المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 28.doc

الطريق الثاني لإحراز رضا الأمة ما أجمعت عليه كلمة العامة من المسلمين ومال إليه بعض فقهاء الشيعة أيضاً هو البيعة، ويعنى بها مبايعة الناس للحاكم وتعيينه للحكومة بواسطة البيعة ولولاها كانت حكومته باطلة أو غير شرعية، والظاهر أن إطلاق كلمة العامة لا تفرّق بين زمان وجود النص وعدمه، بمعنى أن البيعة سبب تام لتعيين الحاكم الذي يبايَع حتى بالنسبة للمعصوم، وتفصيل الكلام فيها يستدعي التعرّض إلى أمور:

- الأمر الأول: في معنى البيعة لغة وعرفاً.

- الأمر الثاني: في نصوصها الشرعية والتاريخية.

- الأمرالثالث: الأقوال في المسألة.

- أما الأمر الأول فقال الراغب الأصفهاني في المفردات بايع السلطان إذا تضمّن بذل الطاعة له بما رضخ له ويقال لذلك بيعة ومبايعة وفي النهاية لابن الأثير وفي الحديث أنه قال ألا تبايعوني على الإسلام هو عبارة عن المعاقدة عليه والمعاهدة كأن كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره، وفي لسان العرب والبيعة الصفقة على إيجاب البيع وعلى المبايعة والطاعة والبيعة المبايعة والطاعة وقد تبايعوا على الأمر كقوله أصفقوا عليه وبايعه عليه مبايعة عاهده وبايعته من البيع والبيعة جميعاً والتبايع مثله وفي الحديث أنه قال ألا تبايعوني على الإسلام هو عبارة عن المعاقدة والمعاهدة كأن كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره، وفي مقدمة ابن خلدون أن البيعة هي العهد على الطاعة كأن المبايع يعاهد أميره على أنه يسلّم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين ولا ينازعه في شيء من ذلك ويطيعه فيما يكلّفه به من الأمر على المنشّط والمكره، وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيداً للعهد فأشبه ذلك فعل البايع والمشتري فسمي بيعة مصدر باع وصارت البيعة مصافحة بالأيدي.

هذا مدلولها في عرف اللغة ومعهود الشرع، وفي تفسير الميزان قال العلامة الطباطبائي الكلمة مأخوذة من البيع بمعناه المعروف فقد كان من دأبهم أنهم إذا أرادوا إنجاز البيع أعطى البائع يده للمشتري فكأنهم كانوا يمثلون بذلك نقل الملك بنقل التصرفات التي يتحقق معظمها باليد إلى المشتري بالتصفيق وبذلك سمي التصفيق عند بذل الطاعة بيعة ومبايعة، وحقيقةً معناه إعطاء المبايع يده للسلطان مثلاً ليعمل به ما يشاء. وعليه فيتحصّل مما ذكره اللغويون وغيرهم أن البيعة مأخوذة من البيع فكما أن البايع يبيع سلعته للآخر فالذي يبايع يبيع طاعته لغيره ويبذلها له أيضاً فالكل يلتزم بأن يكون ناصحاً صادقاً في بيعه وكذا من جهة المشتري في البيع والحاكم الذي تؤخذ له البيعة في التعهّد والالتزام والقيام بشؤون من بايعه وبناءً عليه فهي تعد من قبيل العقود المشتملة على الإيجاب والقبول لكن تارةً يعبّر بالإيجاب والقبول بالألفاظ وتارةً يعبّر عنها بالعمل كما هو الشأن في المعاطاة ويستفاد من الروايات والتاريخ أنه كان للبيعة مراتب مختلفة كما يظهر ذلك من سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً كما سنعرف، فتارة تكون البيعة على عدم الفرار من الزحف وأخرى البيعة على بذل المال والولد وثالثة البيعة على بذل الأنفس فإذا أعطى المبايع شيئاً من ذلك للحاكم وولي الأمر فلا بد له من الوفاء به بناءً على شمول أدلة الوفاء بالعهود والعقود أو المؤمنون عند شروطهم لها.

