المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 29.doc

   عرفنا مما تقدم بعض وجوه الاستدلال على وجوب البيعة مطلقة في تولية الحكام وإعطاء شرعية الحكم وقد استدل بالسيرة العقلائية الجارية عند العرب التي أمضتها سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أخذه البيعة من الناس كما تعرض إليه القرآن الكريم وأيدته سيرة بعض الصحابة من بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن في الاستدلال المذكور وجوه للتأمل والنقاش:

- الوجه الأول: قصور الأدلة المذكورة عن شمول البيعة للحكومة أما الآيات الشريفة فكانت في شؤون خاصة كالمبايعة على الموت في وقت هم بحاجة إلى الثبات وفي بعضها مبايعة على عدم الشرك والزنا ونحوها في وقت هم بحاجة إلى نشر الإيمان وترويج الفضيلة فالاستدلال بها على الحكومة استدلال على الخاص بالعام وهذا منطقياً باطل ويؤيده أن نفس المعاني التي ذكرها اللغويون بعيدة عن إنشاء الإمرة والحاكمية بل غاية ما تدل عليه هو الالتزام وبذل الطاعة وفي الروايات الشريفة انهم بايعوه عل الموت كما في يوم الحديبية وفي مجمع البيان بايعوه على أن لا يفروا وعليه فإنه لا يستفاد من الروايات أن المبايعة كانت على الترشيح أو السلطنة وإنما كان على أمور خاصة ولو لاحظنا ما ذكر في الآيتين الشريفتين من مورد البيعة نلاحظ انه لم يرد ذكر للحاكمية على الإطلاق بل وردت المبايعة والالتزام بأمور أوجبها الإسلام كعدم الشرك وترك الزنا وعدم العصيان وهي أمور يجب الالتزام بها ويحرم على الناس تركها فما الذي أفادته البيعة إذاً مما يكشف عن أن البيعة تعبير ظاهري وخارجي عن ذلك الالتزام فهي أولاً لم يكن موردها الحاكمية لأن حاكمية الرسول ثابتة من عند الله عز وجل وثانياً لم تكن فيه عملية نقل أو إنشاء ولاية وهذا يعني أن للبيعة معنى آخر ليس ما ذكر.

- الوجه الثاني: على فرض أن المبايعة تشمل الحكومة من باب التسليم فمع وجود النص تحمل على التأكيد لا التأسيس بمعنى جعل المكلف التزاماً إضافياً في ذمته مقابل الإلزام الأولي كما هو الشأن في النذر أو العهد أو اليمين على الإتيان بالفرائض والواجبات فإنها تضيف التزاماً زائداً على أصل الإلزام والبيعة كذلك فالمبايع ينشأ التعهد بالتزام حاكمية ذلك المبايع مع أن أصل الحاكمية ثابت في رتبة سابقة وليس سبب الحاكمية هو المبايعة بل قد تكون في بعض صورها أداء لأمر واجب عليهم كما في مبايعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام المعصوم وعليه فالبيعة تكون نوع توثيق وزيادة تعهد وتغييب التكليف والثبات على من نص على ولايته وقوله عز وجل إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله فلأن طاعته طاعة الله عز وجل وعصيانه عصيان لله سبحانه وتعالى وليس لتأسيس ولاية أو إعطاء شرعية السلطة ويؤيده بعض الروايات الواردة في أن شأن بيعته لم تكن في مسألة الحكومة منها ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): فإن آمنتم بي فبايعوني على أن تطيعوني وتصلوا وتزكوا.

وفي رواية أخرى وان تدفعوا عني العدو حتى الموت. وفي رواية ثالثة ولا تفروا من الحرب مما يستفاد من هذه الروايات أن البيعة لم تكن للتنصيب أو لتعيينه حاكما وإنما هو نوع ميثاق بين شخصين والتزام مشمول بأدلة التعاهد وما أشبه ذلك فلذا يجب العمل بمفاد البيعة ويحرم نقضها ونكثها ولعل من هذا أيضاً ما ورد عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في الحث على الوفاء بالبيعة ويقول: وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب والإجابة حين أدعوكم والطاعة حين آمركم كما في نهج البلاغة ومن مراجعة مجموع خطب الإمام (عليه السلام) في نهج البلاغة يتضح أن نكث البيعة إنما هو نقض للميثاق لا سواه وان نكث البيعة من الذنوب الكبيرة لأنه عزل للحاكم وإزاحته عن منصب الولاية فبناء على هذا من مجموعة هذه الأدلة يستفاد بأن البيعة مع المعصوم لم تكن بيعة تنصيب وإنما كانت نوع التزام بالطاعة والانقياد إليه وإظهار ذلك للخارج.

- الوجه الثالث: أن الروايات طافحة بعبارات أمثال الأمر لله يضعه حيث يشاء كما عرفته مما تقدم وهذا يعني أن البيعة ليست تولية وتنصيب وخصوصاً إذا لاحظنا ما دار بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين عامر بن صعصعة حيث دعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه فقال له رجل منهم إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك قال (صلى الله عليه وآله وسلم) الأمر لله يضعه حيث يشاء مما يكشف عن عدم حجية البيعة مع وجود النص إلا بقدر الإظهار والإعلام نعم لو كان كلام في اعتبارها فينبغي أن يكون في صورة عدم وجود النص كما في زماننا هذا.

