المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 25.doc

- الدليل الثاني: على شرعية الانتخاب سيرة العقلاء فإنها مستمرة في جميع الأعصار والظروف على الاستنابة في بعض الأعمال وعلى تفويض ما يعصر إنفاذه مباشرة إلى من يقدر عليه ويتيسر له وخصوصاً في الأمور العامة التي تحتاج إلى خبرة ودقة نظر وقرار صائب وحسن تدبير كالدفاع عن البلاد وإيجاد الطرق ووسائل الارتباط وكذا التنمية الاقتصادية والاجتماعية والحرية السياسية والأمن والنظام ونحوها مما لا يتيسر لك فرد تحصيلها شخصاً ومباشرةً فينتخبون لذلك حاكماً متمكناً ويفوضونها إليه ويساعدونه على تحصيلها ومن هذا القبيل أيضاً إجراء الحدود والتعزيرات وفصل الخصومات حيث إنه لا يتيسر لكل فرد فرد التصدي لها بل يوجب ذلك الهرج والمرج واختلال النظام فيفوض إجراءها وتنفيذها إلى من يتبلور فيه كل المجتمع وهو الوالي المنتخب من قبله فوالي المجتمع كأنه ممثل لهم أو وكيل عنهم أو نائب في إنفاذ الأمور العامة والتمثيل أو الإستنابة والتوكيل أمور عقلائية قامت عليه السيرة العقلائية في كل الشروط وفي جميع الأعصار والأمصار وأمضاه الشارع أيضاً وفي نهج البلاغة في كتاب مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى أصحاب الخراج ورد فيه فإنكم خزان الرعية ووكلاء الأمة وسفراء الأئمة فعبر (عليه السلام) عن أصحاب الخراج الذين هم شعبة من شعب الولاة بوكلاء الأمة فما بالك بنفس الحاكم وبنفس الوالي ومن الواضح أنه إذا تعدد المتصدون أو من لهم الأهلية في ذلك فإن أمكن جمعهم في مجلس واحد وكانت حاجة لذلك كان الجمع أولى لأنه مقتضى الجمع بين الحقوق وأما إذا لم يمكن الأول أو لم تكن حاجة إليه فإنه يدور الأمر بين ترك الأمر لكل جماعة يحكمون من يرتضونه وهذا فوضى واختلال النظام أو ينصبون من يوصي بالغرض بواسطة الانتخاب وهو المطلوب.

- الدليل الثالث: النصوص المتضافرة التي تثبت شرعية ذلك بعد تعاضدها سنداً ودلالةً منها ما دل من الآيات والروايات على الحث على الشورى والأمر بها في مختلف الشؤون وخصوصاً الحكومة والدولة كقوله تبارك وتعالى: (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم) في مقام بيان صفات المؤمنين فهي جملة خبرية في مقام الإنشاء دلالتها على الوجوب أأكد على دلالة صيغة الأمر وعن رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) إذا كانت أمرائكم خياركم وأغنيائكم سمحائكم وأموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير من بطنها كما رواه الفريقان ووجه الاستدلال في كلمتي شورى والأمر فإن الشورى تعني مبادلة الآراء وأخذ الأفضل منها كما هو المتبادر منها ومن الواضح أن لها مصداقين أحدهما الشورى في إعمال الولاية وممارسة شؤون السلطة كما هو متعارف في الحكومات والدول ولعله المتبادر منه أولاً.

ثانيها الشورى في التنصيب والتعيين وإطلاق الأدلة يشمل الاثنين والتبادل في الأول مدوي ولذا قامت السيرة العقلائية عليهما معاً ويؤيد ذلك ما في العيون عن الرضا (عليه السلام) بإسناده عن النبي الأعظم (صلىالله عليه وآله وسلم) قال من جاءكم يريد أن يفرق الجماعة ويغصب الأمة أمرها ويتولى من غير مشورة فاقتلوه فإن الله قد أذن ذلك وهذا الحديث ظاهر في شورى التعيين لا في شورى الممارسة والتطبيق.