هذا بحسب اللغة وأما في العرف فالمتبادل من لفظ البيعة أنها ليست توكيلاً للغير على تمشية الأمور وتدبيرها، بل هي على بذل الطاعة والمساعدة، فهي غير الانتخاب وغير الوكالة إذ البيعة تعهّد من ناحية المبايع على طاعة من بايعه والقبول به كسلطة عليا لا يتخلف عن شروطها والتزاماته تجاهها فكأنه يبيعه شيئاً، ومن خصوصياتها أنها تلزمه بالوفاء بشروطها ولا يتمكّن من سحبها منه أو عزله عنها، سواء بايعه اختيارا أو قهراً، وأما الانتخاب فهو اختيار يتخذه المنتخب من بين بدائل متعددة كما تتضمنه كلمة انتَخَبَ وذلك لما يراه المنتخِب في المنتخَب من توفر شرائط وخصوصيات ترجحه على غيره في تحقيق طموحات المنتخِب وتوفير مصالحه ونحو ذلك... وقد يقال له تصويت أو اقتراع أيضاً ولا فرق بينها من حيث النتيجة وإن اختلفت من حيث الدقة اللغوية.

هذا وبين الانتخاب وبين البيعة عموم من وجه منطقياً وأعلى مواثيقهما صورة الاجتماع لكونه يجمع حرية الاختيار مع إيمان المنتخب واعتقاده بمن انتخبه، نعم يتمكن صاحب الرأي أن يسحب رأيه عمّن اختاره وانتخبه متى شاء إن لم يكن قانون أو ضابطة تحدّد مدة الانتخاب وأما الوكالة فهي عقد بين طرفين وتعهد حر بينهما على أن يعطي الموكّل لموكّله رأيه ويسلّطه على شؤونه ثقةً به أو اطمئناناً بكفاءته ونحو ،ذلك فيكون الوكيل كالموكِّل في سائر التصرفات الداخلة في حدود الوكالة ولا يجوز له تعديها ويحق له سحب وكالته عنه متى شاء وبين الوكالة وبين البيعة عموم من وجه أيضاً منطقياً وكذا مع الانتخاب وأقوى مراحلها في صورة الاجتماع وتفترق في أن البيعة فيها تعهد من طرف المبايع والانتخاب فيه ترجيح للمنتخب، بينما الوكالة تفوضه في القيام بشؤون الوكيل والبيعة تلزم الموكل بالطاعة والالتزام بمقتضياته كما تلزم الوكيل بالقيام بشؤون الموكل بحسب الشروط والمقتضيات أيضاً فيتحصّل من ذلك أن البيعة بحسب المعنى اللغوي والعرفي تغاير الوكالة والانتخاب وإن كانت من ناحية النتيجة سياسياً وفي مقام العمل ربما تنتهي إلى نتيجة واحدة والفروق الجوهرية بينهما يظهر أثرها في الحقوق والقانون.

- الأمر الثاني: في النصوص الشرعية والتاريخية الواردة فيها وهي متضافرة في الكتاب والسنة، أما في الكتاب فقوله عز وجل: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً) وقوله عز وجل: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيأتيه أجراً عظيماً)، ويظهر من الآية الشريفة أن البيعة بنفسها وإن كان لها أهميتها ولكنها بمقتضى طبعها تحتمل الوفاء والنكث والأجر العظيم إنما هو في إبقائها على الوفاء والالتزام بمقتضياتها.