- الوجه الرابع: فإن الاستدلال بسيرة العرب قبل الإسلام غير تامة وذلك لأنه مضافاً إلى عدم حجية سيرة العرب بذاتها فإنها مجملة ولا تدل على قيامها حتى مع وجود النص بل بحكم العقل جعل البيعة في قبال النص لا فائدة منه بل الحق أولا وبالذات للنص لأنه من قبل الخالق المالك وعليه فإن صحت في غير مورد النص كان على المطلوب أدل هذا مضافاً إلى قيام النص على عدم اعتبارها مع اختيار الله والرسول للحاكم كما في قوله عز وجل: (ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وقال عز وجل: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) وعليه فإذا نص الله ورسوله على حاكم وبايعت الأمة آخر فإن مقتضى الإيمان والإسلام بل والتكليف هو الأخذ بالنص لا بالبيعة.

وأما سيرة الصحابة بعد النبي فإنها كانت بيعة واحد أو جماعة قليلة وليست بيعة الأمة وكلامنا في رضا الأمة لا رضا الفرد أو الجماعة وعليه فهي خارجة موضوعاً عما نحن فيه مضافاً إلى ما عرفت أنه لا مجال للصحابة بالبيعة بعد أن نص الرسول على الإمام (عليه السلام) من بعده وعين مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) حاكما وخليفة وأمرهم بمبايعته ومناداته بإمرة المؤمنين كما في متواتر أخبار الفريقين.

إن قلت لكن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يهاجر إلا بعد أن أخذ البيعة من أهل المدينة وإن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يرضى أن يستلم السلطة إلا بعد البيعة وهذان تصرفان يدلان على وجود خصوصية في البيعة فإنه يقال إن الرسول الأكرم قبل أخذ البيعة قام بالدعوة إلى الإسلام وبيان حقيقة رسالته فحصل انجذاب أفراد المجتمع إليه ومن ثم أخذ منه البيعة وهكذا يقال في سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) فبعد إيمان الناس بالإمام وأنه الشخصية التي تنقذهم من مساوئ الانهيار والتفكك والطبقية التي أنشأتها السياسة السابقة عليه فالغرض من المبايعة كان هو التغليظ والتوكيد والاحتجاج على من يخالف في ذلك وإظهار البيعة طمأنة للقلوب والنفوس وإلزاماً لهم للالتزام بمقتضى البيعة وهكذا يقال في ولاية أمير المؤمنين وبيعة الحسن وبيعة أهل الكوفة وحواليها للحسين بتوسط نائبه مسلم بن عقيل وهكذا ربما يمكن أن يقال في أخذ البيعة للحجة المنظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) فالبيعة في كل هذا ضرب من التوثيق والتغليظ في المتابعة وإظهار الطاعة من باب الاحتجاج والحجية وليست هذه البيعة بيعة تنصيب أو تعيين للمعصوم.

وأما ما ورد في مبايعة المسلمين للرسول الأكرم في الحديبية فسببه كما في بعض الأخبار أن المسلمين لم يريدوا إيقاع الصلح مع المشركين خلافاً لرأي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث كان يرى في الصلح انتصاراً للمسلمين وعزة وقوة لهم وإذلالاً للكافرين حيث اعترفوا بمفاد هذا الصلح أن للمسلمين كيان ودولة ورئيس معترف به فيكون أكبر انتصار سياسي للمسلمين لكن غالبية من كان مع الرسول لم يتفطن إلى حكمة الرسول فازدادت الشقة بينهم وبعد تمامية الصلح وقبل رجوعه إلى المدينة أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجدد مع المسلمين التزاما وتعهدا بمناصرته التي هي في الأساس واجبة عليهم بحكم وجوب الطاعة للرسول فبناء على هذا كانت البيعة منهم بيعة تأكيد وإظهار وليست بيعة تنصيب وما ذكر من الروايات تؤكد هذا المطلب.

وأما ما ورد عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) الذين تخلفوا عن بيعته أيها الناس إنكم بايعتموني على ما بويع عليه من كان قبلي و أن الخيار للناس قبل أن يبايعوا فإذا بايعوا فلا خيار لهم فإن مثل هذا القول على مطلوبنا أدل لأنه في مقام الاحتجاج عليهم وبيان أن البيعة لا مجال لها مع وجود التنصيب من قبل الباري (عز وجل) والرسول وذلك لأن صدر الخطاب ورد بهذا النص كما في كتاب سليم ابن قيس حيث ابتدأ الناس هكذا إن كانت الإمامة خيرة من الله ورسوله فليس لهم أن يختاروا وإن كانت الخيرة للناس فقد بايعني الناس بالشورى مما يكشف عن أن البيعة لا مجال لها مع وجود النص وأما البيعة مع عدم وجود النص هذا من باب الإلزام لهم لأن القوم أنكروا وجود النص على خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) فإذاً إذا أنكروا النص على خلافته كان لا بد من الالتزام بأن الخيار يرجع إلى الأمة كما بيناه سابقاً من التأخر الرتبي لاختبار الأمة بعد النص وعليه فهو في مقام إلزام فيما يلتزمون إذ هم يلتزمون بأن الحكم بالشورى وهو احتج عليهم بنفس هذا ومن الواضح أن نقض بيعة المعصوم تستلزم الخروج من الدين واتباع غير سبيل أهله كما نصت فيه الأخبار وعليه فمما يكشف هذا على أنه لا مجال للبيعة مع وجود النص.

