها قوله عز وجل: (ولكن أكثرهم يجهلون).

إلى غير ذلك من الآيات، والمستفاد منها أن الأكثرية ساقطة عن الحجية لأنها مذمومة من قبل الباري عز وجل والذم دليل عدم القبول وعدم الاعتبار، وعليه فلو كانت الأكثرية حجة لما ذمها القرآن الكريم، والظاهر إمكان المناقشة فيها وذلك للخروج الموضوعي عما نحن فيه من وجوه:

- أحدها أن الآيات الشريفة صريحة في أن ملاك ذم الأكثرية هو الجهل وعدم العلم ، وهو مشعر بعلّية الذنب وهو ما يستقل بحكمه العقل أيضاً، فإن من الواضح أن الواقع هو المطلوب أولاً وبالذات، والمطلوب هو الوصول إليه فالأقلية العالمة الواصلة إليه أحق من الاتباع من الأكثرية الجاهلة المخطئة أو المنحرفة عنه.

- ثانياً: إن الآيات ظاهرة في ذم الأكثرية المؤمنة بالخرافة في العقيدة وأصول الدين، ومن الواضح أن العقيدة وأصول الدين يجب الإيمان بهما عن علم وبرهان، وما نحن فيه خارج عن ذلك موضوعاً لكونه يرتبط بالشؤون العملية العامة من الفروع، وعلى هذا تحمل الروايات الدالة على أحقية الأقلية ورجحان الأخذ بها كما ستعرف.

- ثالثاً: أن الآيات الشريفة تشير في الذم إلى الأكثرية غير المتعلمة والتي بسبب جهلها تتبع الأباطيل وأما الذين يعلمون فهم مستثنون من هذا الذم، لأنهم لا تشملهم الآية الشريفة في قوله عز وجل: (لا يعلمون)، وعليه فإن اتباع رأي الأكثرية العالمة غير معني بهذا الذم والأكثرية العالمة هي الأكثرية المسلمة كما هو واضح لصحة عقيدتها.

وعليه فإن هذا الصنف الأول من الآيات لا يمكن الاعتماد عليه في إسقاط حجية الأكثرية.

- الصنف الثاني من الآيات: وهي الواردة في ذم الأكثرية لكون اتباعها من قبيل اتباع الظن والظن ليس بمعتبر شرعاً.

منها قوله عز وجل: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن).

وقوله عز وجل: (وما يتبع أكثرهم إلا ظناً إن الظن لا يغني من الحق شيئاً).

إلى غير ذلك من الآيات، والمستفاد منها على ما هو الظاهر أو الأظهر أن إطاعة الأكثرية مضلة لأنها من مصاديق اتباع الظن، وهو ليس بحجة بل ذهب المشهور من الأصوليين إلى حرمة التعبد به والجواب أن ما نحن فيه خارج موضوعاً عن العمل بالظن أيضاً وذلك لأن الكلام في صورة ترجيح الأكثرية لأهل الخبرة وذوي العلم والوجاهة، وهؤلاء لا يتبعون الظن في شؤونهم بل يعملون بما لهم به من علم، فهم خارجون موضوعاً عن الآيات الشريفة، ولذا تسالمت كلمة الفقهاء على حجية أقوال أهل الخبرة في الموضوعات وقامت عليه سيرة العقلاء في تدبير أمورهم الدينية والدنيوية.

- الصنف الثالث من الآيات: وهي الآيات التي تذم الأكثرية من أهل الكتاب ونحوهم.

منها قوله عز وجل: (قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وإن أكثركم فاسقون).

ومنها قوله عز وجل: (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثركم فاسقون).

إلى غير ذلك من الآيات، ودلالتها لا تشمل ما نحن فيه بداهة أنها تذم الأكثرية الناشئة من الفسق، وأما أكثرية الإيمان والعدالة فلا، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنها ذمت الأكثرية التي اتبعت الديانات الأخرى أو الشرك، وأما الأكثرية في الإسلام بين المؤمنين والمسلمين فلا، فتخرج مورداً عما نحن فيه.

- الصنف الرابع: الآيات التي وردت فيها عبارة أكثر الناس.