وأما في الروايات فقد ورد بطرق الفريقين روايات عديدة تتعرض إلى موضوع البيعة، منها ما في مسند أحمد قلت لسلمة ابن الأكوع على أي شيء بايعتم رسول الله يوم الحديبية قال بايعناه على الموت، وفيه أيضاً عن جابر بايعنا نبي الله يوم الحديبية على أن لا نفر، وفي مجمع البيان عن عبد الله بن معقل لم يبايعهم على الموت وإنما بايعهم على أن لا يفروا، وفي بيعة النساء قال تبارك وتعالى: (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم) والآية الشريفة ظاهرة أنها في مورد البيعة على غير الحكومة وإنما على السلوك الديني والشرعي الخاص وفي تفسير نور الثقلين عن الكافي بسند صحيح عن أبان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال لما فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة بايع الرجال ثم جاءت النساء يبايعنه فأنزل الله عز وجل: يا أيها النبي إلى آخر الآية فقالت أم حكيم يا رسول الله كيف نبايعك قال إنني لا أصافح النساء فدعا بقدح من ماء فأدخل يده ثم أخرجها فقال أدخلن أيديكن في هذا الماء، وروي في هذا روايات أخرى أيضاً بهذا المضمون، وروي عنه أيضاً (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه كان إذا بايع النساء دعا بقدح فغمس يده فيه ثم غمسن أيديهن فيه وقيل إنه كان يبايعهن من وراء الثوب كما في نور الثقلين وفي مجمع البيان أيضاً، وبالجملة فإن بيعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديبية وفي فتح مكة تعرّض لها القرآن الكريم مما يكشف عن كون البيعة من الأمور الهامة في الإسلام، وفي سيرة ابن هشام عن الزهري ما حاصله أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه فقال له رجل منهم: إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون الامر لنا من بعدك قال الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء قال فقال أفتهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كانت الأمر لغيرنا لا حاجة لنا بأمرك فأبوا عليه، والظاهر من لفظ الأمر هو القيادة والحكومة مما قد يستظهر منه أن الرواية الواردة والكلام كان يجري في تولي الحكم من بعده.

وفي الكامل في التاريخ لما فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة جلس للبيعة على الصفا واجتمع الناس لبيعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الإسلام فكان يبايعهم على السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا فكانت هذه بيعة الرجال وأما بيعة النساء فإنه لما فرغ من الرجال بايع النساء فأتاه منهن نساء من نساء قريش.

هذا بعض ما يرتبط ببيعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الواردة في القرآن وأما في بيعة الأئمة (عليهم السلام) ففي الاحتجاج في قصة الغدير وخطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن مولانا الباقر (عليه السلام) وكذلك أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) البيعة لعلي (عليه السلام) بالخلافة على عدد أصحاب موسى فنكثوا البيعة إلى أن قال فأقمه للناس علماً وجدد عهده وميثاقه وبيعته وذكرهم ما أخذت عليهم من بيعتي وميثاقي الذي واثقتهم وعهدي الذي عهدت إليهم من ولاية ولييّ ومولاهم ومولى كل مؤمن ومؤمنة علي بن أبي طالب (عليه السلام).. إلى أن قال: فأقم يا محمد علياً علاً وخذ عليهم البيعة.. حتى قال: معاشر الناس قد بينت لكم وأفهمتكم وهذا علي يفهمكم بعدي ألا وإن عند انقضاء خطبتي أدعوكم إلى مصافقتي على بيعته والإقرار به ثم مصافقته بعدي ألا وإني قد بايعت الله وعلي قد بايعني وأنا آخذكم بالبيعة له عن الله عز وجل ومن نكث فإنما ينكث على نفسه.. إلى أن قال: معاشر الناس فاتقوا الله وبايعوا علياً أمير المؤمنين (عليه السلام) والحسن والحسين والأئمة كلمة طيبة باقية يُهلك الله من غدر ويرحم الله من وفى.. إلى أن قال: فنادته القوم سمعنا وأطعنا على أمر الله وأمر رسوله بقلوبنا وألسنتنا وأيدينا وتداكوا على رسول الله وعلى علي (عليه السلام) فصافقوا بأيديهم وصارت المصافقة سنّة ورسماً يستعملها من ليس له حق فيها إلى آخر الخبر، وفي إرشاد المفيد ومن كلام علي (عليه السلام) حين تخلّف عن بيعته عبد الله بن عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وحسان بن ثابت وأسامة بن زيد ما رواه الشعبي قال:

