المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 27.doc

- المسألة الخامسة:

 

الظاهر أن وجوب الترشيح للحكومة ولشعبها المختلفة لمن توفرت فيه الشرائط واجبٌ عيني في صورة الانحصار، وفي غير صورة الانحصار فكفائي، إذ الحكومة من ضروريات حياة البشر كما عرفت وعليها يتوقف حفظ كيان الإسلام والمسلمين وحفظ ثغورهم وبلادهم ودفع الكفار والطواغيت عنهم، وتعطيلها يوجب تضييع الحقوق وتعطيل الحدود والأحكام وبعبارة أخرى فإن تعطيل الحكومة يوجب تعطيل الإسلام بمفهومه الواسع الشامل لأحكامه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية وغيرها..

فإن اخترنا كون الفقهاء الواجدين للشرائط منصوبين من قبل الأئمة (عليه السلام) للحكومة والولاية، فعليهم التصدي لشؤونها كفاية، وعلى المسلمين إطاعتهم والتسليم لهم فيما يرتبط بأمر الحكومة، وإن قلنا بصلاحيتهم لذلك فقط وأن الولاية الفعلية تتوقف على انتخاب الأمة، فعليهم ترشيح أنفسهم وعلى المسلمين انتخابه والتارك لذلك من الفريقين مع الإمكان عاصٍ كما هو مقتضى الوجوب الكفائي.

- المسألة السادسة:

هل الشروط المذكورة التي ينبغي توفرها في الحاكم كالفقاهة والعدالة والكفاءة وما أشبه ذلك.. هل هذه من قبيل الأحكام التكليفية أم الأحكام الوضعية؟ والفرق بينهما أنه على الأول تكون شروط ابتدائية فإذا سقطت بعد التعيين أو الانتخاب لا تبطل حكومة الحاكم، وأما إذا كانت وضعية فتبطل حكومته أيضاً وينعزل الحاكم بمجرد فقدانها، بناءا على المشهور من كون الأحكام الوضعية مجعولة بالجعل المستقل كالطهارة والنجاسة والصحة والفساد والملكية والحرية فإنها أحكام وضعية مجعولة بنحو مستقل عن الحكم التكليفي، وأما على مختار الشيخ الأنصاري (رضوان الله عليه) والسيد الشيرازي (رضوان الله عليه) كما في المكاسب والفرائض وفي غير موضع من الفقه من عدم الجعل المستقل للأحكام الوضعية وانتزاعيتها من الأحكام التكليفية فينعزل كذلك وكما أنه بناءٌ على أنها أحكام تكليفية فإنه يجب توفّرها في المرشّح حين الانتخاب فقط، وأما بناءً على أنها وضعية فينبغي استمرارية هذه الصفات وإلا يبطل الانتخاب وتسقط شرعية الحاكم، وظاهر أدلة الولاية والحكومة والوضعية أما على القول بنصب الفقهاء من قبل الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) فالمسألة واضحة إذ المنصوب من قبلهم هو العنوان الواجد للشرائط المذكورة على ما تقتضيه الأدلة، وأما غير الواجد فليس له اقتضاء الولاية من أول الأمر وبالتالي فهو ليس بمنصوب، وأما على القول بالانتخاب فظاهر الآيات والروايات المتعرضة للأوصاف أيضاً كونها في مقام بيان الحكم الوضعي وأن الإسلام والفقهاهة والعدالة وغيرها شروط للحاكم فلا تنعقد الحكومة لمن عقدها وإن اختاروه بآرائهم ولعلّ مما يؤيد ذلك قوله عز وجل: (لا ينال عهدي الظالمين) وقوله عز وجل: (ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون) وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تصلح الإمامة إلا لرجل فيه ثلاث خصال ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على من يلي، وقول مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): (لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل فتكون في أمواله نهمته ولا الجاهل فيضلهم بجهله)، وقول مولانا المجتبى (عليه السلام) في خطبته بمحضر معاوية: إنما الخليفة من سار بكتاب الله وسنة نبيه وليس الخليفة من سار بالجور، وكذا قول سيد الشهداء (عليه السلام) في جوابه لأهل الكوفة: فلعمري ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب القائم بالقسط الدائم بدين الحق، إلى غير ذلك من النصوص القرآنية والروائية المتعرّضة للشرائط المستظهر منها أنها في مقام بيان الحكم الوضعي وبيان الحاكم الذي يحق له تولي هذا المنصب من غيره، ومن الواضح أن الأمر والنهي في هذا السنخ من الأمور ظاهران في الإرشاد إلى الشرطية والمانعية وما أشبه ذلك من الأحكام الوضعية أيضاً.

هذا من حيث تعلق الأوامر والنواهي بشرائط الحاكم والتزام الأمة بانتخاب الحاكم المتوفرة فيه هذه الشرائط، وأما لو فرض أن الأمة ولو لعصيانها اختارت حاكماً غير واجدٍ للشرائط وأطبقوا عليه وانتخبوه حاكماً أو انتخبته الأكثرية وفرض أنه ينفذ مقررات الإسلام ولا يتخلّف عنها، وربما ادّعي أنه أكفأ حكومياً وإدارياً ممن توفرت فيه الشرائط الشرعية مثلاً، فهل تبطل إمامته ويجوز له مخالفته والتخلف عنه بلحاظ عدم توفر الشرائط الشرعية فيه؟ أم لا يجوز ذلك بلحاظ أنه يحقق الغرض من الحكومة؟.