وهي كثيرة كما لا يخفى على المتتبع، لكنك تعلم بأن ظاهر أكثر الناس هو عموم الناس، وعموم الناس لا يصدق على أكثر أهل الحل والعقد، أو أكثرية أهل الاختصاص أو الخبراء وما أشبه ذلك، وإلا فهل يقال لأكثرية الفقهاء أكثر الناس، أو أكثرية البشرية أو ما أشبه ذلك، فإن من الواضح أن العام لا يدل على الخاص وعليه فالآيات الشريفة تخرج بالخروج الموضوعي عن الأكثرية المقصودة هنا، وخلاصة القول إن الله عز وجل لم يذم الأكثرية مطلقاً بل ذمهم في زمان كون الأكثرية منحرفة عن سبيل الله، ولذا لم يكن الأمر كذلك فيما إذا كانت أكثرية نسبية كما في سبيل المؤمنين، أو أكثرية أهل الخبرة إذا ذهبوا إلى شيء أو كان أكثرية مطلقة إذا كان أهل الأرض مؤمنين.

- الثاني: وهو في وجه جواز اتباع نظام الأكثرية في إقرار القرارات، والظاهر أن النص والسيرة قاما على اعتبار هذا النظام فمن ناحية يؤكد القرآن الكريم على اتباع مبدأ الشورى، ومن الواضح أن أحد العناصر المهمة في هذا المبدأ هو العمل برأي الأكثرية لذا كانت استدلالات العلماء على الأكثرية مستندة إلى آية الشورى، هذا مضافاً إلى سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) فإنها أيدت مبدأ الأكثرية إذ كان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) يأخذ برأي الأغلبية عندما يختلف الأصحاب في موارد الشورى، كما وقع في غزوة أحد على المعروف في كتب التاريخ. وربما يستأنس له بسيرة الفقهاء في موارد ترجيح الروايات فإنهم يأخذون بالأحاديث المسندة إلى العدد الكثير من الرواة حيث يصبح الحديث متواتراً أو مشهوراً كل ذلك من زاوية الترجيح وليس الحقيقة الكاملة، فحكم الأكثرية ليس معياراً للصواب دائماً، لأننا في الوقت نفسه نجد أن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) أهمل رأي الأكثرية في مواطن والذين قالوا بالأكثرية لم يقولوا بأنها المعيار للحق والصواب، بل في حالة الاختلاف حيث يضطر لترجيح أحد الأقوال على غيره لأن يؤخذ برأي الأكثرية من باب الترجيح، وهذا ما عليه جمع من الفقهاء، ولعله المجمع عليه للإتفاق عليه من حيث الكبرى.

قال السيد الشيرازي (قدس) في كتابه (الحكم في الإسلام) في صفحة 52: أما إذا حدث في الانتخاب أكثرية وأقلية فالرئيس هو منتخب الأكثرية، ويدل عليه أمورٌ منها أنه ظاهر قوله تعالى: (أمرهم شورى) و(شاورهم في الأمر) إذ الغالب الذي يندر خلافه أن ينتهي الشورى إلى إجماع الكل، بل الغالب انتهاء الأمر إلى رأيين أو آراء ويكون الغلبة لرأي الأكثرية، وقد ذكر جملة من الأدلة على هذا المورد، وقريب منه ما ذكره بعض الأعلام في كتابه (دراسات في ولاية الفقيه) في الجزء الأول صفحة 553 ويقول الماوردي: إذا اختلف أهل المسجد في اختيار إمام عمل على قول الأكثرين، وذكر الغزالي: فإن اختلفوا كان النظر إلى الأكثرين.