وأما كلمة الأمر في الآية وفي الروايات فتنصرف إلى المهم من الأمور والحكومة من أهمها وعلى فرض الشك في العموم أو الإطلاق الشاملين لكل أمر فإن القدر المتيقن منه هو الحكومة والسلطة قال سبحانه وتعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) وعن رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة وفي نهج البلاغة فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة وفي كتاب مولانا الحسن المجتبى (عليه السلام) إلى معاوية ولاّني المسلمون الأمر بعده إلى غير ذلك من موارد استعمال الكلمة الواردة في شؤون الحكومة والسلطة لا في غيرها.

وعلى هذا فالولاية تنعقد بشورى ولها صيغ وطرق مختلفة منها بواسطة شورى أهل الخبرة بعد انتخابهم من قبل الأمة أو بمباشرة الأمة نفسها إذ لا مانع بعد تحقق أصل الانتخاب بين أن يكون بالمباشرة أو بالواسطة كما هو المشاهد في تجارب الأمم والشعوب المختلفة إذ ما دام لا يوجد نص خاص يعين أحد الطرق فمعناه أن الشارع أوكله إلى رأي الناس بما يرونه مناسباً لشؤونهم وطرقهم كما هو مقتضى دلالة الاقتضاء ولا يخفى عليك أن المراد بالشورى هي التنصيبية في غير موارد النص أي في غير زمان حضور للمعصوم (عليه السلام) وإلا فإنه مع وجود النص لا شورى إذ لا اجتهاد مقابل النص نعم ترقى الشورى في شؤون التدبير والتطبيق وأما في زمان الغيبة فيمكن القول بهما معاً وبذلك يظهر بطلان ما يقوله العامة من شورى التعيين بعد النبي لتواتر النص في الآيات والروايات على الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ثم الأئمة الأحد عشر من بعده والظاهر أن المناقشة معهم صغروية لا كبروية لأنهم ينكرون وجوه النص لأمور وشبهات لا مجال لها وإلا فإن من المستبعد أنهم يقولون بالاجتهاد في مقابل النص ومنها ما في كتاب سليم ابن قيس عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال والواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يقتل أن لا يعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً ولا يقدموا يداً ولا رجلاً ولا يبدءوا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً عالماً ورعاً عارفاً بالقضاء والسنة يجمع أمرهم ويحكم بينهم ويأخذ للمظلوم من الظالم حقه ويحفظ أطرافهم وهو صريح في وجوب اختيار الناس لمن يقضي بينهم ويحكم في شؤونهم وينظم أمرهم نعم ذلك في صورة عدم النص وظاهر الخبر أنه في مقام الإنشاء فيفيد وجوب الاختيار كما ويعضده قوله الواجب الذي هو نص في الوجوب فضلاً عن قوله في حكم الله وحكم الإسلام الكاشف عن الوجوب الشرعي فيه وإن لم يكن في الإرشاد لأسبقية حكم العقل به ومن الواضح أن الحديث دل على الاختيار الأفضل بتوفر الشرائط مما يكشف عن تمام العلة في شرعية السلطان من توفر المؤهلات ثم الاختيار نعم لا ينبغي الشك في أن ذلك يصح في صورة الغيبة وعدم وجود النص الخاص وإلا فإن الاختيار متأخر خطوة عن النص كما عرفت ويعضده ما في كتاب أعاظم الكوفة إلى مولانا سيد الشهداء (عليه السلام) وما في جوابه لهم حيث جاء فيه أما بعد فالحمد لله الذي قسم عدوك الجبار العنيد الذي انتزع على هذه الأمة فابتزها أمرها وغصبها فيئها وتأمر عليها بغير رضاً منها وفي جوابه (عليه السلام) إليهم يقول وإني باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل فإن كتب إلي أنه قد اجتمع رأي عملائكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم فإني أقدم إليكم وشيكاً كما رواه المفيد في إرشاده وابن الأثير في كامله فأعاظم الكوفة من أمثال حبيب ابن مظاهر عدو الإمامة أمر الأمة واعتبروا فيها رضاها والإمام (عليه السلام) جعل الإمامة رأي الملأ ورأي الولاة والأفاضل وهو ينطبق عليهم عنوان أهل الخبرة وأهل الحل والعقد المستعقب قهراً لرضا الأمة ورأيها كما هو عليه سيرة الأمم من تسليم زمامها إلى الخبراء والعقلاء منها.