- القول الثاني: أن البيعة ليست بمعتبرة مطلقة ولا حجية لها وذلك لأن ما نصبه الله لا فائدة لبيعته ومبايعته وجوداً أو عدماً وسيرة الرسول وأمير المؤمنين كانت من باب الحجة أو الإلزام أو من باب التقية وليس من باب إثبات اعتبار البيعة في مقام التنصيب للحاكم المعصوم وأما في زمن الغيبة فلا دليل يثبت اعتبار البيعة في تنصيب الحاكم وعليه فإن الحاكم إذا كان من المنصوص عليه بالنص الخاص لا مورد للبيعة وإذا كان الحاكم غير منصوص عليه كما في زمن الغيبة فإن اعتبار البيعة حجة في مقام تنصيب الحكام وتعيينهم يحتاج إلى دليل ولا دليل على ذلك ولعل هذا ما اختاره جمع من الفقهاء منهم المرحوم السيد الشيرازي (رضوان الله عليه) كما في كتابه الحكم في الإسلام في كتابه الفقه السياسة وحيث ذهب إلى عدم وجود الدليل المعتبر على البيعة وقال بأنها لا شأن أساسية لها في تشكيل الحكومة كما وجه بيعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على أنها كانت مظهرة وليست معينة قال في الفقه السياسة في الجزء الثاني ص277 بعد أن أشكل على نظرية البيعة قال فالبيعة كانت نوعاً من التأكيد فالبارع يبيع نفسه وأهله وماله لله في قبال أن يعطيه الله الجنة كما قال سبحانه: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) هذا بالإضافة إلى أنه لم تكن البيعة انتخاباً للرسول لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بايعوه أم لا بل كانت إظهارا وتأكيداً ولذا بايعوه تحت الشجرة في صلح الحديبية مع أنهم كانوا قد بايعوه قبل ذلك وكانت علة هذه البيعة التأكيد وإرهاب الكفار فالبيعة لا شأن لها ولذا إذا انتخبوا بدون البيعة كان لازماً وإذا بايعوا بدون المؤهلات كانت باطلة نعم من بايع كان الأمر عليه آت فمن نكث فإنما ينكث على نفسه كما أن حجة الوالي عليه تكون أقوى حيث أن الوالي يستدل ببيعته على أنه انتخب من قبل فلا حق له في النقض ولذا استدل الإمام (عليه السلام) على الناكثين بأنهم بايعوه ولذا كان خلفاء الجور يجبرون الناس على البيعة بالسيف حتى يستدلوا بعد ذلك لجهلة الناس بأنه بويع لهم بالخلافة ثم قال وكيف كان فالبيعة لا شأن أساسية لها في تشكيل الحكومة هذا وقد ذهب إلى ذلك أيضاً بعض الفقهاء المعاصرين لكنهم وجهوا بيعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام (عليه السلام) على أنها نوع من الإلزام للطرف المقابل لأنه كان يلتزم بشرعية البيعة فكانوا يلزمونه بها أيضاً وخصوصاً ما ورد عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) من الأخبار والروايات فإنها من مجموعها يستفاد منها أنه كان في مقام الاحتجاج على الخصم المعتقد بالبيعة وهناك قرائن دالة على ذلك منها ما ثبت من ضرورة المذهب من أن إمامته (عليه السلام) كانت من نصب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن قبل الباري عز وجل وهكذا إمامته لا تحتاج إلى بيعة الناس ويشهد لها الأخبار المتواترة كما ورد في حديث الغدير وغيره.

ومنها الروايات الدالة في نهج البلاغة الدالة على أنه (عليه السلام) كان إماماً بالوراثة عن النبي كالخطبة الشقشقية وغيرها ومنها الاحتجاج بالبيعة التي وقعت للخلفاء الثلاثة ولا ريب أنه كانت من باب الجدل عندهم.

ومنها كون المخاطب في غير واحد منها معاوية وطلحة والزبير وأمثالهم من الذين كانوا لا يقبلون النص في حقه إلى غير ذلك من القرائن وعليه فلا دليل على حجية البيعة فضلاً عن اعتبارها في مقام تعيين الحاكم وتنصيبه.