لما اعتزل سعد ومن سميناه أمير المؤمنين وتوقفوا عن بيعته حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنكم بايعتموني على ما بويع عليه من كان قبلي وإنما الخيار للناس قبل أن يبايعوا فإذا بايعوه فلا خيار لهم وإن على الإمام الاستقامة وعلى الرعية التسليم، وهذه بيعة عامة من رغب عنها رغب عن دين الإسلام واتبع غير سبيل أهله ولم تكن بيعتكم إياي فلتة وليس أمري وأمركم واحداً وإني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم، وقد ورد ذيل هذه الرواية أيضاً في نهج البلاغة وهي تدلّ على أن البيعة إظهار للطاعة والالتزام بها بالنسبة للمعصوم (عليه السلام) كما يؤيده قوله رغب عن دين الإسلام وهي لا تتصور إلا في المعصوم وفي نهج البلاغة مايؤيد ذلك ففي كتابه (عليه السلام) إلى طلحة والزبير: أما بعد فقد علمتما وإن كتمتما أني لم أرد الناس حتى أرادوني ولم أبايعهم حتى بايعوني وإنكما ممن أرادني وبايعني وإن العامة لم تبايعني لسلطان غالب ولا لعرض حاضر فإن كنتما بايعتماني طائعين فارجعا وتوبا إلى الله من قريب وإن كنتما بايعتماني كارهين فقد جعلتما لي عليكما السبيل بإظهاركما الطاعة وإسراركما المعصية.. إلى غير ذلك مما ورد في بيعة مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام).

وفي إرشاد المفيد بسنده عن أبي إسحاق السبيعي قالوا: خطب الحسن بن علي (عليهما السلام) في صبيحة الليلة التي قبض فيها أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى أن قال: ثم جلس فقام عبد الله بن العباس فقال معاشر الناس هذا ابن نبيكم ووصي إمامكم فبايعوه فاستجاب له الناس فقالوا: ما أحبه إلينا وأوجب حقه علينا وبادروا إلى البيعة له بالخلافة، وبعدما كتب أهل الكوفة إلى الحسين بن علي (عليه السلام) أنه ليس علينا إمام فأقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحق وبعث هو (عليه السلام) ابن عمه مسلم ابن عقيل إلى الكوفة رائداً وممثلاً له أقبلت الشيعة تختلف إلى مسلم فلمّا اجتمع منهم إليه جماعة قرأ عليهم كتاب الحسين (عليه السلام) وهم يبكون وبايعه الناس حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً فكتب مسلم إلى الحسين (عليه السلام) يخبره ببيعة ثمانية عشرة ألفاً ويأمره بالقدوم، ومن الواضح أن بيعتهم كانت على إمامة الحسين وطاعته.

وكذا ورد في الأخبار عن بيعة الإمام الرضا (عليه السلام) الكثير كما رواه في تفسير نور الثقلين وغيره، وفي خبر أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في أمر مولانا صاحب الأمر (عجل الله فرجه الشريف) فوالله لكأني أنظر إليه بين الركن والمقام يبايع الناس بأمر جديد وكتاب جديد وسلطان جديد من السماء ولعل المراد بالأمر الجديد في مبايعة الحجة حين الظهور هو المبايعة على الحكومة الصالحة العادلة والالتزام بمقتضيات الإمامة من الطاعة والانقياد والاستجابة.

وفي خبر السراج عن أبي عبد الله (عليه السلام) فيظهر عند ذلك صاحب هذا الأمر فيبايعه الناس ويتبعونه إلى غير ذلك من الروايات.

وقد استدل جمع من القائلين بلزوم البيعة بذلك بحجة أن البيعة في عصر ظهور المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ليست للتقية أو الجدل فيعلم منها كون البيعة منشأ للأثر في تثبيت الحكومة والخلافة كما ذكره في دراسات في ولاية الفقيه في ص522 وكيف كان.

فإن المستظهر من مجموع الآيات والأخبار المتواترة ولو إجمالا هو اهتمام رسول الله والأئمة الطاهرين (عليه السلام) بالبيعة التي كانت بشأن الحكومة ورئاسة الدولة فهي نحو معاهدة بين الرئيس وأمته قبل الهجرة وبعدها والظاهر أنها لم تكن من مخترعات الإسلام بل كانت من رسوم العرب وعاداتهم التي أمضاها الإسلام ولا يبعد أنها كانت معمول بها في سائر الأمم بمعنى انه عرف عام وقد أكد الكتاب والسنة وجوب الوفاء بها وحرمة نكثها كما يظهر مما تقدم من الأدلة.