ويعضد ذلك أيضاً ما في الدعائم عن جعفر بن محمد (عليه السلام) أنه قال ولاية أهل العقل الذين أمر بالله بولايتهم وتوليتهم وقبولها والعمل لهم فرض من الله إذ الظاهر منه أن التولية من قبل الأمة فريضة من الله فتكون هذه الولاية صحيحة ونافذة قهراً ويعضده أيضاً ما في تاريخ اليعقوبي في غزوة مؤتة عن بعضهم ما ملخصه أن رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) قال أمير الجيش زيد بن حارثة فإن قتل فجعفر بن أبي طالب فإن قتل فعبد الله بن رواحة فإن قتل فليرتض المسلمون من أحبوا وهذا ما رواه الماوردي أيضاً في الأحكام السلطانية والحديث ظاهر بل صريح في أنه (صلىالله عليه وآله وسلم) فوض انتخاب الأمير بعد ابن رواحة إلى أنفسهم فيظهر منهم صحة ذلك وانعقاد الإمارة له بأحكامها ولوازمها التي منها لزوم التسليم والطاعة فيشمل ذلك السلطة والحكومة العامة أيضاً في غير الجيش لعدم الخصوصية أو بفهم عدم الخصوصية ولا يقال أنها قضية خارجية لأن المورد لا يخصص الوارد مما قد يستفاد منها خبرة كلية تجري في مختلف الشؤون التي لم يرد فيها نص على الحاكم فإن الأمر موكول على الأمة.

ومنها ما في نهج البلاغة لما أرادوا بيعته بعد قتل عثمان قال مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): دعوني والتمسوا غيري واعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغى إلى قول القائل وعتب العاتب وإن تركتموني فأنا كأحدكم ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً، ونحو ذلك ورد في تاريخ الطبري والكامل لابن الأثير أيضاً ويظهر من الحديث أن الأمر أمر المسلمين وأن توليته بأيديهم إن قلت لعل هذا منه (عليه السلام) كان جدلاً في قبال المنكرين لنصبه وخلافته قلت نعم ولكنه ليس جدلاً بأمر باطل مخالف للواقع بل النص كما عرفت مقدم على الانتخاب لكن حيث أنهم لم يسلموا بنصبه أو أنكروا نصبه ذكر الانتخاب الذي هو متأخر عنه رتبة فلعله يستفاد منه أن هذا النص يكشف عن ارتكاز العقلاء من الناس في لزوم اختيار الحاكم في صورة عدم تنصيبه بالنص ويعضد هذا المضمون طائفة من الروايات ففي تاريخ الطبري بسنده عن محمد ابن الحنفية قال كنت مع أبي حين قتل عثمان فقام فدخل منزله فأتاه أصحاب رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل ولا بد للناس من إمام ولا نجد اليوم أحداً أحق بهذا الأمر منك لا عقد سابقة ولا أقرب من رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) فقال: لا تفعلوا فإني أكون وزيراً خيراً من أن أكون أميراً فقالوا لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك قال: ففي المسجد فإن بيعتي لا تكون خفية ولا تكون إلا عن رضا المسلمين فجعل (عليه السلام) لرضا المسلمين اعتباراً وجعل الإمامة ناشئة منه وحتى على القول بأنه كان في مقام إلزام المنكرين أو معاملة الناس بما يعرفون ويعتقدون به في مسألة البيعة فإنه كاشف عن أن الرتبة في تنصيب الأئمة والحكام بعد النص الخاص والانتخاب واختيار الأمة فهو المرتكز العقلائي أيضاً في سيرة النص وفي الكامل بعد ما مر منه ولما أصبحوا يوم البيعة وهو يوم الجمعة حضر الناس المسجد وجاء علي (عليه السلام) وصعد المنبر وقال: أيها الناس إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم وقد افترقنا بالأمس على أمر وكنت كارهاً لأمركم فأبيتم إلا أن أكون عليكم ألا وأنه ليس لي دونكم إلا مفاتيح ما لكم وليس لي أن أخذ درهم دونكم كما رواه الطبري أيضاً مقطعاً.