 المسألة مشكلة إذ الخطأ والاشتباه وكذا العصيان مما يكثر وقوعها في أفراد البشر حتى ممن توفرت فيه الشرائط وجواز التخلف عنه حينئذ يوجب تزلزل النظام وعدم قراره أصلاً والشروط المذكورة يراد منها الطريقية لضمان تطبيق أحكام الإسلام والوثاقة بالالتزام بشروطها ما دام الحاكم كذلك، فيجوز له التصدي وأما كونه فاسقاً أو غير ذلك فهذا لا يضر بولايته ما دام ملتزماً وفسقه وعدالته يرجع إلى نفسه لا الأمة، لكن ربما يقال أن المسألة تدخل موضوعاً في صغريات دوران الأمر بين المقتضي والمانع فإن الشروط من رتبة المقتضي ومع عدمها لا يبقى مورد لتولي الحكومة ورأي الأمة لا يعطي الموضوع مقتضياته كما هو واضح، وعليه فلا يجوز له التصدي مادام فاقداً للشروط الشرعية وقد تدخل المسألة في صغريات الاجتهاد مقابل النص إذ بعد نص الشارع على لزوم توفّر الشرائط فلا مجال للأمة أن تتجاوزها، نعم إلاّ إذا استفيد من الشروط رجحان تولي صاحبها لا لزومه لكنه خلاف ظواهر الأدلة.

- المسألة السابعة:

لو توفرت الشرائط الشرعية في كل المتصدّين للحكومة كالفقاهة والكفاءة، ولكن أحدهما أفضل أو أكفأ أو أفقه فإن أمكن الجمع بينهما واختارته الأمة وجب، وإن لم يمكن الجمع وعلى الأمة أن تختار فهل يجب عليها الاختيار للأكفأ والأفقه أم هي مخيرة؟.

احتمالان في المسألة:

- الأول: الوجوب؛ وذلك لدوران المسألة بين التعيين والتخيير، فذهب جمع من الفقهاء إلى وجود تقديم التعيين لبناء العقلاء عليه وقد ذكروا ذلك أيضاً في باب وجوب تقديم الفقيه الأعلم على غيره في مسألة التقليد وكذا في مسألة رجوع كلّ جاهل إلى العالم في أي فن من العلوم فإنه يدور الأمر بين أن يرجع إلى الفقيه الذي هو أعلم والفقيه غير الأعلم فيتعين عليه الرجوع إلى الأعلم لبناء العقلاء عليه، وكذا فيما نحن فيه.

- الثاني: التخيير لكون القاعدة المذكورة تحكم برجحان التقديم لا وجوبه، نعم إلا إذا كان المورد من الأمور الخطيرة التي تريد إلى مزيد من الاطلاع ودقة النظر فحينئذ لا مناص من الاحتياط في تقديم الأفضل.

- المسألة الثامنة:

هل الشروط المطلوب توفرها في الحاكم شروط واقعية أو علمية فقط، كما في اشتراط العدالة في إمام الجماعة احتمالان أيضاً في المسألة:

- الاحتمال الأول: الواقعية وذلك لأن الألفاظ موضوعة للمعاني الحقيقة نفس الأمرية لا المعاني المتخيلة أو الموهومة فمثلاً حكم الشارع بأن الماء طاهر والخمر حرام يحمل على الماء الواقعي لا المتخيل أو الموهوم وكذا الكلام في الخمر وغيره وكذا ما نحن فيه فإنه اشتراط الفقاهة والعدالة مثلاً تحمل على الواقعية لا على المتخيلة ولا على الموهومة مما يكشف على أن العلم ليس له مدخلية في ذلك بل الواقع، وعليه لو انتخبت الأمة من توفرت فيه الشرائط واقعاً وإن لم تلتفت إليها حين الانتخاب أو انتخبته غير متوفر الشروط عصياناً منها ثم بان توفرها كفى في شرعية حكومة الحاكم والإشكال يرد في صورة انتخابه على أنه متوفر الشرائط ثم بان الخلاف فهل تسقط شرعية حكومته حينئذ فيجوز للناس التخلف عن مقتضيات هذه الحكومة أم لا؟ مقتضى القاعدة ذلك إلا إذا استلزم ذلك أضراراً كبيرة كاستلزامه الهرج والمرج أو اتخذ السقوط عن الأهلية ذريعةً لمزيد من التخلص عن واجبات السلطة وحقوق الحاكم ونحو ذلك، فيفتح باباً للعصيان العام ويمكن الجمع بين الأمرين بجعل تقنينٍ يحمل المحمول المذكور مع إسقاط الولاية ولو بانتخاب حاكم في ظل الأول كحكومة الظل يملأ الفراغ بعد سقوط الحاكم الأول أو إيجاد لجنة تحقيق منصفة تشخص صحة الخروج عن الأهلية أو ما أشبه ذلك وإن كان في حكومة الفقيه الجامع للشرائط الذي يحكم البلاد بالواسطة قد لا يحصل هذا الفراغ المذكور لإمكان الفقيه الجامع للشرائط بعد خروج الحاكم الذي يمثله عن ولايته الشرعية يتمكن أن ينصّب حاكماً آخر ويعرضه على الأمة فتنتخبه ويكون هو الحاكم في وقت الفراغ كما هو واضح.

- الاحتمال الثاني: أن يقال بأنها شرائط علمية وذلك لتبعية الحكم للموضوع وثبوت الموضوع متوقف على العلم به شرعاً وعليه فيكفي في شرعية الحاكم علم المنتخبين بكفاءته خصوصاً وأن الكفاءة الواقعية مما لا يمكن الوصول إليها غالباً لكونها بعيدة عن الحس ولاختلاف الأنظار في تحديدها من حيث الأفضلية أو الأكثرية ونحو ذلك، وكون الحاكم غير كفوء واقعاً لا يسقط تكليف الأمة بطاعته والالتزام بمقتضيات حكومته ما دامت تراه كفوءاً وعن الاحتمالين فإنه لا إشكال في لزوم الفحص قبل الانتخاب على ما هو المختار عندنا تبعاً لجمع من الفقهاء من وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية لكونه طريق الطاعة للمولى خصوصاً في مثل الأمور السياسية والحكومية المتوقفة على حفظ النظام وبسط العدل وحقن دماء الناس وحفظ حقوقهم ونحو ذلك خلافاً للمشهور من الفقهاء والأصوليين حيث ذهبوا إلى عدم لزوم الفحص، نعم لعلّهم في مثل هذه الأمور المذكورة يوجبون الفحص أيضاً لأهمية المورد وخطورته.