وهذا كاشف عن توافق الرأي على ترجيح الأكثرية في موارد الاختلاف، هذا ولا يخفى أن التوسل برأي الأكثرية هو من باب حل المشكل ورفع الاختلاف، لا من باب أنه هو الصواب والحق دائماً كما هو الركيزة التي يقوم عليها النظام الديمقراطي عادةً، فإن النظام الديمقراطي حيث يقوم على مبدأ سيادة الأمة والذي يتمخض عند الالتزام برأي الأكثرية على أنه معيار للحق والصواب، وقد بينّا فيما تقدم تهافت هذا الرأي فإن معرفة الحق غير ممكنة إلا لصاحب الحق المطلق وهو الله تبارك وتعالى، وتشكل هذه النقطة خلافاً بين النظام الديمقراطي والنظام الإسلامي، فبينما لا يتقيد النظام الديمقراطي بأية التزامات أساسية ويعطي للأمة الحرية المطلقة لإقرار ما تريد إقراره نجد أن النظام الإسلامي يقر بالأمة بالحرية لكن في إطار الشرع، فلله ولاية على الأمة وعلى كل شيء في الكون والأمة تجسد هذه الولاية من خلال اتباع لشريعة الباري عز وجل، وخلافتها في الإسلام والإسلام منهج للوصول إلى الحقيقة وهو يقر بشرعية الأقلية إذا كان رأيها على الحق، فقد سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن جماعة أمته فقال: جماعة أمتي أهل الحق وإن قلوا، وكذلك قيل يا رسول الله ما جماعة أمتك؟ قال: من كان على الحق وإن كانوا عشرة. فيستفاد من هذه الروايات أن الحق هو رائد الإسلام وهو يميل معه أينما كان حتى لو كان في جماعة قليلة العدد حسب النص الأول، وحتى لو لم يتجاوز عددهم العشرة في مقابل المليون وما هو أكثر بناء على النص الثاني، لكن كل هذا في موارد الاعتقاد والإيمان ومعرفة الحقيقة، وأما في مقامات العمل والترجيح بين الأقوال والآراء والتصويبات في المجالس فحيث أن الحق لم يعرف في أحد الطرفين لا مجال إلا للالتزام بترجيح الأكثرية، هذا ما ينبغي الالتزام به في مقام العمل.

وأما الكلام في السلطة التنفيذية فنبحثه في أمور:

- الأمر الأول: في المقصود من السلطة التنفيذية والحاجة إليها.

والمتتبع لموارد استعمالها يجد أن السلطة التنفيذية يراد بها القوة التي تملك حق تطبيق القوانين الصادرة من السلطة التشريعية، وتلزم الناس بها كما يجب على الناس إطاعتها والالتزام بمقرراتها، وتشمل سلسلة المراتب الإدارية التي تشكل الحكومة بمختلف أصنافها ومهامها، ابتداءً من رئيس الوزراء ثم الوزراء ثم المدراء العامين وهكذا باستثناء القضاة ونحوهم، حتى تصل السلسلة إلى آخر موظف حكومي ملزم بتطبيق القرارات التي تصدرها الدولة المنتخبة من قبل الشعب، هذا ويحدث أحياناً أن يقتصر استخدام التعبير على رئيس الجمهورية والوزراء فقط، ويوصف بقية الجهاز التنفيذي على أنه جهاز الموظفين والإداريين، أو الإدارة، وفي حالة النزاع بالنسبة لتطبيق القانون وتفسيره فإن المرجع الأخير في ذلك هي السلطة القضائية، وأما أعمال السلطة التنفيذية فهي المتصلة بتحقيق الاستقرار الداخلي والدفاع والعلاقات مع الدول الأخرى وتنظيم اقتصاد البلد وتنظيم القضاة وتقديم الخدمات للمواطنين وتنشيط الاقتصاد والسوق، وقد تميزت الأزمنة المعاصرة بنمو السلطة التنفيذية على حساب السلطات الأخرى، ولذا يلاحظ من حين إلى آخر محاولات من السلطات التشريعية بوجه خاص لتأكيد وجودها ووظيفتها بطرق شتى، التي منها حجب الاعتمادات المالية عن مشاريع وخطط حكومية، كما تزداد السلطة التنفيذية اتساعاً ونفوذاً في البلدان التي تحكمها أنظمة مستبدة بخلافها في الأنظمة الاستشارية والديمقراطية على اختلاف التعبير.

وعليه فإن أهم وأعلى مراتب السلطة التنفيذية في واقعنا المعاصر هي الوزارة، والظاهر أنها حقيقة عرفية عامة وليست عرفية خاصة أو حقيقة شرعية أو متشرعية إذ ورد استعمال الوزارة في الأدلة الشرعية بمعناها اللغوي والعرفي في أكثر من آية ورواية، فمن الآيات ما في وزارة هارون لموسى (عليه السلام) كما قال تعالى عز وجل: (واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري)، وقال تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا) وفي الأخبار الشريفة عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) أن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) في قضية مخاطبته لعشيرته الأقربين في مسألة الدعوة قال: فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): قلت أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه، قال: فأخذ برقبتي ثم قال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا، كما ورد ذلك في تاريخ الطبري والكامل لابن الأثير، وشرح نهج البلاغة.