وفي نهج البلاغة وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضاً فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وفي كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى شيعته وقد كان رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) عهد إلي عهداً فقال: يا ابن أبي طالب لك ولاء أمتي فإن ولوك في عافية وأجمعوا عليك بالرضا فقم بأمرهم وإن اختلفوا عليك فدعهم وما هم فيه كما في كشف المحجة لابن طاووس ولا يخفى إن الولاء وإن كان لأمير المؤمنين بالنصب عندنا ويدل عليه الخبر أيضاً ولكن يظهر منه أن لتولية الأمة أيضاً أثر وان الأمر أمرهم فيكون في طول النص وفي الرتبة المتأخرة عنه.

وفي شرح ابن أبي الحديد لنهج البالغة عن رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) أنه قال إن تولوها علياً تجدونه هادياً مهدياً فنسب (صلىالله عليه وآله وسلم) التولية إلى الأمة مباشرة وهو ظاهر في حرية الاختيار.

ومن الروايات ما في كتاب الحسن بن علي (عليه السلام) إلى معاوية إن علياً لما مضى لسبيله ولاني المسلمون الأمر بعده فدع التمادي في الباطل وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي فإنك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك كما ذكره أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين ويظهر من الحديث أن التولية حق للمسلمين والاعتراض على ذلك بكونه جدلاً أو في مقام الإلزام قد مر الجواب عنه ويعضده أيضاً ما في كتاب صلح الحسن (عليه السلام) مع معاوية صالحه على أن يسلم إليه ولاية أمر المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنة رسوله (صلىالله عليه وآله وسلم) وسيرة الخلفاء الصالحين وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين ويظهر من الحديث أنه مع عدم التمكن بالعمل بالنص مع أي دليل كان تصل إلى شورى المسلمين وآرائهم ومما روي أيضاً بطرق مختلفة عن رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) أنه قال: ما ولت أمة قط أمرها رجلاً وفيها أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتى يرجعوا إلى ما تركوا والحديث الظاهر في نسبة ذلك إلى الأمة وان له الخيار في تولية الزعيم والرئيس الذي تريده ومنها ما في العيون عن الرضا بإسناده عن النبي (صلىالله عليه وآله وسلم) قال: من جاءكم من يريد أن يفرق الجماعة ويغصب الأمة أمرها ويتولى من غير مشورة فاقتلوه إذ الظاهر منه إضافة الأمر إلى الأمة أيضاً وهذه الإضافة كاشفة أنه باختيارها ورضاها.

ومن الروايات ما في معاهدة النبي (صلىالله عليه وآله وسلم) مع أهل مكة ورد فيها وهل ليس عليكم أمير إلا من أنفسكم أو من أهل رسول الله والسلام كما أوردها في الوثائق السياسية وظاهره انتخابهم لأحد من أنفسهم والعطف بأو في الجملة إما يفيد البدنية أو التأخر الرتبي أي في صورة عدم نص الرسول على الأمير يكون لهم الخيار وكيف كان فإن الحديث ظاهر في ما ذكرنا ويعضده ما في سنن أبي داوود بسنده عن أي سعيد الخدري أن رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) قال إذا خرج ثلاثة في سفر فليأمروا أحدهم وبسنده عن أبي هريرة عنه (صلىالله عليه وآله وسلم) نحوه وفي مسند أحمد عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) قال: لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلات إلا أمر عليهم أحد فيعلم بذلك أن الاجتماع لا يصلح ولا ينتظم إلا بأمير وإنه تصلح الأمة بانتخابه إذا لم يكن منصوباً إذ أن التأمير على الاثنين أو الثلاثة في الأمة في الأوامر الشخصية يكشف أولوية ذلك في الأمة أيضاً بنحو جماعي.

ومنها متضافر الآيات الشريفة الدالة بأن الله تعالى استخلف الإنسان في الأرض ويمكن استظهار ذلك من طائفة منها منها قوله تبارك وتعالى: (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره) ومنها قوله سبحانه وتعالى: (عم يجيب المضطرَ إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض) ومنها قوله سبحانه وتعالى: (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم) وصفوة القول فيها أن مقتضى هذه الآيات هو أن الله سبحانه شرف الإنسان باستخلافه وجعله خليفته في الأرض فكان الإنسان بذلك خلقاً ممتازاً على جميع مخلوقات الكون وبهذه الخلافة والاستخلاف استحق أن تسجد له الملائكة إكراماً وإعظاماً وإظهاراً لفضله ومقامه واستجابة لأمر الله سبحانه وتعالى ولا يخفى أن كون الإنسان خليفة الله في الأمر يستفاد منه أمران:

- الأول: كون الإنسان خليفة لله سبحانه في تمثيل أسمائه وصفاته الحسنى فهو بما أنه خليفة الله يحكي بوجوده قدرة الله المستخلف له وعمله فهو يفكر ويهندس ويجد ويعمل فيجعل الجبل سهلاً والأرض القاحلة خصباً والخراب عمراناً والبراري انهاراً وسبلاً ويولد بالتلقيح أزواجا من النبات والحيوان ويتصرف في التنمية والاستثمار وبضروب التربية والتغذية والتوليد فهو ينتفع بكل نوع منها ويسخره لخدمته كما سخر القوى الطبيعية وسائر المخلوقات ولأجل خلافة الإنسان عن الله سبحانه في الأمور التكوينية جعل الله تعالى عمارة الأرض على عاتق هذا الإنسان حتى ينفذ بعمله وتعميره للأرض تدبير الله سبحانه وتعالى فقال: (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) وكما أن الله عز وجل رب البقاع والبهائم ومدبرها فإن الخليفة مسؤول عنها كما هو مقتضى الخلافة ومسؤول عن العناية بها أيضاً كما قال مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) إنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم وعن الرسول الأعظم (صلىالله عليه وآله وسلم) ككلم راع وكلكم مسؤول عن رعيته وخلاصة هذا البعد هي خلافة الإنسان على الله في الأمور التكوينية بما أعطاه الله سبحانه من مقدرة وعظمة وقدرة على التفكير والهندسة والاستثمار والاستعمار.

- الثاني: أن الإنسان يخلفه سبحانه في الأمور الاجتماعية ونعني بها الأمور الراجعة إلى القيادة والحاكمية والسلطنة فإن كون الإنسان خليفة لله في الأرض لا يقتصر على ما ذكر بل يعم كونه خلفة فيها في الحكم والحاكمية أيضاً كما هو مقتضى إطلاق الاستخلاف إذ من المعلوم أنه إذا كان الإنسان مسؤولاً للخلافة عن تعمير البقاع مخلفاً بالعناية بالبهائم وتدبير شؤونها فإنه بالأحرى مسؤول ومكلف بتدبير نفسه ومجتمعه وهذا ما يعبر عنه بخلافته عن الله سبحانه في الأمور الاجتماعية والسلطوية أي الحاكمية وعلى ذلك يكون معنى استخلاف الله للإنسان أنه خول إليه أمر القيادة وتدبير مجتمعه وممارسة الحكم والولاية في إقامة ضوابط والصور التي جاء فيه الدين الحنيف فخلافة الإنسان عن الله لا تنحصر في الأمور التكوينية من عمارة الأرض وغيرها بل تعم حاكميته وقيادته نيابة عن الله سبحانه فهو بوجوده الفردي يحكي عن أسمائه وصفاته وبوجوده الاجتماعي يمثل حاكمية الباري عز وجل العليا في الأرض إذا الحاصل مما ذكرنا أن للناس أن يزاولوا الحاكمية في الأرض بمقتضى الخلافة والنيابة عن الله سبحانه ولكن من البين أن هذا لا يتحقق إلا بتقسيم المسؤوليات في عامة المجالات الحكومية حتى تفزع جماعة لإدارة شؤون المجتمع الإنساني وسياسته وعلى هذا الأساس تقوم فكرة سيادة الأمة وشرعيتها وتتجه شرعية ممارسة الجماعة البشرية لولاية الحاكمية على نفسها وبالتالي يبتلي عليه مبدأ الانتخاب في الشعب للحكام في النظام الإسلامي السياسي.