- المسألة التاسعة:

إذا فرض توفر بعض الشرائط في بعض الفقهاء أو الحكام وبعضها في آخر وعليه فينعدم الحاكم الذي اجتمعت فيه الشرائط الدينية والدنيوية طراً، فما هو التكليف حينئذٍ؟ ولا يخفى أن موارد التزاحم لا تنحصر فيما ذكر من الأمثلة بل هي كثيرة جداً بلحاظ الشروط العديدة اللازمة في الحاكم كما ستعرف، احتمالات في المسألة:

- الاحتمال الأول: أن نقول بتقديم الشرائط الشرعية كالفقاهة والعدالة ونحو ذلك إذ لا مجال لغير الفقيه العادل بعد النص من قبل الأئمة (عليهم السلام) إذ المستفاد من الأدلة هو نصب الفقيه الجامع للشرائط ولا دليل على نصب غيره فإذا لم يوجد الجامع لكلّ الشرائط فإن قلنا بصحة الانتخاب بهذه الصورة جرى البحث وإلا وجب كفاية على من يقدر التصدي للشؤون من باب الحسبة وظاهر صحة الانتخاب وعموم أدلته بهذه الصورة أيضاً كما اختاره بعض الأعلام في كتابه دراسات في ولاية الفقيه في الجزء الأول ص546.

- الاحتمال الثاني: أن يقال بملاحظة الأهم والمهم فيقدم من توفرت فيه الشروط الأهم على غيره، لا يقال أدلة اعتبار الشروط في الحاكم مخصّصة لهذه العمومات الدالة على تولي الفقيه للولاية بل لها نحو حكومة عليها فإنه يقال لا يبعد كونها بنحو تعدد المطلوب وعليه فمع إمكان الشرائط يجب رعايتها وجوباً شرطياً ولا تنعقد الحكومة لغير الواجد لها ولكن مع عدم التمكن منها يكون أصل انتخاب الحاكم مطلوب شرعاً لعدم جواز تعطيل الحكومة بعد شدّة اهتمام الشارع بها وحمل المطلق على المقيد إنما هو فيما إذا أحرزت وحدة الحكم في الجملتين وفي الأمور المهمة الضرورية على أي تقدير لا تحرز وحدته لاحتمال تعدد المطلوب نظير ما إذا قال المولى لعبده علّم ابني القراءة والكتابة في المدرسة فإذا فرض أن العبد لا يتمكن من المدرسة فهل يسقط عنه وجوب التعليم أم ينبغي عليه أن يحقق غرض المولى بأي طريقة أخرى تحققت، ما ذهب إليه الأصوليين وعلماء المعقول هو لزوم تحقيق الغرض فعليه إذا انعدمت الوسيلة التي نص عليها المولى وأمكن تحقيق هذا الغرض بواسطة وسيلة أخرى فإنه يجب ذلك لوجوب تحقيق الغرض المولوي.

وربما يكون أن الحكومة من هذا القبيل إذ أدلة الحكومة دالة على اهتمام الشارع بها وعدم جواز تعطيلها ولا سيما ما ورد في كلام مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول في رد دعوى الخوارج: هؤلاء يقولون لا إمرة إلا لله وإنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر، وقوله (عليه السلام): والٍ ظلوم خير من فتنة تدوم، إلى غير ذلك من الأدلة..

وعلى هذا فلا يجوز تعطيل الحكومة على أي حال وإنما ينبغي رعاية الشرائط مهما أمكن، لكن في صورة عدم إمكان رعايتها لعدم توفر الحاكم الواجد لجميع الشرائط فإنه لا مناص من لزوم رعاية الأهم فالأهم من ناحية نفس الشرائط ومن ناحية الظروف والحاجات ومتطلبات الأمة فالعقل والإسلام وخبروية التدبير وفهم متطلبات الأمة والعدالة والشجاعة من أهم هذه الشرائط، كما أن الحاجات والظروف مختلفة والتشخيص لا محالة محول إلى الخبراء في كل عصر ومكان، وهذا مختار بعض أعلامنا كما هو اختيار بعض علماء الجماعة قال الماوردي في الأحكام السلطانية لو كان أحدهما أعلم والآخر أشجع روعي في الاختيار ما يوجبه حكم الوقت فإن كانت الحاجة إلى فضل الشجاعة أدعى لانتشار الثغور وظهور البغاة كان الأشجع أحق، وإن كانت الحاجة إلى فضل العلم أدعى لسكون الدهماء وظهور أهل البدع كان الأعلم أحق، ونحو ذلك في الأحكام السلطانية أيضاً للقاضي أبي يعلى الفراء.

وهذا ما يظهر من كلمات بوعلي بن سينا أيضاً في كتاب الشفاء قال والمعوّل عليه الأعظم العقل وحسن الإيالة فمن كان متوسطاً في الباقي ومتقدماً في هذين بعد أن لا يكون غريباً في البواقي وصائراً إلى أضدادها فهو أولى ممن يكون متقدما في البواقي ولا يكون بمنزلته في هذين فيلزم أعلمها أن يشارك أعقلهما ويعاضده ويلزم أعقلهما أن يعتضد به ويرجع إليه.