- القول الثالث: أن البيعة بذاتها ليست بحجة بل هي صيغة لإنشاء العقد والتولية في الحكومة كما هو الشأن في العقود فإن الرضاء الباطني غير كاف في العقود ما لم يكن هناك مبرز ومظهر للقصد والإنشاء كما دل على ذلك الأخبار أيضاً ومنها إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام والبيعة هنا كذلك فما تبرزه هو التزام الناس بالولاء والطاعة وما يبرزه الحاكم بقبول البيعة هو القيام بشؤون الناس وربما ينظر لذلك بتصنيف الفقهاء للمعاملات إلى صنفين استفادة من الأدلة الواردة في بابها فإن الفقهاء صنفوا الأدلة في باب المعاملات إلى قسمين أدلة صحة وأدلة لزوم وعنوا بأدلة الصحة الأدلة التي تتعرض إلى ماهية المعاملة وحقيقتها وأنها مطابقة للشروط الشرعية أم لا وبالتالي هل هي صحيحة أم لا والثانية تتعرض إلى المعاملة الصحيحة وتحكم بلزومها أو عدم لزومها والفرق بينها أنها لو حكم بلزومها فلا يجوز فسخ المعاملة بعد ذلك وبتعبير آخر الفرق بينهما في الموضوع والمحمول أما في الموضوع فموضوع أدلة الصحة هي الماهية المعاملية بفرض وجودها عند متعارف العقلاء وموضوع أدلة اللزوم هو المعاملة الصحيحة عند الشر فإذاً أدلة اللزوم متأخرة رتبة عن أدلة الصحة وأما محمولة ففي أدلة الصحة المحمول هو صحة المعاملة وإثبات وجودها الاعتباري في اعتبار الشارع وأما أدلة اللزوم فمحمولها هو لزوم المعاملة وعدم جواز فسخها والتفريق بين هذين الصنفين من الأدلة مهم جداً وتترتب عليه الآثار الشرعية فإنه لا يمكن التمسك بعموم المؤمنون عند شروطهم إذا شك في صحة ماهية المعاملة لأن مثل حديث المؤمنون عند شروطهم يجري في أدلة اللزوم لا في أدلة الصحة وعليه يمكن أن يقال بأن أدلة البيعة أيضاً يمكن تصنيفها من ضمن هذا التصنيف فيقال بأنها تدخل في ضمن أدلة الصحة أم تدخل في أدلة اللزوم ومقتضى التعاريف اللغوية والفهم العرفي بل والاصطلاحي أنها بمعنى العهد ولذا ينبغي أن تصنف في أدلة اللزوم لا في أدلة الصحة وهذا يعني أن هذه الأدلة لا تتعرض لمورد البيعة وان المبايعة لهذا الوالي صحيحة أم لا بل يجب أن يثبت في مرتبة سابقة صحة ولاية الوالي وشرعية توليه للحكم ومن أدلة أخرى أن التولية لهذا الشخص ممكنة وواجبة ثم تأتي البيعة وتوثق وتؤكد الأمر الثابت سابقاً وعليه فعنوان البيعة كعنوان العقد والشروط تعرض على ماهيات أولية مفروغ من صحتها فيستفاد منها إذاً أن البيعة بذاتها لا مدخلية لها سوى التوثيق والتأكيد وهذا مآلاً يرجع إلى القول الثاني إلا أنه ببيان آخر ولعل هذا ما اختاره جمع منهم ما في دراسات في ولاية الفقيه حيث حمل النصوص الواردة في تعيين النبي والإمام على الرسالة والإمامة لا الحكومة وحمل السيرة على البيعة في باب الحكومة قال في الجزء الأول ص526 لما ارتكز في أذهان الناس على حسب عادتهم وسيرتهم ثبوت الرئاسة والزعامة بتفويض الأمة وبيعتهم وكانت البيعة أوثق الوسائل لإنشائها وتنجيزها في عرفهم طالبهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك لتحكيم ولايته خارجاً فإن تمسك الناس بما عقدوه بأنفسهم والتزامهم بوفائه واحتجاجهم به أكثر وأوثق بمراتب فالمراد بالتأكيد إيجاد ما هو الوسيلة لتحقق الولاية عند الناس أيضاً ليكون تحقق المسبب أقوى وأحكم ولا محالة يترتب عليه الإطاعة والتسليم خارجاً والظاهر أن البيعة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت على حكمه وولايته لا على رسالته إذ الرسالة يكفي فيها الإيمان والتصديق.