ومنها الآيات والروايات المتضمنة للتكاليف الاجتماعية التي لوحظ فيها مصالح المجتمع الإسلامي بما هو مجتمع وخوطب بها الأمة مع توقف تنفيذها على وجود دولة وقدرة مبسوطة اليد فإن المجتمع بما أنه مجتمع وإن لم يكن له في النظر الدقي الفلسفي وجود واقعي وراء وجودات الأفراد ولكنه عند علماء الاجتماع يتمتع بواقعية عرفية عقلائية فله مظاهر وله مزايا وله آثار في مقابل الوجود الفردي ويعتبر له خصوصيات الموت والحياة والرقي والانحطاط والحقوق والواجبات كما هو الشأن بالنسبة للأفراد فهو من حيث الوجود وإن كان عبارة عن مجموعة الأفراد إلا أنه من ناحية الاعتبار العقلائي له كيان خاص وله نظرة خاصة وصفات وسمات خاصة وقد اعتنى القرآن الكريم بتواريخ الأمم كاعتنائه بتواريخ الأشخاص أيضاً وقصصهم ومزاياهم والشريعة الإسلامية كما أوجبت على الفرد في حياته الفردية واجبات فكذلك وضعت على عاتق المجتمع واجبات وتكاليف خوطب بها المجموع ولعل الواجبات الكفائية ونحوها تشير إلى هذا. قال تبارك وتعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا) والخطاب هنا موجه إلى المجموع وليس إلى فرد خاص وقال عز وجل: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فائت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين) وقال عز وجل: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ورباط خيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) وقال عز وجل: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله) وقال تبارك وتعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة) إلى غير ذلك من الآيات التي جاءت بتكاليف شرعية وخوطب بها المجتمع من حيث المجموع وروعيت فيها مصالحه ومن الواضح أن المجتمع يتركب من رجال ونساء وأطفال وشيوخ ومرضى ومعوقين وأصحاء ونحو ذلك وطائفة منهم كبيرة لا يقدرون على ذلك امتثالاً لهذه التكاليف من إقامة الحدود والجهاد في سبيل الله والإصلاح بين البغاة والمؤمنين والإعداد للقوة وما أشبه ذلك كما أن اصل الحرب والدفاع وتطبيق الحدود مما يحتاج إلى قوة وقدرة وإعداد وخبرة يتوقف تنفيذها على جماعة متفرغة لذلك وقدرة متركزة وجهاز حكم يتولى ذلك فلا محالة إذاً بحسب دلالة الاقتضاء يجب على المجتمع الإسلامي أن يقوم بتشكيل دولة قادرة وقوية يفوض إليها مهمة القيام بهذه التكاليف والوظائف وإلا كانت لغوية أو انتهت إلى الاختلاف والفوضى وهدر الحقوق والدماء والأموال إذ لا يعقل أن يتوجه إلى المجتمع التكليف ولا يكون على عاتقه إعداد ما يتوقف الامتثال عليه فيجلب عليه ذلك من جهة المقدمية لأن ما يتوقف عليه الواجب واجب وليس لكل فرد التصدي لأدائها ارتجالاً للزوم الهرج والمرج إذاً لا بد لها من قانون ونظام وحاكم وهذا هو مفاد الدولة والسلطة وحيث تتعدد الاختيارات في تعيين هذه السلطة والحاكم عليها لا محالة من الرجوع إلى الانتخاب إذاً لأن البدائل الأخرى غير وافية بالغرض ولا موصلة إليه ويعضد مجموع هذه الأدلة أمور أحدها أن انتخاب الأمة للوالي وتفويض الأمور إليه وقبول الحاكم لها نحو معاقدة ومعاهدة بين الأمة وبين الحاكم فيدل على صحتها ونفوذها جميع ما دل على صحة العقود ونفوذها من بناء العقلاء ومن مثل قوله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) ومن مثل قول الإمام الصادق (عليه السلام) في صحيحة عبد الله ابن سنان المسلمون عند شروطهم إلا كل شرط خالف كتاب الله عز وجل فلا يجوز ونحوه غيره بناء على شمول الشرط للاتفاق والتعاهد الابتدائي أيضاً كما هو غير بعيد إن قلت وجوب الوفاء بالعقد يتوقف على كون العمل المعقود عليه تحت اختيار الطرفين حتى يقبل التعاقد عليه لكن الولاية والحكم تقع في اختيار الأمة لا في اختيار الحاكم فالأمة هي التي تختار حاكمها وتفوض إليه شؤونها قلت قد مر أن تعيين الوالي من قبل المجتمع وتفويض الولاية إليه كان أمر رائج متعارف في جميع الأعصار والقرون وشائعاً حتى بين المجتمعات البدائية وهو أمر اعتباري قابل للإنشاء فكانوا ينشئونها نحو البيعة أو نحو الاتفاقات القبلية التي يعقدها الرؤساء مثلاً ودواوينهم ونحو ذلك.

والآية الشريفة ناظرة إلى العقود العقلائية المتعارفة بينهم لأن أدلة العقود إمضائية كما حقق في الأصول فيستدل بها على صحة كل عقد عقلائي إلا ما دل الدليل على بطلانه كالانتخاب مع وجود النص على خلافه فإن من الواضح أنه مع وجود النص لا مجال للانتخاب وكلامنا في صورة عدم وجود نص يدور الأمر بين التولي الحكام لشؤون الدول بواسطة القهر والغلبة وهذا باطل وحرام أو تترك الأمم والشعوب بلا حكومة وهذا فوضى واختلال نظام أو يترك الأمر للمتنازعين على الحكم والسلطة وهذا أيضاً فوضى واختلال نظام فلم يبقى إلا تشريك الأمة في تعيين حكامها وتنصيبهم وذلك هو مفاد الانتخاب.

- المعاضد الثاني: فحوى ما أفتوا به من الاختيار والانتخاب فيما إذا تعدد المفتي أو القاضي أو إمام الجماعة وجواز انتخاب قاضي التحكيم من قل المترافعين فإن ذلك أمر موكول إلى نفس المترافعة فبالأولوية القطعية يستفاد أن الحاكم والسلطان على الأمة أيضاً هكذا لأنه إذا كان أمر القضاء في الأمور الشخصية يرجع فيه إلى رأي الناس فكيف بالأمور العامة التي تهمهم وتنتهي إلى التصرف في أموالهم ونفوسهم وأعراضهم نعم إلا أن يقال هنا بأن الانتخاب في القاضيين وما أشبه ذلك يرجع إلى الممارسة والحكم والقضاء وليس إلى التنصيب وكلامنا في صورة تنصيب الحاكم والسلطان فبين الموضوعين طور بعيد لكنك عرفت أن الأدلة المتقدمة لا تفرق بين صورة التعيين والتنصيب أو صورة الممارسة.

- المعاضد الثالث: وهو ما ربما يستفاد من الآيات والروايات الواردة بشأن البيعة فإنها توحي ولو من بعيد إلى أن للأمة الاختيار والحرية في نصب الحاكم الذي تريد وإن كان لنا كلام في مسألة البيعة على ما ستعرفه إن شاء الله.

ومن الواضح أن هذه الطوائف المختلفة من الروايات وإن كان للمناقشة في بعضها سنداً وفي بعضها الآخر دلالة مجال إلا أن المجموع من حيث المجموع قد يفيد الفقيه الاطمئنان بصدور بعضها ولو إجمالاً أو ربما تتوافق طراً على مفاد واحد وهو أن للأمة الحق في انتخاب حكامها ولا يبعد القول بأن هذا المفاد هو متواتر معنى كما أنه معضود بطريق العقلاء لانعقاد الإمامة والولاية والحكام عند مختلف الشعوب ومختلف الملل والأديان مما يكشف عن حالة ارتكازية عقلائية بينهم وهو أن للأمة الخيار في تولية من تريد من الحكام إلا في صورة ما إذا نص الشارع المقدس على حاكم خاص ولذا نقول بأن الانتخاب في غير عصر النص وأما في صورة وجود النص فلا مجال للانتخاب.

- الدليل الرابع: طائفة أخرى من الروايات الدالة على مشروعية الانتخاب منها مشهورة أبي خديجة المتقدمة في بحث ولاية الفقيه حيث ورد فيها اجعلوا بينكم رجلاً ودلالتها على كون الاختيار بيد الأمة ظاهرة ومنها مقبولة عمر بن حنظلة فقد جعل (عليه السلام) تعيين الحاكم بيد المتخاصمين وقال ينظران من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً مما يكشف على أن المؤهلات الشخصية في الحاكم هذه جزء العلة في التنصيب والجزء الثاني هو ارتضاء المتخاصمين له فيكشف أيضاً بالأولوية على أن اختيار الحكام والسلاطين كذلك لعدم فهم الخصوصية أو فهم عدم الخصوصية في مسألة القضاء.