ولا يخفى عليكم أن من أهم موارد التزاحم وأكثرها ابتلاءً هو التزاحم بين الفقاهة وبين القوة وحسن التدبير وأخروية العمل كما تعرض له بوعلي بن سينا، ولعلّ الثاني أهم إذ النظام وتأمين المصالح ودفع المعتدين لا تحصل إلا بالقوة وحسن التدبير والسياسية وحيث فرض تحق الإسلام والعدالة فيه فهما يلزمانه قهراً لتعلم الأحكام من أهلها وعدم الإقدام بغير علم ويمكن أن يفصّل بحسب الشرائط وبحسب الأزمنة والأمكنة أيضاً كما قاله الماوردي وأبو يعلى وغيرهما فقد تكون الأوضاع متأزمة والأجواء السياسية مسمومة فيكون الاحتياج إلى القوة وحسن التدبير أكثر وقد يكون الأمر بالعكس فتكون الشرائط والأوضاع عادية والأجواء سليمة ولكن الاحتياج إلى التقنين والتشريع والإطلاع على الموازين الإسلامية بأدلتها أو رفع الاشتباهات والبدع الظاهرة كثيرة جداً فتلزم الفقاهة، والإطلاع العميق على مقررات الإسلام وموازينه.

ولعل من هنا التزمت بعض الدول والحكومات على تنصيب أمير لها في زمان الحرب وتغيير هذا الأمير في زمان السلام وعللوا ذلك بأن أمير الحرب لا يصلح أميراً للسلام.

- الاحتمال الثالث: تقديم الفقاهة مطلقاً للأدلة الخاصة الناصة على ذلك.

وأما باقي الشروط من الخبروية السياسية والكفاءة الإدارية ونحوها فتحل بإيجاد الفقيه مجلساً من الخبراء وأهل الحل والعقد في شؤون الدولة والسياسة لاستشارتهم في تشخيص الموضوعات وأخذ الرأي إن لم يكونوا من الفقهاء وإلا بأن كانوا جميعاً فقهاء ولكن يتمايز هؤلاء الفقهاء كلٌّ عن بعضهم ببعض المجالات فإنه يجمعهم في مجلس حينئذٍ يضم الفقيه الأعلم مثلاً بالفقه والفقيه الأعلم بالسياسة والثالث الأعلم بالإدارة وهكذا ويكون الحكم للجميع بأكثرية الآراء أو بصيغة قانونية يتم التوافق عليها برضا الأمة وهذا هو مقتضى الجمع بين الأدلة والحقوق كما أنه الأقرب إلى استشارية الحكومة الإسلامية كما هو الأقرب إلى الاحتياط ومعه لا يبقى مورد للاحتمالين الأول والثاني.

- المسألة العاشرة:

قد يقال بأنه لو كانت الشورى والانتخاب من قبل الأمة مصدراً للولاية شرعاً كان على الشارع الحكيم بيانها أصلاً وتفصيلاً في شرح حدودها وشرائطها وكيفياتها، لكنه بحسب التتبع لم يرد بيان من الشارع في ذلك أو لم يصل إلينا بيانه وعلى كل حال فعدم البيان أو عدم دليل عدم الاعتبار شرعاً أو عدم الوجوب وكذا عدم وصول البيان مسقط للحجية، لكن الظاهر إمكان أن يجاب عن هذا الكلام من وجوه أحدها بأن الشارع بيّن الحكم ولكن بيانه لا يتوقف على دليلٍ نقلي من آية أو رواية بل حكم العقل والعقلاء هو من البيان أيضاً كما قالوا نظيره في حكومة الاحتياط على البراءة العقليين فإن موضوع البراءة العقلية قبح العقاب بلا بيان وموضع الاحتياط العقلي وجوب دفع الضرر المحتمل ومن الواضح أنه في الشبهات الحكمية وخصوصاً التحريمية منها حتى وإن لم يصدر بيان لفظي من الشارع يحكم بوجوب الاجتناب إلا أن حكم العقل باحتمال الضرر على الإقدام على الشبهة يرفع موضوع اللابيان وكذا مثله يقال في ما نحن فيه وكم من حكم شرعي مهم أوكله الشارع على حكم العقل والعقلاء ولو بيّن فيه الشارع شيئاً كان إرشادياً لا مولوياً كحكمه بوجوب إطاعة الأمر في قوله عز وجل: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) بداهة أن حكم الشارع هنا هو إلفات للحكم العقلي وإرشاد إليه وإلا فإن العقل إذا التفت إلى الخالق المنّان والتفت إلى رسوله المبعوث من قبله والإمام المنصوب من قبل رسوله لا يحتاج إلى بيان شرعي في الحكم بوجوب الطاعة، فالآية الشريفة إذاً إرشادية ترشد العقل إلى وجوب الطاعة ولو لم ترد الآية في هذا المجال لكان العقل كافياً في الحكم بالطاعة، هذا فضلاً عن ورود النص في ذلك كما عرفته في الأدلة المتقدمة، بل لعلّ عدم بيان الشارع تفاصيل ذلك يعدّ من ميزات الشريعة السمحة السهلة ومن مزاياها البارزة حيث أراد الشارع بقائها إلى يوم القيامة وانطباقها على مختلف الأعصار والبلاد والظروف الاجتماعية والإمكانات الموجودة وهذا ما يتطلب عدم تحديد الأمة في أطر شرعية خاصة ما دامت الأطر الأخرى التي ترتضيها الأمة هي أيضاً تحقق الغرض. ثانيها أن مقتضى الشريعة الباقية الدائمة يتطلب بيان الأصول وإحالة التفاصيل والخصوصيات إلى المطّلعين على الحاجات والإمكانات والظروف من علماءها وأصل الشورى قد ورد في الكتاب والسنة مؤكداً كما أن أصل الانتخاب كذلك وفي كلام مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماما كان ذلك لله رضا، وعنه (عليه السلام): ولعمري لان كانت الإمامة لا تنعقد حتى تحضرها عامة الناس فما إلى ذلك سبيل ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها ثم ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار، فهو (عليه السلام) تعرض لبعض خصوصيات الشورى وجعل البلاد شورى أهل الحل والعقد وأهل العلم والمعرفة ولا يخفى أن شورى أهل الحل والعقد ناشئة من رضا جميع الأمة وأكثرهم، ولعل هذا كان في صورة عدم إمكان تحصيل آراء الأمة مباشرة، وأما مع إمكان تحصيلها بمرحلة واحدة أو مرحلتين كما هو واقع في أساليب بعض الدولة الحرة في مثل هذه الأزمنة فالواجب تحصيلها لتكون الحكومة أقوى وأحكم. وكيف كان فما هو الواجب على الشارع الحكيم هو بيان أصل الشورى والانتخاب والحث عليهما وقد بيّنها الشارع وأما الكيفيات والخصوصيات والشرائط فمفوضة إلى العقلاء وأهل العلم الواقفين على حاجات الزمان والظروف والإمكانات. الوجه الثالث تنظيراً بسائر الفروع والأحكام العبادية والمعاملية حيث اكتفى الشارع ببيان أصولها وترك التفريعات على العباد بحسب مقتضيات الزمان والمكان والحاجات والضرورات، فكما أنه ليس في الكتاب والسنة اقتصاد منظم مدون بتفاصيله وإنما وردت فيها كليات وأصول رتبها وشرحها الفقهاء وعين لها مجاري وقنوات وتطبيقات كما يظهر ذلك من مراجعة الفقه الاقتصاد للسيد الشيرازي (قدس سره الشريف) فكذلك الأمر في الحكومة والدولة حيث ترى أصولها وشرائطها الحاكم ومواصفاته مذكورة في الكتاب والسنة وعلى الفقهاء تفصيل هذه الشروط وتطبيقها وتقديمها كما هو الشأن في المعاملات وهو الشأن في العبادات أيضاً وعليه فعلى الفقهاء جمع الأدلة وبيانها، وعلى الخبراء في فنون السياسة والواقفين على ظروف الزمان تطبيقها على أساس الإمكانات المختلفة المتكاملة وبحسب الظروف والأمكنة والأزمنة كسائر الحاجات الاجتماعية وغيرها إذ لم يكن الانتخاب على أساس الشورى أمراً مستحدثاً جديد بل كان رائجاً بين العقلاء منذ زمان الشارع ففوض الشرع إليهم الكيفيات والخصوصيات وقد أراد الإسلام انفتاح باب الاجتهاد وإبقاء المجتهدين في جميع الأعصار على قدر من الحرية وإعمال النظر ليبقى الفقه نامياً ويتكامل بتكامل الزمان ويستوعب جميع الموضوعات المستحدثة والوقائع الحادثة، وهذا ما أراده الشارع كما يظهر في الحديث الوارد عن مولانا الصادق (عليه السلام) خطابا إلى العلماء والفقهاء: إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرعوا، وعن مولانا الرضا (عليه السلام): علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع.

- المسألة الحادية عشر:

قد يقال أن من معضلات الانتخاب هو إمكان التزييف والتحريف فيه خصوصاً وإن الكثير من الناس تؤثر فيهم الدعايات الكاذبة أو هم يقعوا في شراك ذلك لفقدانهم التقوى الكافية فتشترى آرائهم بالتطميع أو لا يملكون شجاعة كافية وقوّة نفسية فتُسلب آرائهم بالتهديدات فيلزم منه نقض الغرض من الانتخاب والوقوع في الفساد الكثير، لكن يمكن أن يجاب عن ذلك بوجوه أيضاً:

- الوجه الأول: بالنقض بانتخاب المفتي ومرجع التقليد حيث فوض ذلك إلى الأمة والطريق إليه هو العلم الشخصي أو الشياع المفيد له أو شهادة أهل الخبرة العدول وغير ذلك.

- الوجه الثاني: أن جهل الناخبين وبساطتهم أو عدم صلاحيتهم لا يضرنا كثيراً بعدما بيّنا أن المنتخب في الحكومة الإسلامية ينبغي أن يكون مؤهلاً بتوفر جملة من الشروط الشرعية والخبروية، وعليه فلا تنعقد الحكومة لفاقدها، وفي مقام العمل والتنفيذ أيضاً يكون الحاكم مقيداً بموازين الإسلام ومقرراته وليس له حرية مطلقة بأن يتجاوز على قوانين الإسلام، نعم يبقى احتمال اشتباه الناخبين أو تعمّدهم لانتخاب حاكم فاسد موجود إلاّ أنه يمكن أن يحل ذلك بإحالة تشخيص الحاكم الذي يجتمع فيه الشرائط إلى هيئة متخصصة موثقة أو يقام بتوعية الشعب على الفحص عن الأفضل وإعطاءهم المعايير الصحيحة فتميّز الحاكم الصالح من غيره، إذ لا يصلح لانتخاب ولا يُنتخب إلا من يرشح من قبلهم إلى ذلك، نعم ترد هذه الإشكالات على مثل الديمقراطية الغربية حيث لا تقيد بأيديولوجية خاصة أو بضوابط شرعية خاصة وإنما الأساس والمحور فيها أهواء الناخبين ومشتهياتهم كيفما كانت.

- الوجه الثالث: لنا أن نشترط في الناخبين شروطاً خاصة كما ذكره جمع ممّن تقدم حيث اشترط فيهم العدالة والعلم والتدبير المؤديين إلى اختيار من هو للإمامة أصلح ولعلّ مرجع ذلك إلى كون الرأي لأهل الحل والعقد لا جميع الأمة.