وبالجملة إذا كان لتحقق أمر طريقان وكان أحدهما أعهد عند الناس وأوثق وأنفذ فإيجاده بالطريقين يوجب تأكده قهراً كما ومقتضى اجتماع العلل على معلول واحد وقد عرفت منا أن الإمامة كما تحصل بنصب الله تحصل بنصب الأمة أيضاً بالبيعة ولا يخفى أن كلامه فيه نوع من الاضطراب إذ يراوح بين أن تكون البيعة مجرد إظهار وإعلان وتأكيد للطاعة والإلزام فينطبق مع القول الثاني أو هي تنصيب وجعل كما يستظهر من كلامه في أنه فرق بين الرسالة وبين الحكومة وقال أن البيعة يمكن أن تنصب الإمام ويكفي هذا الاضطراب في عبارته مؤونة المناقشة فبه ولعل هذا الاضطراب يظهر من كلمات السيد الصدر (قدس سره) أيضاً في كتابه الإسلام يقود الحياة حيث قال إن التأكيد على البيعة للأنبياء وللرسول الأعظم وأوصياءه تأكيد من الرسول على شخصية الأمة وإشعار لها بخلافتها العامة وبأنها بالبيعة تحدد مصيرها وأن الإنسان حينما يبايع يساهم في البناء ويكون مسؤولاً عن الحفاظ عليه ولا يشك في أن البيعة للقائد المعصوم واجبة لا يمكن التخلف عنها شرعاً ولكن الإسلام أصر عليها واتخذها أسلوبا للتعاقد بين القائد والأمة لكي يركز نفسياً ونظرياً مفهوم الخلافة العامة للأمة وفي عبارته هذه قد يستظهر وجوب البيعة وأن لها موضوعية في حكومة المعصوم لتملك الأمة مصيرها بسببها وهذا إلى الوجوب أقرب وقد يستظهر منها أنها نوع تعليم وتربية للناس في أخذ مصيرهم بأيديهم وهذا إلى عدم الوجوب أقرب مضافاً إلى أن قوله لا يشك في أن البيعة للقائد المعصوم واجبة ولا يمكن التخلف عنها فيها نوع من الإبهام إذ لسائل أن يسأل هل مجرد الوجوب متعلق بالأمة في المبايعة كتكليف شرعي أم هي تفيد حكم وضعياً أيضاً بمعنى أنها تنصب الإمام حاكما وإلا فلا عبارته تحتمل الوجهين وكلامه بذلك يصلح مبهماً.

- القول الرابع: أنها نوع عقد آخر سواء بنحو الوكالة أو النيابة أو هي من قبيل الالتزام في الالتزام وهذا ينطبق مع مبنى المنكرين للولاية فإنهم يقولون بأمر آخر لإسناد الحكم إسناداً شرعياً فهم إما يقولوا بعقد الوكالة أو النيابة أو إنشاء عقد جديد إذ في مقابل ذلك إما يقال بعدم نصب الحاكم وبالتالي القول بعدم لزوم تطبيق الأحكام السياسية والاقتصادية والحدود وما أشبه ذلك من أحكام الإسلام المرتبطة بالدولة ومهمات الحاكم ولكن حيث أن هذا مما لا مجال للالتزام به إذاً ينتهي المبنى إلى القول بأن هناك نوع وكالة من قبل الأمة للحاكم أو نوع نيابة أو إنشاء عقد جديد وهذا العقد سواء كان بنحو الوكالة أو شيء آخر فهو بحاجة إلى إطار عام يتم به هذا العقد بين الأمة وبين الحاكم سواء كان هذا الإطار في صورة البيعة المباشرة أو البيعة بواسطة اختيار أهل الحل والعقد وعليه فإن البيعة تكون نوع التزام في التزام وهذا من العقود العقلائية التي تجري عليه السيرة أبضاً في مختلف الشؤون ولعل هذا ما ربما ينسجم أيضاً مع مبنى من قال بأن البيعة نوع تعهد أو تعاقد وربما يستظهر ذلك أيضاً من كلمات ابن خلدون أيضاً حيث قال اعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة كأن المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين ولا ينازعه في شيء من ذلك ويطيعه فيما يكلفه فيه من الأمر على المنشط والمكره وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيداً للعهد فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري فسمي بيعة مصدر باع وصارت البيعة مصافحة بالأيدي هذا مدلولها في عرف اللغة ومعهود الشرع وربما يستظهر من كلامه ومن قوله بعدم جواز المنازعة ووجوب الطاعة أنه التزام في التزام لكنه لم يستظهر من كلماته بأن هذا الالتزام يمكن نقضه لو تخلف أحد الطرفين بمقتضيات ما تبايع عليه والظاهر إمكان الجمع بين الأقوال والاحتمالات المختلفة بأن نقول ما دام لا يوجد دليل خاص على تحريم البيعة أو المنع منها فإن بيعة المعصوم ليست تنصيبية بعد نصب الباري عز وجل له لأنه لو كان النص كان هو المقدم فحينئذ تنصيب الأمة يكون لغواً وتحصيلاً للحاصل أو إذا قيل بأن رأي الأمة هو المقدم فيلزم منافاة الحكمة والمحال من جهات عدة أو يقال كلاهما مؤثر في التنصيب بمعنى أن كل واحد منهم جزء العلة لتنصيب الحاكم فكان النص في التنصيب الظاهر في العليا التامة له فلم تبقى إلا أن تكون فائدة البيعة للمعصوم من جهة الإلزام وإقامة الحجة على الناس فإن الحكومة من شأنها أن يكون لها مخالف ومؤيد فالحاجة إلى الإلزام وإقامة الحجة على المخالف كبيرة حتى لو كان المتصدي للحكومة معصوماً وهذا ما يظهر من سياسة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومولانا أمير المؤمنين حيث ابتلوا بوجود المخالفين والمعارضين وخصوصاً حكومة مولانا أمير المؤمنين ابتليت بالمعارضة المسلحة أيضاً وأما في غير مورد النص الخاص كما نحن فيه في زمان الغيبة فإنه ما دام لا يوجد دليل على المنع في البيعة أو التحريف لها فالأصل فيه هو الجواز وهي من الصيغ التي قامت عليها سيرة العقلاء وبل والمتشرعة قديماً في تنصيب الحكام وعليه فلا مانع من اتخاذ البيعة طريقاً من طرق الاختيار إذ حكمها من ناحية الموضوع سيكون حكم إدلاء الرأي في صندوق الاقتراع أو التصويت المباشر بواسطة رفع الأيدي والأصابع في الانتخابات العامة أو الخاصة لأن هذه جميعاً مصداقاً للكل وهو تعيين المختار من قبل الأمة سواء تحقق هذا التعيين بواسطة الانتخاب أو صندوق الاقتراع أو بواسطة اختيار أهل الحل والعقد أو بواسطة إظهار البيعة ما دام لا يوجد دليل على المنح بل قد يقال بأن دلالة البيعة في تنصيب الحكام وما أشبه ذلك أقوى وأشد من إدلاء الصوت لكون البيعة تتضمن التعاقد والتعاهد الروحي والفكري مضافاً إلى الجسد بين الطرفين على الوفاء للآخر حاكماً أو محكوماً بل ولا يبعد القول باستحبابها تأسيا برسول الله وأمير المؤمنين (عليه السلام) وعليه فلو اختارت الأمة البيعة طريقاً للتنصيب في غير زمان النص فلا بأس به لكن بشرط أن تكون حرة وأما إذا اتخذت طريقاً قهرياً كما صنعه معاوية وغيره ولا زال يعمله بعض الحكام المستبدين فلا يجوز لأنه استبداد وهو محرم شرعاً وقبيح عقلاً وبذلك يظهر أن اختلاف الفهم العرفي أو الانصراف من البيعة ونحوها مما لا يضر ما دامت البيعة مصداق من مصاديق طرق إحراز رضى الأمة وذلك لأن الكلام عما ارتضته الأمة حاكماً لها وهذا يمكن أن يكون طريقه الاختيار والانتخاب المباشر أو غير المباشر أو يمكن أن يكون طريقه البيعة فإن الملاك هو إحراز توفر المؤهلات الشرعية مع إحراز رضى الأمة وأي طريق يمكن أن يوصلنا إليه كان كافياً ما دام لا يوجد دليل عقلي أو شرعي على المنع منه وعليه فإن إحراز رضا الأمة واجب لحرمة تولي الحاكم دون رضاهم وأما اختيار طريق الانتخاب أو البيعة أو غير ذلك فهو من طريق الواجب التخييري الذي يوكل أمره إلى الأمة وعليه فحصر العامة طريق الرضا بالبيعة لا دليل عليه كما أن إطلاق وجوبها عندهم حتى في زمن النص باطل لكونه مستلزماً لما ذكرنا من التوالي الفاسدة فضلاً عن أنه يستلزم الاجتهاد في مقابل النص.

- الفصل الثاني: في تركيبة نظام الحكم

ويتركب كل نظام حكم من سلطات ثلاثة هي السلطة التشريعية، السلطة التنفيذية، والسلطة القضائية، وهذا التقسيم ناشئ من حاجة المجتمع فإن تنظيم أمور الناس يستدعي التقنين والتقنين لا يحقق غرضه إلا بالتنفيذ ولكن حيث أن التنفيذ يستدعي التضارب بين المصالح وربما التجاوز والعدوان من جهة ومن جهة أخرى القصور في الدنيا وفي البشر من حيث الفرص والإمكانات والقدرات من أن يصل إلى حقه كل إنسان بلا منازعة أو حرمان استدعى الأمر وجود قوة قضائية تفصل بين ذلك وتطبق القانون بصورة عادلة وقبل التفصيل في بيان هذه السلطات نشير إلى تنبيهات:

- التنبيه الأول: إن هذه السلطات متفرعة عن السلطة العليا للدولة وهي في الحكومة الإسلامية متفرعة عن سلطة المعصوم (عليه السلام) في زمان النص والحضور التي هي الأخرى متفرعة عن سلطة الباري عز وجل الذي هو الخالق والمكون والمدبر وفي زمن الغيبة متفرعة عن سلطة الفقيه الجامع للشرائط نعم يمكن أن تجتمع طراً بيد المعصوم (عليه السلام) لمكان العصمة فيه التي هي الضمان الكامل لتطبيق العدالة بخلافه في زمن الغيبة فإنه لا بد وأن تتخذ الإجراءات الكافلة بضمان العدالة الاجتماعية وعدالة الفقيه النفسية غير كافية لضمان العدالة الاجتماعية بداهة أنه غير معصوم وغير المعصوم لا يؤمن عليه الخطأ أو الجهل أو النسيان وعليه فإنه وإن كان ربما لا يتعمد الظلم أو الإساءة تقصيراً إلا أنه قد يقع فيها قصوراً فيستقل العقل بلزوم تهيئة المقدمات والأسباب التي يتحرز فيها عن الوقوع في ذلك ومن هذه الأسباب ما يلي:

1- الأخذ بنظام الشورى في التقنين والتخطيط والتنفيذ.