ومنها أيضاً التعليل في قوله وإن المجمع عليه مما لا ريب فيه ومن الواضح أن المجمع عليه هو ما اتفقت عليه الأمة وهو يشمل كل شيء حتى في مسألة الحكم والسلطة وكأن الإمام (عليه السلام) يجعل المجمع عليه طريق إلى الوصول إلى الواقع إلا فيما إذا كان هناك اجتهاد في مقابل النص إذ لا اعتبار للإجماع في مقابل النص وعليه فإن الأمة إذا اتفقت على حاكم هذا الحاكم يكون مما لا ريب فيه فينبغي الالتزام به وينبغي طاعته أيضاً وربما يستدل ذلك أيضاً كما في الحكم في الإسلام للمرحوم المرجع السيد محمد الشيرازي (قدس) في ص44، بمفهوم آية النبأ حيث وردت الآية بلزوم التبين من أخبار الفاسقين حذراً من الوقوع في الجهل والندامة يقول تبارك وتعالى: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوم بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) فإن تعليل عدم جواز الانسياق وراء خبر الفاسق ناشئ من إصابة القوم بالجهالة مما يعطي أن الانسياق وراء شيء لا يعد في العرف جهالة مما لا بأس به ومن المعلوم أن الانسياق وراء رأي الأكثرية في تعيين الفقيه الجامع للشرائط أو الحاكم المختار من قبل الأمة إذا كان ممضى من قبل الفقيه الجامع للشرائط ليس من العمل بجهالة عرفه نعم إلا إذا أورد عليه ما أورد على الاستفادة من الآية لحجية الشورى الفتوائية لكن يمكن الإجابة عنه بالفرق بأن العمل بالشورى الفتوائية ينافي العمل بالكتاب والسنة لأن ما دل عن العمل بهما راجع إلى العمل بهما وجعل الفقيه حاكماً فإن ذلك مطابق للكتاب والسنة كما لا يخفى ويعضد ذلك الأولوية فإنه لو كان القاضي برضا المتخاصمين وهو تصرف في شؤونهما كان الوالي الذي يتصرف بشؤونهما أولى بأن يكون برضاهما أما كون القاضي برضاهم فللنص والفتوى عليه إذا كان هناك قضاة متعددون وأما الأولوية فهو ملاحظ في العرف النسبة بين الأمرين وللتأمل في ذلك مجال.

- الدليل الخامس: الأصل حيث أن الشارع لم يعين أحد الحكام فالأصل يقتضي إباحة اختيار أي منهم لما ورد عنه بأن كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي وعليه فإنه ما دام الشارع لم ينصب لنا حاكماً في زمن الغيبة حاكماً معيناً وإنما اكتفى بالجعل العام وهو لزوم الرجوع إلى الفقيه جامع الشرائط معنى ذلك أن أصل الإباحة يقول الحكم بالانتخاب من المباحات أيضاً فإذا انطبق عليه عنوان إقامة العدل وحفظ الحقوق وحقن الدماء وما أشبه ذلك يصبح من الواجبات ويؤيده أنه الأقرب إلى الحرية الممنوحة للمسلمين بحسب قوله عز وجل يضع عليهم إصرهم والأغلال التي قامت عليه وربما يستأنس له بما يشاهده في سائر الأحكام إذ الإنسان مخير في تقليد أي مرجع يريد ومراجعة أي قاضي يريد والصلاة خلف أي إمام عادل إلى غير ذلك فالتخيير في الحاكم بشكل أولى لأهمية التصرفات التي يقوم بها في شؤون الناس العامة وهناك أدلة أخرى تثبت وجوب الانتخاب أو رجحانه على غيره نكتفي نحن بهذا القدر لتعرضنا لجملة من المسائل فيما تقدم وفيما يأتي إن شاء الله تبارك وتعالى مما يزيد الأمر برهاناً وحجيةً.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين..

م