- الوجه الرابع: أن معرفة الأمة جميعاً لشخص واحد والاطلاع على حقيقة حاله وانتخابه مباشرة مما يمكن أن يصادف إشكالات وعقبات، ولكن معرفة أهل كل بلد لفرد خبير أو أفراد خبراء من أهل بلدهم يسهل ذلك جداً ولا سيما بعد الترشيح والإعلام الصحيح من أهل الصلاح فتنتخب الأمة الخبراء العدول والخبراء ينتخبون الوالي الأعظم فيكون الانتخاب ذا مرحلتين وهذا ما جرى في العديد من الدول الحرة وطبّقت هذا النظام وكانت في الجملة ناجحة وبالجملة الأمة جميعاً يشتركون في الانتخابات فلا تختص بأهل الحل والعقد ولكن نتيجة الانتخاب يمكن أن تتم بطريقتين والاطمئنان بالصحة في هذه الصورة أكثر وأقوى بمراتب إذ الخبراء قلّما يحتمل فيهم ما كان يحتمل في البسطاء من الأمة واحتمال رعاية الخبراء لمصالحهم الفردية دون مصالح المجتمع والمصالح النفس الأمرية يدفعه اشتراط العدالة فيهم مضافاً إلى الخبرة مضافاً إلى أنه لو قيل بهذا فإن هذا يرد في كثير من الموارد بما لا يمكن اجتنابه ولا يخفى أن الحلول المذكورة لا تعد حلاً إلا في أجواء حرة ومفتوحة وأما في الأجواء المستبدة أو أجواء الحرية المزيفة والديكتاتورية المتلبسة بالحرية فيمكن للمستبدين التصرف حتى في الهيئة المتخصصة وما أشبه.

نعم توعية الأمة على الصحيح والخطأ وبيان معايير الحق والباطل والأصلح وغير الأصلح هو المعيار الأفضل الذي يمنع من تولي المستبدين والمزيفين، هذا مضافاً إلى أنه لا يوجد تسليم بأن المجتمع كله قابل للخديعة إذ مهما كانت أشكال الخداع ودواعيه فإنه يبقى في المجتمع من لا ينخدع ولا يغره الشعارات أو ينجر وراء التزييف وعلى كل حال فإن الخديعة أو إمكان وقوع المجتمع فيها أو وقوعه بالفعل لا يمكن أن يلغي الانتخاب، بل تدعو هذه إلى تصحيح الانتخاب وتهيئة مقدمات لواقعيته وصدقه بالتوعية والإشراف والرقابة النزيهة والتقنين العادل ونحو ذلك دفعاً لمحذور الاستبداد أو انعدام النظام بانعدام السلطة، وكيف كان فإن محور الضمانة وخير ضمانة للوقوف أمام التحريف والخداع مطلقاً هو وعي الناس وفهمهم لما يحيط بهم من أخطار ومن ممارسات زائفة.

- المسألة الثانية عشر:

هل الملاك في الانتخاب آراء الجميع أو الملاك آراء الأكثر سواء كانت الانتخابات مباشرة أو كانت الانتخابات بوساطة أهل الحل والعقد، وجوه واحتمالات في المسألة؛ لكن التحقيق أن يقال أنه بعدما أثبتنا صحة الانتخاب وانعقاد الحكومة عند عدم النص نقول أن حصول الإجماع والاتفاق على فرد واحد أو رأي واحد مما يندر جداً بل هو مخالف لمقتضيات الطبيعة البشرية وتكوينها ولا سيما في المجتمعات الكبيرة وإن فرض كون جميعهم أهل علم وصلاح أو قلنا بأن الري يختص بأهل العلم والصلاح، ولا اعتبار برأي غيرهم ومن هنا فلا مجال لحمل الأدلة الدالة على صحة الحكومة بالانتخاب على صورة الاتفاق والإجماع لأنه إما غير ممكن عادة وإما غير واقع.

وقد استمرت سيرة العقلاء في جميع الأعصار والأصقاع على تغليب الأكثرية على الأقلية في هذه الموارد فتكون الأدلة الشرعية التي ذكرت على صحة الانتخاب إمضاء لهذه السيرة أيضاً، وقد روي في سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه في غزوة أحد مع أن نظره الشخصي كان في عدم الخروج من المدينة إلا أنه لما رأى أن رأي الأكثر هو الخروج أخذ بآرائهم وترك رأي الأقلية كما ذكره في الكامل في التاريخ، وبعبارة أخرى بعد فرض ضرورة الحكومة في حفظ النظام وحفظ الحقوق وعدم تحقّق النص من العالي وعدم تحقق الإطباق من قبل الأمة يدور الأمر بين تعطيل الحكومة أو الأخذ بآراء الأكثرية أو بآراء الأقلية وحيث أن الأول يوجب اختلال النظام وتضييع الحقوق بأجمعها فالأمر يدور بين الأخيرين ولا إشكال في ترجّح الأكثرية على الأقلية وذلك من جهتين؛ جهة حقوقية وجهة واقعية إذ أن تأمين حقوق الأكثر أهم وأوجب كما أن جهة الكشف والقرب من الواقع وتصويب الرأي في آراء الأكثرية أقوى فترجيح الأقلية على الأكثرية يوجب ترجيح المرجوح على الراجح وهو منافٍ للحكمة وفي نهج البلاغة يقول (عليه السلام): إلزموا السواد الأعظم فإن يد الله مع الجماعة وإياكم والفرقة فإن الشاذ من الناس للشيطان كما أن الشاذ من الغنم للذئب، وفي مقبولة عمر بن حنظلة في الخبرين المتعارضين ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه والمراد من المجمع هنا ليس الانطباق بل بقرينة الحكم والموضوع المراد منه هو الأكثرية، وكذلك ورد متظافراً في روايات اهل السنة، فيستأنس من جميع ذلك أنه في مقام تعارض الأكثرية والأقلية يؤخذ برأي الأكثرية للابدية ذلك عقلاً ولأقربيته للواقع ولأهميته في تحقيق الغرض نعم يقع الإشكال في حقوق الأقلية والغيّب والقصّر ومن يولد بعد الانتخاب فإنه كيف لرأي الأكثرية أن يحكم عليهم وفي خبر الكناسي عن أبي جعفر (عليه السلام): لا تبطل حقوق المسلمين فيما بينهم، وفي خبر أبي عبيدة عن أبي جعفر (عليه السلام): لا يبطل حق امرئ مسلم، فإن مثل هذه الروايات تدل على حقوق أي واحد في المجتمع كان من الأقلية أو كان من الأكثرية هذا مضافاً إلى أنه قلما يوجد مجتمع لا يكون فيه الغيب والقصر ومن يولد بعد الانتخابات فكيف ينفذ انتخاب غيرهم بالنسبة إليهم وكيف تحفظ حقوقهم في الأموال العامة التي خلقها الله عز وجل لكافة الناس كالمعادن والمفاوز والغابات ونحو ذلك؟.