2- توزيع السلطات بين قوى مختلفة وجعلها مستقلة عن بعضها البعض وهو ما يعبر عنه بالفصل بين السلطات.

3- إشراك الأمة في انتخاب الحاكم الأعلى لها من الفقهاء وكذلك إشراكها في اختيار المقننين والمنفذين والقضاة.

وهذه السبل وإن كانت غير محرزة للعدالة دائما إلا أنها من حيث المجموع أقرب إلى الواقع وأبعد عن الخطأ وأضمن للمصالح وتطبيق العدالة كما أنها طريق الجمع بين الأدلة والحقوق فإن هذه جميعاً مطلوبة من باب الطريقية لأن الموضوعية للعدل والنظام وحفظ الحقوق كما عرفته مما تقدم.

هذا في الحكومة والإسلامية وأما في الحكومات غير الإسلامية وهي ما يصطلح عليها بالديمقراطية فهذه السلطات الثلاثة متفرعة عن سيادة الأمة على ما ستعرفه.

- التنبيه الثاني: المقصود من القوة التشريعية هي قوة التشخيص والتطبيق والتخطيط لا التأسيس والجعل فإن من الواضح أن الحكم لله سبحانه وحده ولا مشرع غيره وأما الرسول والإمام المعصوم (عليهم الصلاة والسلام) ففي كونهما مشرعين أم لا قولان:

- أحدهما: أنهما مشرعان وهذا ما ربما يستفاد من الآيات والروايات الدالة على تفويض الدين إليهما وقد قدمنا لك بعض الشيء عنه في المبحث الثاني.

- ثانيهما: أنهما مبينان ومفصلان والتفصيل غير التشريع وعليه تحمل أدلة تفويض الدين أيضاً فإنه إذا لم ينهض دليل على حق التشريع لغير الله سبحانه وتعالى يحمل ما ظاهره ذلك على خلافه وأقرب المحامل هو الحمل على تفويض أمر البيان والشرح إلى المعصوم وإن كان هناك احتمال ثالث يسعى للجمع بين القولين لإمكان القول بعدم وجود المانع العقلي أو الشرعي في أن يؤدي الله سبحانه وتعالى حججه المعصومة ويعلمهم بملاكاته الواقعية ويطلعهم على أغراضه ثم يفوض إليهم أمر التشريع في أصله أو في بيانه ولا محظور في ذلك لأنه لا ينتهي إلى جعلهم مشرعين في عرض إرادة الله سبحانه وقدرته بل في طولها وبإذنه ومشيئته وهذا ما.

ربما يستفاد من ظواهر جملة من الأدلة قال سبحانه وتعالى: (ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وقال عز وجل: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي) وقال تبارك وتعالى: (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما) حيث نسبت الآيات الشريفة التشريع والنطق والقضاء إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي ظاهرة في المباشرة وعليه فمثل الرسول والإمام مثل المعلم الذي يربي تلميذه على القواعد والضوابط والأصول والملاكات ثم يفوض إليه الأمور وهكذا في تعليم الرئيس أو الحاكم أو الملك لجمع من تلامذته ثم يفوض إليهم الأمور وهذا ما قامت عليه السيرة العقلائية في تدبير أمورها التقنينية والتدبيرية بل في الرسول والإمام (عليهما السلام) أبلغ وأقوى لمكان العصمة فإن الله سبحانه وتعالى عصمهم ثم فوض إليهم أمر الدين والمعصوم لا يخطأ ولا ينسى ولا يجهل ولا يخرج عن حيطة طاعة الله سبحانه وإرادته وكيف كان فإن التفويض بهذا المعنى غير ممتنع ذاتا فيكفي في إثباته وقوعاً قيام الأدلة عليه بعد عدم المحذور العقلي أو الشرعي منه ولو فرضت المناقشة في تفويض التأسيس فإنه لا مانع من تفويض الشرح والبيان وحينئذ تحمل الأدلة الظاهرة في أن الدين لله والحكم منحصر به على الأصل أما البيان ففوض إلى الرسول والإمام (عليهما السلام) وأما الفقيه الجامع للشرائط فلا إشكال في أنه ليس بمشرع بل انعقد الإجماع على ذلك وإنما هو يجتهد في تطبيق الكليات على مصاديقها ويفرع من الأحكام الكلية العامة مواردها الجزئية وعليه فإن الفقيه مطبق ومشخص للمصاديق والجزئيات وليس بمشرع فالتعبير عنه بالمشرع وعن سلطته في ذلك بالسلطة التشريعية تعبير مسامحي وإن عبرنا نحن أيضاً عن ذلك أحياناً فمن باب المجاراة في الاصطلاح لعدم المشاحة فيها بعد معلومية الغرض وفهم المقصود وإن كنا نميل إلى التعبير عنه بالسلطة التقنينية وبذلك يظهر حدود السلطة التشريعية ومدى صلاحياتها فإنها:

- أولاً: ليس لها حق التأسيس للقانون والحكم ما دام هناك نص موجود من الكتاب والسنة إذ لا اجتهاد في مقابل النص.