وفي أواخر الخطبة القاصعة في نهج البلاغة أن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) قال لعلي (عليه السلام): إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي ولكنك وزير. وفي مسند أحمد بسنده عن علي (عليه السلام) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: ليس من نبي كان قبلي إلا قد أعطي سبعة نقباء وزراء نجباء وإني أعطيت أربعة عشر وزيراً نقيباً نجيباً، سبعة من قريش وسبعة من المهاجرين.

وفي سنن أبي داوود بسنده عن عائشة قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزير صدق إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه، وإذا أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسي لم يذكره وإن ذكر لم يعنه.

وفي البحار عن أعلام الدين قال النبي (صلى الله عليه وآله): ما من أحد ولّي شيئاً من أمور المسلمين فأراد الله به خيراً إلا جعل الله له وزيراً صالحاً إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه وإن همّ بشرّ كفه وزجره. وفيه أيضاً عن أمالي الصدوق بسنده عن المفضل قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا أراد الله عز وجل برعية خيراً جعل لها سلطاناً رحيماً وقيض له وزيراً عادلاً.

وعليه فما في مقدمة ابن خلدون من قوله أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يشاور أصحابه ويفاوضهم في مهماته العامة والخاصة ولم يكن لفظ الوزير يعرف بين المسلمين واضح البطلان.

ويظهر مما تقدم من الروايات أن الوزارة عبارة عن رجل موثوق به في دينه وعقله يشاوره الحاكم أو السلطان أو الوالي فيما يعنّ له من الأمور، وربما يشتق اسم الوزارة من ثلاثة أوجه:

- أحدها: أنه مأخوذ من الوِزر، وهو الثقل لأنه يحمل عن الملك أثقاله.

- الثاني: أنه مأخوذ من الوَزر، وهو الملجأ ومنه قوله تعالى: (كلا لا وَزر) أي لا ملجأ فسمي لذلك لأن الملك يلجأ إلى رأيه ومعونته.

- الثالث: أنه مأخوذ من الأزر، وهو الظهر لأن الملك يقوى بوزيره كقوة البدن بالظهر.

وجميعها وردت في كتب اللغة، وربما يمكن اجتماع هذه المعاني الثلاثة بالوزارة بالمعنى السياسي المصطلح، بداهة أن الوزراء هم عماد السلطة والحكومة فهم يتحملون أعباء السلطة ومسؤوليتها كما أنهم ملجأ السلطان والناس معاً في تدبير الأمور ورفع المشكلات ونيل الحقوق، كما أنهم قوة الملك وظهره الذي يستند إليه ويظهر به في الملأ فإن كانوا حكماء علماء خبراء أفاضل، انعكس ذلك على سلطته فاتسمت بالقوة والمنعة وحسن التدبير، وإن كانوا على خلاف ذلك اتسمت الدولة بسمتهم ولعل هذا ما يستفاد من متظافر الأخبار أيضاً، فإن جملة منها تشير إلى ذلك تضمناً أو التزاماً، ففي الغرر عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): إذا ملك الأراذل هلك الأفاضل. وعنه (عليه السلام): تولي الأراذل والأحداث الدول دليل انحلالها وإدبارها. وعنه (عليه السلام): دولة الأوغاد مبنية على الجور والفساد. وعنه (عليه السلام): زوال الدول باصطناع السفل، أي السفلة من الناس. وفي البحار عن الغوالي عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): أصلح وزيرك فإنه الذي يقودك إلى الجنة والنار، وفي تحف العقول عن مولانا الصادق (عليه السلام): وليس يحب للملوك أن يفرطوا في ثلاث: في حفظ الثغور وتفقد المظالم واختيار الصالحين لأعمالهم، وفي منهاج البراعة في بعض المأثور قد قيل لحكيم ما بال انقراض دولة آل ساسان قال: لأنهم استعملوا أصاغر العمال على أعاظم الأعمال فلم يخرجوا من عهدتها، واستعلموا أعاظم العمال على أصاغر الأعمال فلم يعتنوا عليها فعاد وفاقهم إلى الشتات ونظامهم إلى البتات.

وبذلك يظهر أهمية الوزارة والوزراء في الدول والحكومات، كما يظهر وجوه الحاجة إليها وأبرزها اثنان:

- الأول: جهة النظم وتدبير الأمور، بداهة أن القانون مهما كان صالحاً راقياً فهو بنفسه لا يكفي في إصلاح شؤون المجتمع ورفع حاجاته العامة، فإن التنفيذ مكمّل للتشريع، ولولا التنفيذ يصبح القانون لغوياً، وعليه فإنه ما لم يكن هناك مسؤول يلتزم بإجراء القانون وتنفيذه يسقط عن الفائدة وينتقض الغرض منه، ولا يمكن أن يفوت تنفيذ التكاليف العامة المتعلقة بالمجتمع مثل نظم البلاد وإيجاد الأمن فيها والدفاع عنها وإجراء الحدود والتعزيرات ونحو ذلك إلى عامة المجتمع كما هو واضح، فإنه يوجب إهمال كثير من الأمور والفوضى والاختلاف فلابد من أن يفوّض كل قسمة منها إلى مسؤول خاص، يكون متخصصاً فيها ويصير ملتزماً بإجراءها كما قامت على قامت السيرة العقلائية في تدبير أمورهم، ولا تتحدد السلطة التنفيذية بشكل خاص أو عدد خاص أو مرتبة خاصة، بل كلما اتسع نطاق الملك وحيطته وتشعبت مسائل الحياة واحتياجاتها تشعبت الدوائر وكثر العمال قهراً.

نعم يجب رعاية الوسطية والجمع بين الحاجات والقدرات في توسعة الدوائر وإضافة الموظفين، فليس كثرة الدوائر علامة القوة وحسن التدبير في الدول، ولا قلتها علامة الحرص على مصالح الأمة بل قد تكون الكثرة مضطرة بالاقتصاد وبالمجتمع في مجالات عديدة، وقد تكون القلة مسببة للفوضى واختلال النظام وتضييع الكثير من الحقوق، فلابد إذاً من ملاحظة القصد وتجنب الإفراط والتفريط فإن كثرة العمال والموظفين توجب كثرة الدوائر وتفرقها وتضييع أوقات المراجعين ووضع ضرائب كثيرة على عاتق المجتمع، وكل ذلك ينتهي إلى التضخم والخسارات من جهات عدة، وقد كانت حكومة النبي (صلى الله عليه وآله) في غاية البساطة فكان هو (صلى الله عليه وآله) بنفسه يتولى قسماً كبيراً من الشؤون السياسية والقضائية والاقتصادية والعسكرية، نعم كان يفوّض بعض التكاليف والمسؤوليات أيضاً إلى الأفراد الصالحين للقيام بها بحسب الضرورات والحاجات، فكان يعين الولاة على البلاد والجباة على الصدقات والأمراء للسرايا في بعض الغزوات ويرسم لهم تكاليفهم ومنهجهم كما ورد ذلك في التاريخ وستعرف عنه بعض الشيء، وكذلك هذا هو الملحوظ في البساطة في حكومة مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) مع سعة نطاق حكومته وكثرة البلاد التي كانت تخضع لسلطته، فالمهم إذاً هو إنجاح الطلبات ورفع الحاجات والعمل بالتكاليف بأسهل الطرق وفي أسرع الأوقات والأزمان وبأقل المؤونات جمعاً بين الحقوق، وبذلك يستقر الحكم ويكتسب رضا الأمة الذي هو الضمانة لبقاء الدولة وانتشار الأمن والسلام. قال مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) على ما في نهج البلاغة في كتابه للأشتر النخعي: وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية فإن سخط العامة يجحف برضا الخاصة وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة.