ويمكن الإجابة عنه بأن هذا مقتضى الضرورة التي قامت عليه الحياة البشرية إذ لازم استقرار الاجتماع وانتظامه تحديد المصالح والحريات الفردية في إطار المصالح الاجتماعية ودخول الإنسان في الحياة الاجتماعية وفي ظل المجتمع يقتضي طبعاً التزامه بكل لوازمها وإذا بدت فكرتان مختلفتان في حفظ النظام وتأمين المصالح العامة فحفظ النظام واستقراره يتوقف قهراً على ترجيح إحديهما على الأخرى في مقام العمل، وفي هذه الصورة لا مناص من تغليب الأكثرية على الأقلية وهذا ما استمرت عليه سيرة العقلاء إذ تغليب الأقلية ترجيح للمرجوح والعقل يحكم بقبحه، فالأقلية الداخلة في المجتمع بدخولها فيه ودخلوها في الانتخابات كأنها التزمت بقبول فكرة الأكثرية في مقام العمل والتنازل عن الفكرة نفسها عند تزاحم الفكرتين وعدم إمكان الجمع بينهما وذلك للقاعدة العقلية القائلة بأن من التزم بشيء التزم بلوازمه نظير ما إذا استدعى الإنسان تبعية دولة خاصة فإنها تقتضي التزامه بمقررات هذه الدولة أو ساهم في مؤسسة تجارية مبتنية على برنامج خاص فإن نفس مساهمته في هذه المؤسسة وإقدامه عليها التزام منه ببرامجها وأحكامها وعليه فلكل من أقسام الحياة الفردية والاجتماعية لوازم وأحكام وكذا في الأمور العائلية، والتزام الإنسان بكل منها ووروده فيها التزام منه بآثارها ولوازمها، فكما أن التزامه بالحياة العائلية التزام منه بآثارها من تحديد الحريات الفردية والالتزام بأداء الحقوق للعائلة والأولاد فكذلك وروده في الحياة الاجتماعية والاستمتاع بإمكانياتها فإنه التزام منه بلوازمها أيضاً ومن جملتها قبول فكرة الأكثرية وترجيحها عند التزاحم في المسائل الاجتماعية المختلفة التي من أهمها مسألة انتخاب الحاكم وهذا ما أذعن به العقلاء واختاروه حلا للمعضلة إذ أن الأمر يدور بين اختلال النظام أو الأخذ بإحدى الفكرتين والأول مما لا يجوز عقلاً وشرعاً يتعين الأخذ بالأكثرية لترجح آراء الأكثرية على آراء الأقلية من جهة الحقوق ومن جهة الواقع.

وكذا الكلام بالنسبة إلى الغيب والقصر والمتولّد بعد الانتخاب كل ذلك لاستمرار سيرة العقلاء على ذلك وإمضاء الشارع الحكيم لها بما مر من الأدلة، والسر في جميع ذلك بأن المجتمع بما هو مجتمع له لوازم وأحكام خاصة عند العقلاء ولا يحصل النظم والاستقرار فيه إلا مع الالتزام بها والمفروض أن الشارع المقدس أمضاها حفظاً للنظام والحقوق بقدر الإمكان فلا يضر تضرر الأقلية أو القصّر أحياناً في ظل المجتمع أو مقرراته بعدما يكون غنمهما ببركة المجتمع أكثر بمراتب وهذا ما يحكم به العقل والوجدان.

مضافاً إلى إمكان تقنين بعض الصيغ والأطر القانونية التي يمكن بها ضمان حق الأقلية وما أشبه ذلك، بما لا يمنع من الانتخاب وفي نفس الوقت يحفظ حقوق الأكثرية والأقلية وهذا أمر موكول إلى أهل الخبرة والاختصاص في هذا الشأن.

- المسألة الثالثة عشرة:

إذا لم تقدم الأمة على الانتخاب أو لم يكن هناك انتخاب أو كان المتصدي للانتخاب غير شرعي فهل تبقى الأمور العامة معطّلة أو يجب التصدي لها من باب الحسبة فيتصدى لها كل فقيه جامع للشرائط مهما أمكنه من ذلك.