- ثانياً: ليس لها أن تغير حكما أو تبدله أو تزيد أو تنقص منه بعد أن نص عليه الشرع فإن حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة وإنما مهمتها تكمن في أمور أحدها تشخيص الموضوعات المستنبطة التي تحتاج إلى دقة نظر وفحص وتمحيص، ثانيها تطبيق الكليات التي جاءت بها الشريعة على موضوعاتها، ثالثها التخطيط ووضع البرامج لتطبيق الأحكام الشرعية في الخارج.

فمثلاً بعد أن نص الشارع على أن الخمر حرام لا مجال للفقيه أو للقوة المقننة أن تضع قانوناً تحلل فيه الخمرة أو تحصر حرمة الخمر في الخمر التمري دون العنبي مثلاً أو تحرمه على أبناء العراق مثلاً دون الحجاز مثلاً ونحو ذلك لكن لها أن تشخص الموضوعات كالماء المأخوذ من الشعير مثلاً تحكم بأنه من قبيل الخمر فتحكم بحرمته أو لا فتحكم بحليته ومن الواضح أن هذا ليس من قبيل التشريع بل هو تطبيق للقانون الكلي القائم على حرمة الخمر على موضوعه الخارجي إذا رأت انطباق هذا العنوان على مثل ماء الشعير ونحوه كما لها أن تشخص أن الظروف التي يتعرض لها البلد الآن مثلاً تنتهي إلى الاستعمار الاقتصادي الموجب لذلة المسلمين وسلب حقوقهم لو أقامت الدولة الإسلامية اتفاقات اقتصادية ونحو ذلك فبعد أن شخصت الموضوع لها حق إصدار قانون المنع من إقامة الاتفاقات الاقتصادية بنحو كلي أو مع بعض الدول التي تخشى منها ذلك وهكذا وكذلك بعد أن أمر الإسلام بالتعليم والتعلم وفرضه على كل مسلم ومسلمة فإنه لا مجال للقوة التشريعية في أن تمنع من ذلك لكن لها المجال في أن تضع الخطة اللازمة لإجراء هذا الحكم وتطبيقه وإيصاله إلى أهدافه وعليه فإن السلطة التقنينية سلطة تطبيقية تشخيصية تخطيطية لا تشريعية تؤسس الأحكام في قبال الكتاب أو السنة فإن الأساس في الحكومة الإسلامية هي النصوص الإلهية وبيانات المعصومين (عليهم السلام) قال تبارك وتعالى: (إن الحكم إلا لله) وقال عز وجل: (ألا له الحكم) وقال عز من قائل: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك أفحكم الجاهلة يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون) فإن المستفاد من هذه الآيات حصر الحكم به عز وجل فكل حكم لا يرجع إليه هو من أحكام الجاهلية خصوصاً وقد بين الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرون (عليهم السلام) كل ما ورد ويحتاج إليه البشر من أحكام وتشريعات ففي خطبة الوداع عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) يا أيها الناس والله ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به وما من شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه وقد رواها الشيخ الكليني (رضوان الله عليه) في أصول الكافي في كتاب الإيمان والكفر وفي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بينت للأمة جميع ما تحتاج إليه، كما في تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي (رضوان الله عليه) وفي خبر حماد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سمعته يقول ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة كما في الكافي وفي خبر المعلى بن خنيس قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا وله أصل في كتاب الله عز وجل ولكن لا تبلغه عقول الرجل كما في الكافي أيضاً إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على أن أصل التشريع من الله سبحانه ثم من النبي والإمام (عليهما الصلاة والسلام) وأما مهمة الفقيه الجامع للشرائط وما يرتبط به من قوى ومن سلطات في التقنين وما أشبه ذلك فهي ترجع إلى التطبيق والتشخيص والتخطيط.

- التنبيه الثالث: ينبغي الرجوع إلى أهل الخبرة في كل مورد من الموارد يتوقف تشخيص الموضوع عليه لبناء العقلاء على رجوع الجاهل إلى العالم فيما يعلم به وعليه لا يجوز للقوة التقنينية أن تضع القوانين أو البرامج والخطط دون أن ترجع لأهل الخبرة كما لا يجوز للفقيه أن يفتي قبل تشخيص الموضوع والفحص عنه إن كان من الموضوعات المستنبطة أو العرفية الخفية التي تحتاج إلى دقة نظر لأن ذلك يستلزم الإفتاء بغير علم والإقدام على الحكم بغير ما أنزل الله سبحانه وهي محرمة بذاتها للنصوص الخاصة الدالة على عدم جواز الفتوى بغير علم وكذا الحكم والقضاء وأنه من أحكام الجاهلية سواء طابقت الواقع أو خالفته نعم قد يقال بشدة العقوبة في سورة المخالفة في الاجتماع التجري والعصيان فيها بناء على انحصار معنى العصيان لمخالفة المولى واقعاً بخلاف سورة المطابقة للواقع فإن حرمتها من جهة التجري لا العصيان نعم تشتد الحرمة عل القول بحرمة التجري وأنه عنوان محرم بذاته والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.