وفي رسالة المحكم والمتشابه للسيد المرتضى (رضوان الله عليه) عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): لابد للناس من إمام يقوم بأمرهم وينهاهم ويقيم فيهم الحدود ويجاهد فيهم العدو ويقسّم الغنائم ويفرض الفرائض أبواب ما فيه صلاحهم ويحذرهم ما فيه مضارهم إذا كان الأمر والنهي أحد أسباب بقاء الخلق وإلا سقطت الرغبة والرهبة ولم يرتدع ويفسد التدبير وكان ذلك سبباً لهلاك العباد فتمام أمر البقاء والحياة في الطعام والشراب والمساكن والنكاح من النساء والحلال الأمر والنهي.

وعن مولانا الباقر (عليه السلام): إن الله تعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة إلا أنزله في كتابه وبينه لرسوله وجعل لمن تعدى الحد حداً. كما ذكره الحر العاملي (رضوان الله عليه) في كتاب الوسائل.

وعنه (عليه السلام): لا تبطل حدود الله في خلقه ولا تبطل حقوق المسلمين بينهم، ومن الواضح أنه لولا السلطة المطبقة للحدود والمنفذة للقوانين تبطل الحقوق ويأكل الضعيف من الناس القوي. وعن مولانا الكاظم موسى بن جعفر (عليه السلام) في تفسير قول الله عز وجل (يحيي الأرض بعد موتها) ليس يحييها بالقطر ولكن يبعث الله رجالاً فيحيون العدل فتحيا الأرض لإحياء العدل لإقامة الحد فيه أنفع في الأرض من القطر أربعين صباحاً كما في وسائل الشيعة.

إلى غير ذلك من الروايات الصريحة الحاثة على إجراء الحدود مضافاً إلى الآيات الشريفة الحاثة بدورها على وجوب العمل بأحكام الله سبحانه وتعالى بلا تفريق بين الأحكام المتعلقة بالأفراد أو الأحكام المتعلقة بالمجتمع والأمة، وقد عرفت ذلك مما تقدم.

- الثاني: حفظ الحقوق ونشر المعروف وقطع دابر المنكر والفساد، فإضافة إلى فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواجبة على العباد في الأبعاد الفردية فإن هناك تكاليف أخرى في الأبعاد الاجتماعية فإن الأدلة النقلية ظاهرة بل صريحة في جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعامة لإقامة الفرائض وسبيلاً إلى أمن الطرق والمسالك ورد المظالم وردع الظالم ووسيلة إلى عمارة الأرض والانتصاف من الأعداء وهي أمور صعبة المنال لا تتحقق إلا بجهاز قادر متمكن، ومن هذه الأخبار ما عن مولانا الباقر (عليه السلام): إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء بها تأمن المذاهب وتحل المكاسب وترد المظالم وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر، كما في الوسائل.

ومن المعلوم أن الأمر والنهي المؤديين إلى أمان الطرق والمسالك وعمارة الأرض والانتصاف من الأعداء للمظلومين لا يتيسر إلا بسلطة مشرفة ومراقبة بعين مفتحة وبجهاز تنفيذي قوي وسلطة إجرائية قادرة على تنفيذ ذلك، تتحمل عبء الأمر والنهي على المستوى العام وبواسطة أجهزتها وتنظيماتها، هذا وقد احتمل بعض الأعلام أن ذكر الأنبياء في الحديث الشريف لعله يوحي بأن الأمر والنهي المذكورين هنا هو ما كان مقروناً بالحاكمية والسلطة، على غرار ما كان للأنبياء (عليهم السلام) حيث كانوا يمارسون مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غالباً من موقع السلطة والحاكمية والولاية لا من موقع الفرد ومن موضع التبليغ ومجرد الوعظ والإرشاد الفردي ولعل مما يؤيد ذلك ما ورد عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه قال: لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات وسُلّط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء.

وعن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام مع رد المظالم ومخالفة الظالم وقسمة الفيء وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقها، ومن البين أن مخالفة الظالم وردعه وإيقافه عند حده كما أن تقسيم المال بين المسلمين بصورة عادلة وأخذ الصدقات والحقوق المالية المتعلقة في ذمة المسلمين يتضمن الإشارة إلى التنظيم الاقتصادي على المستوى العام للمجتمع ولا يتأتى ذلك عن طريق الأمر والنهي الفرديين المنحصرين غالباً في إطار الموعظة، بل يحصل ويتحقق بوجود جهاز تنفيذي حاكم وسلطة إجرائية تتولى إدارة دفة البلاد وفق تعاليم الإسلام وأحكامه فإن مثل هذا الأمر والنهي يحتاج إلى استعمال القوة لإجراء الحدود والعقوبات وتنفيذ الأحكام الجزائية وتقسيم الأموال وما أشبه ذلك وهي أمور لا يمكن أن تحقق عادة إلا في ظل سلطة وجهاز تنفيذي متين.

ومن هنا تكون الوظيفة العمومية وما يترتب عليها من الحبس والتأديب والقصاص وما شابه مقتضية بوجود سلطة تنفيذية يعهد إليها الأمر والنهي الاجتماعيين العموميين الذين فيهما صلاح عامة الناس واستقامة أمورهم عامة، وربما يمكن استفادة هذا المطلب من كلام مولاتنا الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) إذ ورد عنها: الأمر بالمعروف مصلحة للعامة إذ أي أمر بالمعروف يمكن أن يكون مصلحة للعامة إذا لم يكن القائم به جهاز ذو قدرة وسلطان يقوم بذلك عن طريق التشكيلات والتنظيمات والتنفيذ العام كما ربما يستفاد ذلك أيضاً مما ورد عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يتحدث عن واجبات الوالي والحاكم يقول: اللهم إنك تعلم إنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنرد المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطلة من حدودك ومن الواضح أنه لا يتحقق أمان المظلومين وإقامة الحدود المعطلة وإظهار الإصلاح العام في البلاد وتطبيق السنن الإلهية والأحكام الربانية من دون استثناء إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذين يقومان على سلطة وجهاز تنفيذي قوي، إذ كيف يمكن قيام الفرد أو الأفراد بكل ذلك وهو بحاجة إلى قدرة وتمكن ونفوذ أمر وسلطان؟ وبذلك ربما يجمع بين الطائفتين من الآيات والروايات اللتين يضع قسم منها هذه الوظيفة على عاتق الجميع، وقسم منها على عاتق جماعة خاصة، فالأول راجع إلى الوظيفة الفردية منهما وهو الذي يجب على الجميع، والثاني راجع إلى الوظيفة الاجتماعية التي تختص بأمة متمكنة من السلطة. وهذا لا يتنافى مع الواجب الكفائي إذ يمكن أن يكون الواجب الفردي كفائياً بالنسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في موارده الشخصية كما يكون على نحو الواجب الكفائي في الأمور العامة إذا تصدى لإدارة الدولة ونظام الحكم جماعة مما فيهم الكفاية والكفائة.

ولعل مما يعبد ذلك أمور:

- أحدها: فتوى الفقهاء في باب الحدود، والتي تظافرت على أنه لو وجب قتل مسلم قصاصاً لم يجز لأحد أن يقتص منهم إلا ولي الدم بإذن الحاكم أو الحاكم نفسه فلو قتله غيره كان عليه القود، على تفصيل ذكره الفقهاء في باب الحدود.

- ثانيها: ذكر الفقهاء للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر شروطاً أربعة، هي:

- أولاً: أن يكون عارفاً بالمعروف من المنكر.

- ثانياً: أن يحتمل تأثير إنكاره فلو غلب على ظنه أو علم أنه لا يؤثر لم يجب عليه شيء.

- ثالثاً: أن يكون الفاعل للمنكر مصراً على الاستمرار، فلو لاحت منه أمارة الامتناع أو قلع عنه سقط الإنكار.

- رابعاً: أن لا يكون في الإنكار مفسدة، فلو ظن توجه الضرر إليه أو إلى ماله أو إلى أحد من المسلمين سقط عنه الوجوب كما ذكره المحقق الحلي (رضوان الله عليه) في الشرائع.

ومن المعلوم أن الشرط الثاني والثالث من قسمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا الاجتماعي منهما إذ لا يعتبر في الاجتماعي من هذه الفريضة احتمال التأثير بل للحاكم أن يجري الحدود والعقوبات المقررة فيقتص من القاتل أو الجارح ويقطع يد السارق سواء أكان هناك تأثير أو لا لو توفرت سائر الشرائط.

وأما المؤيد الثالث فنتعرض إليه في البحث القادم.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.