الظاهر عدم الإشكال في وجوب تصدي الفقهاء الواجدين للشرائط للأمور المعطلة من باب الحسبة إذا أحرزنا عدم رضا الشارع الحكيم بإهمالها وتركها في أي ظرف من الظروف ولا تنحصر الأمور الحسبية في الأمور الجزئية كحفظ أموال الغيب والقصر والأوقاف إذ حفظ نظام المسلمين وثغورهم ودفع شرور الأعداء عنهم وعن بلادهم وبسط المعروف فيهم وقطع جذور المنكر والفساد عن مجتمعهم من أهم الفرائض ومن الأمور الحسبية التي لا يرضى الشارع الحكيم بإهمالها قطعاً فيجب على من تمكن منها أو من بعضها التصدي للقيام بها، وإذا تصدّى واحد منهم لذلك وجب على باقي الفقهاء فضلا عن الأمة مساعدته على ذلك مهما أمكن ما دام ملتزماً بالشرائط، ولعل من العجب أن يهتم بحفظ دراهم معدودة للصغير أو الغائب ونحوهما من باب الحسبة ولا يهتم بحفظ كيان الإسلام ونظام المسلمين وثغورهم في بلادهم، أو تترك هذه الأمور الخطيرة للفاسدين أو غير الكفوئين فيخلّون بالنظام ويضيّعون الحقوق والفقهاء العدول الواجدون للشرائط هم القدر المتيقن للتصدي في مثل هذه الأمور لصلوحهم للحكومة وتحقق الشرائط فيهم على ما مر من الأدلة.

إن قلت إذا سلمنا أن شؤون الحكومة لا تتعطل على أي حال وأنه إذا فقد النص والانتخاب وجب على الفقهاء التصدي لها حسبة فلأحد أن يقول لا يبقى على هذا وجه لوجوب إقدام الأمة على الانتخاب إذ المفروض عدم تعطل الحكومة قلت فعلية الحكومة تحتاج إلى قوة وقدرة حتى يتمكن الحاكم من إجراء الحدود وتنفيذ الأحكام، ومن الواضح أن انتخاب الأمة مما يوجب قوة الحكومة ونجدتها وأما المتصدي حسبة فكثيراً ما لا يجد قدرة تنفيذية فيتعطل قهراً كثير من الشؤون.

- المسألة الرابعة عشرة:

هل الانتخاب للحاكم من قبيل العقود الجائزة كالوكالة فيجوز للأمة فسخها ونقضها مثلاً مهما أرادت أو هو من قبيل العقود اللازمة من قبيل البيع مثلاً فلا يجوز نقضه إلا مع تخلف الحاكم عن الشروط والالتزامات الظاهر من الأدلة انه نوع تعهد وتعاقد من الطرفين في قيام الحاكم بمهام الأمة ورعاية حقوقها مقابل أن تلتزم الأمة باحترامه وطاعته والانضباط تحت ضوابطه فتشمله حينئذٍ أدلة اللزوم في العقود كقوله تعالى: (أوفوا بالعهود) وكقولهم (عليهم السلام): المؤمنون عند شروطهم، مضافا إلى أدلة العقد إذ أن الوجدان يلزمنا بإطاعة الحاكم المنصوب كما يلزمنا بإطاعة الحاكم المنتخب فإن مقتضى ولاية الأمر إذا كانت عن حق يستدعي الإطاعة وإلا لما تمّ الأمر ولما حصل النظام والشرع أيضاً بإمضائه للانتخابات يلزمنا بالإطاعة، وقد استظهر بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا لرسول وأولي الأمر منكم) شمول الآية بعمومها لكل من صار ولي الأمر عن حق وإن كان بالانتخاب إذا كان واجداً للشرائط وكان انتخابه على أساس صحيح.

هذا وبالجملة لا فرق في حكم الوجدان بين الإمام المنصوب والإمام المنتخب مع فرض صحة الانتخاب وإمضاء الشرع له والانتخاب وإن أمكن أن يكون في الوكالة أو النيابة والاستنابة أو التفويض عما قد يطلق عليه وكالة بالمعنى الأعم المتضمن لإيكال الأمر إلى الغير أو تفويضه إليه وفي كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى أصحاب الخراج: فإنكم خزان الرعية ووكلاء الأمة وسفراء الأئمة، ولكن إيكال الأمر إلى الغير قد يكون بالإذن له فقط، وقد يكون بالاستنابة بأن يكون النائب وجوباً تنزيلياً للمنوب عنه وكأن العمل عمل المنوب عنه وقد يكون بإحداث الولاية والسلطة المستقلة للغير مع قبوله.

والأول ليس عقداً والثاني عقد جائز على ما ادعوا عليه الإجماع وأما الثالث فلا دليل على جوازه بل إطلاق أدلة العقود تقتضي اللزوم، نعم قد يقال حتى على الاستنابة فإن العناوين الثانوية تقتضي اللزوم أيضاً بداهة أنه لا يمكن أن يستناب الحاكم عن الناس في أمر الحكومة ثم يُجعل زمام بقاءه وعدمه بمقتضى جواز العقد فإنه يفتح باباً للفوضى واختلال النظام، وعليه فإنه إذا اختير الحاكم يبقى حاكماً ما دام ملتزماً بالشرائط ويلزم الناس مراعاة مقتضيات حكومته.

نعم يمكن الجمع بين الأمرين بوضع مدة معينة للتفويض يقدم عليه الجميع منتخِباَ ومنتخبَاً ويلتزمان بشرائطها فحينئذٍ ينتظر حتى تنتهي مدته أو يوكل إلى تقنين معين أو هيئة منصفة ولا يجعل أمره بين أذواق الناس وأهوائهم حتى يعزلوه لأدنى سبب هذا وينصبوه لأدنى سبب، هذا ولا يخفى أن مقتضى الولاية يستدعي اللزوم والثبات وإلا لم يحصل النظام ولزم نقض الغرض والخلف. وسيرة العقلاء استقرت على ترتيب آثار اللزوم عليها أيضاً بحيث يضمون الناقد لها اللهم إلا مع تخلف الحاكم عن تكاليفه والتزاماته، وفي نهج البلاغة: وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب والإجابة حين أدعوكم والطاعة حين آمركم، حيث يستظهر منهم لزوم الانتخاب وبقاء الحاكم حاكماً ما دام ملتزماً بتعهداته والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.