ومما يعضد ذلك ما رواه الصدوق (رضوان الله عليه) عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ثلاث موبقات نكث الصفقة وترك السنة وفراق الجماعة وقد فسر العلامة المجلسي (رضوان الله عليه) نكث الصفقة بنكث البيعة.

الأمر الثالث في الأقوال في المسألة وهي أربعة:

- القول الأول: أنها واجبة مطلقاً وهو قول الجماعة كما يظهر من كلمات أعلامهم قال القاضي أبو يعلى الفراء في الأحكام السلطانية وإذا اجتمع أهل الحل والعقد على الاختيار تصفحوا أحوال أهل الإمامة الموجود فيهم شروطها فقدموا في البيعة منهم أكثرهم فضلاً وأكملهم شروطاً فإذا تعين لهم من بين الجماعة من أداهم الاجتهاد إلى اختياره وعرضوها عليه فإن أجاب إليهم بايعوه عليها وانعقدت له الإمامة ببيعتهم ولزوم كافة الأمة للدخول في بيعته لطاعته وظاهر كلامه في أن البيعة سبب للإمامة ولانعقاد الحكومة فإن الباء للسببية كما هو واضح وقال الماوردي فإذا اجتمع أهل الحل والعقد للاختيار تصفحوا أهل الإمامة الموجودة فيهم شروطها فقدموا للبيعة منهم أكثرهم فضلاً وأكملهم شروطاً ومن يسرع الناس إلى طاعته ولا يتوقفون عن بيعته فإذا تعين لهم من بين الجماعة من أداهم الاجتهاد إلى اختياره عرضوها عليه فإن أجاب إليها بايعوه عليها وانعقدت ببيعتهم له الإمامة فلزم كافة الأمة الدخول في بيعته والانقياد لطاعته كما ذكره في الأحكام السلطانية أيضاً.

وظاهر كلماتهم هذه وما تقدم منها هو عدم وجود المخالف في ذلك وربما يستدل لهم بالآيات والروايات وسيرة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن الآيات الشريفة أسندت المبايعة للأمة فتدل على أن الولاية أولاً وبالذات هي للامة ثم هي تنقلها إلى الحاكم سواء كان معصوماً أو غير معصوم ويؤيده إطلاقات الروايات الواردة في مسألة البيعة كما عرفته مما تقدم من النصوص.

والدليل الثالث الذي يمكن التمسك لهم به هو السيرة العقلائية الجارية في فترة ما قبل الإسلام فإن الروايات التاريخية تؤكد أن البيعة كانت تقليداً من تقاليد العرب وقد جرت عليه السيرة العقلائية حيث كان رائجاً بينهم أنه إذا مات منهم أمير ورئيس عمدوا إلى شخص وأقاموه إلى مكان راحل بالبيعة.

ومقتضاها أن البيعة وسيلة لعقد التولية وتأمير الحاكم وهذه الحقيقة والماهية أمضاها الإسلام كما يظهر من تكرر السيرة على أخذ البيعة عند الاستخلاف في مختلف الأزمنة ويعضد ذلك فعل الصحابة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث بايع عمر أبا بكر وتبعه في ذلك القوم كما عرفت الإشارة إليه فيما تقدم.

ومن هذا يستدل على ضرورة وجود نوع من المناسبة بين البيعة وبين تسليط الحاكم وهذا يدل على أن الحكومة كما تنشأ بالنص فإنها تنشأ بالبيعة أيضاً فكأنه يوجد طريقان لحصول التأمير والاستخلاف أحدهما النص والآخر بالبيعة وأي واحد منهما تحقق يكفي في شرعية الحاكم والحكومة وأما إذا وجدا معا فإنه يكون من باب التأكيد والثبوت كما في تولية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث لم يقل أحد أن توليه كان بالبيعة بل بالنص من الله عز وجل الذي جعله أولى بالمؤمنين من أنفسهم كما أوجب رسالته ونبوته وأما بيعته فهي مؤكدة لما نص عليه الباري عز وجل هذا ما يمكن أن الاستدلال به ولكن الظاهر أن للتأمل فيه مجال نتعرض إليه في البحث القادم إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين..